تصحيح اخطاءنا التراثية : حدود الإنفاق أو الزكاة في كتاب الله
بسم الله الرحمن الرحيم
حدود الإنفاق أو الزكاة في كتاب الله.
علة فرض الإنفاق أو الزكاة:
تشكل المادة بمختلف أنواعها، أساس وقوام المجتمع البشري وهي محدودة في هذا العالم تبعا لضرورة الاختبار والامتحان الذي أراده الله تعالى لنا. ومن المؤكد حسب وعد الرزاق العليم أن تكون الكميات الموجودة من كل شيء كافية لتمتع واستقرار الأمم الإنسانية في كل مكان وعلى مر العصور. فالإسراف في أي منها سوف يُحرم بعض شرائح المجتمع من الكفاف والإشباع. شأن المواد التموينية ومواد اللبس والسكن، شأن الجنس البشري نفسه؛ فالإناث متساويات مع الذكور وهي ثابت علميا وقرآنيا. ولكن الحروب وبعض المشاكل المرضية وغيرها قد تخل بالتوازن لفترة عمر كامل، يتجدد بعده التكافؤ العددي بالطبع. فالإسراف في الزواج أيضا مخل باستقرار المجتمع إلا في الحدود التي رسمها الله تعالى وفي الأحيان التي أباحها حسبما ذكره في كتابه الكريم وليس حسبما يهواه أهل المتع. والأرزاق وأسس المقتنيات موزعة في مختلف بقاع الأرض، وما على البشر إلا اتباع قانون التوازن وترك الاستئثار والاحتكار وبقية أنواع الظلم ليعيش الناس جميعا على نعمة الله تعالى بكل سلام ووئام.
لكن الجشع والإفراط في حب الذات تشجع الأقوياء والمحظوظين على التعدي على حقوق المحرومين؛ فأعضاء المجتمع بأمس الحاجة إلى قانون سماوي يفرض عليهم التخلي عما لا يحتاجون إليه لصالح الذين يحتاجون إليه. وفي حالة عدم اتباعهم الطوعي لأوامر الرحمان جل جلاله، فإن السرقات والاغتيالات والحروب وتدمير البيوت والجسور والسدود هي النتيجة الطبيعية التي تجلي ردة فعل المحرومين المظلومين ضد القساة الظالمين. ولقد أضحى العالم اليوم أسرة واحدة لتتأثر بأي مسعى أو نشاط لتكديس المزيد من خيرات البشر على حساب المحرومين والمعوزين فتتورم بثور الحقد على خدود الضعفاء والفقراء. وكلنا نعرف مصير أورام الحقد والكراهية ولا سيما لو كانت على حق. وقد نبهنا العزيز سبحانه في سورة البقرة: 194 {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} فعدم الإنفاق في الحقيقة يوازي إلقاء المرء نفسه إلى التهلكة والعلم عنده سبحانه.
ولذلك فإن السبيل الوحيد لإعادة السلام والاطمئنان إلى مكونات الشعوب والأمم هو أن يشعر كل ثري وغني بأن في ماله وثروته حق للسائل والمحروم. وعليه أن يُشعر نفسه أيضا بأن نفسه غير جديرة بانتظار الشكر والمديح والخضوع ممن يقع في الحاجة إلى ما أولاه الله من مال أو ثروة. إن ما في أيديهم من مال زائد، فهو ليس ملكا طبيعيا لهم وليست لهم مصلحة في تكنيزها وتوفيرها في البنوك ليكون – كما يظنون – تأمينا لمستقبل أولادهم وأحفادهم، متجاهلين صرخات المعذبين في الأرض وآلام المرضى والجائعين والعراة والبائسين.
هل عين الله تعالى مقدار الإنفاق أو الزكاة؟:
لنعلم بأن الله تعالى هو سيد الخلائق أجمعين “إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا” سورة مريم: 93. فلا فرق بين عبد وعبد في الساحة القدسية الجليلة إلا بمقدار الطاعة والعبادة الاختيارية. وإن الله تعالى جدير بأن يأمر الأغنياء بترك ما هو زائد عن حاجاتهم لمن يحتاج إليها دون أن يبطلوا صدقاتهم بالمن والأذى. لو كانوا في انتظار رضوان الله سبحانه فلينفقوا دون انتظار الشكر والخضوع والامتنان من الذين أحسنوا إليهم. لقد قال سبحانه في البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴿219﴾}.
وجميل أن ننتبه للمقدمة التي استهل بها هذه الآية الكريمة بذكر أجلى مظاهر الإسراف المتمثلة في الخمور ولعب القمار أو الميسر، فنعلم أن السبب في دعوة الناس لإعطاء العفو والزائد هو منعهم من الإسراف تبعا لحاجة نظرائهم من البشر إلى ما في أيديهم من خيرات. إن في ذلك دليلا واضحا على وجوب قيام المرء بالتخلص من كل ما يمكن أن يحفزه ويغويه على ركوب الآثام إلى من هو بحاجة إليه طالبا رضا الله تعالى. إن نهم الإنسان في الإسراف في المتع بمثابة حرمان من دونهم من طبقات المجتمع من التمتع بالضرورات اللازمة لبقائهم أحياء أصحاء يخدمون المجتمع ولا يفكرون في الثأر ممن فاقوهم مالا وثراء. وقد سبقنا الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بقولته المأثورة: {إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء: فما جاع فقير إلا بما متع به غني، والله سائلهم عن ذلك}.
ولو تقدمنا عدة آيات لنرى الجميل البديع يمهد تمهيدا آخر لتشجيع المؤمنين بالله على الإنفاق بكل ما هو زائد لمن هم أعضاء في أسرتهم. إنهم يمثلون الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل. فابن السبيل في عداد المسكين الذي وقع على الأرض دون إرادة منه، والمسكين أشبه باليتيم الذي فقد أبويه دون أن يكون له يد فيه واليتيم أقرب من كل قريب إلى كل إنسان فكل الأولاد هم أولادنا جميعا كما تفطن له الأمميون أخيرا، والوالدان اللذان سببا ظهورنا إلى الحياة هم في الواقع أقاربنا وليسوا أنفسنا. وهكذا فإن آخر الخط شبيه بأول الخط ولكل منهم حق عليك كما لأبويك حقوق عليك. هذا ما يقوله سبحانه وتعالى في الآية 215 من البقرة: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴿215﴾}. ولا يمر سبحانه على هذه المسألة المهمة اجتماعيا دون أن يذكرنا بأن الذي ينفق بأمر الله، فهو على عين الله وتحت منظاره العظيم جل جلاله وعمت رحمته. وهكذا فإنه سبحانه لم يعين مقدارا للإنفاق، بل اكتفى بأن يأمر رسوله بإبلاغ الناس أن يدفعوا كل ما هو زائد وعفو لديهم لمن يحتاج.
الفرق بين الإنفاق والزكاة:
نفق الشيء تعني مضى ونفد كما يقول الراغب في المفردات ولا يخالفه الآخرون كثيرا. ولذلك تُطلق الكلمة على رواج البيع فيقولون نفق البيع كما تُطلق على موت الدابة باعتبار مضيه وعلى النفق في الأرض باعتبار إمكانية السير فيه. فالإنفاق لا يعني دفع نسبة أو جزء بسيط من المال كما ندفعه للسائل مثلا. إنها تعني أن يبذل الثري ماله بحيث يحصل نفق في ماله أو يكاد يخسر جل ماله في سبيل الله تعالى. أما الزكاة فتعني النماء والزيادة. ولذلك فإن الزكاة باعتبار النية والقصد وليس باعتبار الدفع. بمعنى أن الذي يدفع الزكاة يقصد إرضاء ربه ليزكي نفسه وليفوز بنعيم الآخرة. والذين ظنوا بأن الزكاة تنمي المال في الدنيا فأظن بأنهم غير مصيبين.
والفرق بين الكلمتين هو أننا نسمي كل ما يدفعه كل إنسان مهما كان قليلا زكاة باعتبار تنازله عما يحتاج إليه لصالح المحتاجين من خلق الله تعالى فيمكن أن يكون دافع الزكاة فقيرا بنفسه أيضا. لكن المنفق هو الذي يملك مالا كثيرا فيدفع بحيث يؤثر الدفع في ثروته كأنه يُحدث نفقا فيما كنزه لنفسه. ولذلك فإن الزكاة واجبة على الجميع لدفع الجوع والعرى وفقدان المأوى. لكن الإنفاق فهو للمشاريع الكبرى وللدفاع عن الوطن ولحماية الدولة وما شابه ذلك والعلم عند الله تعالى.
السبب الرئيسي لمخالفة القرآن:
لكن المؤسف أن أصحاب الجشع وكذلك الملوك الذين قطع الله أيديهم عن التطاول على كتاب الله تعالى، فإنهم بوحي من الشيطان، وضعوا للناس دينا وإسلاما مغايرا لكتاب الله تعالى باسم السنة المنسوبة إلى رسول الله عليه السلام. لقد أرادوا بذلك تغيير التكوين الاجتماعي للمسلمين لصالح إمبراطورياتهم الزنخة الفاسدة. ثم تبعهم علماء المسلمين الذين ورثوا تلك الملفقات ولم يتسن للمشاهير منهم التحقق في صحتها فنقلوها إلينا واعتبرناها أسسا إسلامية لا يمكن مسها. هذا هو تماما ما حدث بعد وفاة الرسولين الكريمين موسى وعيسى عليهما سلام الله.
