تُعَدّ كلمتا “الصين” و”الإسلام” من بين أكثر الكلمات تداوُلا بين المبحِرين في عالم الويب؛ لكن نادرا ما تُقرَن الكلمتان معاً طلبا لِما يجمع بينهما. حيث قلّةٌ تعلَم أن الصين تضمّ ما يربو عن ثلاثين ألف مسجد فوق أراضيها، وأن مسلمي هذا البلد -رغم تواضع عددهم حوالي ثلاثين مليونا، بما يعادل 2 بالمئة من مجموع السكان العام- يتوزعون على مختلف أنحاء البلد، ولاسيما في أقاليم الشمال الغربي (كسينجانغ ونيغسيا وغانسو وكينغاي)، وفي يونّان، وفي هينان، وربّما بشكل أقلّ في شانكسي، وهيباي، وشاندونغ. حيث يمثّلون عنصرا معتَبرا في النسيج الاجتماعي، بما أغنوا به التراث القديم وما يثرون به الثقافة الحديثة. وعلى خلاف الدينين الإبراهيميين الآخرين (اليهودية والمسيحية) ينعمُ الإسلام بوضعٍ إثنيٍّ مميَّز، وذلك على إثر تقسيم المجتمع الصيني إلى 56 إثنية (مينزو) مع السنوات الأولى لجمهورية الصين الشعبية. وبالتالي ينعم المسلمون بانتماء عرقي غير ديني -يتوزّع على أكثر من عشرين إثنية- بما يضفي تنوعا هائلا عليهم.
الكتاب الحالي “الإسلام في الصين.. من البدايات إلى جمهورية الصين الشعبية”، الذي نقدّمه للقارئ متفرّدٌ من حيث موضوعه. حيث تتناول فيه الباحثة الإيطالية فرانشيسكا روزاتي موضوعا على صلة بالحضارتين الإسلامية والصينية. تسعى فيه إلى تقديم خلاصة شاملة حول علاقة الدولة الصينية بموضوعي الإسلام والمسلمين، وهو مبحثٌ لا تنحصر حدوده بإقليم كسينجانغ، كما يسود التناول عادة، بل يغطّي كافة الشرائح والفئات المسلمة على التراب الصيني. فالكتاب يتتبّع مراحل انتشار الإسلام من أسرة تانغ (618-960م) إلى حدود أوضاع المسلمين في الراهن. مبرِزة الباحثة كيفية انتشار الإسلام في الصين بموجب التجاور، وما لعبه هذا الدين من دور ضمن السياق الثقافي-الاجتماعي الصيني، دون أن يفرز ردود فعل عنيفة، أو يمثّل تهديدا لنسق الوئام الاجتماعي داخل الفضاء الإمبراطوري السالف أو داخل النسيج الاجتماعي المرتبط بالصين الحديثة؛ بل مثّل الإسلام عنصرا فاعلا في التقارب مع الصين على أصعدة اقتصادية وتجارية واجتماعية، وقد شهد ذلك التواصل أوجه إبان نشاط طريق الحرير، واستمر وإن بنسق بطيء بعد اندثار ذلك الطريق.
تننمي الباحثة فرانشيسكا روزاتي إلى جيل الباحثين الإيطاليين الجدد، وهي خرّيجة أكبر جامعات أوروبا، جامعة روما لاسابيينسا، التي يرتادها 120.000 طالب، تخصصت في آثار الصين الإسلامية وفي فئاتها الاجتماعية التي تدين بدين الإسلام. كتابها الحالي هو خلاصة عشر سنوات من البحث والمتابعة الميدانية، ما أضفى على مؤلفها طابعا حيّا مكثَّفا، بعيدا عن الأبحاث الجامدة التي تقتصر على التنقيب في المؤلفات دون متابعة المعيش.
في المحور الأول من الكتاب، وهو بعنوان “من الهامش إلى المركز”، تتناول الباحثة تاريخ الإسلام في الصين من أسرة تانغ الإمبراطورية (619-960م) إلى أواسط حقبة كينغ (القرن الثامن عشر). وهي فترة حبلى بالتحولات، ومهمة كذلك لفهم التطورات التي ألمّت بالإسلام وتحديدا مع أسرة كينغ (1644-1911م) وما تلاها مع حقبة الجمهورية، التي حقّق المسلمون، المعروفون في الصين بـ”هوي” (hui)، أثناءها شكلاً من الاندماج ضمن الأمة الصينية الناشئة، وذلك بالتوازي مع شعور بكونهم جماعة متميزة، الأمر الذي دعا بعضهم إلى اعتبارهم جماعة دينية (هويجاياو)، ورآهم آخرون جماعة عرقية (هويزو) لا غير.
