خمسون ألف مليون عام
خمسون ألف مليون عام
تعليقًا على مقال “فتح باب الاجتهاد وغلق باب الاجتهاد”, أرسل الدكتور محمّد سلامه الرسالة التالية. يقول سيادته:
“نحن الآن نفهم. فتح الفرس أبواب الاجتهاد عند دخولهم الثقافة العربية, وأغلقوها خلفهم عند خروجهم من الثقافة العربية. لم يسمع الناس مناديًا ينادي بأن حيّ على الاجترار, ولم يكن هناك سلطان له كل هذا السلطان حتى يفرض الاجترار على كل هؤلاء المجتهدين من الناطقين باللغة العربية. لم تكن هناك أي حاجة لأن يحرك أحد يده حتى بإشارة لغلق أبواب الاجتهاد. خرج الفرس من الثقافة العربية وقاموا, بكل ذوق, بإغلاق الباب خلفهم.”
العبارة الأخيرة تمثل قمة المهزلة كأن العرب في جيناتهم الكبر وضيق الأفق, وليس في وسعهم الفكر والتفكير. يحضرني قول أحدهم: ترى لماذا خص الله المنطقة العربية بأكبر قدر من الرسل؟ فقال: “لأنهم أشد أنواع البشر انحرافا عن الحق.”
حين تجد من يصف المصريين بأنهم كذابون, أفاقون, منافقون, كسالى, إلى آخره, فلن نجد من يثور على مثل هذه الأوصاف إلا من تنطبق عليه, وستجد أن من لم ينطبق عليه شيء من ذلك يكتفي بالقول: “لا تعمم, فليسوا جميعاً شيئًا واحدا.” أقول لو كنا نحن العرب كذلك, فإن القضية ستكون وما هو الحل؟ وليس “كيف يجرؤ هذا الكاتب على التفوه بمثل هذا الكلام الضال؟ شكرً لكم يا أستاذنا الفاضل.” انتهى كلام سيادته
خالص الشكر لسيادة الدكتور محمّد سلامه على كريم رسالته. ولي تعليق.
تثير رسالة الدكتور أبو المكارم العديد من الأسئلة. وهي أسئلة لن أستطيع أن أجيب عليها بما يلزم من الوضوح الذي يستوجب الاستفاضة, وإن كان من الممكن الإجابة عليها ببعض الوضوح وبدون استفاضة – على الأقل الآن. من ذلك ما إذا كان “في جيناتنا كبْر, وضيق أفق, وليس في وسعنا التفكير”. ومن ذلك “لا تعمم فليسوا جميعًا شيئًا واحدا”. ومن ذلك كذلك “كيف يجرؤ هذا الكاتب على التفوه بهذا الكلام الضال؟
من ناحية ما إذا كان فينا كبْر, وضيق أفق, وليس في وسعنا التفكير, ففعلاً فينا كبْر, وضيق أفق, وليس في وسعنا التفكير. إلا أن المشكلة ليست مشكلة جينات. كيف تكون المشكلة مشكلة جينات وخالق الكون يخبرنا بأنه خلقنا في “أحسن تقويم”؟ كيف تكون المشكلة مشكلة جينات وخالق الكون يخبرنا بأنا “خلفاؤه” في الأرض؟ كيف لمن سجدت له الملائكة ألا يكون في أحسن تقويم؟ كيف لخليفة الله في أرضه الذي سجدت له الملائكة ألا يكون في أحسن تقويم؟
المشكلة ليست مشكلة جينات وإنما مشكلة ما فعلناه بهذه الجينات. تخيل ما يمكن أن تصنعه “وكالة الفضاء الأمريكية” إذا وهبناها حاسبًا آليا لا حدود لإمكانياته؟ تخيل كذلك ما يمكن أن تصنعه جامعة المنوفية (جامعة أهلي) إذا أعطيناها نفس الحاسب الآلي. المشكلة ليست في الحاسب الآلي “المصنعية” الذي وهبنا إياه خالق الكون. المشكلة هي فيما صنعناه نحن بالحاسب الآلي الذي وهبنا إياه صانع الكون. يحتاج الحديث, بلا أدنى شك, إلى استفاضة, إلا أن المسألة ليست مسألة جينات.
