فسمى الله تعالى أوجه القمر كما نراها منازل. ولعل السر في ذلك هو أن القمر أثناء دورانه بين الأرض والشمس وحينما يكون في المحاق يكون بحالة هي أقرب الحالات لحالة الخسوف. فهو يكون منحرفاً قليلا أثناء دورانه؛ لذلك يتغير القسم الناقل لضوء الشمس منه من حيث العرض يوميا فنسمي لحظة خروجه من الظلام الكامل بالنسبة لنا ميلادا للقمر والذي يتحقق مرة كل 29 يوما و12 ساعة و44 دقيقة تقريبا. ويسمى القمر المولود حديثا قبل غروبه -إذا شوهد بعد غروب الشمس- هلالا باعتبار أنه يهل علينا بالنور المرئي. وحجم الهلال ينجم عن تواصل دوران القمر حول الأرض، ففي كل مرة ينزل في موقع بين الأرض والشمس نزولا قليل الانحراف خارج التوسط الكامل، فيكون حجمه مختلفا في كل منزل. وتتواصل التربيعات إلى حجم البدر ثم يعود مرة أخرى تدريجيا إلى منزله القديم بين الشمس والأرض ليتلاشى نوره بالكامل بانتظار ميلاد جديد له بالنسبة لأهل الأرض. عليه فمن المعقول جدا احتساب بداية المنزل الأول للقمر من بعد خروجه من المحاق بداية حقيقية للشهر القمري.
وأما السبب في تسمية المنازل في آية البقرة بالبيوت فهو برأيي ناجم عن أننا نعتبر المنزل القمري بداية للشهر إذا ما بات القمر في ذلك المنزل بعد ميلاده من بداية الليل ليتحقق المبيت ثم يبدأ الشهر من اليوم التالي. فلا يجوز أن نبدأ الشهر من منتصف المنازل أي من كونه بدرا لأن العبرة بكونه هلالا. كما لا يمكن أن يتحقق أول الشهر دون سبق ليل هلالي كامل باعتبار المبيت. وتجدر الإشارة إلى أن التشريع الإلهي يعتبر الليل متبوعا بالنهار فتشير إلى أن بداية اليوم تكون من بداية غروب الشمس ونهايته بالغروب التالي للشمس. ذلك لأن الطبيعة في حال تصاعدي دائم فالبداية يجب أن تكون أضعف من النهاية. ولتعذر الابتداء من منتصف الليل وعدم جدوى ذلك فإن الشارع اعتبر مغرب الشمس بداية لليوم وهذا ما توحي به آية الصيام التي تدعونا إلى الأكل لا إلى الصوم استنادا إلى هذا الاعتبار وإلى اعتبار أن الله تعالى إيجابي لا يمكن أن يمنع عبيده مما خلقه لهم فهو حتى في الصيام يتحدث إيجابيا لا سلبيا. قال تعالى في سورة البقرة:
ولأوضح بأنني وحينما أقول بأن الليل متبوع بالنهار فإني لا أعارض الآية التالية في يس: لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40). فالليل هناك لا تعني الليل الزماني المصطلح بيننا والليل الزماني لا يسبح في فلك كما تعلمون.
و الليل الزمني في القرآن يعني بداية غروب الشمس وهو بداية اختفاء نورها المباشر من أمام أنظارنا بغض النظر عن حقيقة الغياب لبُعدها عنا، كما أننا نكتفي بالحساب إذ لا يمكن التحقق من ذلك دوما بالرؤية العينية لوجود ما يمنع منها في الغالب. ولا ننس أن الليل والنهار بهذا الحساب يصح في المناطق القريبة من خط الاستواء وأما المناطق البعيدة فإن الناس بأنفسهم يعينون الليل وهو وقت الإفطار ولا دخل له بمحاسبة الهلال والعلم عند الله تعالى.
عليه ولو صح ما نقول فإن بداية الشهر القمري في كل بلد تتحقق بمجرد أن يتم ميلاد الهلال قبل غروب الشمس ولو بدقيقة واحدة مثلا. وهذا ما يمكن أن نفهمه من القرآن الكريم وقد التزم العديد من الإخوة بهذا الفهم بعد أن أوضحته في مناسبة سابقة رغم أني شخصيا لم ألتزم به آنذاك، لأن الشهر بنظري مسألة عرفية تحتاج إلى اتفاق بين الناس ولو بصورة جزئية لتعيين بدايته ونهايته. ولعل العلة في عدم جعل هذا الموضوع كسائر المحكمات الأخرى وتوضيحه بتفصيل أكبر قرآنيا هو أن هذا الموضوع يميل إلى كونه عرفيا أكثر من ميله لأن يكون شرعيا.