ولو عدنا إلى بدايات الإسلام في الصين نلحظ استعمال لفظة “كينغزينغجياو” القديمة كمسمّى لدين الإسلام ومعناها (دين الحق والصفاء). وفي الواقع ما كانت تلك التسمية خاصة بالإسلام، بل انسحبت في البدء على اليهودية أيضا، حيث نستشفّ ذلك من نص نقيشة موجودة في بيعة يهودية في كايفينغ تعود إلى العام 1489م. وأما اللفظ المستعمل في اللغة الصينية الحديثة فهو “يسيلانجياو” أي (دين الإسلام). هذا وتعود الاتصالات المبكرة بالصين إلى الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، فقد كان أول سفراء الإسلام إلى “إمبراطورية التفويض السماوي”. حلّ بشنغان (كسيان الحالية) سنة 628م نزولا تحت رغبة الإمبراطور تايزونغ، وتلبية لدعوة لتأويل حلم رآه في المنام بشأن رجل حكيم وصادق (النبي محمد عليه الصلاة والسلام) هلَّ من المغرب، أي من جزيرة العرب. وقد وردت القصة في “هويهوي يووانلاي” ضمن أدبيات الصين الكلاسيكية. ولا زال إلى اليوم في كانتون معلَمٌ يُنسب إلى الصحابي المذكور، حيث مسجد هوايشينغ الذي تُعدّ صومعته من أقدم المعالم العمرانية الإسلامية في الصين، وقد تجلى فيها تمازج الطراز الإسلامي بطابع العمران الكنفشيوسي الطاوي. من جانب آخر تورد “حوليات تانغ” حديثا عن أولى السفارات الإسلامية التي أرسلها قتيبة بن مسلم الباهلي سنة 713م، والتى أبى السفير المسلم أثناءها السجود التقليدي “كوتو” للإمبراطور زوان زونغ. حيث بقيت العلاقات الصينية الإسلامية المبكرة مستتبّة إلى حدود العام 751م، زمن تعرض قوات القائد الصيني كاو كسيانزي لهزيمة نكراء في معركة نهر طلس على يد القائد المسلم زياد بن صالح. وقد شكّل ذلك الحدث إنهاء لهيمنة الصين وبدءا لاختراق النفوذ الإسلامي آسيا الوسطى، والحادثة شهيرة في التاريخ بأسْرِ كوكبة من صناع الورق الصينيين ممن استفاد المسلمون من خبراتهم الحِرفية.
في المحور الثاني من الكتاب، وهو بعنوان “ثوار وانقسامات”، جرى استعراض التحركات الإسلامية، إبان القرن التاسع عشر، مع تتبّع مختلف تداعياتها وآثارها، التي تكشف عما دبّ من تباينات دينية وثقافية بين مسلمي الصين. فقد بلغ الحسّ بالامتعاض في أوساط المسلمين المقيمين في الشمال الغربي تحديدا، أي في إقليم كسينجانغ، وكذلك في إقليم يونّان جنوبا، أن أسّس دو وينكسو سلطنة دالي عقِب انتفاضة بانتاي (1856-1873) والتي خلّفت ردة فعل قوية سبّبت مذبحة ضدّ مسلمي الصين.