ولو كان الرسول قد عين اثنين ونصف بالمائة تقريبا نصابا للزكاة، فهو لمجتمعه الزماني والمكاني وليس للناس جميعا. لم يخول الله تعالى رسوله لتعميم هذا الأمر وتعيين هذا النصاب إلى يوم القيامة ولا يعقل أن يقوم المصطفى عليه السلام بما ليس من حقه. ولو قال الرسول: صلوا كما رأيتموني أصلي، فمتى قال: زكوا بمقدار ما عينته لكم أينما كنتم إلى يوم القيامة؟! إن تعيين كيفية الصلاة وعدد ركعاتها من حقوق الرسول وسوف أوضحها للناس مستقبلا ولكن ليس من واجبات الرسول تعيين أنصبة الإنفاق لكل أهل الأرض. إن أنصبة الزكاة تمثل الضريبة السلطوية للحاكم حتى يستعين بها على موارد إنفاقه بما فيها توفير الحد الأدنى للعيش والصحة والسكن والملابس للفقراء. هذا النصاب يعينه المجتمع متمثلا بالسلطة المنتخبة من مجموع الناس أو بالبرلمان المنتخب أعضاؤه بنـزاهة أو بالمجالس المحلية أو بما شابه ذلك من تجمع أهل الحل والعقد. ولا يمثل نصاب الزكاة النبوي أو البرلماني نهاية المطاف لعملية الإنفاق. فالمسلمون ممنوعون من الكنز ومن الإسراف ومأمورون بدفع العفو الزائد من أموالهم لمن يحتاج، وليس أقل من ذلك ألبته.
ولعل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أراد تفريغ المكنوزات بصورة حكيمة ففرض على كل صاحب كنز أن يدفع كل سنة نسبة مما كنزه حتى يكاد ينفد كنزه في النهاية. هذا الكنز سوف ينفد أو يكاد بعد عدة عقود إن لم يفاجئه الموت ليتوزع بين الورثة. حينئذ ستكون النسبة نسبة كسر الكنز وليست ضريبة الدخل. النظام الإسلامي والحكومات الوطنية تسعى لكسر أقفال الكنوز بحكمة ورزانة ريثما تتقلص فرص الحكرة المشينة وتنتشر الثروة بين أكبر عدد ممكن من الناس، لكيلا تكون دُولة بين الأغنياء. وحكم الميراث شاهد آخر على سعي النظام الإسلامي لكسر الكنز وتوزيعه.
إذن على المؤمنين وكذلك العقلاء من الأثرياء أن يدفعوا كل ما لا يحتاجون إليه فعلا من أرباحهم السنوية للأمم البشرية ويجنوا بها السلامة لهم ولأولادهم في الدنيا والرضوان والجنان في الآخرة إن كانوا مؤمنين. هذا هو معنى الإنفاق بالعفو الذي لا يحتاج إليه المرء مع الامتناع عن الإسراف والكنز. وله أن يعيش مع أهله حياة هنيئة رغيدة أكثر رخاء من غيره إكراما لعنائه ونجاحه وكفى. وعلى صاحب الثروة المؤمن ألا ينسى بأنه واحد من بقية عبيد الله تعالى فإذا أكرمه ربه فنعمه فعليه ألا يُسرف في الصرف على نفسه وعلى متعه بل يقتل شهواته طلبا للمغفرة. أما أن يتمتع الثري بأمان القدرة المالية إضافة إلى المتع الأخرى على حساب الفقراء فهو إسراف يُفقده أي حق يوم الحساب لأنه من المترفين حينئذ. قال تعالى في سورة المؤمنون: حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64). والترف تضر الحياة الدنيوية أيضا. قال تعالى في سورة الإسراء: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16).
منع الزكاة من أهل بيت النبي:
اتفق الفريقان أن الزكاة أو الصدقة هي من أوساخ الناس ولا يجوز دفعها لأهل بيت النبي. قال تعالى في سورة التوبة: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104). فالصدقة مال طيب يأخذها الرسول ويتقبلها الله تعالى. والزكاة التي فرضها الله تعالى مع الصدقات فهي أيضا من الطيبات. لكن بني العباس أرادوا أن يسرقوا خمس أرباح البشر اخترعوا ذلك التفسير التعسفي كنوع من التفخيم والتكبير الأسري لأنفسهم.
والشيعة عمموا خمس غنائم بدر على كل الأرباح فكان لأهل بيت النبي نصيب الأسد منه وهو نصف الخمس. وليس بعيدا لو تظنن أحد بأن السبب الرئيسي هو انضمام الشيعة لغالبية الذين انحدروا من الهاشميين من آل رسول الله عليه السلام. وأما السنة فقد منعوهم من الزكاة واكتفوا بدفع خمس الخمس من الغنائم لهم وبما أن الغنائم غير موجودة اليوم فذرية الرسول محرومون تقريبا من الحقوق الشرعية لدى السنة. ولم يعين أي منهم حدود الذرية النازلة. ويحتار المسلم العصري الذي يعيش في القرن الخامس عشر الهجري من التمييز بين الهاشميين وغيرهم. لقد تزاوج الكثيرون من غير الهاشميين من بنات الهاشميين وأصبح أولادهم هاشميين شرعا ولكنهم فقدوا المزايا الهاشمية بعد عدة أصلاب لأن المرء يُعرف باسم أبيه وليس باسم أمه. ولا ننس بأن آل محمد يعني أولاد ابنته لديهم إذا لا بنين للرسول عليه السلام كما يقول القرآن الكريم في سورة الأحزاب: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40).
كما أن الكثيرين من الشيعة انتحلوا القرابة النبوية طمعا في المزايا المالية وانتقلوا من بلد إلى بلد فضاعوا بينهم وورث أولادهم القرابة المزعومة في حين لم يتعرف أهل البلد الجديد على كذب المنتحل الأول. والشاهد على ذلك هو تهافت المعروفين بالسادة على المواريث الكتبية القديمة لإثبات شجرة النسب.
التعالي على الغير بالنسب:
استعاد بنو أمية حكم مكة بعد أن تمكنوا من حكم الشام. لقد ظلموا بني هاشم دون شك ولم يكن بيدهم أي تخويل من أمتهم للحكم. كانوا ملوكا كغيرهم من الأسر الملكية التي حكمت البلاد وظلمت العباد. هنالك شعر بنو هاشم بأنهم ظُلموا وفكروا في الانتقام من بني أمية وقاموا بثورات ضدهم. منها ثورة زيد بن علي بن الحسين وثورات كثيرة أخرى بعضها من غير بني هاشم. وكانت ثورة بني هاشم ضد الأمويين على أساس الدعوة إلى الرضا من آل محمد وكما نقرأ في التاريخ بأن عامة المسلمين كانوا يقصدون تسليم السلطة بعد بني أمية إلى أولاد علي ولكن أحفاد العباس تغلبوا على كل حال واستلموا السلطة. تشكلت دولة دينية باسم آل محمد ثم أهل البيت، يعني أهل بيت النبي.
يخلو القرآن الكريم من أية آية تشير إلى أي حق شرعي لآل محمد عليه الصلاة والسلام. فسواء كان العباسيون من آل الرسول أو لم يكونوا فإنهم لم يتمكنوا من إثبات أي أمر لصالحهم من واقع القرآن. لكنهم اختلقوا أحاديث فسروا بها بعض الآيات لصالحهم.
النسب للتعارف لا للسلطة:
قال تعالى في سورة الحجرات: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13). فكل ما تنتقل إلينا من آبائنا وأمهاتنا تُعتبر علاقات بدنية لنتعارف فقط. وحينما نفقد الإرادة كاملة وهي حالتنا بعد الموت حيث نكون عند الله تعالى فاقدين لأية قدرة على العمل فإنه سبحانه سوف يُكرمنا على أساس تقوانا وليس على أساس نسبنا.
وأما علميا فإن علاقة كل فرد بأبويه باعتبار بدنه لا باعتبار نفسه. لقد اشترك أبوانا في صناعة أبداننا ثم منح الله تعالى كل فرد منا نفسا تناسب البدن الجديد. قال تعالى في سورة الانفطار: يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8). وقال تعالى في سورة الشمس: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8). فالنفس هي التي يسويها الله تعالى مع البدن وهي تُصنع بعد الخلق وقبل التعديل الجيني حيث يتم التصوير الكامل للإنسان الجديد. النفس هي التي تُحشر يوم الحساب وهي متأخر عن الخلق. وعرفنا من آية الحجرات بأن الله تعالى خلقنا من ذكر وأنثى. فالذكر والأنثى هما من تبعات الخلق.
خلايا أو كروموزومات بل جينات الأبوين هي التي تخلق البدن ثم يخلق الله تعالى لذلك الارتباط الخلوي نفسا تناسبه ثم تقوم الجينات بتكميل خلق الإنسان في أكياس ثلاثة أو ظلمات ثلاث حسب تعبير القرآن الكريم. فما يأتينا من آبائنا وأمهاتنا هي مكونات أبداننا لا مكونات نفوسنا. قال تعالى في سورة الأعراف: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174). تشير الآية الأولى إلى الخلايا الأحادية من حيث الجينات الوراثية التي تُصنع يوميا للآباء وحينما تُخلق منفصلة تمثل الحيوانات المنوية التي تغزو خلية أحادية أخرى لدى المرأة المتمثلة ببويضة من بويضاتها المصنوعة في بداية سن البلوغ والمحفوظة في كيانها للمستقبل. هناك لا تنتقل كل أفكار الأب إلى الخلية الجديدة بل تنتقل الصفات البدنية فقط. كما أن بويضة الأم لا تحمل الأفكار والعقائد بل تحمل بعض الصفات الوراثية المؤثرة في الكيان الجديد.
