الحكم الاخلاقي لدى الطفل 6
تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/Islamijurisprudence
الحكم الأخلاقي لدى الطفل – 26
5- خاتمة : الواقعية الأخلاقية
يجب أن نحاول الآن أن نجد المكان الذي تشغله نتائجنا في الحياة الأخلاقية للطفل ككل وذلك بإرجاع الأشياء إلى أصولها التي أفسدتها بالضرورة طريقة الحوار. فهناك مستويان للنشاط لابد من تمييزهما في التفكير الأخلاقي : أولاً التفكير الأخلاقي الفعلي, وهو الخبرة الأخلاقية. وهذه تتكون شيئًا فشيئًا أثناء العمل كلما اتصل الإنسان بالأشياء وبمناسبة الخلافات والمنازعات. فهذه هي التي تؤدي إلى تكوين أحكام معيارية ترشده في كل من هذه الحالات الخاصة التي تصادفه في طريقه، كما ترشده في تقييم أعمال الناس إذا كان الأمر يعنيه مباشرة أو بطريق غير مباشر. وكذلك هناك تفكير أخلاقي نظري أو لفظى يرتبط بالنوع الأول بكل أنواع الروابط ولكنه منفصل عنه كانفصال التفكير عن العمل الواقعي. هذا التفكير الأخلاقي النظري يظهر كلما حكم الطفل على أعمال الناس التي لا تعنيه مباشرة, أو عندما يعبر بمبادئ عامة عن تصرفاته المستقلة عن أعماله الفعلية.
والتحليل الذى قمنا به عن أحكامه على المسؤولية ينصب على الناحية النظرية فقط من تفكير الطفل الأخلاقي وليس بأي حال متصلاً بتفكيره الواقعي الشخصي، وذلك بعكس بحثنا عن قواعد اللعب ذلك البحث الذي راعى ناحيتي الموضوع معًا. ولكن إذا راعينا فقط المستوى اللفظي فإن النتائج التي وصلنا إليها تبدو منسجمة نسبيًا ودون أن نشير إلى أن مستويات مما يمكن أن نسميها حقيقة يلي كل منها الآخر في ترتيب معين فإننا نستطيع أن نحدد عمليات لكل منها ميزتها التي تميزها عن الأخرى. وهذه العمليات قد تمتزج أو تتداخل قليلاً أو كثيرًا في حياة كل طفل ولكنها رغم ذلك تبين أقسامًا كبرى للنمو الأخلاقي. فنحن نرى مثلاً من الناحية الأخلاقية النظرية عند الطفل قد تخضع إما للأسس التي تقوم على أساس الاحترام من جانب واحد (الأخلاقية الغيرية أو المسؤولية الموضوعية) أو لتلك الأسس التي تقوم على أساس الاحتـرام المتبـادل (الأخلاقية الباطنية والمسؤولية الذاتية). ولكن المشكلة التي تبدو لنا والتي لمسناها حالاً أثناء إشارتنا البحث في افتتاحية هذا الفصل هي : ما هى صلة هذه النتائج بتفكير الطفل أو التأثير على أخلاقه؟ يحتمل أن يكون لهذه المشكلة حلان، فقد يكون التفكير اللفظي هو تحقيق شعوري تدريجي للتفكير المحسوس وفي هذه الحالة تكون الواقعية الأخلاقية التي صادفناها والتي درسناها مرتبطة بالواقعية الأخلاقية التي تعمل فعلاً في الدائرة العملية, وهي واقعية لابد أن يتركها الطفل وراء ظهره بمجرد أن يبدأ حديثه عنها من الناحية النظرية, ولكنها واقعية لابد أن تؤدي إلى قيام ردود أفعال تلقائية واضحة في الأعمال المحسوسة, وقد نستطيع القول بأن هذه الاخلاقية اللفظية التي لاحظناها واضحة لا صلة لها إطلاقًا بالتفكير الفعلي للطفل, وعلى ذلك فلا يمكن أن تظهر عند الأطفال أي واقعية أخلاقية في قراراتهم أو أحكامهم الشخصية, فكلما صادفوا في حياتهم أكاذيب شبيهة بالأكاذيب عن الكلب الذي بلغ حجم البقرة أو الولد الذي ادعى أنه حصل على درجات عالية حتى يحصل على جائزة فلابد ألا يتمهلوا في اعتبار الثانية أسوأ من الأولى, وفى هذه الحالة يكون التفكير اللفظي وحده كافيًا لإيجاد حالة ببغائية لا علاقة لها بالأعمال الماضية أو الحاضرة.
