خمس رسائل في علم الله بالغيب
خمس رسائل في علم الله بالغيب
تعليقًا على رسالة “رسالة من مدير الجامعة”,
https://ambmacpc.com/2018/03/19/%D8%A5%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%86-%D8%B9%D9%86-%D8%A8%D8%AF%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B3%D8%AC%D9%8A%D9%84-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A7%D9%85%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7/
أرسل إلينا فضيلة الأستاذ الدكتور محمّد سلامه رسالة يتساءل فيها عما إذا كان فضيلة الشيخ أحمد المُهري قد نفى علم الله بالغيب كما قد نفى أن الله قد وضع في نفوس البشر القيم, والأخلاق, والمثل العلا. تعليقًا على رسالة مفكرنا الإسلامي المبدع هذه أرسل المفكر الإسلامي الكبير غسان السامرائي الكنعاني رسالة يتحدث فيها عن حب المتناقضات وكذا الغيب. المشكلة, على أية حال, هي أنه لم “يبيّن” لنا ما هي هذه المتناقضات التي يحدثنا عنها. كلي ثقة من أن فضيلته سوف يرسل لنا رسالة أكثر وضوحا. وأخيرًا يرسل لنا فضيلة الشيخ أحمد المُهري رسالة يعلق فيها فضيلته على ما كتبه فضيلة الأستاذ الدكتور محمّد سلامه, وفضيلة الأستاذ الدكتور غسان السامرائي الكنعاني.
يقول محمّد سلامه:
“لا يسعني إلا أن أهنئ القائمين على مشروع الجامعة الإسلامية بهذا المشروع الرائد وهذا الجهد الكريم لتخليص دين الله مما علق به من شوائب وتنقيته للأجيال التي ستأتي بعدنا. كما لا يسعني إلا أن أعرب عن ألمي أن يكون أول شرط من شروط الانضمام للجامعة هو الكفر بصفة الله بأنه يعلم الغيب, ويعلم ما سيحدث منذ الأزل وإلى قيام الساعة ثم إلى ما شاء الله بعد ذلك. وثاني أمر يجب أن يعتقده المنضم للجامعة الإسلامية الوليدة هو أن يؤمن بأن الله لم يخلق في البشر فطرة تحوي منهج القيم, والأخلاق, والمثل العلا, كما تحوي تعظيم الله, وتنزيهه, ووجوب الإخلاص له, وأن الإيمان لا أساس له من داخل النفس, وأننا لا ندري كيف يؤمن من آمن, ولماذا يكفر من كفر, فهذا مما لا قبل لنا بالتفكير فيه. فإذا وافق على هذين الشرطين فمرحبًاً به في هذه الجامعة. والآن سأذكر بعض ما قاله القرآن بخصوص علم الله للغيب:
*وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ* الأنعام : 73
*يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ* التوبة : 94
*وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ* التوبة : 105
*عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ* الرعد : 9
*عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ* المؤمنون : 92
*ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* السجدة : 6
*وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ* سبأ : 3
*قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ* الزمر : 46
*هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ* الحشر : 22
*قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ* الجمعة : 8
*عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* التغابن : 18
*عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا* الجن : 26
*وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ* الأنعام : 59
*وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ* يونس : 61
*وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ* النمل : 57
*وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* فاطر : 11
*مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* الحديد : 22
*ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ* آل عمران : 154
يجب على القائمين على أمور الجامعة أن يشرحوا لنا كيف يكون الله عالم الغيب ولكنه في الوقت نفسه لا يعلم الغيب. أي المطلوب هو التوفيق بين المتناقضات, وقد سبقتهم الأمة في تراثها العظيم فجمعت بين المتناقضات وأصبح ذلك علمًا تدارسته الأجيال بل وقدسته.” انتهى كلام فضيلته
يقول غسان السامرائي الكنعاني:
“الأخ الأستاذ محمّد سلامة حفظه الله,
الإخوة في المودة ومركز التطوير (لا أدري هل لا يزال يعمل؟) ما زالوا يحبون المتناقضات، فإن لم يكن حبًا فهو عدم التفات بدرجة عظيمة حقاً. يوم قالوا “وداعًا أيها الفقه السني القديم” هنأتهم على الخطوة عسى أن يرجعوا إلى القرآن حقا، فدعوتهم إلى النظر في آية الوضوء كونها مما يفعله المسلم كل يوم أكثر من مرة، طيلة حياته، فلم نجد منهم ردا. فكان التوديع مع التمسك بأجلى المتناقضات. أما أن الله لا يعلم الغيب، فهذه ربما من هدايا أحمد المهري. سؤال إلى الأستاذ كمال شاهين عن عدد 666 في إيميله – هل هو تاريخ ميلاد أم ماذا؟ تحياتي.” انتهى
يقول أحمد المُهري
“المفروض في أخينا الفاضل الذي نكن له كل احترام أن يوضح بداية أين قلنا بأن الله تعالى لا يعلم الغيب والعياذ بالله. ثم كان لزامًا عليه أن يأتي بآية تصرح بأن الله تعالى كان يعلم أفعال الناس الاختيارية من الأزل كما ادع عمر الخيام. إن سيادته يضيف من عنده ما يظن بأنه صحيح على كتاب الله تعالى. ومن الغريب أن فيلسوفا مثله, وفي قرن التطور العلمي, يعتقد باجتماع المتضادات وهو الأولى برفض ذلك. يقول سبحانه في سورة الحديد: *لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25). ليعلم الله ولم يقل يعلم الله. ليعلم الله يعني بأن تعامل الناس مع الرسول غير واضح حتى تلك اللحظة ولكن الله تعالى سوف يختبرهم ليعلم. فيصير ليعلم في الجملة في تضاد مع يعلم.
هناك فرق بين أن نقول بأن الله تعالى غير قادر على أن يخلق إلها مثله – ولا يصح فعلا أن نقول ذلك -أو نقول بأن خلق إله مثل الله غير ممكن. ذلك لأنه وبكل بساطة سيكون حينئذ مخلوقا لا خالقا والمخلوق ليس إلها. كنت أظن بأن فضيلة الأخ الكريم يعلم أكثر مني الفرق بين الممكن والمستحيل. فخلق إله مستحيل ولذلك لا يمكن لله تعالى أن يخلق إلها مثله. هذا ليس نقصًا في الله جل شأنه بل هو نقص في المطلوب خلقُه.