ونحن أناسي بنفوسنا وحيوانات بأبداننا. كل قدراتنا الإدراكية موجودة داخل نفوسنا وأبدانُنا آلات بيد النفوس. النسب مرتبط بأبدان الآباء والأمهات وليس بأنفسهم. ولذلك فإن الله تعالى يعتبر نفوسنا بعد الحشر الثاني تمهيدا ليوم الحساب يعتبرها بلا أنساب. قال تعالى في سورة المؤمنون: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ (101). لا يُعيد الله تعالى أحدا إلى الحياة الدنيا إذا دخل عالم البرزخ الفاصل بين الحياتين. إن قسما من الحياة البرزخية في هذه النشأة وقسم منها في النشأة الآخرة فهو يمثل حياتنا المتوسطة بين الحياة الدنيوية الشاعرة والحياة الأخروية الشاعرة. سنكون في البرزخ في حالة النوم تقريبا غير شاعرين إلا ببعض ما هو مذكور في القرآن الكريم.
لا أنساب بين البشر في الحياة الثانية باعتبار أن النسب كان بدنيا فإذا متنا موتا كاملا فإن البدن يموت ويتلاشى وتنقطع كل العلاقات النسبية. نلاحظ بأن يونس الذي أكله الحوت فمات طبعا ثم أراد الله تعالى إحياءه من جديد حيث كان ذلك ممكنا باعتبار عدم دخوله الحياة البرزخية المتطورة فإنه سبحانه خلق له بدنا نباتيا خاصا. قال تعالى في سورة الصافات: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147). فحينما أراد الله تعالى أن يمن على يونس عليه السلام بحياة جديدة فإنه أنبت عليه بنفسه شجرة من يقطين. فقامت النفس الإنسانية القوية بتبديل خلية اليقطين إلى خلية إنسانية تناسب يونس فعاد إلى الحياة من جديد. تلك حياة شبيهة بالحياة الأخروية طبعا وذكرت جزءا من تلك الحكاية الغريبة لنعلم بأن الإصالة في حياتنا الدنيا بأبداننا فلو ماتت فليس لدينا إمكانية الحياة من جديد إلا بالطريقة المذكورة في حكاية يونس. لكن نفوسنا ستكون الأصل في الحياة الأخروية والأبدان ستكون ضيوفا عليها بعكس حالتنا الدنيوية حيث أننا بنفوسنا ضيوف على أبداننا التي ورثناها من أبوينا.
أعتذر بأنني أشرت إلى هذا البحث ولم أوفه حقه لأنني بصدد القول بأن من يدعي بأن له حقا خاصا باعتبار نسبه فهو مخطئ. النسب يساعدنا على الكسب البدني الدنيوي ولا علاقة للنسب بنفوسنا فلا يمكن تثبيت أي حق لأي شخص باعتبار أسرته خارج نطاق القرآن. والقرآن أقر بالميراث المالي بصورة موسعة وبتأثير الجينات في أبداننا الدنيوية ولكنه لم يقر بأي حق لنا في الملك أو الحكم أو السلطة الدينية أو السلطات الأخرى على أساس النسب. والكثير من مميزاتنا العلمية والفنية فهي مميزات كسبية في الغالب.
تشطير الأمة الإسلامية بالسادة وغير السادة:
لعل الكثير منا لاحظ بأن الذين وضعوا أنفسهم موضع الأوصياء الدينيين يحملون عمامة سوداء وأخرى بيضا بالنسبة للشيعة. فالسوداء علامة بني هاشم والبيضاء علامة غيرهم. وعلينا ألا ننسى بأن بني هاشم الذين يسمونهم السادة ويظنون بأنهم من سلالة الرسول من السيدة فاطمة فهم ورثوا العمامة السوداء من بني العباس الذين اختاروا العمامة السوداء علامة لسيادتهم على الناس كما أحتمل.
وغير المنسوبين للدين فإن الهاشميين منهم يهتمون بالعمامة السوداء حتى لمن لم يتلق العلوم الدينية باعتبار أنه يستحق عشر أموال الناس بمعنى نصف الخمس المعروف. وأما السنة فإنهم تجاوزوا مرحلة من مراحل التشطير فقليلا ما نرى بينهم فروقا في الملابس. لكنهم أُسر سادة وأسر غير سادة. ويهتم بعض الأسر الحاكمة من السلالة الهاشمية أن يسموا أنفسهم أهل البيت لما في الجملة من معاني إعلامية تقوي سلطانهم.
وإذا أردنا دراسة هذا الموضوع بصورة إجمالية غير علمية فلعلنا نرى بأن هناك ارتباطا وثيقا بين بني إسرائيل وبين السادة الهاشميين. ذلك لأن الله تعالى فصل بين بني إسرائيل وبين غير بني إسرائيل دنيويا لغرض يجهله الكثيرون طبعا. لاحظ المسلمون بأن اليهود من بني إسرائيل يدعون فضلا على غير بني إسرائيل. وبعد أن أوقف الصهاينة أية دعوة للديانة اليهودية لتبقى محصورة في أسرتهم باعتبارهم عنصريين طبعا أجازوا لأنفسهم تسمية دولتهم بدولة إسرائيل ليقولوا لليهود من غير بني إسرائيل بأن ليس لهم حق في الدولة العنصرية لبني إسرائيل.
لاحظ المسلمون من بعد اختفاء الصحابة والتابعين وظهور بني العباس بأن الكيان العائلي يقوي سلطانهم فأسموا أنفسهم بني العباس لئلا يكون لبقية بني هاشم دور في الحكم ثم أسموا أنفسهم أهل البيت ليفصلوا بينهم وبين بقية الناس بمن فيهم بنو هاشم. فكأن بقية بني عبد المطلب ليسوا من بني هاشم. هذه الملاحظة العباسية جاءت احتمالا من شعورهم بقوة بني إسرائيل. تلك القوة التي كسبوها من الأسرة وليست من الديانة اليهودية. فكأن اليهود قسمان قسم من بني إسرائيل وقسم من غيرهم فبنو إسرائيل بل بنو هارون احتمالا هم السادة والبقية ليسوا سادة.
الخيال هو الحاكم على السيادة العائلية:
قد يظن البعض بأن الخبث والمكر وراء التفريق بين السادة وغيرهم. ولكننا وجدانا نرى بأن الكثير من الذين يظنون بأنهم فوق غيرهم من بني آدم فهم أناس طيبون مؤمنون محبون للغير ولكنهم يتخيلون بأنهم فوق غيرهم باعتبار النسب. هذا الخيال لديهم يتقوى شيئا فشيئا حينما يرون من غير السادة تقديم المزيد من الاحترام لهم كسادة. ولدى العرب حكايات كثيرة حول تأثر الإنسان بالخيال الواهي حتى أن الكثيرين من الذين يخلقون الحكايات الخيالية يُصابون أحيانا بالاعتقاد بالمادة الخيالية التي نسجوها بأنفسهم. تبادل الخيال بين السيد وغير السيد وصل حدا يشعر غير السيد بأنه يحتاج إلى كسب تعاطف السيد معه ليكسب الرضوان وجنات النعيم كما يكسب خير الدنيا أيضا! معاذ الله.
دعنا ننظر إلى كتاب الله تعالى وكيف يدمر خيالات بني إسرائيل الذين يمثلون فعلا أقدم وأقوى أسرة متماسكة طيلة ما يربو على 4000 سنة. قال تعالى في سورة المائدة: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18). ولعلكم تعلمون بأن النصارى هم أيضا من بني إسرائيل الذين آمنوا بالمسيح عليه السلام. والمسيح هو خاتم أنبياء بني إسرائيل وهو مرسل إلى بني إسرائيل في الأساس.
لو كان للأنساب أهمية عند الله تعالى فإن بني إسرائيل أهم من غيرهم لقوله تعالى في سورة آل عمران: إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34). فقد اصطفاهم الله تعالى على العالمين. والعالمون يمثلون بشر هذا الكوكب على الأقل؛ والناس كل الناس هم من أولئك العالمين. لم يقل ربنا سبحانه بأنه اصطفى آل محمد على العالمين. والواقع أن كل هذه الاصطفاءات لا تفضل شخصا على شخص تفضيلا شاملا بل تفضله في أمر واحد أو أمور محدودة. فأبو سفيان كان مفضلا على نبينا في الحكم قبل الهجرة وفرعون كان مفضلا على موسى في نفس الشيء. هناك بعض المصطفين قد يدخلوا النار. قال تعالى في سورة فاطر: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32).
وقال تعالى في سورة سبأ: وَمَا أَمْوَالُكُمْ ولا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إلاّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37). فلو كان للبنوة أو الذرية أي حق على الغير أو شرف وفضل عليهم أو امتياز إلهي فليأتوا بآية قرآنية صريحة وإلا فهم يقولون ما لم يقل به الله تعالى.
