الحكم الاخلاقي لدى الطفل 30
تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence
الحكم الأخلاقي لدى الطفل – 54
فيجب أن يدرس الإنسان مثلاً تطور رجل من رجال التربية ممن مارسوا هذه المهنة منذ الميلاد من مثل اندرسن Anderson ليري كيف أن هذا الناظر الذي كان أول الأمر من أكبر المشايعين للسلطة الصارمة، بل العقوبة الجثمانية، فإذا به في النهاية يدخل الديموقراطية ونظام الزمالة في مدرسته الداخلية (2). لهذا فنحن لا نتفق مطلقا مع دوركايم في رأيه القائل بأن مهمة المدرس أن يفرض أو حتى أن “يظهر القواعد للطفل. فآخر ما ينبغي أن يكونه المدرس هو أن يكون “قسيسًا”، بل ينبغي أن يكون “زميلاً” كبير السن ورفيقا بسيطا للأطفال. بهذه الطريقة وحدها يمكن أن يظهر النظام الحقيقي, وهو النظام الذي يريده الأطفال أنفسهم ويوافقون عليه. وكل رجل من رجال التربية ممن قاموا بتجارب حقيقية قد وصلوا إلى هذه النتيجة. فالإحساس بالقانون العام الذى وجدناه عند الأطفال في سن 9-12 فيما يتعلق بقواعد اللعب يبين لنا بكل وضوح درجة القدرة على مزاولة النظام والحياة الديموقراطية إن لم يكن قد حكم عليه بأن يقع في حرب مع السلطة.
حقيقة أن مشكلة النظام مرتبطة بمشكلة التربية الوظيفية في جملتها، فالذاتية والنظام الذاتى يمكن أن يقوما في فصل مادام العمل يستنفد الجزء الأكبر من قوة الطفل الابتكارية ونشاطه. فإذا كان الاهتمام كما هو عند ديوي مشاركا “للذات” في العمل الذي يتم، فمن الواضح أنه ضروري ليشارك في النظام لقيام نظام ذاتى. ففي مدرسة النشاط وحدها، أي في المدرسة التى لا يجبر فيها الطفل على العمل عن طريق القسر الخارجي بل يقوم فيها بالعمل بدافع من إرادة حرة (فالعمل الذي يتم في كل من الحالتين يختلف تمام الاختلاف من الناحية السيكولوجية). وفي هذه المدرسة بالذات نجد الطفل يستطيع أن يفهم معنى التعاون والديموقراطية في الفصل. والواقع أن الأساس الذى قامت عليه مدرسة النشاط هو الذي يحاربه دوركايم في تنفيذه لآراء مونتين وتولستوى Montaigne & Tolstoi وقد استغل في هذا العمل القاعدة التقليدية التي تقول إن الحياة ليست لعبًا وإن طريق اللعب ليس هو الطريق الذي يدفع إلى بذل المجهود.
ولكننا الآن وبعد أن أنشئت مدارس النشاط في أوربا وأمريكا لم يعد من المستطاع أن نسير وراء هذا الجدل، فكل مدرس مجرب أقام تجربته في ظروف مناسبة قد لاحظ – كما لاحظ معه أي إنسان يراقب طفل خارج أوقات المدرسة – أن الطفل إن كان مهتمًا بما يعمل فهو قادر على بذل أقصي الجهود التي تحتملها قدراته الطبيعية. ونستطيع هنا أن نضع المشكلة في نفس الموضع الذي كان لها قبلاً ولكن على الصورة الآتية:
من هو الرجل الذى يصبح قادرًا على القيام بأكبر نشاط في هذه الظروف نفسها التي لا تكون فيها الحياة لعبا؟ هل هو الرجل الذي تعلم كطفل أن يستغل مجهوده الاختياري أم هو الرجل الذي لم يعمل قط إلا مطيعاً لأمر؟ إن لنا في هذه المناسبة ذكريات قيمة ، ففي فصل من فصولنا – فصل صغير في بلد صغير في سويسرا – كان يوجد، كما هي العادة في كل الفصول، عدد قليل من الأطفال الكسالى, وعدد قليل من المتفوقين والدؤوبين على العمل, وقليل ممن كانوا يعملون في منازلهم في كل الأشياء التي تتركز فيها اهتمامهم، مثل الكيمياء, وتاريخ الطيران, وعلم الحيوان, واللغة العبرية, وكل شيء ما عدا تلك النصوص الخاصة بالمنهج. أما الأولاد المثابرون على العمل الذين لم ياخذوا الحياة المدرسية لعبًا، فبعض منهم أصبح من الموظفين المدنيين، أما الآخرون فقد اشتغلوا في وظائف أكاديمية صغيرة، وهكذا لا يمكن اعتبارهم الآن نماذج للنشاط الفعلي. وقد حدث مثل هذا للكسالى إن لم يكونوا قد اختفوا تماما. أما المتوسطون الذين كان يقال لهم في أثناء حياتهم المدرسية إنه “لو أنكم صرفتم فقط في واجباتكم المدرسية ربع الوقت الذي تصرفونه في أعمالكم الشخصية لأصبحتم متفوقين” فقد انتهى بهم الأمر أن خصصوا كل وقتهم لأعمالهم الشخصية وحالتهم الآن سيئة لأن نشاطهم لم يمتد حتى يتسع لكثير من فروع العلم التي ظلوا على جهل بها. وينبغي أن نضيف إلى ذلك أنه من بين مدرسينا من يقتصر على فهم هذا الاتجاه العقلي، بل شجعوه واستخدموه. وهؤلاء كانوا حقا كرفاقنا الكبار ممن زادوا فى معارفنا لأنهم كانوا يتبعون طريقة اقتراح كل شيء وعدم فرض شيء بالمرة.
باختصار, فإن المجهود كأي حالة من حالات السلوك، يحتاج إلى أن ينضج، أما البدائية ولو أنها تختلف عن النتيجة النهائية التي تلقي وحدها تأييدًا من أخلاق الراشد (1) فربما لا يمكن الاستغناء عنها في النمو العادي للفرد. لذلك فليس من إضاعة وقت الطفل أن نتركه يتعود بنفسه على العمل وعلى النظام الذاتي، فالذي نلم به في الميدان الأخلاقي أو فى الميدان العقلي هو الذي نبذل الجهد في الحصول عليه بأنفسنا، وإذا أردنا أن يحصل الطفل على الرغبة في العمل على إعادة بذل الجهد فيجب أن نعمل حسابًا لاهتماماته والقوانين الخاصة بنشاطه، كما يجب ألا نفرض عليه من أول الأمر من المسائل والطرق الشيء الكثير كالذى عندنا. أكثر من ذلك فهل حدث في حياتنا أن حملنا مجهودًا يمكن مقارنته بذلك الذي نطالب به الطفل؟ إن الالتزامات الشاقة التي تفرضها علينا الحياة العادية، أو الأعمال الشاقة التي قد تفرضها ظروف استثنائية لا تدع مجهودنا يسير إلا إذا قبلناها، ونحن لا نقبلها إلا إذا فهمناها فعلاً. وهذا شيء يختلف تمامًا عن الطاعة التي لا معنى لها والتي ندعي أنها إعداد صحيح للحياة والتي كثيرًا ما تضع أسس الثورة أو السلبية. وليس معنى هذا أن أحسن طرق التدريس تقوم على ترك الأطفال يعملون ما يريدون، أو أن غرائز الفرد سوف تدفعه إلى بذل الجهد, والعمل, والنظام. فقيام العمل والنظام يتطلب حياة اجتماعية منظمة، وقد كان دوركايم محقاً تمامًا في هذه النقطة، ولكن أسس هذه الحياة الاجتماعية يمكن أن توضع دون استبداد أو قسر. فالمدرسة في نظر دوركايم هي ملكية قامت على أساس الحق الإلهى، وقد رأينا أن الأطفال قادرون علي الديموقراطية وميول الشباب يجب أن تستخدم لا أن توضع بشكل يقاوم سلطة الراشد كما يحدث كثيرًا في الحياة المدرسية أو في أحلام المراهقة.
وعلى هذا فإن موضوع العقاب كله في حاجة إلى مراجعة، فالعقوبة التكفيرية عند دور كيم ضرورية لأنها رمز التأنيب . ولكنا هنا نواجه على الأقل نقطتين في حاجة إلى بحث أدق: من يستحق اللوم هل هو المدرس أم المجتمع؟ وهل حقا من الضروري أن اللوم يجب أن يرمز له بألم تكفير.