ثم إن هناك فرقا بين أن نقول بأن الله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور أو نقول بأنه سبحانه يخلق كائنات مختارة ليختبرها ولكنه يعلم من قبل أن يخلقهم كل ما سيعملون. العلم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور عمل ممكن ولكن علم الله تعالى بما سيعمله عبده مناقض للاختيار فهو غير ممكن. إن سيادته يعلم بأن الله تعالى لو علم أمرًا فإن ذلك الأمر حاصل لا محالة ولو بعد بلايين السنين بسبب تعلق علم الله تعالى به. ونحن نعرف بأن الذي يريد شيئا فهو يمهد له, والله تعالى الذي يعلم انتهاء عمر الشمس مثلا فإنه سبحانه مهد لانتهائها من قبل وقال بأن الشمس سوف تعيش إلى أجل مسمى. لكنه سبحانه لم يمهد لأعمال عبيده إلا في حدود القوة لا ليصل حد الفعل. ولولا ذلك فستكون أفعالُنا فعلَ الله تعالى وليس فعلنا. إن سيادته يقود السيارة ولا يرفض بأن نقول له بأنه قائد سيارته. لكن السيارة معدة من قبل لتستجيب لأوامره بالشكل الذي يختاره وحينما يصدر أوامره العملية بتحريك مفتاح السيارة فإن هناك مئات الحركات والتجاذبات تحدث داخل السيارة ولا أحد يقول بأن السيارة بمختلف أجهزتها تحركت بل يقولون بأن الدكتور سلامه حركها لأنه مهد لذلك. فلو أن الله تعالى أراد من يوم خلق السماوات والأرض أن نناقش معا هذه المناقشات ونكتب هذه المقالات فسنكون نحن آلات صامتة تنفذ رغبات مالك سيارة الحياة ولا ننفذ رغبات أنفسنا فلا نستحق العقاب كما لا نستحق الثواب.
والخلاصة أني أرجو من سيادته أن يأتينا بآية أو جملة قرآنية يقول فيها الله تعالى بأنه خلقنا وكان يعلم كل ما سنعمله، ونحن حينئذ لن نناقش كتاب الله تعالى بل سنقبل ذلك بكل خضوع. ولكن ليعلم فضيلته بأن كل من يقول بأن الله تعالى كان يعلم أفعال عباده الذين خلقهم ليبلوهم أيهم أحسن عملا دون أن يأتي بتصريح قرآني بذلك فهو يدعي أمرًا وينسبه إلى الله تعالى. ذلك أمر خطير أخي الكريم. أما مسألة خلق الله تعالى ما تفضلتم به في نفوسنا فهل شهدتم خلق ذلك أخي العزيز أم هل بيدكم آية تهدينا بها إلى ذلك الخلق النفسي الذي لا نعلم عنه شيئا؟ أم أن ذلك احتمال فضيلتكم فنحن نحبكم ولكن لا يجوز لنا اتباعكم إذ أنه غير مجز لنا. نحن كما لا نتبع سلفنا العزيز فنحن لا نتبع إخواننا أيضا. نحن نتعلم منكم ونتمنى أن تهدوننا إلى أمر سماوي يؤيد رأيكم.
ولعله مما قد يفيد القارئ العزيز أن يعلم بأن الغيب الذي يعلمه الله تعالى ليس أمرًا عدميًا بل هو إما موجود أو أنه مدبر. قال تعالى في سورة الذاريات: *وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ (23)*. ليس “ما توعدون” موجودًا اليوم ولكنه مبرمج ضمن قانون السماء, ولذلك يقول سبحانه بأنه حق بمعنى أنه سوف يتحقق ضمن نظام خلق السماء. نحن نعلم من القرآن بأن الخلق الأخروي هو من نفس مادة الخلق الفعلي. قال تعالى في سورة ق: *أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)*. ولو استمررنا في قراءة الآيات الكريمة في سورة ق فسوف نصل إلى غيب آخر هو معنا ولا نعلمه: *وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)*. فالملكان اللذين يسوقاننا يوم الحساب إلى الحساب ثم إلى الجنة أو إلى النار هما معنا اليوم ولكننا غافلون وسنرى كل ذلك يوم القيامة. هذا وأمثال هذا هو الغيب الذي يمكن علمه والله تعالى قادر على كل ممكن دون ريب.
حينما يحدثنا الله تعالى عن الغيب الذي يعلمه فهو لا يتحدث عن الأعدام بل يتناول الوجودات الموجودة فعلا أوالمبرمجة في نظامه المتين. لكن أعمالنا التي سنعملها فهي غير معلومة حتى لنا. وبمجرد أن ننوي أمرًا فإن الله تعالى يعلمه حتى نقوم به أو لا نقوم. سواء في ذلك ما منعنا ربنا أو ما تركناه باختيارنا. بل هناك تدخل من الله تعالى في فسخ عزائمنا. هناك جملة بديعة قرأتها عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ولا أذكر المصدر حيث قال: “عرفت الله بفسخ العزائم ونقض الهمم”. كل هذا مقبول ولكن فضيلة الأخ الطبيب سلامه يتحدث عن غيب يعلمه الله تعالى وهو غير موجود حتى في الخيال. إنه عدم لا علاقة له بالوجود عدا وجود قوة لدى المرء ليقوم به, والقوة ليست دليلاً على الوقوع أو على نية الوقوع حتى تدخل ضمن نطاق الغيب ويعلمها الله تعالى. فكما أن فضيلة الطبيب يحمل قوة الزنا, والقتل, وشرب الخمر, فإنه يحمل قوة الكف عن كل ذلك. القوة غيب يعلمه الله تعالى ولكن العمل لا وجود له حتى في نية فضيلة الطبيب فكيف يعلمه الله تعالى؟
أما ما نقرأه في الآية التالية من سورة الفتح: *سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاّ قَلِيلاً (15) قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)*. ففي الآية الأولى يتحدث ربنا عن قول المخلفين في المستقبل باعتبار أنه سبحانه كان يسمع نجواهم من قبل ولكنه تعالى في الآية الثانية لا يجزم بأنهم سوف لا يطيعون إذ أنهم لم يُبلَّغوا بعد ولا يمكن العلم بما سيقولون ما داموا لم يفكروا فيه. ولكن لو فكروا في أمر فإن الله تعالى سوف يسمعه ويعلمه. ولذلك يقول تعالى فإن تطيعوا. تعني الجملة الشرطية بأنهم قد يطيعوا أو لا يطيعوا ولكن الله لا يجزم بأي الاحتمالين إذ لا توجد في قلوبهم أية نية بعد.