ثم ما معنى تفضيل ذرية شخص على أشخاص آخرين؟ وهل تنحصر ذرية رسول الله في أشخاص محدودين أم أن هناك الملايين من البشر هم أحفاد رسولنا؟ فليس النسب معيارا للحكم ولا للكسب المادي ولا لكسب المزيد من الاحترام. هذه من عادات الملوك والقياصرة والأكاسرة ولا دخل لها بالدين الإسلامي. وإذا اختار الله تعالى كل الأنبياء من بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم فهو ليس بسبب بنوتهم لإبراهيم. لو قلنا ذلك فهو يعني بأن كل أبناء إبراهيم وهم مليارات اليوم، فكلهم أنبياء. وإن أبا لهب من ذرية إبراهيم وهو عم نبينا وقد حكم الله تعالى عليه وعلى زوجته بالنار في الآخرة وهما حيان في الدنيا. وزوجة أبي لهب فهي أيضا من ذرية إبراهيم عليه السلام. إذن ليس في القرآن أي امتياز للأنساب إثباتا أو نفيا.
أتمنى أن يفيق المعروفون بالسادة في الدنيا ليخلعوا عمائهم العباسية السود ويلبسوا ملابس عامة الناس. وليبادروا بمنع الناس من أن يخاطبوهم بالسادة. أنا شخصيا من نفس الأسر وقد حذفت لقب السيد قبل اسمي متعمدا. وحينما كنت في إيران فإنهم فرضوا علي بأن أكتب كلمة سيد قبل اسمي بقانون. فكنت أفعل ذلك حتى لا أخالف القانون ولكنني حرصت على أن أوقع بدون ذكر السيادة كما كنت أعرف نفسي دائما بالاسم بلا سيادة.
الخمس أو زكاة الخمس عند الشيعة:
وأما بنو جلدتي من الشيعة فباعتبار ضعفهم أمام الحشود السنية، فإنهم شعروا بالحاجة إلى مزيد من المال لدعم تكوينهم الاجتماعي، ولذلك فكروا في تعميم الحكم القرآني حول خمس غنائم بدر على كل الأرباح إلى يوم القيامة على ما يبدو. وهم مخطئون أيضا باعتقادي. إن من حق تكتلاتهم ومراجعهم السياسية أن تعين نسبة الخمس كضريبة اجتماعية لسد ضرورات الكيان الشيعي، وعلى من يتبعهم ويتمتع بالانتماء إليهم أن يدفع هذه النسبة تبعا لاتفاق عام بين كل الفصائل الشيعية وليس باعتبار حد زكاة الخمس. ولم يكونوا بحاجة للتفسير غير الصحيح للآية الكريمة من سورة الأنفال كما سنعرف بعد قليل. إن الغني الشيعي مشكور على دفع ضريبة الحقوق القومية – إن صح التعبير – ولكن عليه أن يعلم بأن دفع هذه الضريبة لا يبرئ ذمته من دفع الزائد من أرباحه إلى من يحتاج بصورة مباشرة، خارج إطار المرجعية الدينية أو القومية أو الحكومية أو الاجتماعية. ذلك إن كان يريد إرضاء ربه ليفوز بجنات النعيم غير مكتف بالأمان الدنيوي. ومن الضروري أن نعرف بأن من حق المرجعيات القومية أن تقلص أو تزود نسبة الضريبة فهي ليست نسبة إلهية كما يتراءى لزعمائنا.
من حق البرلمانات المنتخبة أو المجالس المحلية تعيين أية نسبة ضريبية معقولة من الأرباح وفرضها على الأثرياء وأصحاب الدخل المحدود إبقاء لكيانهم. كما لهم الحق أن يعينوا نسبا متفاوتة حسب مقادير الفائض من حاجتهم السنوية لديهم باعتبار أن لكل ثري الحق في أن يتنعم بعض الشيء بماله وعلى كل من خرج من دائرة الفقر أن يساهم في تكوين المال العام بشيء أيضا. إنهم منتخبون من الأمة لمثل هذه التشريعات وما يشرعونه ملزمة لهم حسب العقد المبرم بينهم وبين نوابهم. وإن كل من يعيش بينهم فهو مجبر لدفع ما يترتب عليه ويجوز أخذها منه بالقوة، ولولا ذلك انفصمت دعائم البلاد واندثرت عوامل بقاء الأمم وانقطعت أسباب التكاثر والتناسل الضروري بين البشر. كل هذا لا يعني الإنفاق المبذول لكسب جنات النعيم والمحصور بين المؤمنين بالله وربهم. وقد منَّ الله سبحانه علينا بتقبله الصدقات واعتبار ما ننفقه في سبيله دَينا حسنا عليه تعالى، يجزي الذين دفعوا بإخلاص بالحسنات غير المحدودة. ونعم الرب ربنا العظيم ملك السماوات والأرض كلها جل جلاله.
ويمكن لمن يريد أن يتطوع للخير قبل فرض الضريبة أو قبل استحقاقه أن يتبرع بالفائض لمن يشاء فلا يبقى لديه مال ليُفرض عليه الخمس أو الزكاة. ولكننا ملزمون بتقوية بنياننا الاجتماعي أيضا، فعلى كل فرد ألا ينسى واجباته تجاه أمته فيدفع ما يمكنه أن يدفع لتوثيق أواصر التماسك مع نظرائه في المذهب الاجتماعي، إذ أن كل فرد – لا محالة – متنعم بسور الدفاع الطائفي الذي يحيط به وبأسرته ويحميهم من كثير من الشرور. وليدفعوا بسخاء لمراجعهم الدينية ليشعروا بالطمأنينة في الحياة ويهتموا بالبحث والتمحيص وكشف أسرار التشريع بدقة وفهم كتاب الله بعمق وجرأة بإذن الله تعالى. ولا ضير أن يطالبوهم بذلك أيضا ولكن دون نسبته إلى آية خمس الغنائم.
الفرق الفعلي بين الخمس والزكاة:
لو فرضنا أن مسلما يملك 100 نعجة وقيمة كل منها 25 جنيها فإنه في آخر العام سوف يدفع نعجتين للزكاة. فيكون قد دفع 50 جنيها مقابل تملكه لثروة قيمتها 2500 جنيها. لو كان هذا الفرد يعيش في المجتمع القبلي أيام رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام، فإنه كان يربح ما يعادل15-20% من رأس ماله طيلة العام فكان َدفعُ 50 جنيها لمربح إجمالي لا يتجاوز 500 جنيها معقولا جدا. ولو كان يريد أن يدفع الخمس على هذه المعاملة فكانت المصروفات تلتهم كل ربحه فلا يدفع خمسا. ولكن نفس الشخص في مجتمعنا الفعلي الذي يربح على المواد الغذائية أكثر من 40% أحيانا طيلة العام فإنه كان يربح ضعف المبلغ الذي ربحه سلفه ويدفع نفس المقدار من الزكاة وكان يستمتع بالربح أكثر ويبقى لديه مثلا 150 جنيها فيدفع 30 جنيها منها بعنوان الخمس أيضا لو كان شيعيا مثلا. وهناك اليوم من يربح 100% فعلا لسهولة التنقل والتسهيلات البنكية وغير ذلك، فلعل نفس الشخص يربح 2500 جنيها سنويا ولا يصرف أكثر من 450 جنيها. فسوف يدفع 410 جنيهات للمال العام في مقابل الأخ السني الذي لا يدفع في أي حال أكثر من 50 جنيها. ولذلك فإن نسبة 2,5 % من رأس المال في يومنا أقل بكثير من نسبة 20 % في نفس الزمن. ولكن نسبة الزكاة هذه في غابر الزمن كان يعادل 20% من الأرباح الصافية تقريبا.
وعلى هذا فإن نسبة 20% من صافي الأرباح أكثر من معقولة في مقابل 2,5 % من أصل الثروة سنويا.
توهم حلِّية الكنز والإسراف!
وليت شعري فإن عامة المسلمين سنة وشيعة وغيرهم – كما نرى – يظنون بأنهم لو دفعوا النسبة المعروفة 20 % من الأرباح الصافية المعقولة نسبيا، أو 2,5 % من رؤوس أموالهم إن بلغت أنواعها حد النصاب وهي فعلا نسبة ضئيلة وجدانا، فإنهم في حل من التصرف الحر وكما يهوون في أموالهم. يتوهمون بأنهم لو دفعوا ما أمرهم بعض من هم مثلهم إلا في الألقاب والملابس فلهم أن يتصرفوا في جناتهم وأرباحهم كما يروق لهم، فهم يُسرفون على أنفسهم وأهليهم ويلهون ويكنزون الذهب والفضة وهم يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا صرخات الجائعين هنا وهناك. تئن البشرية من جحيم الفقر والعوز والمرض والعرى وحتى العطش، ويستمتع المؤمنون الذين ينتظرون جنات النعيم بما سلبوه من الأمم باسم التجارة الحرة!! إنني وأمثالي كبشر نرفض ذلك بأن المحتاجين هم إخواننا الذين يألمون كما نألم فكيف بخالقنا الذي هو رب الجائعين أكثر من أن يكون رب المترفين؟ إنه سبحانه أنى يرضى بذلك؟
ألا ليتهم يفكروا إنسانيا كبشر – بغض النظر عن التمسك بتشريعنا السماوي القويم – فلعلهم يعرفوا بأنهم أشبه بالعتاة الظالمين من شبههم وتأسيهم برسول الله وبصحابته الذين سبقونا في الإيمان. وبعضهم يتشبث بأن غالبية الفقراء كفار ومشركون أو غير مسلمين أو غير شيعة أو غير سنة! معاذ الله من فِعالهم. إيتوني بآية واحدة تميز بين فقراء المسلمين وغير المسلمين.
