الحكم الاخلاقي لدى الطفل 33
تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence
الحكم الأخلاقي لدى الطفل – 57
وعن طريق الإشارة إلى هذه العمليات نفسها استطاع بوفيه أن يتخلص من النقد الذي وجه إليه، كما وجه إلى نظرية دوركايم. فلقد قيل إنه إذا كان كل شيء يأتى إلى الطفل من الخارج، وإذا كانت القواعد الأخلاقية في البداية ليست شيئًا سوى أوامر صادرة من السلطة المحيطة، فكيف تأتى “للخير” أن يحرر نفسه من مجرد العادة؟ وكيف تأتى لاحترام “الخير” أن يتميز عن احترام “الشر”؟ يري بوفيه أنه ما دامت المؤثرات التي تقع على كاهل الطفل محدودة فإنه مما لا شك فيه أن المثل الأعلى عند الشخص لا يمكن أن يتجاوز ذلك الذى نبع منه. ولكن بمجرد أن تبدأ المؤثرات تتعارض فإن العقل يقيم نظمًا دينية ويصبح التقدم ممكنًا بالنسبة للأوامر التي تلقاها أصلاً.
وأخيراً يجب أن نتذكر أن هذه التطورات تطبق فى عملية الشعور بالواجب فقط وبجانب أخلاق الواجب نجد أن بوفيه قد أيد حقوق عاطفة الخير وإن لم يحاول أن يشرحها. ذلك أن قيام هذا المثل الأعلى الداخلي الخاص بفكرة الخير هو الذي يضمن في التحليل الأخير احتمال ذاتية الضمير، فسنضطر إلى أن نرى بوضوح الأسس التي يقوم عليها احترامنا فننقدها لكي نقيم في أنفسنا نظمًا للقيم فيتدرج احترامنا تبعاً لها. فإذا عرض علينا موضوع الاحترام فإننا ندرس عواطفنا, وغرائزنا, وعاداتنا, دراسة نقدية على ضوء مثلنا الأعلى فنسأل أنفسنا: ماهي العناصر التي نحترمها في الشيء الذي نحترمه؟ وبصرف النظر عن الحالات الدنيا من الاحترام (ص 142seut. Relig rt psy ch. Euf). هذه هي نظرية بوفيه بشكل إجمالى، وقبل أن نضعها جنبًا إلى جنب مع نتائج بحثنا فلنحاول أن نذكر بدقة أين نكمل نظرية دوركايم وأين نصححها.
ومن المستحسن هنا أن ندخل في علم الاجتماع التمييز الواضح الذي وضعه سوسير De Saussure في الدراسات اللغوية للتمييز بين وجهة النظر الإحصائية أو المعاصرة وبين وجهة النظر التركيبية أو المتأصلة. والواضح أن نظرية دوركايم عن الواجب نظرًا لأنها أبعد ما تكون عن وجهة النظر الإحصائية، فإنها أبعد ما تكون عن أن تهاجم، ووصف الحقائق باستخدام مصطلحات علم النفس الفردي الذاتي سوف يؤدي إلى استكمال الوصف الاجتماعي لهذه النظرية دون تغييرها. ومن المؤكد أن هذين الوصفين متطابقان أو يتضمن كل منهما الآخر. وعلى العكس من هذا فإن دوركايم قد وضع اعتمادًا على تحليله الإحصائي العميق علم نفس اجتماعي يكاد يكون نظريًا خالصًا. وفي هذه النقطة بالذات يفترق علماء النفس وعلماء الاجتماع, إذ يرى دوركايم أن السلطة الأخلاقية والاحترام لا يمكن قيامهما إذا كانت المجموعة كلها تقوم فقط على عقول الأفراد. فالمجتمع, بهذا الشكل, هو أصل الاحترام والالتزام, والعلاقة بين فردين تكفي لشرح أصل أي حقيقة من حقائق الواجب. وحين