أما من ناحية “لا تعمم, فليسوا جميعًا شيئًا واحدا”, فالمشكلة هنا هي مشكلة مركبة. في العلم لا بد من “التعميم” أي لا بد من قواعد عامة. تخيل علمًا بدون تعميم. تخيل علمًا واحدًا بدون قواعد عامة. بدون تعميم لا علم هناك. لا يعني ذلك أننا في العلم نتعامل مع قواعد عامة تنطبق على الظاهرة موضوع البحث في جميع الحالات. قد يصلح هذا في الفيزياء (قد), قد يصلح هذا في الكيمياء (قد), إلا أنه لا يصلح بالتأكيد في حالة علم النفس الإدراكي, ولا علم النفس الثقافي, ولا علم الاجتماع السياسي, ولا, في حقيقة الأمر, أي من العلوم الإنسانية. في حالة “الظواهر الإنسانية” نحن لا نتعامل مع “مواد”. نحن نتعامل مع بشر. لا توجد نظرية في علم النفس, ولا علم الاجتماع, ولا أي من العلوم الإنسانية يمكنها أن تتنبأ بسلوك شخص معين في موقف معين. نحن بشر. لا يعني ذلك, طبعًا, أنه لا توجد نظرية في علم النفس أو علم الاجتماع لا يمكنها أن تساعدك على التنبؤ بسلوك “مجموعة من البشر” في موقف معين بنسبة تتراوح من 40 في المائة إلى 51 في المائة. 51 في المائة نسبة رائعة. تخيل لو كان باستطاعتنا أن نتنبأ بسلوك مجموعة بشرية بنسبة 51 في المائة. تخيل مدى الروعة. قارن ذلك بحال أهلنا من العالم الثالث الذين لا يستطيعون التنبؤ بأي شيء “تقريبًا” في أي موقف “تقريبًا” لأنهم “لا يعممون”. عدم التعميم معناه أنك تبدأ في كل حالة من الصفر. سيادتك لا توجد لديك “أي فكرة” عما سوف يحدث لأن سيادتك لا تعمم.
من الضروري الانتباه إلى أن “عدم التعميم” الذي يمارسه أبناء العالم الثالث “الجميل” الذي ننتمي إليه لا يعود إلى حرص أبناء العالم الثالث على “الدقة العلمية” في تعاملاتهم فيما يخص شؤون حياتهم, وإنما يعود إلى عجز أبناء العالم الثالث (الذي نشكل نحن جزءًا أصيلاً منه) عن إدراك الصورة الكلية. أبناء العالم الثالث مشغولون دائما “بالتفاصيل” وعاجزون دائما عن رؤية “الصورة الكبيرة”. هذا هو السبب في أنهم لا يبحثون أبدًا, أو تقريبًا أبدا, عن “القاعدة العامة”. أبناء العالم الثالث لم يبلغهم الخبر بعد أن “التعميم” جزء أساسي من “العلم” وأننا بدون تعميم إنما نغرق في محيط من التفاصيل التي لا يمكن أن نخرج منها بشيء. ما الذي يمكن أن تخرج به من التفاصيل سوى تفصيل, بعد تفصيل, بعد تفصيل. يعود ذلك, في التحليل النهائي, إلى أن “النظرة الجزئية” هي خاصية أساسية من خصائص نظام الإدراك الخاص بالمرحلة الثانية من مراحل نمو الإدراك كما حددها بياجيه. المرحلة الثانية من مراحل نمو الإدراك هي المرحلة المستخدمة في ثقافتنا العربية بشكل عام. وتجنبًا للتعميم المخل, فدعنا نقول إن أنظمة الإدراك الأربعة التي وصفها جان بياجيه تتوفر جميعها (بما في ذلك النظام الخاص بالمرحلة الرابعة وهو أرقى نظام يمكن أن يستخدمه أي إنسان) في الثقافة العربية إلا أن النظام المستخدم في الثقافة العربية بشكل عام هو النظام الخاص بالمرحلة الثانية. تتوفر (والحمد لله) العديد من التجارب الميدانية التي قام بها علماء علم النفس الثقافي والتي تبين الندرة الشديدة في توافر نظام المرحلة الرابعة في مجتمعات العالم الثالث.