أتمنى أن يكون الأمر واضحًا بعد هذا لفضيلة أخينا الطبيب سلامه حفظه الله تعالى ذخرًا لنا ولمراكزنا العلمية. كما أنني أحب أن أتعلم وعلى استعداد لتغيير رأيي ومسلكي فور العلم بأنني ما كنت مصيبا.” انتهى كلام فضيلته
هذا منظور وذاك منظور
تعليقًا على رسالة فضيلة الشيخ أحمد المُهري أعلاه كتب فضيلة الأستاذ الدكتور محمّد سلامه الرسالة التالية:
“شيخنا الفاضل الأستاذ أحمد المُهري,
نحن نتحدث عن عقيدة, والعقيدة غيب, ولا علاقة لها بقوانين الواقع أي سنن الله الكونية. والقضية التي نحن بصددها تتمثل في تطبيقات قاعدة المنظور, فالله يعلم الغيب, ويعلم ما سيحدث وما سيفعله الخلق مستقبلاً, هذا منظور. والله قد خلق لكل فرد إرادة تجعله يفعل ما يريد. وهذا واقع لا يختلف عليه العقلاء. هذا منظور آخر. وكون الله يعلم ما سنفعل فإن ذلك لا يعني أننا مجبرون على فعل ما يعلمه الله وما كتبه في كتاب عنده, إذ أن إثبات أن الله أجبرنا على فعل شيء يحتاج لدليل وبرهان من منظور الواقع, أي من سنن الله الكونية وليس من منظور الغيب. والخلط بين منظور الغيب والشهادة هو ديدن البدائية والبسطاء, لأنهم لا يستوعبون موضوع التفرقة بين المنظورات.
كيف نقرأ هذه الآية *وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ* التوبة : 46. كره الله انبعاثهم فثبطهم, وقيل اقعدوا مع القاعدين. هذا منظور غيب, ومن الخطأ أن نفكر هكذا: كيف يثبطهم الله ثم يحاسبهم على فعلهم؟ ذلك لأن تثبيط الله لهم موضوع يخرج من منظور الغيب, أما تقاعسهم فهو فعل يخرج من منظور الواقع والسنن الكونية. ولهذا فالتفكير بخلط المنظورين خطأ منطقي. ولا يعني ذلك إنكار أن الله ثبطهم فتقاعسوا عن نصرة نبيهم, لأن هذا غيب يجب أن نؤمن به.
*غُلِبَتِ الرُّومُ* الروم : 2
*فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* الروم : 3
هذا علم بالغيب وبما سيحدث, ولكن الروم ستغلب من خلال سنن الله الكونية, من خطط, وإمكانيات, وقتال, وقتل, وضحايا.
من منظور الغيب: فإن الله كتب لهم النصر قبل أن تبدأ المعركة. ومن منظور الواقع: إنهم تفوقوا على عدوهم فغلبوهم, ولا خلط بين الإثنين.
*قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى* طـه : 45
*قالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى* طـه : 46
*وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُون* الشعراء : 14
*قالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ*الشعراء : 15
إذن فالله علم أن فرعون لن يقتل موسى وضمن لموسى ذلك, فهل علم الغيب يتناقض مع إرادة فرعون في عدم قتل موسى؟ ببساطة هذا منظور وذاك منظور. علم الله غيب, وإرادة فرعون واقع ولا علاقة تصلح بين الأمرين. إن موضوع علم الله بما كان وما سيكون لا علاقة له بتطوير الفقه, فهذا اعتقاد واجب لدى كل مؤمن, ولكنه لا يصلح للعمل به في الواقع لأنه من منظور آخر. أتمنى أن أكون قد بينت وجهة نظري بوضوح.” انتهى كلام فضيلته.
كلام في المنظور
تعليقًا على رسالة فضيلة الأستاذ الدكتور محمّد سلامه أعلاه, أرسل إلينا فضيلة الشيخ أحمد المُهري الرسالة التالية. يقول فضيلته:
“لقد تفضل علي أخي العزيز الطبيب سلامه بإرسال قاعدة المنظور التي كتبها قبل عدة سنوات ووعدته بأن أقرأ وأبدي فيه رأيي ولكنني ما فعلت ذلك حتى يومنا هذا على الرغم من أنني كنت ولا زلت معجبا بالقاعدة وتذكرتها عدة مرات. ولا أدري متى أكمل ما بدأت به من مواضيع لأتعلم القاعدة. على كل حال فالطبيب سلامه مبدع دون ريب وهو من مفاخر مركز التطوير الذين لم يتركوا المركز. أتمنى أن يعود الذين تركونا أيضا ليصبح مركزنا أكثر إضاءة وأعمق بحثا وأعم فائدة.