يحترم فرد فردًا آخر فهو لا يفعل ذلك لأن الشخص الآخر محفوف بالسلطة الاجتماعية، فالآباء والمدرسون لهم سلطة على الطفل لأن فيهم أخلاق الجماعة. وفي معارضة هذه النظرية يضع لنا بوفيه حقائق من علم نفس الأطفال. يقول : إن الإنسان هو الشيء الذي يحترمه الطفل في الآباء، وإذا كان الطفل يقبل أخلاق الجماعة فإنه يفعل ذلك لأن فيها تنسجم الكائنات المحترمة، ومن وجهة النظر الإحصائية تقوم وجهة نظر الاستمرار والوظيفة في الظاهرات الاجتماعية وهي المشكلة التي تعيد إلى ذاكرتنا تلك النظرية الخاصة بالنهر وشواطئه، وهي نظرية لا أهمية لها على الإطلاق، فالأغلبية العظمى للأوامر التي يصدرها الطفل هي القواعد الفعلية لأخلاق الجماعة. ونظرًا إلى أن هذه القواعد قد شكلت شخصيات الآباء قبل أن تنتقل منهم إلى الأطفال فمن العبث أن نسأل الأطفال عما إذا كان الطفل يحترم الأشخاص باعتبارهم يخضعون للقواعد أم يحترم القواعد لأنها متجسدة في هذه الشخصيات؟
ولكن من المهم على أساس وجهة النظر هذه أن نحدد ما إذا كان الإنسان يستطيع أن يتكلم عن العلاقة الاجتماعية القائمة بين فردين فقط, أم أن قيام مجموعة منظمة ضرورى لتكوين مشاعر أخلاقية بدائية. ويبدو لنا أن رأي بوفيه في هذه النقطة نهائي. فمما لا شك فيه أن الشعور بالسلطة والاحترام يظهر في العامين الأولين قبل اللغة، فبمجرد أن يكتشف الطفل الصغير في الشخص الكبير شخصاً مثله ولكنه أعظم منه فالمشاعر المركبة من المشاركة العاطفية والخوف الناتجة من هذا الموقف توضح لماذا يأخذ الطفل الأمثلة عن آبائه. وبمجرد أن يلم باللغة فإنه يتلقي أيضًا الأوامر منهم ولماذا يضيف في هذه السن المبكرة الإحساس بالقواعد والالتزام إلى حقيقة التفكير البسيطة. وما دام الكتاب جميعًا الذين تناولوا هذا الموضوع اعتبروا الاحترام متصلاً بالقواعد فإن الإحساسات الأولى التي ذكرناها لا يمكن وضعها إلا ضمن حقائق الاحترام. فلا يمكن أن يتطرق الشك في ذلك إذا اعتمدنا على القواعد البدائية، ونقصد بها تلك المرتبطة بالأكل, والنوم, والنظافة, وبعض نواحي النشاط الأخرى عند صغار الأطفال. فالطفل يقبل هذه القواعد لا لأنها سائدة عند الجماعة وفي الأسر المتحضرة بل لأنها مفروضة عليه من الراشدين الذين يلفتون نظره ويخيفونه في نفس الوقت. من جهة أخرى فإن الملاحظة السطحية للطفل في سنواته التالية تدل على أنه يطيع الأوامر الخاصة كما يطيع الأوامر العامة. ولو كان دوركايم على حق لكانت القواعد التي يحترمها الطفل هي فقط تلك التي يحترمها الآباء أنفسهم، وبذلك تكون نابعة من الجماعة قبل أن ننتقل إلى الأطفال. والواقع بكل بساطة أن ليست هذه هي الحال، فإذا أنا طلبت من أولادى ألا يمسوا مكتبي فهذه القاعدة تصبح إحدى قوانين عالمهم دون أن أخضع أنا لها أو أن أبدو في نظرهم وكأني قسيس المجتمع، فهم يحترمون هذا الأمر لمجرد أني أبوهم.