وأما سهم المؤلفة قلوبهم المذكورة في آية مصاريف الزكاة المعروفة في سورة التوبة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿60﴾} فهي في الواقع للمؤلفة قلوبهم إن كانوا على أبواب الإسلام أو يحتمل الإمام فيهم ذلك، أو يرى في الدفع إليهم توقيا من مكائدهم ومؤامراتهم ضد المسلمين. فهي بالإضافة إلى فقرائهم ومساكينهم وليس الفقراء والمساكين من المؤلفة قلوبهم. شأنهم في الآية شأن من في الرقاب، فمن في الرقاب ليسوا بحاجة إلى الأكل وبقية الضرورات فهي من واجبات من يملكونهم ولكنهم بحاجة إلى من يحررهم من العبودية فتأملوا يرحمكم الله. وقد حرم المسلمون فقراء غير المسلمين اليوم حتى من سهم المؤلفة قلوبهم مع الأسف. وقد تشبث البعض بوجوب قتل غير المسلمين أو المسلمين غير الموحدين حسب رأيهم. هداهم الله تعالى قبل أن يموتوا مجرمين قتلة حسب منطق القرآن. إنهم مع الأسف أكثر شركا ممن يتهمونهم بالشرك من المسلمين. إنهم اتخذوا أحبارهم وعلماءهم أربابا من دون الله ليفضلوا التبعية لهم من التبعية لكتاب الله تعالى. فيا ويحهم يوم الحساب.
والذي يزيدنا شرفا هو أن بعض المؤمنين وهم نزر يسير نجدهم ونسمع عنهم أحيانا في مختلف قرى الأرض من الذين يتبرعون بأموالهم وراحتهم لإشباع بطون غرثى وأكباد حرّى دون تمييز ودون التشبث بالنسب الفقهية غير المستدلة من الزكاة أو الخمس. رحمهم الله تعالى وحشرنا معهم وفي زمرتهم فهم الفائزون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. الجنة والرضوان لهم لا للذين يخادعون أنفسهم بالنسب المئوية المزعومة. ولو قايسنا بين هاتين الطبقتين لنرى أيا منهما أقرب إلى محمد وخديجة الذين تبرعا بكل أموالهما في سبيل الله وأضحيا في عداد الفقراء ماليا والأغنياء في التقوى والعلم وشكرِ الله تعالى. فهنيئا لهما ولمن شابههما في الإنفاق طمعا في رضوان الله الذي يتوق إليه قلب كل من يعرف العزيز العليم ويميز بين الجنة والنار ويؤمن بيوم الحساب. اللهم صل على رسولنا الكريم وعلى أمنا خديجة.
آية الخمس المعروفة:
يقول سبحانه في الأنفال: 41 {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان. والله على كل شيء قدير} هذه السورة الكريمة والسورة اللاحقة المعروفة بالتوبة والتي تعتبر جزءا من الأنفال تتحدث عن القتال وعن عدة معارك وغزوات دخلها رسول الله بأمر من العزيز الحكيم جل جلاله. وكان الصحابة الكرام يسمونها سورة بدر وبعضهم بقي على هذه التسمية دون الأنفال. إن أكثر أحكام هاتين السورتين ليست أحكاما عامة بل هن أحكام عسكرية تحمل الطابع الوقتي، فترى في نفس السورة وفي مورد حربي آخر يقول سبحانه في الآية 68 {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم}. ففي هذا المورد يبيح الله تعالى لهم بأن يأكلوا مما غنموا ولكنه سبحانه يبيح لهم كل ما غنموا في المورد الأول عدا ضريبة الخمس الذي أمرهم بأن يدفعوه للنظام وللمجتمع. ولو كان الغنائم بصورة عامة مملوكة للمحاربين إلا خمسها لكان طارق بن زياد وجيشه مالكين لإسبانيا حسب اعتقاد الحاكمين، ولكان الذين حاربوا الفرس مالكين لملك إيران، فهل هذا معقول؟ وقد وهب الله تعالى غنائم الغزوات ضد بعض أغنياء اليهود لطائفة دون طائفة بحجة أنهم لم يدخلوا في حرب فعلية بل أدخل الله الرعب في قلوب اليهود فتخلوا عن ممتلكاتهم. وفي الواقع أن الله تعالى قد قضى أمرا مفعولا بالنسبة لغزوة من الغزوات حسب ما تقتضيه المصلحة المؤقتة وليس في هذا الأمر طابع العمومية. وليكن معلوما بأن الغنيمة كلمة يُطلقها العرب على مكسب يفوز به المرء بدون مشقة، فليس صحيحا إطلاقه على أرباح التجار لأنهم يخاطرون بأموالهم ويتعبون وأحيانا يخسرون أو تنكسر كل تجارتهم. والغنم المعروف باعتبار أنها حيوان مر على الكثير من الطفرات التطورية الجينية بأمر الله تعالى وليس للبشر القدرة على دفع القيمة الحقيقية لها. إنما ندفع قيمة التنازل عنها لأن الذي يملكها فهو ليس مالكا حقيقيا لأنه لم يصنع الغنم بل استولى عليها بنفس الطريقة. ولذلك تسمى غنما. والعلم عند المولى عز اسمه.
السبب المحتمل لمنح غنائم بدر بالكامل:
فأغلب الظن أن الله سبحانه قد أباح للمهاجرين أن يستولوا على أموال المشركين العائدين من الشام كتعويض لهم عما سيطر أهل مكة عليه من أموال الذين آمنوا بعد أن اضطروا للخروج من وطنهم مع الذين ضيفوهم من الأنصار. ومن هذا التعويض فرض نسبة الخمس ليعطى لرسول الله فيأخذ منه ما يحتاج لنفسه ويوزع الباقي على الفقراء والمساكين وابن السبيل. ويستقطع هذا الخمس من أصل الغنيمة التي هي في الواقع تعويض مالي عما أُخذ منهم. ويبقى فريضة الإنفاق حقا فيما بقي لديهم بعد دفع الخمس إن زاد المكسب على ما يحتاجون إليه. ولو نفكر قليلا لنرى الله تعالى يفرض على المجاهد الذي يخاطر بنفسه نسبة 20% من أصل الغنيمة التي تجاري الربح قبل استقطاع المصروفات، فكيف يكتفي بثُمن تلك النسبة (2,5%) مما بقي لدى الذي خاطر بماله دون نفسه بعد أن يصرف ما يشاء على نفسه وأهله طيلة العام. إن هذا لظلم واضح وعيب على الله تعالى؛ حاش لله جل جلاله. المحارب المخاطر بنفسه يدفع 20% من مجمل الربح فورا؛ وأما التاجر المخاطر بماله فقط يدفع نفس النسبة من صافي الربح أو يكتفي بدفع 2,5 % من رأس المال بعد الحول وبشرط تحقق النصاب! حتى الثكلى يضحكن من هذا التشريع!!
الحصر في آية الخمس:
إن علماء الشيعة متفقون على أن لفظة “إنما” تدل على الحصر. ولفظة “أنما” هي عين إنما ولكنها أتت بالفتح لأنها أتت بعد فعل العلم “واعلموا”. فما هو وجه الحصر في هذه الآية؟ إن سلفنا الذين سبقونا كانوا ولا زال الخلف الذين أتوا من بعدهم، يتشبثون بالآية المعروفة: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكوة وهم راكعون} المائدة: 55؛ بأنها نازلة بشأن أشخاص معلومين لسبق “إنما” عليها. فما هو وجه الحصر في آية الخمس؟
وعليه فإن علماء الشيعة ملزمون بترك ادعائهم بشأن آية الولاية أو ادعائهم بشأن آية الخمس! ولولا ذلك لكانوا ممن يكيل بمكيالين وهو عيب على علماء الدين. فليختاروا أحدهما وليعلنوا الخطأ العام الذي حصل في تفسير إحدى الآيتين على الأقل. بالطبع أتكلم بلغتهم ولست أنا ممن يؤمنون بآية الولاية.