وأخيرًا, نأتي إلى مسألة “كيف يجرؤ هذا الكاتب على التفوه بهذا الكلام الضال؟ والحقيقة فإن لدينا هنا مشكلة. يعود ذلك إلى أن أبناء الثقافة العربية (مثلهم في ذلك مثل أبناء كل ثقافات المرحلة الثانية) مشغولون على الدوام بشخص المتحدث وعاجزون عجزًا “بنيويًا” عن النظر إلى “موضوع الحديث”. ترتبط هذه الظاهرة بما هو معروف عن عجز الإنسان في المرحلة الثانية عن “التصنيف” على أساس خصائص الموضوع قيد التصنيف. يعني ذلك أن “رد الفعل” على “نظرية الإمبراطورية في ظهور العلم” لن يزيد عن “مَن”. مَن قال هذا الكلام؟ ابن مَن هو؟ مَن قال له هذا الكلام؟ مَن استمع إليه؟ مَن صدقه؟ مَن كذبه؟ إلى آخر كل “المنات” الجميلة التي تخصصنا في السؤال عنها. أما السؤال عن النظرية ذاتها وعن مدى قدرتها على تفسير الظاهرة موضوع الدرس فهذا أمر لا يخطر على بالنا أصلا. هذا خيال.
في مجتمعات المرحلة الرابعة, أي في المجتمعات الحديثة, السؤال الأول باستمرار هو التالي: ما هي المشكلة التي دفعت الباحث إلى القيام بالدراسة التي قام بها؟ ما هي الفرضية التي “تحكم” البحث؟ ما الإطار النظري الذي يدور البحث في إطاره؟ ما هي “النتائج” التي توصل إليها البحث؟ ما مدى اتفاق أو اختلاف هذه النتائج مع نتائج الدراسات التي سبقتها في هذا الموضوع؟ إلى أي مدى تساند النتائج التي توصل إليها البحث الفرضية التي تحكم البحث؟ وأخيرًا, ما هي الجوانب التي كشف البحث عن قصور معرفتنا بها والتي تحتاج إلى بحثها. أي, هل يثير هذا البحث “وعينا” بأن هناك مشاكل تحتاج إلى بحثها لم نكن ندري عنها شيئا؟
لا يوجد لدي أدنى شك في صواب جميع هذه الأسئلة. تخيل سيادتك بحثا يدور حول لا مشكلة. أي بحث هذا بالله عليك؟ تخيل بحثا لا يدور في إطار نظرية من النظريات المعروفة والمستقرة في ميدان العلم. تخيل بحثا علميًا لا علاقة له على الإطلاق المطلق بما نعرفه عن العالم الذي نعيش فيه. بحثا مبتوت الصلة بكل ما تعرفه البشرية. لا يمكن أن يحدث هذا إلا في ثقافتنا العربية السعيدة التي لا تعترف إلا بالعلم الذي “تحبه” وترمي العلم الذي “لا تحبه” في صفيحة الزبالة, بدون أي إحساس بأن هناك أي مشكلة على الإطلاق. من الزبالة وإليها. المسألة ليست مسألة هذا هو “ما نعرفه”, أو هذا هو “الحق”, وإنما هذا هو “ما نحبه”. وهذا هو ما لا نحبه.
دعنا نحن ننظر إلى بحثنا هذا من هذه الزاوية. دعنا “نتخيل” أننا مجتمع من مجتمعات المرحلة الرابعة ودعنا نسأل عن “المشكلة” التي يدور حولها هذا البحث. ما هي المشكلة التي دفعت الباحث إلى القيام بالدراسة التي قام بها؟ والإجابة, باختصار مخل, هي في تلك الأحكام المشينة الصادرة عن الفقه السني القديم والتي لا تتفق على الإطلاق مع أبسط فهم قويم لكتاب الله. يحدثنا الله في كتابه الكريم عن لزوم أن يقوم الرجل بالإنفاق على المرأة التي طلقها طلاقا بائنا خلال فترة عدتها, فيصدر الحكم بألا نفقة هناك ولا يحزنون. يحدثنا الله عن إطلاق سراح الأسرى إما منا وإما فداء, فيصدر الحكم بأن الأمر في الأسرى هو إما قتل وإما فداء, وإما منّ وإما استعباد. يحدثنا الله بأن من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا فيأتينا حديث بأن الله قد أعطى رسوله رخصة قتل أناس لم يسبق له معرفتها من أجل الاستيلاء على أموالهم ومواجهة أعبائه المنزلية. المشكلة هي أن “فهم” الفقه السني القديم لكتاب الله هو فهم غير سليم. وعليه,
ما الفرضية التي تحكم البحث؟ الفرضية التي تحكم البحث هي أن نظام الإدراك المستخدم في “فهم” كتاب الله هو نفس نظام الإدراك المستخدم في المرحلة الثانية من نمو الإدراك. أي المرحلة التي تتميز بعدد من الخصائص من أهمها العجز عن إدراك التناقض, والعجز عن إدراك “الصورة الكبيرة” نتيجة “النظرة الجزئية” التي تميز إدراك الإنسان في هذه المرحلة.