كما أحب أن أوضح مسألة تفسيرية لا زلنا نخطئ في بيانها وهي مسألة غلبة الروم بعد أن غُلبوا. لقد كتبت ذلك قبل عدة سنوات ونشر في مركز التطوير وفي المودة. كما أن الطبيب سلامه نطق شرح الآية الكريمة بصورة صحيحة ولكنه كغيره نسي بأن الآية ليست كذلك. فلو كان فعل “سيغلبون” عائدة إلى الروم لقال سبحانه: ستغلب ولم يقل سيغلبون. والطبيب العزيز نطق صحيحا حيث قال فضيلته:
{غُلِبَتِ الرُّومُ} (2) سورة الروم,
{فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (3) سورة الروم
هذا علم بالغيب وبما سيحدث, ولكن الروم ستغلب من خلال سنن الله الكونية, من خطط وإمكانيات وقتال وقتل وضحايا
من منظور الغيب: فإن الله كتب لهم النصر قبل أن تبدأ المعركة, ومن منظور الواقع: إنهم تفوقوا على عدوهم فغلبوهم,.
انتبه فضيلته بأن الروم تغلب ولا يمكن القول بأن الروم سيغلبون. وقال فضيلته بأن الله تعالى كتب النصر قبل أن تبدأ المعركة. أظن بأنه يقصد بأن الله تعالى كتب النصر للروم المجرمة الغازية قبل أن تبدأ المعركة. لماذا يكتب الله تعالى النصر للغزاة المجرمين أخي العزيز؟ إن الله تعالى يكتب النصر للمؤمنين وليس للغزاة الفاسقين. لكن هذا النصر المكتوب ليس محتوما حتى للمؤمنين بل كما قال سبحانه: لله الأمر من قبل ومن بعد. ليعني بأن نظام الألوهية ستحكم وليس نظام الغيب. فالله تعالى لن يكتب النصر لقوم خارقا كل قوانين الطبيعة إلا لو أراد الإعجاز كما حصل مرة واحدة في التاريخ الإسلامي وهو في غزوة بدر الكبرى. هي الحرب الوحيدة التي يمكن أن نسميها غزوة وبقية الحروب الرسالية دفاعية محضة والعلم عند المولى. وحتى نعرف المعنى بالضبط علينا أن نعود إلى السورة السابقة فنجعلها بجوار بعضها البعض هكذا كما ورد في القرآن الكريم من نهاية سورة العنكبوت:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
الروم
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6).
والسبب في أن المسألة لم تأت في سورة العنكبوت نفسها هو هو أن سورة العنكبوت جاءت لبيان المكاسب الدنيوية السريعة مع بيان مقتضب للمكاسب الأخروية ولكن الروم تتحدث عن المكاسب الدنيوية المستقبلية. نعرف ذلك بملاحظة الآية الثالثة والآية الرابعة والسابعة و39 و47 والآية الأخيرة من سورة الروم الكريمة.
هناك حرب تاريخية وقعت بين الفرس والروم الغزاة قريبا من مكة. وأهل مكة في سلام في حين يُتخطف الناس من حولهم. تلك مكاسب دنيوية سريعة ولذلك ذكرها سبحانه في سورة العنكبوت السابقة.
هذه الحرب مذكورة في التاريخ البشري حيث طرد الفرس الروم. قال المفسرون بأن المؤمنين شعروا بأن الله تعالى لم يساعد الروم العابدين لله تعالى على الفرس العابدين للنار فوعدهم الله بأن يُغلب الروم على الفرس بعد بضع سنين. الحرب المفروضة غير مذكورة في التاريخ. والتفسير الوهمي يخالف قوانين الألوهية التي لا يمكن أن تمنح النصر الإلهي للغزاة حتى لو كانوا مؤمنين بالله ضد غير المؤمنين بالله. وانتصار الغزاة المسلمين فيما بعد على الأمم الآمنة لا تمثل النصر الإلهي بل تمثل الفتوحات البربرية التي التمست القدرات الطبيعية مشفوعة بالخداع والتضليل لتسيطر على الأمم الآمنة ونحن نتبرأ منهم كما نتبرأ من المجرمين ولو كانوا آباءنا.
لكن سورة الروم تقول بأن الروم الغزاة قد غُلبوا في حرب طاحنة قريبة من أرض الدعوة الكريمة وولوا أدبارهم والمسلمون في أمان. ووعد المؤمنين المسلمين بأن يكسبوا النصر على المشركين في بضع سنين كما حصل فعلا وتم فتح مكة على يد المسلمين. فالحديث عن غزو الروم لإثبات أن الأمان كان موجودا في مكة ضد حرب طاحنة كبرى ليست بعيدة عنها وهم غافلون. ذلك ليمن عليهم ربهم بأنه تعالى حتى حينما تغلب المشركون عليهم واضطروهم للخروج فإنه بصورة خاصة مميزة أبعد مكة كلها عن الحرب الكبرى ومنح مكة كلها السلام. لكن هذا السلام كان إكراما للمؤمنين وليس لمشركي مكة. لكن نظام الألوهية الصارم لا تسمح بأن ينصر الله تعالى المؤمنين على المشركين في مكة من قبل أن يستعد المؤمنون ويجمعوا ما استطاعوا من قوة ومن رباط الخيل. فإذا فعلوا ذلك فإن الله تعالى سوف يمدهم بالمزيد لينتصروا على أعدائهم. وبضع سنين باعتبار أن المسلمين لو أرادوا فعلا أن يستجيبوا لأمر ربهم فإن بإمكانهم أن يكسبوا النصر خلال بضع سنين يستعدوا فيها. هكذا يتم النصر الإلهي وليس كما حصل من الغزوات البربرية للمسلمين فيما بعد وليس أيضا كما ننتظره اليوم في حروبنا التي ننهزم فيها معركة بعد معركة.
ذلك النصر خاص بعصر الرسالة ولغرض خاص. فاستشهاد الأخ الطبيب ببداية الروم غير دقيق برأيي المتواضع. وقد وضحت لزملائي في التفسير خلال جلسات كثيرة كيفية ذلك النصر الإلهي الفريد من نوعه والذي لا يجوز تعميمه لأنه كان من مستلزمات بناء الكيان الإسلامي الأول. فأرجو أن نبتعد الآن عن هذا الموضوع الكبير الذي سيأخذ منا وقتا طويلا ونحن في بحث آخر في الواقع.