ولقد أطلنا البحث والجدل فى هذه النقطة لا لأنها على جانب عظيم من الأهمية بالنسبة للتركيب الآلى للواجب فى مجتمع قد تم نظامه أخيرًا، ولكن لأنها تؤيد الطريقة التي اتبعناها في هذا الكتاب. فالمجتمع يبدأ من فردين بمجرد أن تكيف العلاقة بين هذه الفردين طبيعة سلوكهما، وكل الظاهرات الناتجة يمكن أن توصف عن طريق الشعور الفردي الداخلي، وكذلك عن طريق المصطلحات العامة لعلم الاجتماع الخالص، ذلك أنه إذا بعدنا عن السؤال الخاص بتركيب الاحترام فإن الموازاة بين آراء بوفيه ودوركايم تبدو تامة. فدوركايم يشرح الواجب في شكل خارجي وذلك عن طريق القسر الاجتماعي للجماعات المنقادة، على حين نجده يرجع نمو الضمير الشخصي إلى التكاتف الاجتماعي, والتميز. والفردية الناتجة. وبنفس الطريقة يرجع بوفيه الواجبات الأولية إلى الاحترام الذي يحسه الصغار نحو الكبار وذاتية الضمير الآخذة في النمو تدريجيًا عن طريق تعارض المؤثرات التي تصل إلى الطفل. على ذلك, فالمؤلفان قد استخدما لغات مختلفة لوصف نفس العمليات، ولكن إذا كانت اللغات المستعملة متوازية وليست متعارضة فإنه يجب أن يضاف إلى ذلك أن الشرح النفسي لا يمكن أن يدخل في حسابه كل نواحى النمو الأخلاقي دون أن يأخذ بعين الاعتبار الشكل العام للجماعات المختلفة ككل. ويبدو لنا أنه يجب دراسة مشكلتين بنوع خاص مرتبطتين بنظرية بوفيه، وهما مشكلة الاحترام البنوي، ومشكلة تحرر العقول الفردية.
نستطيع أن نقول مؤكدين رغم معارضة دوركايم فيما يختص باحترام الطفل الصغير لآبائه وبالنسبة للطاعة البنوية في أبسط أشكالها فإن لدينا معلومات سيكولوجية مستقلة عن تركيب المجتمع المحيط بالطفل. ولكن إذا كان الآباء حقا آلهة في نظر الطفل، وإذا كانت قواعد الأخلاق البدائية يمكن ان تتناقص فتقتصر على أوامر الآباء، فإن الإنسان قد يدهشه كيف يمكن قيام تقدم، لا في الفرد الموجود في مجتمعنا فحسب، بل وفي التاريخ الفعلي للآراء الأخلاقية. ففي مجتمعاتنا الحديثة نجد أن الفرد عليه أن يكتشف وجهات نظر أخرى غير تلك التي اعتاد عليها، وبذلك يصبح شاعرًا بـ “مثل أعلى” أخلاقي أسمي من الأشخاص، كما يصبح قادرًا علي الحكم على آبائه فلا يعود يؤلههم، وبذلـك يحرر عقله ويجعله قادرًا على التجديد. ولكن في المجتمعات البدائية التى يحكمها كبار السن (ولو صح ما قاله بوفيه فإنه كلما كان المجتمع بدائيًا كلما كان نفوذ المسنين أقوى) فكيف يمكن للعقل أن يدرك “المثل الأعلى” الأخلاقي الأسمي من العادة المتبعة. حتى في الحالات التي تكون فيها الوجدانات البنوية قد تحولت إلى رموز دينية جماعية فإن الآلهة لا يمكن أن تكون خيرًا من الناس ولا القواعد الصوفية أحسن من الأعراف والعادات السائدة. والواقع أنه حتى ظهور الديانات المتقدمة جدًا لم يكن الناس يضفون على الآلهة صفاءً أخلاقيًا لا تشوبه شائبة. ومهما كانت رغبة الديانات الأولية في الوصول إلى السمو ظاهرة فإن الأخلاق البدائية لا تختلف عن العادات الشائعة والأعراف السائدة. فكيف يمكننا, إذن, أن ندلل على أن الإنسانية قد خرجت من هذا الموقف؟ يبدو لنا في هذه النقطة بالذات أهمية دراسة الشكل العام للجماعات لكي نرفع المستوى الأخلاقي للآلهة ونترك وراء ظهورنا أخلاق الأوامر والإجبار من أجل أخلاق الضمير الذاتي. لابد من وجود عملية مزدوجة. إذ لابد أن يكون هناك روحية في الاحترام البنوى وحرية في عقول الأفراد. ويري بوفيه أن مثل هذه العمليات يجب أن يعمل حسابها علي أساس أن المؤثرات التي تحدث تتقاطع والحالة الأولي التي تحدث بشكل مؤثر هي أن البيئة الاجتماعية يجب أن تكون على درجة كافية من حيث الكثافة ومن حيث الاختلاف. وقد بين دوركايم في عبارة له كلاسيكية أن التكاتف الاجتماعي وحده والاختلاف الناتج قادران على شرح تحرر العقول الفردية. هكذا فقط يمكن أن يصبح الفرد قادرًا على الحكم على الأوامر التي جاءته من الأجيال السابقة. بذلك يخضع الاحترام البنوى لسلطة العقل كما يضع الشعور الأخلاقي مثلاً أعلى للخير فوق مستوى الأشخاص وهو يسمو على كل الواجبات والأوامر.