يعود استخدام الثقافة العربية القديمة لنظام الإدراك الخاص بالمرحلة الثانية إلى أن الثقافة العربية القديمة هي “ثقافة رعوية” وبالتالي لا تملك – مثلها في ذلك مثل كل الثقافات الرعوية – سوى نظام الإدراك الخاص بالمرحلة الثانية. لا تظهر أنظمة إدراك متقدمة إلا مع “تعقد” النظام الاجتماعي الذي تظهر لديه مشاكل لا يمكن حلها إلا باستخدام أنظمة إدراكية راقية وبالغة التعقيد. ما الذي يمكنه أن يدفع بائع بطاطا في سراي القبة إلى أن يستخدم نظامًا محاسبيًا بالغ الرقي والتعقيد من أجل حساب كم جنيها دفع في البطاطا وكم جنيها كان دخله من بيع البطاطا؟ كيف يمكن للبورصة المصرية أن تعمل بنفس النظام المحاسبي لبائع البطاطا؟ لا يطور أي مجتمع أنظمة محاسبية بالغة الرقي والتعقيد إلا إذا كان مشتبكًا في أعمال بالغة التعقيد. كذلك لا يطور أي مجتمع أنظمة إدراكية بالغة الرقي والتعقيد إلا إذا كان مشتبكا في أعمال بالغة التعقيد تطرح مشاكلَ بالغة التعقيد لا يمكن حلها إلا عن طريق أنظمة إدراكية بالغة الرقي والتعقيد – إدارة إمبراطورية مثلا. في مجتمعات الرعي لا توجد مشكلة واحدة بالغة التعقيد لا يمكن حلها إلا عن طريق أنظمة إدراكية بالغة التعقيد. وبالتالي, لا يطور المجتمع أنظمة إدراكية بالغة التعقيد. نظام الإدراك الخاص بالمرحلة الثانية يكفي. حقيقة الأمر, يكفي وزيادة. تخيل لو أني عملت على تطوير مركبة فضائية للانتقال من القاهرة إلى المنوفية بدلا من سيارتي الدايهاتسو توفيرًا للوقت. فقط تخيل. الدايهاتسو تكفي وزيادة. يعني ذلك, بكل وضوح, أن الأنظمة الإدراكية بالغة الرقي والتعقيد لا تظهر إلا مع ظهور الإمبراطوريات حيث إن الإمبراطوريات, والإمبراطوريات فقط, هي التي تواجه مشكلات بالغة التعقيد لا يمكن حلها إلا عن طريق أنظمة إدراكية بالغة التعقيد.
ما الإطار النظري الذي يدور البحث في إطاره؟ حقيقة الأمر, مجموعة من الإطارات النظرية التي يشتبك كل إطار منها في جانب منه مع كل الإطارات الأخرى. مثال على ذلك, ينظر بياجيه إلى “الإدراك” على أنه “وظيفة بيولوجية” لا تختلف عن أي وظيفة بيولوجية أخرى. تستوي وظيفة الإدراك, بهذا الشكل, مع غيرها من الوظائف, مثل التنفس, والهضم, والإخراج, وغيرها. ينظر ليونتيف وروبينشتاين, من ناحية أخرى, إلى أن الإدراك هو منتج “مجتمعي” لا منتج “فردي” ينشأ نتيجة احتياجات المجتمع إلى تنظيم نشاطات أعضائة. قدم مايكل كول وسيلفيا سكريبنر, وبيتر تلفست في النصف الثاني من القرن العشرين إسهامات رائعة في هذا المجال تبين ارتباط الإدراك بالأنشطة المشتبك بها في المجتمع. حقيقة الأمر, يمكن هنا النظر كذلك إلى هرم الاحتياجات الذي قدمه مازلو على أنه يفسر حاجة “المجتمع” إلى الحماية. يبين مازلو أن حاجة الفرد إلى “الأمن” هي حاجة أساسية. لا حياة لفرد بدون أمن. في حالتنا هذه, لا حياة لمجتمع بدون جيوش تحمي هذا المجتمع. أنظر إلى الأندلس, وانظر إلى فلسطين. بعد ذلك انظر إلى نظرية عاصمة الإمبراطورية. بدون إمبراطورية لا علم, وبدون جيوش إمبراطورية لا إمبراطورية.