والبيّن أن المنطقة لم تخلُ من التوتر، منذ القرون الوسطى، حيث يروى المؤرخ منهاج السراج الجوزجاني في “طبقات ناصري” (1260) أن بعض الرهبان البوذيين أوغروا صدر كشلو خان (غوشلوغ) وأوحوا له بإخصاء المسلمين بدل قتلهم. وحين همّ بهم طاله عذاب من حيث لا يحتسب، انقضّ عليه كلبه الرابض قرب عرشه فطرحه أرضا ونهش ذكره وخصيتيه حتى أرداه قتيلا. هذه الرواية تكشف عمق التوتر الحاصل بين المسلمين والبوذيين في بعض الفترات. هذا وقد عمل الإنجليز في مطلع العصور الحديثة على استغلال عوامل التمايز في المنطقة. فمنذ أن تبيّن أن إقليم كسينجانغ يحوي ثروات مهمة كالشاي والقطن، بدأ تواصل الإنجليز مع كاسغاريا، ولم تأت سنة 1873 حتى أُبرمت معاهدة مقابل حماية الإقليم من تدخل الروس (ص: 112). هذا وقد جعلت يونّان، إحدى ثغور الإمبراطورية المهمة على طريق الحرير، أباطرة الصين يصرّون على ضمها إلى دائرة نفوذهم السياسي عنوة، ما أبقى المنطقة عرضة للقلاقل، أبرزها مجزرة 19 مايو 1856 التي ذهب فيها ألوف المسلمين ضحايا. حالة الاضطراب تلك لازمت المسلمين حتى مطلع القرن العشرين، حين شكّل سون يات-سين، مؤسس الصين الحديثة، حركة تونغمينغوي (التحالف الثوري) المناهض لنظام الحكم وبقصد قلب أسرة كينغ، حيث انضم إلى صفّه كثير من المسلمين. ولا يمكن الحديث عن خروج من حالة الأزمة سوى عشية الحرب الصينية اليابانية (1937-1945) التي أعقبها اعتراف إثني بالمسلمين، حيث دعا باي غونسغي أحد جنرالات الجيش القومي لجمهورية الصين وأحد أمراء الحرب في إقليم غوانغكسي الأئمة الأربعة الكبار وأعيان المسلمين إلى ووشانغ لإرساء تحالف استراتيجي، بقي ذلك نافذا وفاعلا إلى فترة طويلة (ص: 163). والواقع أن ثمة إقرارا في العقل السياسي الصيني أن تعاليم القرآن تشكّل دعامة للتوجه الاشتراكي، وهو ما انعكس في النظر للمسلمين بأنهم حملة تراث عريق بوسعه أن يكون سندا وعونا لترسيخ قوة اقتصادية سياسية تتطلع إليها الصين في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، إلا أن ذلك لم يحُلْ دون حدوث إجحاف، ما كان محصورا بدين الإسلام في الواقع، بل جاء جراء سياسة عامة سلكتها الدولة.
تبرِز الباحثة فرانشيسكا روزاتي أن جدلا شغل ساسة الصين الحديثة ومثقفيها، إبان مطلع العصر الجمهوري حوْل طروحات الهوية والأمّة والعرق. وقد شمل من ضمن ما شمل المسلمين، سواء بوصفهم جماعة دينية تنتمي إلى أمة عابرة للحدود، أو بوصفهم “إثنية” (مينزو) ضمن أمة الصين الناشئة. وهي تقريبا العناصر التي عالجها المحور الثالث من الكتاب المعنون بـ”أصوات القومية الإسلامية”، أي العناصر التي استلهمت الرؤى السياسية لباني الوطن سون يات-سان، وكذلك نظريات الحزب الشيوعي الصيني ووجدت سندا في الدعاية الإمبريالية اليابانية، بشأن الدور الذي يمكن أن يلعبه مسلمو الصين داخل الدولة الحديثة. كما يتابع المحور الثالث حديثَه عن الدور الحدودي اللافت للمسلمين، ما جعلهم عرضة للحملات الغربية التي رأت فيهم عنصرا قابلا للإغراء بفعل كونهم من شعوب الأطراف وبوصفهم أصحاب تراث كتابي.
في المحور الرابع والأخير المعنون بـ”الإسلام والقومية والهوية الإثنية في جمهورية الصين الشعبية” وهو محور يغطي الخمسين سنة الأخيرة من تاريخ الصين، وقد شهد الإسلام أثناءها تحولات كبرى. تتناول الباحثة التقسيمات العرقية في الصين، التي شمل الاعتراف فيها المسلمين بوصفهم دعامة من دعامات الصين الحديثة. وقد بُنيت تلك التقسيمات على أساس قواعد أربعة (اللغة والإقليم والاقتصاد والمخزون الثقافي) أرساها ستالين في كتاب “الماركسية والمسألة القومية” (1913). ركّز هذا المحور على أوضاع المسلمين في تلك الفترة وما خلّفته الأوضاع من أثر سلبي لا سيما إبان عشرية الثورة الثقافية (1966-1976)، وما أعقب ذلك من انتعاش إسلامي مع فترة رئاسة دانغ كسياوبينغ وإلى غاية الأوضاع الراهنة مع كسي جينبينغ التي باتت تخضع لتقلبات السياسة الدولية.