والآن لنجلو ناحية غامضة, فهذا الحل الثاني يساوي قولنا إن الحوار هو سبب الاضطراب كله, فالطفل في حياته يقابل باستمرار مواقف مماثلة لتلك التي وصفناها في حوارنا, فهو يستمع إلى ما يقال عن سيئات أصدقائه, وتتاح له فرصة الحكم عليها بالسماع. على أن الظاهرات الشبيهة بما وصفنا قد تحدث فعلاً بشكل تلقائي. وبالمثل قد ترتبط النتائج الخاصة بظاهرة الإحيائية (1) أو الاصطناعية تلك النتائج التي حصلنا عليها من تقابل العبارات التي كثيرًا ما نسمعها من أفواه الأطفال (انظر R.M) ولكن هذا معناه فقط تأجيل المشكلة إلى مستوى أبعد. ولا زلنا نواجه السؤال الآتي فيما يتعلق بالتفكير اللفظي التلقائي – هل تشمل أو لا تشمل الوصول إلى الشعور في شكل من أشكال التفكير المؤثرة.
الواقع أننا نؤمن أنه حتى عند الطفل نجد أن التفكير الأخلاقي النظري هو عبارة عن وعي متزايد تدريجيًا بالمسألة الأخلاقية الحقيقية. ولهذا فإنا نظن أن النتائج التي سبق أن وصفناها ترتبط لحد كبير بالحقائق الأخلاقية الواقعية، ولكن العلاقات بين التفكير والناحية العملية هي أبعد ما يكون عن أن تكون شيئًا بسيطًا كما يعتقد عادة. ولهذا كان من الضرورى أن نوجه بعض العناية إلى هذه النقطة لكي نفهم المجال الحقيقي الذي ينبغي أن نناقش فيه نتائجنا أولاً. إن كلاباريد قد أوضح ذلك جليًا حين قال إن الوعى بالأمور يقلب ترتيب ظهورها، فما كان أولاً من ناحية العمل يصبح آخرًا من حيث الوعى به. وإذا كانت الواقعية الأخلاقية تبدو فى شكل ظاهرة حقيقية أولية في المستوى اللفظي فليس من الثابت أنها كذلك في المستوى العملي نفسه. ففكرة الخير التي تبدو عادة في وقت متأخر عن فكرة الواجب الخالص وخصوصاً فى حالة الطفل كونت الذي كان في منتهى الوعي بما هو شرط أولي للحياة الأخلاقية ألا وهو الحاجة إلى الخير المتبادل. أما الواقعية الناتجة على العكس من ذلك من الضغط الذي يسلطه الكبار على الصغار فربما كانت ذات تكوين ثانوي بالقياس إلى مجرد النزوع إلى الخير مع أنها في الوقت ذاته تكون الفكرة الأولى التي يعنى بها الفكر الأخلاقي عند محاولاته القيام بالتفكير الأخلاقي وصياغة أحكامه.