وهكذا نكون قد أكملنا وجهة نظر بوفيه بوجهة نظر دوركايم، ولكن هل حقا أنا بذلك قد تخلصنا من كل الصعوبات؟ لقد آن الاوان لأن نعود إلى الطفل وأن نقارن النظريات التي كنا نناقشها مع نتائج بحثنا السابق. ونستطيع أن نلخص الموضوع في كلمتين فنقول: إن نظرية بوفيه تظهر لنا متطابقة مع الحقائق المتصلة بنقطة البداية في أخلاق الطفل ولكنها حين تتصل بتطور الضمير عند الطفل فإن الطريقة الوحيدة التي نتبعها لنكون أمناء على روح هذه النظرية هي أن نوسعها وأن نميز بين نوعين من الاحترام.
>>>>>>>>>>>>>>
الحكم الأخلاقي لدى الطفل – 58
وتواجهنا هنا صعوبة تشبه تمامًا تلك التي أثارتها وجهة نظر دوركايم ونعني بها الطرف الذي يكتفي بنفسه لتأييد التوازي بين وجهتى النظر. إذا كانت كل واجبات الطفل تأتى من شخصيات أسمى منه فكيف يتمكن هذا الطفل يومًا ما أن يكون ذاتي الضمير؟ فما لم ندع قيام شيء أكثر من أخلاق الواجب الخالص فإن مثل هذا التطور لا يمكن تفسيره . فمادام مضمون هذه الواجبات يطابق في وصفه القواعد التي يقبلها الآباء أنفسهم فإنه يستحيل أن نرى كيف أن أخلاق الواجب قد تمنح الطفل يومًا ما السلطة لتنقيح هذه القواعد ونقد آبائه. ونحن نرى أن تكوين “مثل أعلى” داخلي، أي أخلاق الخير، هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يؤدي إلى قيام هذه الظاهرة. والآن هل التعارض بين المؤثرات التي يتسلمها الطفل يكفي هو وتداخل العقل لشرح ظهور المثل الأعلى؟ الظاهر أنها لا تكفى. فمن السهل أن نرى كيف أن العقل قد يدعي الحق في تحديد واجباته بوضوح وتعميم محتوياتها، وباختصار فى صقل مادة الأخلاق وتقنينها، وذلك تحت تأثير المتناقضات التي ترجع إلى الأوامر التي يتداخل بعضها في بعض. ولكن على أساس نظريات بوفيه فإن العقل لا يستطيع أن يقرر شيئًا؛ فهو يتكلم بصيغة الدليل لا بصيغة الأمر. وباختصار فليس هناك طريقة خارج الغيرية يمكن أن ينتسب إليها التصرف، في الأوامر حتى لو كان هذا التصرف معقدًا. فالطريق الوحيد للوصول إلى الذاتية هو أن نعزو للعقل قوة تشريعية. ولكن بوفيه ترك الباب مفتوحًا بل ودعانا لتوسيع تحليلاته، وهو في هذا يخالف دوركايم الذي فعل كل ما في وسعه ليجعل نظامه كلاً مستكفيًا بنفسه. فبوفيه لم يكتف بالتمييز بين الإحساس بالواجب والإحساس بالخير دون أن يحاول تبعًا لذلك أن يوحد بين هاتين الحقيقتين غير القابلتين للنقصان، ولكنه قد عارض احترامه لنا على شكل علاقة بين شخص وشخص آخر قادر على القيام بعمليات توفيق مختلفة؛ فقد دعانا لأن نفكر في الاحترام كاحترام تنوع في سياق الحالات النفسية المحسوسة.