نعود إلى ادعاء فضيلة الأستاذ سلامه حفظه الله تعالى في بداية رده علي وفي الجملة التالية بالذات: فالله يعلم الغيب, ويعلم ما سيحدث وما سيفعله الخلق مستقبلاً, هذا منظور, وإن الله قد خلق لكل فرد إرادة تجعله يفعل ما يريد وهذا واقع لا يختلف عليه العقلاء.
دعنا نحلل الجملة أو المقطع ذي الجمل غير المتجانسة.
إن الله يعلم ما سيفعله الخلق مستقبلا.
إن الله خلق لكل فرد إرادة تجعله يفعل ما يريد.
فهل ما نفعله هنا من مناقشات كان قد مر على علم الله قبل عشر سنين؟
وحينما مر على علم الله فهل يجب أن يحصل أم يمكن ألا يحصل؟
لو قلنا يجب أن يحصل فنحن نعني بأن أدوات التنفيذ شبيهة بالسيارة التي يقودها الأستاذ سلامه كما وضحت في المقالة السابقة. لا يمكن القول بأن هناك إرادة للتجاوب مع القائد سلامه أو عدم التجاوب. كل أجهزة السيارة فاقدة للإرادة ومضطرة للتجاوب مع سيادته. هو إنسان يمكنه تطويع الإمكانات هكذا ليحقق ما يريد.
فهل الله تعالى الذي علم بأننا سنكتب هذه المقالات عاجز عن أن يحركنا لا إراديا لنقوم بالكتابة كما أراده الله تعالى من قبل؟ بالطبع هو ليس عاجزا ولكننا سنكون فاقدي الإرادة ولا يجوز للقدوس العادل أن يعاقبنا أو يثيبنا على عمل قمنا به لا إراديا.
فقول فضيلته بأن الله تعالى بعد ذلك خلق لكل فرد إرادة تجعله يفعل ما يريد؛ ليس مساوقا لما علمه الله تعالى من علم من قبل أن نريد أن نفعل ما نريد. هناك إرادتان في الواقع:
إرادة إلهية مساوقة لعلمه سبحانه بأن نفعل أمرا.
وهناك إرادة منا بأن نفعل ذلك الأمر مجبرين ولكننا نحن مريدون أيضا.
أظن بأننا آنذاك لسنا مريدين. ولم يقل الله ذلك إطلاقا. لن تجد في القرآن هذا الرأي أبدا وأقوله بعد أن حاولت أن أجد شيئا مماثلا في القرآن فلم أجد وأراه متناقضا مع الإرادة. أنتم الفلاسفة تقولون بأن علم الله عين إرادته بل عين ذاته، باعتبار أن ما علمه الله سوف يحصل ولن يتأتى لغيره أن يقف أمامه ثم تقولون بأننا نحن مختارون حتى لو علم الله ذلك. فعليكم بأن تنكروا واحدة منهما. بمعنى ألا تقولوا بأن علم الله عين إرادته أو لا تقولوا بأن ما سنفعله كان معلوما عند الله من قبل أن يخلقنا. وأقول لكم بأن إشكال أخي الفاضل المهندس عادل الحسني سيلحقكم أيضا. إنه يقول بأن الله تعالى لو علم بأن هتلر سيقتل الناس ثم خلقه فهذا يعني بأن الله لم يخلق خلقا حسنا بل خلق خلقا سيئا وهو محال. وأضيف عليه تأييدا له قوله تعالى في سورة السجدة: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسَانِ مِن طِينٍ (7).
والمشكلة إخواني وأخواتي الذي يطلعون على مناقشاتنا هذه هو أن فضيلة الأخ سلامه يقول شيئا جديدًا والفلاسفة المسلمون قالوا شيئا آخر أصح مما قاله الدكتور سلامه ولكن كلاهما في تناقض مع القول بأن الله كان على علم مسبق بما سنفعله من قبل أن يخلقنا. بالطبع أنهم قالوا من قبل أن يخلق الخلق كله أي من قبل الانفجار الكوني. يقول الفلاسفة بأننا لو كنا سنفعل الحسن ولا نأتي بالسيء فإن الله كان يعلمه أيضا. ردي على الإخوة الفلاسفة هو كالتالي:
هناك إرادتان قطعا. إرادة سماوية تكوينية لنفعل ما نريده وإرادة تخصنا لنفعل ما نريده. هذه الجملة غير صحيحة قطعا لأن الإرادة التكوينية يجب أن تتحقق سواء أردنا نحن أم لم نرد. والمشكلة أكبر من هذا. تلك تعني بأن الله تعالى علم بأننا سنفعل فعلا سيئا مر على علمه تعالى من قبل أن يخلقنا. فهو سبحانه خلق إنسانا سيئا يعلم بأنه سيعمل السيئات بصورة قطعية غير اختيارية. فكيف يقول سبحانه في سورة الإنسان: إِنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)؟ فهل نحن شاكرون والله تعالى علم بأننا سنكون كافرين ليبلونا؟ أي ابتلاء هذا وبأي منظور نظرنا إليه؟ وقال تعالى في سورة الكهف: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7).
إنه يعلم أينا أحسن عملا فما معنى أنه يريد أن يبلونا بالزينة التي أرانا إياها إلى وجه الأرض ليعلم أينا أحسن عملا؟ هل قام الله تعالى بالعبث؟ ولو نذهب أبعد من ذلك فإنه خلق السماوات والأرض ليبلونا أينا أحسن عملا. قال تعالى في سورة هود: وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (7). لكن هذا التناقض غير المنطقي الذي يسعى الدكتور سلامه بأن يحلها عن طريق قاعدة المنظور فهو باق حتى لو غيرنا النظرة إلى القضايا. والمهم أن يقول الله تعالى لا أن تقول الفلاسفة أو يقول الطبيب سلامه.
المشكلة بسيطة أروني آية تقول ذلك وأنا خاضع للآية وأعدكم بأن كل أعضاء المركز الذين التحقوا بمركزنا إيمانا منهم بصدق ربهم سيخضعون لآيات ربهم. شكرا للجميع.