وثانيًا فإن الإدراك (الوعي) ليس مجرد إلقاء الضوء على التصورات ثم تكوينها من قبل بل إنه تكوين جديد ومن ثم فهو تكوين مبتكر ومنبسط فوق التركيبات التي كونتها الناحية العملية ولهذا إنها تظهر على المسرح في وقت متأخر عن النواحي العملية الخالصة. ومن هنا جاءت فترة التخلف التي قال بها شتيرن والتي وجدناها في كل ناحية من نواحي تفكير الأطفال (1). فلو أن هذه الواقعية الأخلاقية التي لاحظناها بين 6 و 8 في المتوسط (لا نستطيع أن نكتشفها قبل 6 لأن صغار الأطفال لا يستطيعون فهم القصص المستعملة بدرجة كافية) ولو أن هذه الواقعية الأخلاقية ترتبط بشئ حاضر في النشاط الأخلاقي نفسه فإن هذه السنوات ليست هي السنوات التي يجب أن نبحث فيها عن هذا الشئ بل يجب أن نرجع إلى فترة سابقة، ذلك أن المسؤولية الموضوعية قد يكون تم التخلص منها منذ زمن بعيد في المستوى العملي ولكنها لا زالت باقية في مستوى التفكير النظري. أكثر من ذلك, فقد وجدنا أمثلة لأطفال حكموا على الحكايات التي قصصناها عليهم على أساس المسؤولية الموضوعية ولكنهم في الوقت نفسه ذكروا بعض الذكريات الشخصية التي قيموها تقييمًا يتسق تمامًا مع مقياس المسؤولية الذاتية. فإذا كان الأمر كذلك, فهل نستطيع أن نجد أثناء السنوات الأولى للنمو الأخلاقي أمثلة المسؤولية الواقعية والموضوعية التي ترتبط بالظاهرة التي لاحظناها في المستوى اللفظي؟ نحن نعتقد بإمكان ذلك.
فأول ما يجب أن نلاحظه أنه مهما تجنبنا في التربية استخدام قسر حتى في الناحية الأخلاقية فإنه ليس في الإمكان أن نتجنب تمامًا أوامر إلى الأطفال غير مفهومة عندهم. ومن هذه الحالات – وهي القاعدة في التربية التقليدية القائمة على السلطة – نجد أن مجرد قبول الأوامر بشكل لا يتغير غالبًا يؤدي إلى ظهور الواقعية الأخلاقية. ونورد هنا بعض الأمثلة التي لاحظها المؤلف على أحد أولاده, وهو طفل حاول أبواه بكل ما في وسعهما تجنب المسؤولية الموضوعية. فالملاحظات الآتية من باب أولى سوف تتضمن حصانة لأطفال ليس فيمن يحيط بهم من يعنى عناية خاصة بهذه المشكلة المعقدة للأخلاقية الذاتية والغيرية. فجاكلين لم يحدث أن عوقبت بالمعنى المفهوم من العقاب. ففي أسوأ الحالات حين ترتكب خطأ فإنا نتركها قائلين لها إنا سوف نعود إليها حين نستطيع الحديث في هدوء مرة ثانية. ولم يحدث أن كلفناها بواجب من النوع الذي نطلق عليه معنى واجب ولا طلبنا منها يومًا أن تطيعنا طاعة عمياء دون جدال مما يعده كثير من الآباء فضيلة سامية بل حاولنا دائمًا أن نجعلها تفهم سبب الأوامر بدلاً من أن نصدر إليها قواعد منسقة. أكثر من ذلك فقد كنا نعرض عليها الأشياء في ضوء التعاون “لمساعدة أمها”, “لإدخال السرور على والديها”, “لترى أختها” إلخ. تلك الأسباب التي تدفعها لتنفيذ أوامر قد لا تستطيع فهمها في ذاتها. أما عن القواعد غير المفهومة عند صغار الأطفال مثل قاعدة الصدق, فإن لفظها لم يصل بعد إلى مسامعها ولكن يستحيل في الحياة العادية أن نتجنب إيحاءات معينة ليس لها دلالات مباشرة من وجهة نظر الطفل من مثل تحديد أوقات النوم وساعات الأكل وتجنب إتلاف الأشياء وعدم لمس الأشياء الموضوعة على