يقدم المقال التالي المنقول عن ويكيبيديا مدخلاً معقولاً لنظرية العمل. يحتاج فهم نظرية العمل, طبعًا, إلى دراسة أكثر عمقًا, وهو ما لا يتوفر, للأسف, باللغة العربية.
“يستخدم مصطلح “نظرية العمل” للإشارة إلى ذلك الخليط من نظريات العلوم الاجتماعية الذي تعود أصوله إلى علم النفس السوفيتي بريادة أليكسيه ليونتييف وسرجيه روبنشتاين. نظر هؤلاء العلماء إلى السلوك الإنساني على أنه يمثل ظاهرة “اجتماعية” مركبة لا يمكن فهمها من خلال نموذج “رد الفعل” (كما قدمه باختيرييف) ولا من خلال نموذج “فيزيولوجيا النشاط العصبي” (كما قدمه بافلوف), ولا حتى من خلال نموذج “التحليل النفسي”, أو “علم النفس السلوكي”. كانت هذه النظرية إحدى النظريات الأساسية في علم النفس في الاتحاد السوفييتي, حيث تم استخدامها بشكل واسع سواء في حالة علم النفس النظري, أو علم النفس التطبيقي, كما في حقل التعليم, وعلم نفس العمل.
يلزم النظر إلى “نظرية العمل” على أنها تمثل “إطارًا وصفيًا” أكثر منها على أنها تمثل “نظرية علمية”. تنظر نظرية العمل إلى مجمل نظام العمل (بما في ذلك فرق العمل أو المنظمات, أو المؤسسات, إلى آخره). أي أنها لا تنظر إلى “عامل” واحد أو “مستخدم” واحد. تقوم نظرية العمل, بهذا الشكل, بدراسة بيئة العمل, وتاريخ القائم عليه, وثقافته, ودور المنتَج, والدوافع, ودرجة تعقيد النشاط في واقع الحياة. تكمن قوة نظرية العمل في أنها تربط ما بين “الفرد” و”الواقع الاجتماعي” – حيث إنها تدرس الفرد والواقع الاجتماعي في نفس اللحظة.
تعد “منظومة العمل” هي وحدة التحليل في نظرية العمل. يقصد بـ “منظومة العمل” هنا الهدف من العمل, والقائمين على العمل, وأدوات العمل (سواء الأنظمة الرمزية أو الأدوات المادية), وقواعد العمل, وتقسيم العمل, والمجتمع الذي يتم فيه العمل. حسب ما تذهب إليه “نظرية العمل”, يظهر الدافع إلى العمل من التوترات والتناقضات بين عناصر المنظومة. يبين بوني ناردي, منظر نظرية العمل المعروف, أن “نظرية العمل تركز على الممارسة مما يعفينا من الحاجة إلى التمييز ما بين العلم “التطبيقي” والعلم “النظري”. يعود ذلك إلى أن فهم الممارسة اليومية في عالم الواقع هو هدف العلم…… توحِّد نظرية العمل ما بين “العمل” و”الوعي”. تعد “نظرية العمل”, بهذا الشكل, أداة مفيدة في تلك النوعية من الأبحاث التي تعتمد المنهج الكيفي (مثال على ذلك, دراسات الحالة, والدراسات الإثنوغرافية). تقدم نظرية العمل منهجًا لفهم وتحليل الظاهرة, يعمل على التعرف على الأنماط والوصول إلى الاستنتاجات عبر التفاعلات, ووصف الظواهر وعرضها من خلال لغة متفق عليها.
يتم النظر هنا إلى أي “عمل” على أنه نشاط إنساني يحركه هدف, أو تفاعل “هادف” بين “شخص” و”موضوع” يتم بواسطة “أدوات”. يتم النظر هنا إلى هذه الأدوات على أنها الأشكال الخارجية لعمليات عقلية سواء كانت هذه “الأدوات” أدوات “فكرية” أو “مادية”. تنظر نظرية العمل إلى العمل على أنه يشمل كلا من “استدخال” و”استخراج” العمليات الإدراكية المتعلقة باستخدام الأدوات, إضافة إلى التحولات أو التطورات الناتجة عن هذا التفاعل.” انتهى الاستشهاد
يتبقى الحديث عن “النتائج” التي توصل إليها البحث ومدى مساندتها للفرضية التي تحكم البحث, فضلاً عن مدى اتفاق نتائج البحث مع نتائج البحوث السابقة. وأخيرًا, ما إذا كان البحث قد كشف عن قصور في جوانب معرفتنا بالموضوع, أي ما إذا كان قد كشف عن مشاكل لم نكن ندري عنها شيئا إلا أنه كشف عنها وكشف عن احتياجها لبحث.