تقسيم أسهم الخمس:
أما مسألة تقسيم الخمس على ستة أسهم، ثلاثة لسلالة رسول الله وثلاثة لعامة الفقراء والمشاريع العامة: فإني أتساءل هل يوزع أحد المال الذي يجمعه لغرض خيري مثل مساعدة ضحايا الزلزال مثلا بين من تضرروا على السوية بغض النظر عن حاجتهم من حيث الشدة والضعف؟ أم أنه يدرس حالة كل فرد أو مجموعة ليوزع ما جمعه بينهم على أساس الحاجة والضرورة؟ لقد تظنن سلفنا رحمهم الله بأنهم شركاء في متاجر الناس فوزعوا نصيبهم أسهما متساوية وتخلصوا بأن ثلاثة أسهم تمثل نصف الغنيمة فلكل من الهاشميين والفقراء نصف الغنيمة. ولماذا ذكر الله سبحانه: اللهَ ورسوله وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ولم يختصر كعادة القرآن ليقول مثلا لقربى رسول الله وللمحتاجين؟! ثم كيف يلحقون سلالة الرسول إلى يوم القيامة، به باعتبار القرابة التي تستحق ميراث رسول الله عليه السلام؟ّ! وهل يملك الميت شيئا بعد موته ليورثه لأحد؟ وقد قام بعض علماء الشيعة بإسقاط سهم الإمام الغائب باعتبار غيابه عن ساحة المسؤولية، فكيف يبقى سهم الرسول الذي ثبت وفاته بانتهاء الوحي وظهور الخليفة بعده؟
وإن هذا من أعيب المسائل. فكأن رسول الله هو قيصر الروم أو ملك الفرس ليورث سلالته ما كان يستحقه من ضرائب إلى يوم القيامة. إيتوني بآية واحدة تميز بين الناس في الحقوق الدنيوية عرقيا أو نسبيا أو حتى دينيا ومذهبيا. وتوجيههم للتقسيم النصفي هو أن سهم الله للرسول وسهم الرسول بعد موته لذي القربى إلى يوم القيامة إضافة إلى سهم ذي القربى نفسه! وهل قال الله تعالى بأن موارد الدفع هي أسهم متساوية مثل المشاركة التجارية؟! ثم، هل الله هو رب الرسول وقرباه فقط حتى ينتقل سهمه بعد موت رسوله إلى قربى الرسول؟ أم هو سبحانه رب كل الفقراء والمساكين وبني السبيل أيضا؟ ولو مات الرسول فإن الله لم يمت وهو الذي وعد بأن يُشبع الجائعين ولم يكتف بجائعي السلالة النبوية. حقا إنهم في وهم بعيد عن المنطق.
وليس لهم أي دليل عقلي أو قرآني على أن ذوي القربى هم قرابة رسول الله. ومعنى ذوي القربى حقا هو قرابة كل فرد وليس قرابة رسول الله. وأما ما يتوهمونه في تفسير بعض الآيات التي يذكر فيها القربى فسوف أوضحها مستقبلا أو حينما يصل مطافنا التفسيري إلى كل منها بإذن الله تعالى. كانوا على حق لو وضح القرآن بقوله ذوي قرباك أو ذوي قربى الرسول لأن الخطاب ليس له عليه السلام بل للمؤمنين بقوله تعالى: واعلموا (أيها المؤمنون المجاهدون في بدر كما يبدو).
مناقشة ذوي القربى في القرآن:
لقد ذكر الله سبحانه الإنفاق على ذوي القربى بجوار الفقراء والمساكين في عدة سور في القرآن الكريم وهي حصرا: البقرة: 83 و177 و215، كما ظهر بجوار اليتامى والمساكين في النساء: 8 و36، وظهر بجوار المساكين والمهاجرين في سبيل الله في النور: 22. وقد فسرها المفسرون بأن ذوي القربى هم الفقراء والمحتاجون من قرابة الشخص الذي ينفق. ولكن بعضهم فسر ذوي القربى في سورة الحشر: 7 وهي مع اليتامى والمسكين وابن السبيل بأنهم قرابة النبي. وفسر البعض الآية 38 من سورة الروم وقد جاءت بجوار المساكين وابن السبيل أيضا بأنها في قرابة رسول الله. وقال العلامة الطباطبائي بأنها في قرابة الرسول لوفرضنا أن السورة مدنية ولو فرضناها مكية فهي في شأن أقارب الذين ينفقون!
ولكن السادة المفسرين يصرون على أنها في آية الأنفال: 41 المذكورة نازلة بشأن قرابة رسول الله. وليس لهم أي دليل قرآني لإثبات ادعائهم مع الأسف. لقد نسوا بأن القرآن هو تبيان لكل شيء فلو كان هناك اختلاف في تفسير ذوي القربى أو تخصيص لوضحه الله نفسه وهو سبحانه أجدر من غيره بأن يهدينا كما وعدنا. وليس القرآن المجيد بحاجة إلى إخواننا المحدثين ليرووا لنا ما يشاؤون من ذاكرة بعض الناس الذين أتوا بعد التابعين بفترة وادعوا بأنهم سمعوا منهم عن رسول الله! هكذا يضعون الكتاب المحكم في معرض الأقوال التي تحتمل الصدق والكذب. هداهم الله وإيانا.
جعل القرآن عضين:
ومما يزيد من شكوك المرء في تفسير بعض السلف رحمهم الله تعالى هو تجزئتهم للآيات الكريمة ففي هذه الآية 41 من سورة الأنفال يقول سبحانه: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿41﴾ إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿42﴾} فهو سبحانه يوضح مورد الآية بتذكير الصحابة الكرام بأن هذا الأمر واجب و حق على من يؤمن بالله وبما أنزل على عبده المصطفى يوم بدر. فتعميم تغطية الحكم على كل غنائم الحرب لا يخلو من إشكال بيّن، وأما تعميم الحكم على كل أرباح الناس فهو بالتأكيد خطأ غير مبرر. فالآية محصورة بـ “أنما” كما هي محصورة بغزوة بدر وتعميمها محتاج إلى دليل قرآني آخر وهو غير موجود في كتاب الله دون شك. ذلك بأن كلمة الخمس أو ما يعادلها غير موجودة في غير هذه الآية من القرآن العظيم.
والخطاب في الآيتين موجه للذين شاركوا في غزوة بدر قطعا وليس لعامة المسلمين ولا لعامة الصحابة. فهو سبحانه يعود إليهم بقوله الكريم: إن كنتم آمنتم؛ إذ أنتم بالعدوة القصوى؛ والركب أسفل منكم؛ ولو تواعدتم؛ لاختلفتم. فكيف يمكن أن يكون مرجع ضمائر الجمع كلها أصحاب بدر إلا مرجع الضميرين الأولين (واعلموا أنما غنمتم) فهم المسلمون جميعا؟! من الممكن أن يبدأ الله بمخاطبة البدريين وهو يتحدث إليهم قبله ثم يذكر بالمناسبة موضوعا يهم المسلمين جميعا؛ ولكن لا يمكن أن يذكر موضوعا إسلاميا عاما دون تغيير الضمير ودون الاستناد التعليلي أو التمثيلي ويعود بلا قرينة إلى نفس المخاطبين فيما سبق الآيتين. والآيات السابقة كلها خطاب لهم رضي الله عنهم.
طبيعة الغنائم:
ليس معقولا أن يوزع غنائم الحروب على المحاربين، بل هي ملك للدولة بقيادة رسول الله عليه السلام، يوزع منها كما يشاء بين الذين شاركوا في الحروب إن لم يكونوا جنودا مسجلين لدى الدولة أو يعطيهم منها هدايا تشجيعية. لكن الله تعالى كان يأمر نبيه أحيانا بأن يعطي كل الغنائم لمجموعة من الناس كما فعله مع المهاجرين حيث أعطاهم كل غنائم الرسول من يهود بني النضير، ومنعها عن الأنصار. وقد بدأ هذه السورة بذكر أن الأنفال كلها مال عام بقوله تعالى: يسألونك عن الأنفال قل لله والرسول. والأنفال كما قال البعض تعم كل ما يستولي عليه الرسول أو الأمة من الثروات الكبيرة التي ليس لسعي الإنسان أهمية كبيرة في إيجادها مثل المعادن والصحارى والغابات وكذلك غنائم الحروب.
ولكني أضفت الغنائم إليها –كما فعله بعض الإخوة المفسرين- لأن السورة تتحدث عن غنائم الحرب وتبدأ بالأنفال وهو واضح لكل من يفكر بأن المقصود تعميم الأنفال على كل ما ذكره المفسرون وما نسي بعضهم من غنائم الحروب التي هي تماما مثلها. فالذي صنع هذه الأموال هم الذين قُتلوا أو هربوا وحكم الله عليهم بمصادرة أموالهم ولا يمكن اعتبارها ملكا للذين حاربوهم. إن الذين يجاهدون في سبيل الله ليسوا غزاة أو قطاع طرق أو مجموعة لصوص بل هم جنود ذهبوا لمحاربة الكفار بأمر الله ولدفع شرهم فإن عادوا بأموالهم فهي مال عام لهم ولغيرهم لأنها أنفال لم يتعبوا على تحصيلها وتهيئتها.
على أن رأيي التفسيري للأنفال هو كل مزارات المشركين التي أوجدوها في مكة وكانت تحتوي احتمالا على مقدار كبير من المجوهرات والهدايا الثمينة التي أهداها عابدوا الأصنام إلى مراكز العبادة لديهم. كل تلك الأماكن ستصير فاقدة لأية فائدة بعد فتح مكة ويجب معالجتها. فأظن بأن الله تعالى أمر الرسول بأن يرد على السائلين عن تلك الثروات بأنها مال عام لا تخص فردا بعينه أو أسرة بعينها.