مكتب الأب …. إلخ. وهذه الأوامر يتقبلها الطفل ويطيعها قبل أن يفهمها فهمًا حقيقيًا, ومن الطبيعي أن يؤدي هذا إلى ظهور مجموعة من الأخلاق الغيرية مع شعور خالص بالواجب وتأنيب للضمير فى حالة مخالفة القانون إلخ. مثال ذلك أني وجدت جاكلين ذات مساء وكان عمرها سنتان, و6 شهور, و 15 يومًا مستلقية في سريرها تمزق فوطة بأن تجذب خيوطها واحدًا بعد الآخر. وكثيرًا ما تحدثت معها أمها عن سوء مثل هذا العمل إذ أنه يؤدي إلى عمل خروق لا يمكن إصلاحها إلخ . ولذلك قالت جاكلين “أواه سوف تغضب أمك”. فأجابت في هدوء, بل ومع ابتسامة خفيفة, : “نعم, إن ذلك يحدث خروقًا لا يمكن إصلاحها إلخ”. وظللت في حديثي أما هي فقد ظهر عليها أنها لا تأخذه جديًا ومع أنها كانت لا تزال تحاول إخفاء علامات التسلية بكل صعوبة فإنها فجأة قالت لى “اضحك.” في صوت مملوء بالسخرية لدرجة أني لكي أحتفظ بشكل وجهى عاديًا اضطررت إلى تغيير الموضوع. أما جاكلين فإنها مع شعورها التام بقواها الإغرائية قالت لي “والدي المحبوب”. وهنا انتهى الحديث, وفي الصباح التالي استقيظت مملوءة به وكانت كلماتها الأولى تشير إلى ما حدث في الليلة السابقة ففكرت في الفوطة وسألت أمها عما إذا كانت متألمة. وعلى ذلك فرغم رد الفعل الأول الذي ظهر فيه الكثير من عدم الاحترام فإن الألفاظ التي تفوهت أنا بها قد أدت إلى النتائج العادية. وفى مساء اليوم نفسه أخذت جاكلين تشد خيوط الفوطة مرة أخرى فكررت أمها كلمات الأسف فالتفتت الطفلة إليها بإمعان ولكنها لم تقل شيئا وبعد لحظة أخذت تصيح وتبكي حتى جاءها أحدنا, فقد كانت في حاجة إلى رؤية أبويها ثانية لتتأكد من أنهما لا يتحرقان غيظًا منها.
نحن الآن أمام مثل لأمر مصحوب أو غير مصحوب باحترام ظاهر، وقد أدى إلى ظهور إحساس واضح بالواجب والخطأ. ويبدو لنا واضحًا أن مثل هذه الإحساسات تتكون قبل أن يقوم لدى الطفل أي شعور واضح بالباعث الأخلاقي أو على الأقل قبل أن يميز ما يقوم به “عن قصد” (عمل قام به وهو يعرف الأمر ويتحداه مختارًا) وما يقوم به “عن غير قصد”. فالطفلة في سن الثانية والنصف التي تتلف فوطة الحمام من الواضح أن ليس عندها نية إحداث الضرر فهذا مجرد تجربة طبيعية. حتى لو طلبت منها أن تنصرف عن هذا الفعل فقد تنسى الأمر وتعود ثانية أو تتذكر القاعدة أخيرًا جدًا فلا تستطيع مقاومة الدافع الأول ولهذا فلن نضع سلوك جاكلين الذي وصفناه في نطاق أعمال العصيان (وهي شعورية كما عرفناها) ولن نضعها ضمن تلك الأعمال ذات القصد السيء ومع ذلك فإن الإحساس بالخطيئة لازال قائمًا. لم نلاحظ قبل سن الثالثة أي ردود أفعال تتضمن فكرة أن شيئاً “عُمل من غير قصد” لا يمكن اعتباره خطأ، فمثلاً قلت لها “أنت تعرفين أنك تقلقيننى قليلاً”, فأجابت “لا أظن” (بعبارة أخرى “أنا لا أفعل ذلك عن قصد (1)). حقًا, كانت جاكلين بعد سن الثانية وأربعة شهور تستخدم عبارات مثل “ولكنها غلطتك”, ولكن ذلك ينطبق على النتائج المادية لا على الباعث ثم إنه في هذه السن فقط أي منذ الوقت بين بدء الكلام حتى سن الثالثة يمكننا أن نلاحظ الواقعية الأخلاقية والمسؤولية الموضوعية في شكلها الخالص والتلقائي.