هذا هو السبب في أنه إلى جانب الاحترام البدائي الذي يشعر به الأدني تجاه الأعلى أو كما أطلقنا عليه “الاحترام من جانب واحد”، فقد استطعنا أن نميز احترامًا “متبادلاً يتجه نحوه الفرد حين يدخل في علاقة مع نظرائه أو حين يصبح رؤساؤه نظراءً له”. أما عنصر الخوف الذي يلعب دورًا في الاحترام المتبادل فإنه في هذه الحالة يبدأ في الاختفاء ليحل محله الخوف الأخلاقي الخالص من أن يسقط اعتباره في نظر الشخص الذي يحترمه فالحاجة إلى أن يكون محترمًا إذن تفوق الحاجة إلى أن يحترم، والتبادل الناتج من هذه العلاقة الجديدة يكفي للقضاء على عنصر القسر. وفي الوقت نفسه تضمحل الأوامر وتتحول إلى اتفاق متبادل وقواعد قد اتفق عليها اتفاقا حرًا، ولذلك فقدت صفة الالتزام الخارجية. ليس هذا وحسب، فما دامت القواعد قد أصبحت الآن خاضعة لقوانين التبادل فإن هذه القواعد نفسها المعقولة هي التي سوف تصبح القواعد الحقيقية للأخلاق. ومن هنا فإن العقل سوف يتحرر فيضع خطته العملية باعتبار أنه ما زال معقولاً، أي ما زالت مطابقته الداخلية والخارجية مصونة، بمعنى أن الفرد قادر على وضع صور تتفق مع الصور الاخرى. وعلى هذا فإنه من الذاتية والغيرية تخرج الذاتية منتصرة.
ولكن هل نحن في حاجة لأن نعقد الأشياء على هذا النحو؟ وهل كانت لغة بوفيه كافية لوصف هذه الحقائق؟ فلنحاول ترجمة ملاحظاتنا إلى اصطلاحات الاحترام البسيطة (من جانب واحد) لنرى ما إذا كانت مصطلحاتنا الثنائية لها ميزة أم فيها عيب؟ فلنتصور حالة طفلين في سن واحدة وكل منهما ينتمي إلى مرحلة تقنين القواعد وصفاتها الأساسية قد لاحظناها واضحة حوالى سن 11. حقا إن كلاً من هذين الطفلين بينما نجده يحترم شخصية الآخر فإنه قد يتفوق بدوره على زميله، وبذلك تتفوق كرامته ولو مرة واحدة. وهكذا نجد أن ليس هناك مساواة تامة إلا في عالم النظريات والمثل العليا. ونستطيع إذن أن نصف حقائق الاحترام المتبادل على النحو الآتى :
1- أصدر “ا” أمرًا إلى “ب”.
2- قبل “ب” هذا الأمر لأنه يحترم |أ” ( احترام من جانب واحد ).
3- ولكن “أ” وضع نفسه من الناحية العقلية في مكان “ب” ( وهذه حقيقة جديدة تبين الانتقال من مركزية الذات إلى المراحل التالية )
4- “أ” إذن يشعر بأنه قد ارتبط بالأمر الصادر إليه من “ب”.
أكثر من ذلك فإن واجبات الإنسان نحو نفسه كما أنها تتجه لواجبات الإنسان نحو غيره، وهذا يجره إلى نوع من التحويل فكذلك كل نوع من الاحترام المتبادل يمكن أيضاً أن يعزى إلى سلسلة من التحويلات حدثت في الاحترام الجانبي. فالاحترام وقد كان مقصورًا أول الأمر على الآباء قد يحول الطفل إلى الراشدين عمومًا ثم إلى الكبار من الأطفال، وأخيرًا إلى معاصريه. وعلى ذلك فإن مضمون الواحد قد يتسع بالتدريج حتى يشمل كل الأفراد بما فيهم هو نفسه. وعلى ذلك فإن جميع أشكال الاحترام باعتبارها مصادر للالتزام الأخلاقي أن تشتق من الاحترام الجانبي وقد تجد لصفاتها المشتركة شرحًا في الموضوع الأصلي لهذا الاحترام البدائي.