غنائم بدر:
وقد منح الله تعالى البدريين كل غنائم تلك الغزوة بوعده الكريم لهم مقابل ما خسروه على يد كفار مكة الذين هم أصحاب تلك الأموال. ولا يخفى بأن تلك الغنائم كانت محدودة لا تمثل كل أموال الكفار لأنهم كانوا في سفر تجاري ولم يكونوا في بيوتهم. وقد قال تعالى في نفس سورة الأنفال بعد تثبيت عمومية الأنفال وأن ما يأتي خاص لحالة شاذة، وفي الآية 7 {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ﴿7﴾}. وبما أن الرسول الذي كان يمثل في حينه رئاسة الدولة الإسلامية الصغيرة، كان بحكومته وليس بشخصه محروما من هذه الغنائم إلا ما يحوز عليه بشخصه كواحد من المسلمين؛ وبما أن رئيس الدولة يتحمل أعباء حكومته وأعباء المستضعفين من رعاياه؛ لزم أن يخصص الله له عليه السلام بصفته الحكومية شيئا من هذه الغنائم التي وعدها محاربي بدر كتعويض عما خسروه في هجرتهم إلى الله تعالى. فالمهاجرون خسروا كل أموالهم تقريبا في الهجرة والأنصار خسروا بعض أموالهم حينما استقبلوا إخوانهم المهاجرين وأشركوهم بيوتهم وخيراتهم. لهذا عين الله تعالى قسما من هذه الغنائم الممنوحة للحكومة، وقسما آخر للمحتاجين من أقارب المحاربين أو غير أقاربهم أو المساكين أو أبناء السبيل لألا يُحرم بعض المسلمين من هذه الغنيمة المكية الخالصة ولا تُحرم السلطة من قسم منها أيضا. والعلم عند الله تعالى.
وأما السر في تذكير المسلمين بالإيمان وبما أنزله على عبده يوم الفرقان يوم كانوا بالعدوة الدنيا والكفار بالعدوة القصوى والركب أسفل منهم حيث وفق الله تعالى عدة مسائل فرضت عليهم الحرب مع الكفار ثم ساعدهم ربهم على فوز المعركة وهو بمثابة التعليل لاستقطاع الخمس منهم. وقد قال تعالى ما يشابه ذلك في غزوة بني النضير كما في الآيات 6-8 من سورة الحشر { وَمَا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿6﴾ مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴿7﴾ لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴿8﴾}وتقسيم الغنيمة هناك نفس تقسيم خمس الغنيمة في آية الخمس من سورة الأنفال ولكن دون استقطاع الخمس. ولعل هذا ما حدا بنزر من المفسرين أن يظنوا بأن كلمة الأنفال تشمل الخمس المذكور في الآية المعروفة وليس كل الغنائم. والخلاصة أن الاستدلال على أن غنائم بدر ممنوحة للمسلمين فيما عدا الخمس ثابت وتعميم حكم الخمس على غير غنائم بدر يحتاج إلى دليل قرآني. وهو غير موجود فعلا ولا يمكن تعميم هذه المسألة باعتبار الأحاديث وهي متناقضة تناقضا شديدا فليراجع من أراد المزيد كتبَ التفسير السنية والشيعية.
فإخواننا الفقهاء لا يحملون دليلا قرآنيا على ما أفتوا فيه وإن كانوا يمثلون الشيعة فمن حقهم أن يستقطعوا ما يشاءون من أرباح ناخبيهم بناء على البيعة أو النيابة عن الشيعة. وهي مسألة دنيوية محضة ولكنها مقبولة شرعا ما دام هناك عقد بينهم وبين مؤيديهم من أتباع المذهب. وليعلم الذين يدفعون الضريبة بأن من حقهم مطالبة المرجع بإعلامهم عن طريقة صرفه للخمس دون شك. فالمرجع حينذاك أمين على أموال المانحين وليس مالكا لها. ولكني أرجو ألا يسجلها أحد في حساب الحقوق الشرعية لينتظر بها جنات النعيم.
الإمام الغائب يهب الخمس للأثرياء أنفسهم:
قال الشيخ الصدوق رحمه الله تعالى في إكمال الدين عن محمد بن عاصم الكليني حدثنا محمد بن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب قال سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل إلي كتابا قد سألت فيه مسائل أشكلت علي فوردت التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان: أما ما سألت عنه ….. إلى أن قال: {وأما المتلبسون بأموالنا فمن استحل منها شيئا فأكله فإنما يأكل النيران وأما الخمس فقد أبيح لشيعتنا وقد جعلوا منه في حل إلى وقت ظهورنا لتطيب ولادتهم ولا تخبث ورواها الطبرسي في الاحتجاج عن إسحاق بن يعقوب مثله. الوسائل :ج 9 باب 4 (ص 550) الحديث 12690.
وقد أورد الحديث بكامله شيخ الطائفة الطوسي رحمه الله في الغيبة ص: 293 وعبارته هكذا :{ … وأما الخمس فقد أبيح لشيعتنا وجعلوا منه في حل إلى وقت ظهور أمرنا لتطيب ولادتهم ولا تخبث.}
وقد علق عليه بعض الإخوة بأن المقصود هو إباحة الخمس للزواج وهو تعليق غير منطقي. إن السماح عام ومقطع: (لتطيب ولادتهم ولا تخبث) بمثابة الدعاء لشيعته وليس لتحديد مصرف الخمس الذي جعل شيعته في حل منه إلى وقت ظهوره. ولا يخفى أن الجملة المعروفة المنسوبة إلى المهدي: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليكم) فهي ضمن نفس الحديث المروي في كتاب الغيبة. ويحتج بها الكثيرون لإثبات المرجعية فعليهم أيضا ألا يطالبوا بالخمس أو يعلنوا بأن الحديث من أصله كذب مثلا.
ولو اعتقد أحد بوجوب الطاعة لإمام غائب لم يظهر ولم نر أي أثر لوجوده، بمجرد ادعاء النصوص والرسائل فليعرف بأن الإمام الغائب حرر مريديه من الشيعة من دفع الخمس له أو بأمره فقط. ولكننا لا ننكر بأن من حق الزعماء الفعليين الذين يخدمون الشيعة اليوم أن يحددوا بأنفسهم ما يشاؤن من نسب أو يتفقون عليها مع مريديهم لتغطية نفقاتهم بكل تأكيد. إن البنيان الشيعي مشيد على أساس دفع هذه الحقوق وتقويضُها يهدم البنيان الشيعي ويؤثر سلبيا على كل شيعي في الأرض فلا يجوز منع الذين يخدمون الناس من مقومات الحياة. وبما أن هذه الحقوق ليست حقوقا شرعية قرآنية، فلا يجوز دفعها على أساس الواجب الشرعي ولكن يجب دفعها أو دفع ما يشابهها على أساس الواجب القومي والتعاقدي وهو مشروع أيضا ولا إشكال فيه إن شاء الله تعالى. وأؤكد مرة أخرى بأن لكل من يدفع الضريبة، الحق في مطالبة زعمائه بإظهار وإعلان كشوفات الحساب كما يجوز لهم إجراء مراقبة حسابات دقيقة على هذا النمط من الأموال العامة للتأكد من عدم صرفها فيما هو غير مرسوم له.
المصالحة في الخمس:
جرت العادة بين الذين يعكفون على أموالهم أصناما معبودة، أن يستنكفوا حتى عن دفع هذه النسبة الضئيلة خدمة لقضاياهم العامة ولأمتهم التي يتنعمون بدفء تماسكها ورحيق الإنتماء إليها. إنهم وحين قصد حج البيت الحرام (ولقب الحاج مطلوب أحيانا) فإنهم يراجعون أحد المراجع أو وكلائهم من أجل المصالحة. وقيمة المعاملة تعود إلى شطارة الدافع وحاجة المستلم؛ ولطالما دفع الذي يعتقد بأنه مطلوب مليونا من الجنيهات، فهو يدفع مائة ألف جنيه ليصالح المرجع في الباقي. وهذا المبلغ كبير في عين بعض الوكلاء وخاصة إن لم يطالب بالوصل من المرجع نفسه. هذه حقيقة نراها ونسمع عنها ونلمسها على مر الأيام. ولكن هل يمكن مخادعة رب العالمين الذي فرض العفو لا الخمس عليهم؟ أنى لهم التناوش من مكان بعيد.!
هذا ما يدل على أن بعض الإخوة المراجع أو وكلائهم يعتبرون أنفسهم أصحابا حقيقيين لهذه الديون المتراكمة على أكتاف الأثرياء ويفضلون استقطاع ما يمكنهم منها وإعفائهم من دفع الباقي. إن طرفي القضية يجهلان-احتمالا- أن مناط الحكم أمام الله جل جلاله هو ما تتحلى به النفس من خلوص وإيمان بالله وبأحكامه وتشريعاته لا ما يسعى به المكلف للتهرب من ملاحقة القانون. ألم يسمعوا كلام الله سبحانه حيث يقول: (أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى). والسعي لمـّا يعوض بالحسنى قبل أن ينظر الله في أمره! وهذه المسألة مع مسألة عدم إمكانية تحميل الوزر على الآخرين، ليستا من المسائل المستحدثة في الإسلام بل هي ما كتبها الله على أصحاب الديانات السماوية القديمة أيضا. إنها مسألة طبيعية وضرورة من ضرورات الحياة الدنيا. ولكن الذي يتجاهل نداء السماء يقول: لقد برأت ذمتي وأودعتها رقبة المرجع أو وكيل المرجع. هيهات، هيهات لما توعدون.