ولنعد الآن إذن إلى الحالات الواضحة عن المسئولية الموضوعية. في المراحل الأولى للحياة نجد أن مسألة النظافة هي مناسبة ثابتة للأحكام على المسؤولية, وإذن فما لا يحتاج إلى دليل أنه في مثل هذه الدائرة نجد أن عنصر القصد دائمًا غير موجود في أعمال الأطفال. وحتى أكثر المتعصبين لمذهب فرويد لا يستطيعون إنكار أن الطفل في سنته الاولى أو الثانية في معظم الحالات لا يستطيع أن يضبط وظائفه الجثمانية حين ينام أو حين يلعب إذ أنه لم يحصل بعد على وسائل الضبط الجثماني الضرورية. وعلى ذلك فإن حالات القصد أو حتى المقاومة – اللاشعورية – لقواعد النظافة غير موجودة. ولكن رغم أن رد الفعل هنا أتوماتيكي خالص ومع ذلك فإن الآباء عادة يطلبون من أطفالهم أن يكونوا حذرين. وحين يحدث الحادث فمن الطبيعي أن نجدهم يبدون استياءهم. باختصار, فمهما حاول المرء أن يصوغ الموضوع صياغة دقيقة فلابد من قيام الأوامر وبالتالى واجبات. هذا والغريب في الموضوع أن الإحساس بالخطيئة لا ينسب إلى الإهمال العرضي (من مثل حين ينسي الطفل أن “يسأل” إلخ) ولكنه ينسب إلى الأعمال الجثمانية نفسها.مثال ذلك جاكلين في سن سنة, و11 شهرًا, و28 يوماً كانت قد أخذت مكانهافي السرير وتعاطت دواء كانت تعرف آثاره ولكن رغم تحذيرات أمها التي وجهت بنوع خاص نحو تجنب أى رد فعل للخجل أو الذنب فإنا وجدنا جاكلين وقد استولى عليها الاضطراب حين أخذ الدواء يقوم بعمله فبدا على وجهها الحزن وامتلأت عيناها بالدموع وتهدلت شفاها وقامت بكل الانفعالات التي كانت ستقوم بها لو أن هذا الشئ حدث في ظروف عادية نتيجة إهمالها هي.
ولكن يجب ألا نفهم من ذلك أن هذه الدائرة الخاصة هي الوحيدة المناسبة للنمو التلقائي للمسئولية الموضوعية. فأي قاعدة تتضمن تطبيقًا ماديًا تسمح بنفس هذه الانحرافات. وهناك مثال آخر يرتبط بالطعام والقواعد المتصلة به.وقد ظلت جاكلين فترة ما وهي تتمتع بشهية محدودة للغاية وكانت نتيجة ذلك أنه في هذه الفترة من حياتها كانت القواعدة الأساسية للعالم الذي تعيش فيه هي تلك الخاصة بالطعام. فكانت أوامر هذا العالم الذي تعيش فيه هي : أن تتناول قدحًا من الكاكاو في الرابعة, وطبقًا من الخضراوات وسط النهار قليلة من (حمض الهيدوركلوريك) والماء قبل تناول الغذاء مباشرة إلخ. وبمجرد أن تقبل هذه الأوامر فإن الصحيح والخطأ يتحدان بمقدار انسجام الأعمال أو عدم انسجامهما بالنسبة لهذه الأوامر, وهذا يتم مستقلاً عن كل البواعث الممكنة أو الظروف. مثال ذلك أن جاكلين في سن سنتان، و10 شهور ، و7 أيام ، لم تكن صحتها على ما يرام, فظنت أمها أن طبق الخضار المملوء العادي قد يكون كثيرًا بالنسبة لها, وأني على يقين بأنها بعد ملعقة أو اثنتين قد بدا عليها الفتور ولكنها أصرت على أن تتناوله كله فتلك كانت هي القاعدة ولم يكن من المستحسن أن ندعها تترك الطعام فكان يبدو الإصرار فى وجهها ولو أنها لم تكن تتلذذ من الطعام، وكلما أعطيت ملء الملعقة فإنها لا تستطيع ابتلاعها ولكن حين أخذت أمها منها الفوطة طلبتها ثانية. إذن كانت ترى من الخطيئة ألا تفرغ الطعام كله وأخيرًا أمكننا أن نأخذها, وقد حاولنا أن نؤكد لها أنه ليس خطؤها فإن الناس في بعض الأيام يكونون أقل جوعًا من الأيام الأخرى إلخ, ولكن رغم كل هذه التحفظات التي قامت بها الأم فإن جاكلين أخذت وقتذاك تبكي وحتى حين حاولنا أن نريحها فإنه بدت عليها علامات التأنيب والرغبة فى النوم.