أما بالنسبة للنقطة الأولى فإن المربين ممن طبقوا الحكم الذاتي يميلون إلى أن يحلوا بالتدريج العدل الجزائي الذي يقول به الأطفال أنفسهم محل عقوبة الراشد. وإن المرء في حاجة إلى قراءة تقارير مناقشات هؤلاء الأطفال وأحكامهم لكى يكوّن رأيًا بالتقدم الهائل الذي تدل عليه هذه المستحدثات. أما بالنسبة للصفة النفسية للعقوبات فهل يجب أن نوافق بدون جدال على أن الألم التكفيري ضروري كرمز للتأنيب ولإحياء ضمائر الناس. حتى لو سلمنا بأن الرمز ضروري بالنسبة لأولئك الذين يعجزون عن فهم العقاب فإنه يفقد كل معنى لدى أولئك الذين يفهمون الأسباب. أكثر من ذلك, فإن العقوبة إن لم يكن لها أي علاقة أخرى بالعمل الذي تعاقبه سوى تلك العلاقة القائمة على أنها علامة بسيطة فإنه يصبح دائماً “جائرًا” في محتواه، وهذا بالضبط ما لا يوافق عليه العقل وما يود أن يتجنبه أولئك الناس الذين يريدون أن يجعلوا العقوبة هي النتيجة الطبيعية للعمل. حقيقة إن دوركايم يعارض مثل هذه النظرية على أساس أن النتيجة الطبيعية للعمل هي عدم الموافقة، وبالتالي العقوبة التي أثارتها، ولكن هذا يؤدي إلى اتساع المعنى المقصود بلفظ “طبيعي” فإن الإنسان يستطيع أن يقول بالتالى إن النتائج الطبيعية للعصيان هي غضب المدرس واللكمات الناتجة التى يصبها، ولعل هذا آخر شيء يقره دوركايم, فدوركايم يقصد بلفظ “طبيعي” استجابة اجتماعية محدودة وهي استجابة حددتها أحكام القيمة الأخلاقية, وهي هذه الحالة. فهل يكون طبيعيًا أكثر أن نقتنع بلصق اللوم دون أن ترمز إليه بألم تعسفي أو نقنع أنفسنا بالعقوبات المتفقة مع أخلاق الاحترام المتبادل مثل العقوبة المتبادلة. باختصار, فإن دوركايم يلفت نظرنا هنا – كما في حالات كثيرة – إلى أنه يحاول بطريقة مصطنعة أن يقوي الوحدة الأخلاقية القائمة بين السلطة والأخلاق المعقولة. ومن هنا قامت محاولاته في حماية فكرة التكفير التي لا يمكن لأخلاق التعاون إلا أن ترفضها على اعتبارها غير مادية ولا أخلاقية. وإذا اخذنا رأي الأطفال أنفسهم – وهذه هي الطريقة الوحيدة الممكنة عند عالم النفس الذي يريد أن يدرس القوانين التي تتحكم في التطور الأخلاقي للشعور لا مجرد وضع أخلاق على أساس استدلال عقلي – واعتمدنا على هذا لوجدنا أن أعدل عقوبة في مرحلة التعاون هي التي تقوم على فكرة التبادل.
والآن نعود إلى بحث دوركايم، فهل هذا النوع من العقوبة كاف “لتأمين” ضمائر الناس وليرمز إلى التأنيب؟ إن العقوبة التبادلية بدلاً من أن تكون رمزًا تعسفيًا فإنها تكون “مدفوعة” عن طريق محتوياتها الخاصة. أما عن ضمير الأطفال فإنه يكون أكثر اطمئنانًا فيما يتعلق بسلطة القواعد نظرًا إلى أنه في حالة العقوبة التبادلية نجد أن هذه السلطة تأتى لا من وحي الراشد بل تأتي بكل بساطة من الاحترام المتبادل والذاتي وحده.
(2)أنظر Welles . Un grand Education moderne Sandersor .
Frad . M. Butts , Paris ( alcan ) 2 me éd .
(1) Claparéde ( Psychologie de l’enf ant et Pédagogie experimentale, فقد وفى هذا الموضوع من الكتابة 7e éd P. 486, 509)
#كمال_شاهين