لقد جرى توزيع مكونات المجتمع الصيني إلى 54 إثنية معتمَدة من قبل الدولة، أُلحقت بها إثنية إضافية سنة 1979، إضافة إلى مكوَّن إثني غالب يضمّ السواد الأعظم من الصينيين يُعرف بالـ”هان”. وعلاوة على هذا التقسيم تستند الدولة في وجودها إلى مرجع خلقي كنفشيوسي اشتراكي، تمثله الأغلبية المشار إليها، لتبقى سائر المكونات الثقافية والعرقية الأخرى موالية ومراعية له. ولا زال هذا التقسيم “الإثني” حاضرا على بطاقة الهوية الصينية. وفي خضم ذلك التنوع تدين عشرٌ من تلك الإثنيات بدين الإسلام: التتار (3556 نفراً)، الأوزبيك (10.569)، البونان (20.074)، الطاجيك (51.069)، السالار (130.607)، الكيرغيز (186.708)، الدونغسيانغ (621.500)، الكازاكي (1.462.588)، الويغور (10.069.346)، الهويزو (10.586.087). وفي الصين أقلية ضئيلة فحسب من “المسلمين المهتدين” (كسين مسيليم) ممن لا ينطبق عليها التقسيم الإثني السائد. هذا وقد مرّت علاقة الجموع المسلمة بأغلبية الهان وبجهاز الدولة العام بتحولات، من “ضيوف أجانب” إلى “صينيين مسلمين”. وقد شهدت العلاقة تمتّنا مع نفوذ الحزب الشيوعي الصيني وذلك بفضل النشاط الحثيث للجمعية الإسلامية الصينية التي تأسست في بيكين سنة 1953. وهي جمعية نشيطة تتولى الإشراف على المؤسسات الإسلامية (جينغكسويان)، وتشرف على تكوين الأئمة، وعلى إقرار النصوص التعليمية التي تتناغم مع دعاية الحزب الشيوعي.
ما كانت علاقة مسلمي الصين بالنظام الشيوعي هيّنة، كما تبرز الباحثة فرانشيسكا روزاتي، وهو ما جعل بعض الرموز المسلمين يختارون المنفى الاضطراري في تايوان. وهو حال جملة من الشخصيات الشهيرة التي تركت الصين الحمراء والتحقت بخصيمتها. نجد باي كونغسكي، أحد جنرالات الجيش الثوري القومي، وكذلك ما بوفانغ، وما بوكينغ، وقد انضم جميعهم إلى برلمان تايوان. واليوم يبلغ عدد مسلمي تايوان نحو 60.000 على عدد سكان يناهز 23 مليونا.
وعلى ما تورد الباحثة روزاتي، عارض ماو بشدة مطلع خمسينيات القرن الماضي، شوفينية الهان تجاه الأقليات. وفي نطاق التعاطي مع جماعة “هوي” المسلمة في بيكين، على سبيل المثال، افتتحت الحكومة مدارس بقصد النهوض بالشرائح الفقيرة، كما تم تأميم مطاعم كينغزهان (الحلال)، وجرى ترميم جامع شارع بوي في بيكين إضافة إلى البنايات المجاورة، بأموال عمومية، مع مراعاة ألا تعلو تلك البنايات على الجامع. لكن منذ أن هلّت فترة الستينيات تحول كل شيء وباتت سياسة النظام تهدف إلى “إلغاء أنظمة الاستغلال الإقطاعي المتمثلة في الدين”، وتطلّع الحزب منذ العام 1965 إلى إلغاء أشكال التدين، وقد انجرّ عن ذلك ترحيل العديد من الأئمة إلى المحتشدات بقصد إعادة تأهيلهم (ص: 217). باتت حالة الإمام شان كالي (1924-1970) إحدى العلامات البارزة في هذا السياق المتعسف، حيث قضى الرجل شهيدا بعد معاناة طويلة.
أتساءل باستمرار عن محدودية مناهج التدريس في الجامعات العربية وقصورها عن الإلمام بقضايا العالم الإسلامي. إذ ثمة انغلاق رؤيوي وانحصار منهجي، والحال أن تلك المؤسسات الجامعية هي أولى بتناول قضايا المسلمين لما يربطها بهم من وشائج حضارية ودينية. كتاب الإيطالية فرانشيسكا روزاتي الذي آثرنا عرضه هو من إنتاج باحثة غربية في مجال الدراسات الشرقية. والمعرفة في هذه المؤسسات التي تُعنى بالشرق عملية، ولا تنزع إلى التجريد المشط أو الاغتراب المخل، بل تساير متطلبات الواقع. فأن تصدّر باحثة إيطالية كتابها بحديث نبوي، وإن ضعّفه البعض أو عدّه موضوعا، “اطلبوا العالم ولو في الصين”، فيه إيحاء للبون الشاسع الذي يفصل هواجس الدارس المسلم السالف عن نظيره الحديث.
الكتاب: الإسلام في الصين.. من البدايات إلى جمهورية الصين الشعبية.