أضف إلى ذلك أن احتساب ميلاد الهلال لم يكن في متناول البشر عند نزول الوحي العظيم. والحقيقة فإن الآية الكريمة تعتبر بالنسبة للمتعمقين في القرآن الكريم جامعة مانعة رغم ظهورها شبيها بالمتشابهات إلا أن إثباتها للغير لا يخلو من صعوبة.
وأما مسألة إكمال ثلاثين يوما المتداول بيننا نحن المسلمين والتي ورثناها من سلفنا الطيب فهي غير مذكورة في القرآن الكريم لأن الله تعالى كما يبدو قد بين العملية الحسابية التي تغنينا عن إكمال الشهر ولذلك فسوف لا نحتاج إليه إذا اتبعنا القانون القرآني بإذن العزيز العليم عز اسمه. ويعلم الجميع بأن الشهر القمري في واقعه ليس ثلاثين يوما بل هو 29.5 يوما تقريبا.
ومسألة حضور شهر رمضان شخصي بحت كما نقرأ في الآية التالية من سورة البقرة: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185). كلمة شهد تعني حَضَرَ وعَلِمَ كما يقوله علماء اللغة ولا تعني رؤية الهلال. فالحضور باعتبار أن يكون حاضرا في شهر رمضان والعلم باعتبار علمه بدخول الشهر. ولو كان المقصود رؤية الهلال فسيكون الأعمى وكذلك الذي لا يمكنه رؤية الهلال مرفوعين عن الصيام وهو غير صحيح. ذلك لأن الأمر شخصي لكل شخص شهد الشهر وليس عاما لمن يشهدون الشهر حتى نتمكن من ضم من لا يمكنه الرؤية إلى من يمكنه الرؤية. ولذلك فإن الاعتماد على الرؤية غير صحيح ولو سار عليه السلف باعتبار أنهم لم يكونوا قادرين على الحساب مثلنا.
ولا أدري ما فعله الرسول وصحابته فعلا لعدم وجود مصادر صحيحة يمكن الوثوق بها بيننا ولعدم قيام الرعيل الأول بكتابة الكتب. كلما ورثناه من تاريخ السلف خارج المفاهيم القرآنية فهو من وضع بني العباس الذين لا يمكن الوثوق بهم لأنهم كانوا حكاما ظالمين مجرمين يسعون لتثبيت سلطانهم ولم يسعوا لتثبيت الإسلام. ويمكن الاستشهاد باهتمام الحكومات العباسية ومن تلتهم حتى يومنا هذا بتثبيت رمضان والعيدين معتبرين ذلك تثبيتا لطاعة الناس للحكام. والأمر بين الشيعة تثبيت لطاعة المقلدين للمرجع أو العوام حسب تعبيرهم للعالم حسب تعبيرهم أيضا.
ليس بيدنا مستمسك غير القرآن:
وأما موضوع اهتمام الفقهاء بما ظنوا بأنه من رسول الله عليه السلام فنحن مثلهم نهتم بما قاله رسولنا الحبيب الذي نشهد له كل يوم بالرسالة لإثبات أننا مسلمون مثله ونسعى لأن يهدينا ربنا طريقه التي سار عليها؛ عسى أن يحشرنا معه ومع كل الطيبين إخوانا على سرر متقابلين في جنات النعيم.
لكن القرآن الثابت لدينا سماويته لم يأمرنا بأن نتبع غيره بل أمر نبينا أيضا بأن يتبع القرآن. أرجو من الإخوة والأخوات أن يلاحظوا هذه الآية الكريمة من سورة البقرة التي تخاطب النبي ومن معه وإيانا: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177). فنلاحظ بأن الله تعالى لا يعتبر الصلاة التقليدية علامة بارزة للبر بل الإيمان بالله ووو. ونلاحظ بأنه سبحانه يعتبر الله فردا واليوم الآخر فردا والكتاب فردا ويعتبر الملائكة والنبيين جمعا. ذلك لأن الإيمان بهم لا يعني إيمانا بأفرادهم بل يعني الإيمان بأن الله تعالى أنزل ملائكة وبعث نبيين فالإيمان بهم جزء من الإيمان بتكامل دين الله تعالى. ولذلك لم يسم الله تعالى كل الأنبياء في القرآن ولم يضع أسماء لملائكته عدا أربعة منهم.