فهذه الدراسة من غير شك لها ميزتها في تأكيد الوحدة الوظيفية لظاهرة الاحترام ولنفس السبب قد يضاف إلى ذلك أننا نميل إلى أن نقرب أخلاق الخير وأخلاق الواجب دون أن نخلط بينهما؛ فالواجب يقوم كلما وحيثما وجد الاحترام والأوامرلةوكذلك القواعد. أما الإحساس “بالخير” فهو نتيجة نفس الميل النفسي الذي يدفع الأفراد لأن يتبادلوا الاحترام وأن يضع كل منهم الآخر في داخل عقله. وقد ميزنا فيما يتعلق بالتعاون والاحترام المتبادل قواعد “منظمة” تنتج من الاتفاقات المتبادلة ومستويات “مرتبة” أو قواعد تساعد على وصف القوانين الفعلية للتبادل. والقواعد المنظمة عند بوفيه أيًا كان مستوى الاحترام الذى تقع فيه ليست سوى واجبات، أما القواعد المرتبة فهي تحدد معنى الخير.
وهذه الترجمة لنتائجنا بلغة بوفيه تكفي للدلالة على أن بحوثنا إلى حد كبير جدًا هي امتداد لبحوثه، وعلى أن الاختلافات الظاهرة بيننا هي مسألة لغة فقط. ولكن هذه الترجمة على أساس إمكان حدوثها فإنها تؤدي إلى نتيجة يهمنا بنوع خاص أن نؤكدها؛ وهي الاختلاف النسبي في الأصل بين الواجب والخير. فبوفيه يعرف حق المعرفة ألا شيء في الشكل العقلي للواجب يجبر مضمونه لأن يطابق الخير. فالواجبات ليست إلزامية بسبب مضمونها ولكن بسبب أنها صدرت عن أفراد محترمين ولذلك قد توجد واجبات لا شأن لها بالأخلاق (وقد ذكر بوفيه التزامات العادة) كما أن هناك واجبات لاأخلاقية (باعتبارها تناقض أخلاق التبادل). فالفرد الذي يطيع مثل هذه الأوامر هو بلا شك قد خبر الإحساس بعمل الخير مادام يحترم شخص آخر ويخضع لشخص آخر لأنه يحترمه، ولكن هذا لا يؤدي إلى قيام قيمة للأوامر الصادرة من فرد محترم. إذن, فإذا كان علينا أن نميز من جهة الاحترام الجانبي كمصدر للواجبات التي مضمونها في أساسه غريب عن الخير (وإن كانا يتفقان طبعًا في الحقيقة الفعلية). من جهة أخرى فالأمثلة الأخرى للتبادل الذى يصف الخير ذاته كما يظهر لإدراك الأخلاقي قريبًا أو بعيدًا إذا كان علينا أن نميز بينهما ألا يكون من الأفضل أن نفصل تحت اسم (الاحترام) المتبادل هذا النوع الخاص من الاحترام الذي يتميز بصفة خاصة هي التي تكون الإحساس بالخير. فإذا اعتبرنا الخير الأعلى النحو المثالي الأفلاطونى فذلك يجعله غير معقول من الناحية السيكولوجية، بل على اعتباره شكلاً من أشكال التوازن الحال في العقل. فمن المرغوب فيه عندنا أن نميز في النوع بين الاحترام من جانب واحد الذي يؤدي إلى معرفة القواعد الغيرية الاحترام المتبادل الذي لا يعرف قانونًا سوى تبادله هو نفسه والذي يؤدي لذلك إلى تكوين قواعد تقوم بوظيفتها في داخلها هي نفسها. ونستطيع أن نقول إنه إذا كان “أ” يحترم “ب” وبالعكس فذلك يرجع إلى أن “أ” كان من أول الأمر محترمًا عند “ب” ثم وضع نفسه في نفس وجهة نظر “ب”. ولكن هذه عملية جديدة تمامًا في علاقتها بالاحترام الخالص البسيط، ذلك أنه لو أن “ب” يحترم “أ” دون أن يحدث تبادل في نفس الإحساس فإنه يعتبر كل الأوامر الصادرة من “أ” إليه واجبات مهما كانت تعسفية ومهما كانت غريبة عن قوانين التبادل، ولكن بمجرد أن “أ” يوحد نفسه أخلاقياً مع ” ب ” . وبذلـك يخضع وجهة النظر التبادلية فإن نتيجة الاحترام المتبادل تكون شيئًا جديدًا لأن القواعد التي يسمى بها بعد الآن ستكون بالضرورة موضوعة في داخل هذا التبادل نفسه.