إذا كان من غير الممكن أن نتحدث عن “نتائج البحث” في حالة بحث لم ينتهِ بعد, فإن من الممكن أن نتحدث حتى في هذه المرحلة من البحث عن المشاكل التي كشف عنها البحث. وهي مشاكل أعرف لها أولاً وإن كنت لا أعرف لها آخرا. من ذلك.
من ذلك أننا لا نعرف ما الذي حدث في فارس حتى تحولت بهذه السرعة إلى العربية وخرجت بهذه السهولة من العربية. لمَ تأخر استعراب مصر, ولمَ استمر؟ ولمَ استعربت فارس بهذه السرعة ولمَ لمْ تستمر؟ لمَ هنا بمعنى “كيف” وما هي العوامل التي حكمت هذا التحول هنا أو هناك؟ أيضا, لمَ كان خافيا إلى الآن ما هو واضح الآن وضوح الشمس من أن براكين العلم التي انفجرت في القرون الأولى من الهجرة كانت براكين فارسية؟ لمَ كان خافيًا حتى الآن أن الثقافة التي أنتجت كل هذا العلم كانت الثقافة الفارسية وأن الثقافة العربية لم تقدم شيئا غير اللغة العربية؟ لمَ لا ندرك حتى الآن أن من “العجيب” أن نتوقع من المجتمع العربي في القرون الأولى من الهجرة أن “يساهم في تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلم”؟ متى بالله شارك مجتمع من الرعاة في إنتاج العلم؟ أي مجتمع رعاة في أي مكان في عالم الله في أي زمان؟ لمَ نطالب أنفسنا بما يستحيل علينا أن نقوم به؟ ولمَ لا نطالب أنفسنا بما يمكن أن نقوم به؟
يمكننا, مثلاً, أن نتحقق من صحة ما جاء في هذا البحث من أن مجمل الإنتاج العلمي كان صادرًا عن الثقافة الفارسية, وأن حجم الإنتاج العربي لا يزيد عن حجم مساهمة أحمد زويل ومجدي يعقوب في إنتاج العلم في القرن العشرين. حقيقة الأمر, يمكننا أن نذهب إلى النظريات الحاكمة لهذا البحث ذاتها وأن نثبت خطأ بياجيه, ونظرية بياجيه, وخطأ ليونتيف, وروبينشتاين, ومايكل كول, وسلفيا سكربنر, وبيتر تلفست, ومازلو, بل وخطأ كل من ساهم في إنتاج هذا الخبل المسمى علم النفس الإدراكي. كلي ثقة من أننا لن نفعل شيئا من هذا وإنما سنطيح بكل هذا الكلام في صفيحة الزبالة. هذا كلام لا نحبه. كلي ثقة كذلك من أن البعض منا سوف “يفكر” وسوف “يدرك” أن ليس من مصلحتنا أن نعيش في عالم خيالي من صنعنا. عالم الفقه السني العظيم الذي يعيش فيه سيادة الدكتور مدحت غانم, وعالم الثقافة العربية الخالدة التي لن تختفي أبدًا من مسرح التاريخ كما اختفت كل الثقافات القديمة غيرها. تخيل لو كنا ما زلنا نتحدث بالفرعونية ونستخدم نظريات إمحوتب في بناء المنازل! تخيل أن منا من يتخيل أن فهم الأئمة العظام لدين الله سيعيش معنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
يذهب العلماء إلى أن عمر الأرض يعود إلى خمسة آلاف ملايين عام مضت. تخيل لو شاءت إرادة الله أن تستمر الحياة على كوكب الأرض لمدة خمسين ألف مليون سنة أخرى! تخيل أن منا من يتخيل أن فهم الفرس لدين الله الذي وضعوه لنا منذ ما يزيد على ألف عام سيعيش معنا لمدة خمسين ألف مليون سنة! فقط تخيل!