مثال آخر, في سن سنتين و10 شهور و23 يومًا كانت جاكلين تتناول (حمض الهيدروكلوريك) كالمعتاد ولكن وضع عدد كبير من النقط فى الكوب فقيل لجاكلين إنها ليست فى حاجة إلى شرب الشراب كله ومن المؤكد أنها بعد أن تناولت جرعة أو اثنتين كانت تشكو وخزًا وكانت تبدو متقززة بل وكان يبدو عليها المرض ومع ذلك كله كانت تريد أن تشرب القدح كله. وقد كررت لها أمها أن ذلك ليس ضروريًا وأخذتها من على كرسيها فانفجرت جاكلين تبكي كما لو كانت قد رتبكت خطأ وعادت إلى القدح وأصرت على شربه.
وهذان المثالان الأخيران يوضحان بكل جلاء مدى قوة وتلقائية تقييم الطفل للمسئولية الموضوعية ومن المدهش أن نجد بنتًا صغيرة لم تعرف قط ما السلطة ثم إن أبويها يحاولان أن يزرعا بذورًا للضمير الذاتي في اطفالهم ومع ذلك فإن الأوامر تؤدي إلى مثل هذه الواقعية الأخلاقية العنيدة فالقاعدة التي تأتي من الآباء تؤدي إلى تكوين إحساس بالواجب يجعل تخفيف الآباء أنفسهم لهذا الإحساس بعد ذلك عديم الأثر. حقيقة أنه في الحالات التي ذكرناها (النظافة والقواعد المرتبطة بالطعام) نجد أن الكبرياء تلعب دورًا هامًا فالولد لا يقبل الانهزام ولكن هذا الكبرياء نفسه يتضمن شعورًا حقيقيًا بالقواعد. فلو أن الطفلة لم تعتبر أن عدم تناولها لقدح الدواء كله, أو طبق الخضار, أو قدح الكاكاو, هفوة خلقية في ذاتها ما شعرت بالاحتقار حين حاولنا تخليصها من هذه الالتزامات (1).
(1)الإحيائية نقصد بها إسناد الحياة للجماد ( المترجم )
(1)انظر Bull. Soc. Francaise et Philos , 1928 P. P. 97 et seq.
(1)من المهم أن نلاحظ أن اللحظة التي تظهر فيها فكرة القصد فى لغة الأطفال الأخلاقية تتفق قليلاً أو كثيرًا مع السن الذى تبدأ فيه “لماذا ؟” الأولى. حقيقة, كما بينا ذلك من قبل (اللغة والفكر الفصل 5) أن “لماذا” الأولى ترتبط تمامًا مع الحاجة إلى الدافع الذي ينتج من الإدراك الواضح للدافع على القيام بالأعمال.
(1)ويمكننا أن نضيف فنؤكد للقارئ أن جاكلين أبعد ما تكون عن الخضوع للأوامر التي تحترمها.
#كمال_شاهين