والواقع أن آثار الاحترام من جانب واحد والقسر بين الأفراد يمكن أن نعثر عليها في كل مكان؛ فالمواساة لا تقوم (1) إلا من الناحية النظرية وهذا ينطبق أيضًا على الاحترام المتبادل إذ لا يمكن أن نجده خالصًا ولا غير متأثر بالراشد ولكنه حالة مثالية للتوازن الذي يقترب منه الاحترام من جانب واحد كلما مال عدم المساواة في السن والسلطة الاجتماعية إلى الاختفاء. وعلى أساس وجهة النظر هذه نجد أن لغة بوفيه تبدو أدق من لغتنا من غير شك. ولكن ذلك على حساب صعوبات خاصة في نقط أخرى. فما هو “التحويل”؟ وهل نستطيع فعلاً أن نقول إن الإحساس يبقي متحدًا مع نفسه في الوقت الذي يكون غرضه قد تغير؟ ألسنا مخدوعين حين نفترض استمرار ميل فى خلال تاريخه وتغيراته؟ أليس من المستحسن أن نعرف الحقائق النفسية داخل النطاق الذي تقوم فيه في لحظة معينة من لحظات تطورها؟ لمعرفة النسب الصحيحة التي تتوزع بها العوامل المعاصرة لابد من التمييز بين الظلال الدقيقة، ولابد من أن نعمل حسابًا للفروق مهما كانت ضئيلة. ويري بوفيه أن الاحترام المتبادل نظرًا لأنه مشتق من الاحترام من جانب واحد فهو يبقى إلى حد ما متحدًا معه، أو على الأقل يستمر معتمدًا عليه، أما نحن فنرى أن الاحترام المتبادل نظرًا لأنه يدخل في نظم مختلفة من نظم التوازن فإنه يستحسن أن يتميز عن النوع الجانبي.
والنقطة الجوهرية في هذه المناقشة كلها هي الآتية : ليس من المهم أن يكون الاحترام المتبادل والتعاون هما حالتان حقيقيتان محدودتان للتوازن وإنما المعاونة المجدية التي يقوم بها التعاون في تطور الشعور الأخلاقي هي بنوع خاص أنه يميز بين ما هو كائن وما هو ينبغي أن يكون بين الطاعة الفعلية والاستقلال المثالي عن أي أمر حقيقي؛ فلو أن الاحترام الجانبي والقسر الاجتماعي كانا يعملان منفردين فإن الخير الأخلاقي لم يكن ليتم إلا في أشكال غير تامة بل وغالبًا غريبة حددتها له واجبات المجتمع القائم ونظمه. أما التعاون والاحترام المتبادل فنظراً لأنهما يشتملان على قواعد مستقرة لم يحدث أن قضت عليها القواعد “المركبة” فهما لذلك يقومان بدور لا يمكن أن يحل فيه غيرهما ألا وهو دور الوساطة، كما أنهما يحددان النمو الأخلاقي. وعلى أساس وجهة النظر هذه لا نجد ضرورة لتحديد أي نقطة تنحرف هذه الحقائق عن القسر والاحترام الجانبي فعلاً. والشيء الوحيد الذي يجب أن نتذكره هو أنه سيكولوجية قواعد المراحل المتتالية ليست هي كل شيء فالالتجاء نفسه، أو كما يقول لالاند Lalande “الموجه”، يقوم بدور أكبر من أي شيء سواه. في هذا الموضوع نجد أن الفروق الاصطلاحية والتي تفصل بيننا وبين بوفيه لا تؤثر بأي حال في اتفاقنا الأساسي في الطرق وفي النتائج.
(1)وفى هذه النقطة نستطيع أن نشير على القارئ بقراءة المناقشة التى قمنا بها مع بلوندل Blondel فى ( الجمعية الفرنسية للفلسفة ) انظر ص 120-3 Bull.Soc.franc phil , 1928
#كمال_شاهين