أحمد المُهري
الإخوة الأفاضل
المثال الواضح في “علم ما سيكون” هو ما يعلمه الأب مثلاً من أن ابنه سيفشل في الامتحان لأنه يعلم أن ابنه لم يدرس –
هنا: “علم الأب بواقع الإبن قبل الحدث” أدى إلى “علم الأب بما سيحصل في الحدث”.
في سورة الملك، يقول الحق تعالى: ((وأسرّوا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور. ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟))
فانظر إلى أنه تعالى يقول أن “علمه بذات الصدور” جاء من “علمه بخلقه لهم” – أي طالما كان هو الذي خلقهم فإنه لا مشكلة في معرفته بما سيكون منهم.
ماكنة أو جهاز يصنعه/يخلقه بشر من خشب، وآخر من حديد، وآخر من بلاستك، مؤكد يعلم بما سيحصل من كل واحد منهم “بعد” صناعته.
تحياتي
غسان
آيات قرأنية تثبت أمرًا غير موجود في القرآن, أو
آية واحدة تكفي
أخي الكريم,
لا نشك بأنك إنسان مبدع ومفكر كبير ولكنك أنت الذي تأتي بآيات قرآنية كثيرة لإثبات أمر غير موجود في القرآن ولا يمكن قبول ذلك الأمر إلا إذا نسبناه إلى الله تعالى نفسه. والواقع أن كلتا المسألتين اللتين نناقشهما تحتاجان إلى تصريح من القرآن الكريم لأن كلتاهما غيبيتان – إن كان لهما وجود فعلاً خارج كتب التراث ومقالات فضيلتكم. من الذي أخبرنا بأن الله تعالى يعلم ما سيفعله الأفراد من قبل أن يخلقهم أو من الأزل؟ ومن الذي أبلغنا بأن الله تعالى خلق في نفوسنا المثل العلا كما تفضلتم؟
لا أحد منا ينكر بأن الله تعالى يعلم الغيب دون أدنى ريب. ولكنكم قلتم بأنه تعالى يعلم ما سيفعله عبيده فردًا فردًا من قبل أن يخلقهم. أليس كلامكم في حد ذاته غيبا؟ متى وأين قال ربنا ذلك؟ وقد وضحت لفضيلتكم بأن مسألة أعمال الخلق من قبل أن يخلقهم ليست غيبًا بل ليس لها أي وجود حتى في الخيال. الغيب, أخي الكريم, يعني ما هو غائب عنا ولا يعني ما لا وجود له أصلا. وقد وضح زميلي الأخ عبد الرضا الصباغ بعض الشيء عن ذلك. راجع القرآن كما فعلتُ لترى بأن الله تعالى لا يسمي الخيال وما لا وجود له غيبا. وأنت عربي أكثر مني لأنك – كما أظن – ما اختلطت بالأعاجم مثلي. فأنا مولود في الكويت, وفي بيئة غير خالصة العروبة, بل كان أكثر المحيطين بي من الفرس, ثم نقلوني قسرًا إلى إيران حيث لا عربية هناك إلا في المساجد, ثم هاجرت مضطرًا إلى دبي حيث تطغى الأوردو على العربية هناك, ثم جئت مضطرًا أيضا إلى بريطانيا الإنجليزية.
أنا المشوبة ذاكرتي بمجموعة من اللغات – إضافة إلى اللغات التي درستها – أعلم بأن الغيب في اللغة العربية يعني ما يغيب عن المخاطب ولا يعني ما لا وجود له أصلا. فإذا جاء أحد وقال فكرت في أن أصنع جهازًا يمكنه أن يتعرف على ما سيخلقه الله تعالى بعد تدمير الكون فسنقول له بأنك تتحدث عن الخيال لأنه ليس شريكا لله تعالى, وليس الخلق الجديد مشروحًا في كتاب, ولا نرى له برامج اليوم. لا نقول له بأنه يتحدث عن الغيب. الغيب قابل للعلم ولذلك يقول ربنا عن نفسه عالم الغيب والشهادة. قال الراغب الأصبهاني في المفردات:
الغيب مصدر. غابت الشمس وغيرها إذا استترت عن العين. يقال “غاب عني كذا”. قال تعالى: *أم كان من الغائبين* النمل : 20. واستعمل في كل غائب عن الحاسة وعما يغيب عن علم الإنسان بمعنى الغائب.
قال ابن فارس في مقاييس اللغة
الغين, والياء, والباء, أصلٌ صحيح يدلُّ على تستُّر الشيء عن العُيون. ثم يقاس. من ذلك الغيب ما غَابَ. ممّا لا يعلمه إلا الله. انتهى النقل.
فما سيفعله باختيارهم الذين لم يأتوا بعد ليس موجودًا حتى نعتبره غائبًا عن عيوننا, أو عن أسماعنا, أو حتى قلوبنا. كما أن الله تعالى لا يمكن أن يبرمج للموبقات والسيئات لتصدر من البشر باختيارهم. فأنتم تتحدثون عن اللا شيء وليس عن شيء غائب. أعتقد أن الإخوة والأخوات في مراكزنا يميزون بين الشيء واللا شيء ولا نحتاج إلى بيان. قال لي أناس من قبل بأننا لا نعلم كيف يعلم الله تعالى أفعال العباد من قبل أن يخلقهم وأخونا سلامه يقول نفس الشيء ولكن المشكلة بأننا لا نتحدث عن كيفية علم الله بل نتحدث عن شيء غير موجود ولا مبرمج ولكن الله تعالى يعلمه ولم يقل سبحانه بأنه يعلمه. هذه عقيدة غير سليمة برأيي.
وأما آية الإسراء التي استشهد بها الأخ الطبيب حفظه الله تعالى وهي: *وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)*. فأقول قبل أن نبدأ بأنني تحدثت عن أعمال الأفراد لا عن أفعال الشعوب والمجموعات. نحتاج إلى بحث آخر حينما نتحدث عن الحروب, والتغيرات العامة, وأفعال الشعوب. وأعمال الأفراد هي التي يمكن أن نثاب عليها أو نعاقب. ولنبدأ بفهم معنى “وقضينا إلى” أولا.