ونلاحظ من القرآن الكريم بأنه سبحانه لم يأمرنا بالتمسك بأي شيء غير الله تعالى واللقاء مع الله والقرآن إضافة إلى التمسك بعملين أساسيين لفهم القرآن وهما الطمأنينة والسمع الكامل. ولعلكم انتبهتم إلى أن القرآن يخلو من فاتحة من فواتح السور تأتي بالميم إلا بعد الألف واللام والحاء والطاء والسين. ونحن نؤمن بعد البحث القرآني بأن الألف تشير إلى الله تعالى واللام إلى اللقاء مع الله تعالى وهو يوم القيامة والحاء إلى الحجة وحجة الله الوحيدة في القرآن هو القرآن نفسه. وقد أنزل 7 سور متوالية تتحدث عن القرآن وتبدأ كلها بـ حم. فحرف م يرمز إلى التمسك بما قبله. ونراه سبحانه يرمز إلى الرسل بحرف الراء وقد أنزل عدة سور تحتوي على الراء وكلها تتحدث عن الرسل فيما عدا سورة الرعد التي تتحدث عن الرسالة لا الرسل الفعليين. فيتجنب القرآن المنتشر بيننا أن يعتبر أية فاتحة حرفية تنطوي على حرف الراء آية كاملة كما يتجنب وضع حرف الميم بعد الراء بمعنى عدم جواز التمسك بالرسل. والسر في كل ذلك هو أن الرسل قد ماتوا جميعا ولا قدرة لنا للارتباط بهم ولم يخلف أي منهم بمن فيهم نبينا كتاباً لأحاديثهم. لا نرى كتاب حديث كتبه الرسول الأمين صلى الله عليه وآله وسلم ولا كتابا منسوبا إلى أي من صحابته ولا أي من التابعين. كلما كتبوه كان بعد أكثر من قرن من وفاة الرسول عليه السلام أي بعد وفاة آخر تابعي.
وأما ما نراه في بداية الآية 172 أعلاه من خطاب للرسول وصحابته فهو لخصوصية موجودة بينهم من عقائدهم السابقة للإسلام وهو تحريم بعض الأنعام الأربعة المحللة كلها باعتبارات خاصة بهم مثل البحيرة والسائبة فهي غير موجودة بيننا ثم تعود الآيات إلى كل الناس. وظن بعض الإخوة بأن الذي واللذان والذين تدل على أعيان موجودة فعلا أو مخلوقة فهو كذلك على الأغلب وليس عاما. ولم يلتزم القرآن بهذا القانون اللغوي المحتمل كما نقرأ مثلا في الآية التالية من سورة البقرة: قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَكَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39). فأين الذين كفروا وكذبوا بآيات الله تعالى يوم طرد آدم وزوجته والشيطان من جنة الله تعالى المطمئنة الباعثة للسلام وهي جنة غير فيزيائية طبعا؟. والعلم عند الله تعالى.
الصيام والعيد في لندن:
بناء على فهمنا للآية القرآنية فإن يوم الأربعاء 16/5/2018 سيكون أول رمضان لعامنا هذا. ذلك لأن هلال أرضنا يولد في الساعة 12:47 مساءا بتوقيت بريطانيا الصيفي يوم الثلاثاء 15/5/2018. وأما الشمس فتغرب في الساعة 08:45 مساء الثلاثاء أي بعد حوالي سبع ساعات و58 دقيقة من ميلاد الهلال. فيبيت الهلال ليلة كاملة في ذلك اليوم بالنسبة لمدينة لندن ويكون اليوم التالي بداية الشهر الجديد في مهجرنا بإذن الله تعالى.
وسيكون عيد الفطر السعيد مصادفا ليوم الخميس 14/6/2018. ذلك باعتبار أن هلال شوال يولد في الساعة 08:43 من مساء الأربعاء 13/6/2018 وتغرب الشمس في الساعة 09:18 ويبيت الهلال ليلة ذلك اليوم فسيكون العيد في اليوم التالي وهو يوم الخميس بإذن الرحمن عز اسمه.
أرجو أن يكون الموضوع كامل الوضوح بعد هذا.
أتمنى للجميع رمضانا مباركا وعيدا سعيدا ورحمة واسعة وخيرا كثيرا وعلما وافرا، والسلام عليكم.