المجمل أم الصافي من الأرباح الفعلية أم السنوية؟
وبعد كل هذا، فلو كانت الآية تعم كل أرباح الناس فلماذا يفتي العلماء بأن يتم خصم الخمس سنويا وليس عند تحقق الربح؟ وكيف يفتون باحتساب صافي الربح ومعناه اختصام المصروفات من الأرباح كما يعيزون لدافع الخمس أن يحتفظ بمصاريف السنة لديه ويستقطع الخمس من المتبقي؟ وجوابهم بأن استقطاع الخمس من مجمل الأرباح غير عملي. لطالما ربح الناس وصرفوا أكثر مما ربحوا وهو كلام صحيح ولكنهم هكذا يثبتون عدم تكافؤ الآية الكريمة مع واقع حال الناس وهو بمثابة الاعتراف بعدم تكامل القرآن الكريم والعياذ بالله. لو فسرنا الغنيمة بالربح لكان معناها كل الأرباح أو ما يعرف بإجمالي الربح وعند تحققها مباشرة دون انتظار السنة. فالآية تنص على وجوب استقطاع الخمس من كل ما يغتنمه المؤمنون دون أي استثناء. ومعلوم أن مجاهدي بدر دفعوا الخمس مباشرة دون انتظار السنة واستقطاع المصروفات من الأصل.
الزكاة:
لم يذكر الله تعالى في كتابه الكريم أية نسبة لأي نوع من الضرائب والزكوات إطلاقا ولم يخول رسول الله لتعيين ذلك كما ترك له كيفية الصلاة مثلا أو كيفية تحويل أذكار الصلاة الإبراهيمية إلى صلاة تناسب المسلمين. وكما قلت بأن المقصود من الزكاة هو تشجيع الناس على دفع ما لديهم من إضافات وثروات زائدة عن حاجتهم إلى الفقراء والمساكين وللخدمات العامة بلا استثناء، وهم يريدون وجه الله تعالى طلبا لمرضاته وفوزا بجناته في الآخرة. لقد عرف العالم العصري أن من واجبهم إشباع حاجات المجتمعات كلها إذا كانوا يتطلعون إلى الأمان وسيعرفون قريبا بأن كل الفائض وليس أقل منه هو الذي يحقق السلام. ذلك لأن الثروة محدودة بقدر عدد الناس، والأثرياءُ هم عمليا ينهبون الفقراء ليكوِّنوا بها ثرواتهم الكبيرة. وهذه المسألة يأمرنا الله بها في سورة البقرة كما ذكرت في بداية البحث.
والزكاة هي استقطاع بعض المال من فائض ما يملكه الفرد بقصد تطهير النفس. وهذا لا يتنافى مع تطهير المال الحاصل ضمنا. ومعنى تزكية أو تطهير النفس هو تطهيرها من الخبائث لتغدو رحيمة بعيدة عن القسوة والظلم. فلو عاش المرء في جو يسوده الفقر والحرمان وتتعالى فيه صرخات المعذبين في الأرض فإن كمال التزكية أن يشارك الآخرين همومهم بالتخلي عن كل ما يمكن أن يبدل ويلات المحتاجين إلى راحة وأمان. ولو احتاج الأمر إلى التخلي عن بعض أو كل ما يتهنأ به بنفسه في سبيل تحقيق التوازن الإجتماعي وإزالة الفقر المدقع، فَعَل. وأما لو كان المجتمع غير محتاج وغير مبتلى بالنقص فيدفع الإنسان بعض ما تجود به نفسه لإصلاح المجتمع وتعليمه والترويح عن الذين هم أقل منه إيرادا ودخلا. ولو فرضت البنية الاجتماعية ضريبةً دفعها أيضا. وسيكون في حل مما يتبقى لديه لطلب المزيد من الراحة والتمتع بماله. وعلى المرء أن يتجنب الكنز حينما تكون هناك حاجة اجتماعية ولو كانت غير مُلِحّة.
وليست الزكاة مهمة قانونية مفروضة على الأفراد ليسعى كل منهم في إيجاد طريقة للتخلص من تبعاتها وملاحقاتها القانونية. بل الزكاة وسيلة مذكورة في الكتب السماوية لجلب رضوان الله تعالى وكسب السلام والأمان والمتعة في جنات النعيم في الآخرة. فالمسلمون جديرون بالتوجه إليها بقلوبهم ودفع ما يمكنهم ليستحقوا رضوان الكريم العليم سبحانه وتعالى. ليسعى الناس للمزيد من الدفع ولا يبخلوا على أنفسهم من بركات الله وثوابه يوم فقرهم في الدار الآخرة. فلا تبخلوا أيها المؤمنون والمؤمنات على حياتكم الأبدية واستعدوا لها. ليس بعد الموت أي مجال للعمل والتزود بالحسنات، فاغتنموا الفرصة قبل فوات الأوان. ليبحث المؤمنون بالله عن أي مرفق حيوي مفيد لينفقوا فيه مما أفاء الله عليهم فيجلبوا الخير لمجتمعهم ويستحقوا الفوز العظيم عند رب العالمين جل جلاله. والسلام على من طلب رضوا ن المولى عز اسمه.
سبر أغوار الزكاة والخمس:
من السهل أن نكتشف عدم صلاحية الأحكام الواردة حول الإنفاق الواجب لدى السنة والشيعة من حيث المقادير والأنصبة وما يتعلق به الزكاة أو الخمس وكذلك موارد مصرفهما لو نعود إلى الكتب الفقهية لعلماء المذاهب الأربعة وكذلك علماء المذهب الجعفري أو مراجع تقليدهم. إنهم في صراع واضح ومضلل لمن يريد أن يقتدي بهم. وهم جميعا في الواقع يعودون في مسألة اقتصادية ذكر الله تعالى أصله في القرآن وترك تطبيقه للمجتمعات، فإنهم يعودون إلى فتاوى وتطبيقات الذين قضوا قبل أربعة عشر قرنا من الخلفاء الراشدين وأئمة الشيعة وأئمة المذاهب الذين أتوا مع ظهور الفقه الجعفري الذي تبناه الإمام جعفر الصادق عليه السلام. لم يكن الإمام الصادق نبيا مرسلا ولم يدع بأنه يقنن لكل الأزمان والأمكنة. إنه وضع أسسا مفيدة يمكن التمتع بها علميا حتى في يومنا هذا. ولكننا في شأن آخر وليس مواردنا المالية ولا مصارفنا مشابهة لهم أبدا. نحن بحاجة ماسة إلى أن تقوم مجتمعاتنا بجدية للتصدي لمسألة الإنفاق الواجب شرعا وعرفا وإنصافا ووجدانا بكل سرعة. علينا أن نجتمع مع بعض وندرس المسألة ونتمسك بالقرآن كما هو دون إضافة الفتاوى والأحاديث القديمة إليه ليهدينا الله إلى أنجع السبل لاستقطاع أكمل النسب من أرباح المؤمنين وصرفها فيما يفيدهم ويرضي ربهم العظيم ويجعلهم جديرين لكسب جنات النعيم بإذن المولى جل جلاله.
فهلموا أيها الإخوة المعنيون والذين يحبون العلم والدين للمزيد من البحث والمناقشة حول هذه المسألة التي تقوي بنيانكم فعلا. إنني أعلن استعدادي للمشاركة بإذن الله في أي تجمع أو مؤتمر علمي للمسلمين عامة دون التوجه للمذاهب وأرجو ممن يوافقني أن يعلن ذلك فلعل الله أن يأخذ بيدنا لما فيه خير المسلمين وخير البشرية جمعاء، آمين.
الختام، اقتراح مؤقت:
وبما أن المسلمين يحتاجون إلى وقت لإعادة تنظيم أنفسهم على أساس قويم ومتين كما يريده الله تعالى بإذنه فلا يُعقل أن ننصح أحدا بالتوقف عن الدفع لمن يحتاج فعلا. ولذلك فإني أقدم مقترحا مؤقتا للإخوة والأخوات المسلمين من السنة والشيعة الذين تصلهم هذه الرسالة وتجعلهم مهتمين بالمسألة أن يقوموا بما يلي:
-
يدفعوا جميعا نسبة الزكاة المكتوبة لديهم في كتبهم الفقهية وفقا لمن يزيد في حق الفقراء لا الذي ينقص. إن في ذلك مراعاة واجبة للاحتياط في مسألة الإنفاق التي ذكرها الله تعالى بجوار الصلاة.
-
أن يدفعوا جميعا نسبة 20% من كل أرباحهم السنوية الصافية بعد استقطاع الزكاة لكل من يملك مؤونة سنة كاملة. فيدفع السُّنة ذلك لمن يشاءون من الفقراء والمساكين من أقاربهم ومن غير أقاربهم، إضافة إلى الذين يعلّمونهم الدين ويتولون أمورهم التشريعية أو يدرسون في المجال الديني أو بقية المجالات العلمية المفيدة للأمة. ويدفع الشيعة لمراجعهم الدينيين ولمن يعرفونهم في الحقول العلمية والدينية أو يعلمون بفقرهم وحاجتهم كُلا بقدر حاجته دون أن يدفعوا لهم كل الضريبة ويصرفون الباقي على من يرونه محتاجا.
-
أن يدفع المسلمون جميعا مما بقي من صافي أرباحهم ما يشاءون لكل مشروع خيري واجتماعي ليتجنبوا بذلك الكنز المحرم ويقووا به مراس مجتمعهم الإسلامي الكبير في الكرة الأرضية ويشدوا أزر البشرية نحو الخير والسلام والاطمئنان وترك المخاصمات والحروب والأحقاد المكروهة. ليطلبوا بذلك رضوان الله تعالى فيستحقوا جنات النعيم إن شاء الله رب العالمين. والسلام على كل من اطلع أو عمل بهذا الموجز.