هذه الجملة لا تعني وقضينا بين, أو وقضينا على, بل تعني وأوحينا باعتبار أن الوحي السماوي هو الفيصل الذي لا تجوز مناقشته. هذا ما يقوله المفسرون وعلماء اللغة وليس من تحقيقاتي الشخصية. قضى تعني أنهى, ولذلك يستعمل الجذر لبيان الفصل سواء في القضايا أو بين الأشخاص. وهكذا يُستعمل الجذر لبيان الحكم باعتبار أن حكم القاضي يُنهي الخصام بين الناس, ولبيان الوحي السماوي لأنه فصل الخطاب للمؤمنين بذلك الوحي.
الفساد. قال الراغب الأصفهاني في مفردات ألفاظ القرآن: الفساد خروج الشيء عن الاعتدال، قليلا كان الخروج عنه أو كثيرا, ويضاده الصلاح. ويستعمل ذلك في النفس، والبدن، والأشياء الخارجة عن الاستقامة. انتهى النقل. ولقد حاولت أن أجد تفسيرًا للكلمة عند عدة أئمة من أئمة اللغة فكأنهم يكتفون بالقول إن الفساد ضد الصلاح. لكن الراغب أعطانا تفسيرًا دقيقا, وهو خروج الشيء عن الاعتدال. واللطيف أن الله تعالى بنفسه شرح الكلمة في الآية الكريمة بقوله: *ولتعلن علوًا كبيرا*. فنوع الفساد الذي قضاه ربنا هو أنه تعالى سيمكنهم تمكينا كبيرا. وهناك حقيقة بشرية بجوار هذا التمكين ذكرها القرآن الكريم في سورة العلق: *كَلاّ إِنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7)*. تلك حقيقة بشرية علَّمناها العليم الخبير عز اسمه. فإذا منح الله تعالى بني إسرائيل العلو الكبير فإن الطغيان سيغلب عليهم لأنهم سوف يظنون بأنهم مستغنون. والله تعالى يفعل ذلك للاختبار كما نراه اليوم يقدر المال الكثير أو القدرة العسكرية الفائقة لبعض الشعوب ليختبرهم ويمحصهم.
وعد المرة الأولى.
قال بعض المفسرين الكرام بأن الوعد عادة للخير وبما أن الآية تتضمن التهديد فيجب أن نقدر العقاب فيكون المعنى “فإذا جاء وعد العقاب للمرة الأولى”. كلام جميل ولا نحتاج إلى مناقشته هنا.
بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد
لم يحدد الله تعالى الذين سوف يحفزهم ربنا ضمن نظامه ليقوموا ضد الذين طغوا من بني إسرائيل, واكتفى ببيان أنهم أولو بأس شديد. والأرض فعلاً لم تخل من وجود أناس أولي بأس شديد من يوم أن توسعت البشرية في الأرض. ولنفرض بأن هتلر ومن معه من المجرمين هم أولئك العباد. فهل أتت الآية الكريمة باسم أي منهم؟ وهل ذكر وصف أي منهم بحيث يمكننا التعرف عليه كفرد؟ وبه يمكن القول بأن الله تعالى يسوق الأفراد إلى القيام بعمل ما من قبل أن يخلقهم، والعياذ بالله. فهذه الآية الكريمة لا تفيد الذين يقولون بأن الله تعالى كان يعلم أعمال أفراد عبيده من يوم خلقهم, أو من قبل أن يخلقهم, أو من يوم خلق الإنسان, أو من يوم خلق السماوات والأرض, أو من الأزل. إن الذين يتحدثون عن الغيب القائل بأن الله تعالى يعلم مسبقا ما سيفعله عبيده من قبل أن يأذن للعمل أن يتحقق هم الذين يتحدثون عن ذلك الغيب وليس الله تعالى. ومن باب المثال: هل يعلم فضيلة الأستاذ الدكتور محمّد سلامه الغيب حيث يجزم بأن الله تعالى خلق في نفوسنا المثل العلا, أو يجزم بأن الله تعالى كان يعلم أعمال الأفراد من الأزل؟
وحتى لا أطيل عليكم فإنني بانتظار آية تثبت ادعاءكم بكل وضوح وإلا فسيادتكم وكل الفلاسفة الذين أجزموا بأن الله تعالى كان على علم بما سيفعله الأفراد تتحدثون عن غيب غير موجود في القرآن الكريم. وإذا أردت أن تستنتج من الآيات الكريمة ما تدعي, فتحدث عن آية واحدة واشرحها لأناقشك ولا ترتل علينا الآيات الكريمة ترتيلا غير منظم ولا تكثر منها. آية واحدة أو آيتان تكفي. وأما ما تفضلت به اليوم من دفاع عن المنطق فأرجو ألا تحكر المنطق بما تعتقد به أو يعتقد به فلاسفة المشاء. فنحن أيضًا منطقيون, وكلمة المنطق كلمة عربية لم يخلقها أرسطو, ولا ابن سينا, ولا أخونا الطبيب, رضي الله عنهم جميعا. فقولك اليوم يعني بأن الإنسان يقوم بعمله بعيدًا عن الله تعالى. هذا ادعاء ثالث نحتاج إلى آية قرآنية لنقبل به أيضا. ذلك لأن المشيئة بالنسبة لنا مشابهة للإرادة والله تعالى يقول في سورة التكوير:وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29). فمشيئتنا منوطة بمشيئة ربنا وليست منفصلة عنها. ثم إن الإرادة تكون مفقودة للإنسان إذا علم الله تعالى بما أريده من قبل أن أريده. والله تعالى لم يقل ذلك والمنطق يرفض ذلك أيضا. قال تعالى في سورة الإنسان: *إِنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)*.
أنا بنفسي سميع بصير, وأعلم وأبصر ما أفعل, فإذا علم الله تعالى بأنني سأفعل فسأفقد بصيرتي كما سأفقد إرادتي أيضا. كيف أكون شاكرًا لو علم الله تعالى بأنني سأكون كافرًا؟ قل لي بربك هل يبقى للإنسان حرية إذا علم الله تعالى بأنه سيفعل من قبل أن ينوي بأنه سيفعل؟ اللهم إلا إذا قلنا بأن علم الله تعالى ليس علما كاملا. والعياذ بالله. كيف يمكن أن نتصور إرادة حرة لدى الإنسان وهي تتعارض مع علم الله تعالى؟ ولو فرضنا ذلك فنحن نعني بأن الله تعالى غير عالم أو بأن الإنسان مقيد لا يملك الحرية. أنا أقول بأن الله تعالى يعطيني القدرة لأفعل ما أشاء فهو معي من قبل أن أفعل, فإذا نويت أن أفعل فإن الله تعالى تبعا لسياسته يحول بيني وبين العمل أو يحول بيني وبين قلبي الذي به أريد أو لا أريد. لكنه يوم القيامة سوف يحاسبني لأنني نويت أمرًا وعزمت عليه ولكنه هو سبحانه سلب مني الاختيار بأن حال بيني وبين قلبي. قال تعالى في سورة الأنفال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24). لا أريد أن أشرح الآية ولكن قل لي لماذا يحول الله بيني وبين قلبي وهو مركز المعالجات في النفس؟ لو كان ما أريده قابلاً للعلم من قبل لما صار ضروريًا بأن يحول الله بيني وبين قلبي حتى أترك التفكير في ذلك الأمر. ذلك لأن الله تعالى كان من قبل أن يخطر ببالي سوف يمنع الموضوع من أن يصل إلى خيالي فلا ضرورة ليحول بيني وبين قلبي إذا أراد أن يفسخ عزيمتي.
ولعلك تقبل أخي الكريم بأنني أملك بفضل الله تعالى قدرة فائقة للبحث الفلسفي ولكنني أحترم أوقات الذين يريدون أن يقرؤوا علينا وأحترم وقت فضيلتكم أيضا. واعلم بأنني لا أخلط بين الغيب والشهادة ولكن الغيب الذي لا يتجاوز الادعاء فهو مرفوض عندي سواء قرأت قانون المنظور أم لم أقرأ وأنتم تعلمون بأن القرآن عاش قرونا طويلة من قبل أن تتفضلوا بإبداع قاعدة المنظور. فاترك الفلسفة, وهات آية صريحة, أو استنتج ما تفضلت بادعائه من آية واحدة أو آيتين بشرح معقول وحسبنا ذلك. وفي الختام أرجو ألا تشك أبدًا في احترامي العميق لشخصك الكريم, فأنت مفخرة لي, ولزملائي, بعلمك, وحكمتك, وما يترشح عنهما من مواعظ قيمة مفيدة لنا جميعا.
أحمد المُهري
22/3/2018
المسألة باختصار والمشكلة باختصار
المسألة, باختصار, أن :
- المعلومات الموجودة في رؤوسنا تنقسم إلى نوعين:
ا. نوع يتعلق بعالم الشهادة. أي بالعالم المشاهَد حولنا, و
ب. نوع يتعلق بعالم الغيب. أي بالعالم الذي لا نراه ولا يعلمه إلا الله.
- فإذا كان الأمر أمر معلومة تتعلق بعالم الشهادة فصحة المعلومة تعتمد على ما إذا كنا قد شهدناها أم لم نشاهدها. فإذا شهدناها فهي معلومة, وإذا لم نشاهدها فهي غير معلومة.
- أما إذا كان الأمر أمر معلومة تتعلق بعالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله فصحة المعلومة تعتمد على ما إذا كانت قد جاءت – أم لم تجيء – في كتاب الله. فإذا كانت قد جاءت فهي معلومة, وإذا لم تكن قد جاءت فهي غير معلومة.
- وكأن المسألة, بهذا الشكل, هي أننا إذا كنا نتحدث عن عالم الشهادة فلا بد من أن “نشاهد” أما إذا كنا نتحدث عن عالم الغيب فلا بد من أن “يخبرنا الله”.
- وكل شيء غير ذلك باطل وما هو إلا زيف, وتزوير, وكذب, وافتراء على الله, أو زيف, وكذب, وتزوير, وافتراء على رسول الله.
والمشكلة, باختصار, هي أن الثقافة العربية, كغيرها من الثقافات البدائية, لم تدرك بعد:
- أن صحة أي “خبر” يتعلق بعالم الشهادة لا تعتمد على “شخصية” ناقل الخبر وإنما على توافق الخبر مع الواقع المشاهد. وعليه, فإذا جاءنا, مثلاً, من يخبرنا بأن الماء الدافيء يتجمد في وقت أقل من الوقت اللازم لتجمد الماء البارد, فمنا بإحضار كوب من الماء الدافي وآخر من الماء البارد ووضعناهما كليهما في مجمّدة, فإذا تجمد الماء الدافيء أولاً كان الخبر صحيحًا وإذا تجمد الماء البارد أولا كان الخبر غير صحيح, و
- أن صحة أي خبر يتعلق بالغيب لا تعتمد هي الأخرى على “شخصية” ناقل الخبر وإنما على ما إذا كان الله قد أخبرنا به. فإذا كان الله قد أخبرنا به فهو خبر صحيح أما إذا لم يكن قد أخبرنا به فهو خبر غير صحيح.
ومشكلة الثقافة العربية هي أنها لا تفرّق بين كتاب الله وكتاب البخاري, فتخلط بين كلام البخاري وكلام الله, وتنظر إلى كلام البخاري على أنه كلام الله. وتأخذ بما جاء في كتاب البخاري مثلما تأخذ بما جاء في كتاب الله. وما هذا إلا زيف, وتزوير, وكذب, وافتراء على الله, أو زيف, وكذب, وتزوير, وافتراء على رسول الله, ولا يكون الخبر عن الغيب صحيحًا إلا إذا جاء في كتاب الله.
وإن الحمد لله, والشكر لله, على ما آتانا وما لم يؤتِنا, وما أعطانا وما لم يعطِنا.
خالص الشكر والتقدير لمفكرينا الإسلاميين الكبار على كريم رسائلهم.
21 مارس 2018