حياة وأقوال محمد علي باشا
حياة وأقوال محمد علي باشا
لا أذكر مرة قدت فيها السيارة على طريق صلاح سالم إلا وكنت حريصًا على النظر إلى قلعة صلاح الدين الأيوبي ومسجد محمـد علي باشا وقراءة الفاتحة على روح محمـد علي باشا رحمه الله. يعود ذلك إلى عرفان شديد بالجميل لمحمد علي باشا الذي تبنى هذا البلد الذي نعيش فيه وجعله بلدًا من الممكن للإنسان أن يعيش فيه. لا يحتاج الأمر لمعرفة ما صنعه محمـد علي باشا من أجل مصر إلا لقراءة كتاب “الجبرتي” الذي يبين ما كانت عليه مصر قبل محمـد علي وما أصبحت عليه بعد محمـد علي. أخذ محمـد علي باشا بلدًا لا تختلف كثيرًا أفغانستان الآن وصنع منها بلدًا تختلف كثيرًا عن أفغانستان الآن. يكفي لبيان المعجزة التي حققها محمـد علي باشا أن اليابان أرسلت في الستينيات من القرن التاسع عشر – “التاسع عشر” – بعثة لتدرس كيف حول محمـد علي باشا مصر من دولة “متخلفة” إلى دولة “حديثة”. كانت مصر – في ذلك الوقت – قدوة للتقدم. لن أطيل كثيرًا في الموضوع, فالمسألة باختصار هي أنني أحب محمد علي باشا.
هذا الحب هو السبب في إحساسي بالحزن نتيجة القصة “الخيالية” التي تدور الآن حول حياة محمـد علي باشا, وهي قصة تتدخل فيها أطراف عديدة منها أفراد الأسرة العلوية ذاتها, فضلاً عن أفراد من أسرة طبوزادة, وأفراد من أسرة الشراكي, إضافة إلى العاملين بدار الوثائق المصرية, والعاملين بمتحف توب كابي في إسطنبول, والقائمين على عشرات الآلاف من الوثائق التي تحتفظ بها مكتبات ومتاحف أوربا وأمريكا. يصر كل طرف من هذه الأطراف – طبعًا – على صحة وموثوقية الوثائق التي تحتويها خزائنه ويصر, بالتالي, على أن أية صورة عن حياة محمـد علي باشا تختلف عن الصورة التي تقدمها وثائقه إنما هي صورة مزيفة. المشكلة هي أن هذه الوثائق تتعارض مع بعضها البعض ليس ما بين كل مجموعة والأخرى وحسب وإنما داخل نفس المجموعة كذلك.
المحزن هنا ليس هو إصرار كل طرف من هذه الأطراف على “صحة” وثائقه, وإنما هو انقسام المؤرخين المصريين إلى جماعات تتبنى كل واحدة منها وثائق طرف من هذه الأطراف, ومن هنا ظهرت المدرسة الشراكية, والمدرسة الطبوزادية, والمدرسة العلوية, ناهيك عن مدرسة توب كابي, ومدرسة مكتبة الكونجرس الأمريكي, ومدرسة اللوفر, ومدرسة المكتبة البريطانية.
لا يحتاج الأمر إلى بيان اختلاف منهج المدارس الأوربية والأمريكية عن منهج المدارس المصرية. لا يحتاج الأمر كذلك إلى التصريح بأن بيان الفرق بين منهج المدارس المصرية ومنهج المدارس الأوربية يخرج تماما عن نطاق قصتنا هذه. كل ما يمكن قوله هو أنه على حين يقوم منهج المدارس الأوربية والأمريكية على “الانتقاء” من بين كل المصادر, فإن منهج المدارس المصرية يقوم على الالتزام المطلق بالمصدر الذي يؤمنون بصحته, وعليه فإن المؤرخين الذين يؤمنون بصحة وثائق أسرة الشراكي, على سبيل المثال, لا يأخذون إلا بالمعلومات التي وردت في الوثائق التي تحتفظ بها أسرة الشراكي ولا يأخذون على الإطلاق بأية معلومات وصلت عن طريق مصادر أخرى.
لا يحتاج الأمر, في حقيقة الأمر, إلى بيان غرابة هذا الموقف الذي تتخذه المدرسة الشراكية. تعود الغرابة هنا إلى مجموعة أسباب أولها هو وجود ثغرات في هذه الوثائق حيث إنها لا تغطي كافة مراحل حكم محمـد علي باشا وإنما تتوافر لديها تغطية شديدة لسنة من السنوات ثم غياب يكاد يكون تاما لسنوات أخرى. حقيقة الأمر, تحتوي خزانة أسرة الشراكي على العديد من الوثائق التي يصعب, إن لم يكن من المستحيل, إدراك الفترة التاريخية التي صدرت فيها. يعود ذلك إلى أنها “غير مؤرخة”. أضف إلى ذلك وجود عدد من الوثائق التي لا يوجد أي شك في أنها مزيفة. مثال على ذلك مجموعة الوثائق التي تبين تكلفة مد خطوط السكك الحديدية بين القاهرة والإسكندرية عام 1833 ميلادية. يبين تاريخ السكك الحديدية المصرية أنه لم يكن هناك خط سكة حديد بين القاهرة والاسكندرية عام 1833. كل ما حدث عام 1833 هو أنه دارت هناك مفاوضات بين محمـد علي باشا وبين ستفينسون لإنشاء خط سكة حديد بين القاهرة والسويس, إلا أن هذه المفاوضات لم تسفر عن شيء نتيجة الضغط الفرنسي لإلغاء المشروع حيث إن فرنسا كانت تخطط لإنشاء قناة السويس.
وأخيرًا, فإن من الغريب أن يكتفي المؤرخون المصريون بالوثائق التي تحتفظ بها أسرة الشراكي فقط مع التجاهل التام للوثائق التي تحتفظ بها الأسرة العلوية ذاتها. لا بد من الاعتراف, حقيقة الأمر, بالغرابة الشديدة لهذا الموقف. يذهب المؤرخون المصريون إلى أن أسرة الشراكي أسرة معروفة بالصدق والأمانة منذ اليوم الذي وطأت فيه أقدام الشراكسة أرض مصر. يشير المؤرخون المصريون كذلك إلى أن آل الشراكي كانوا أقرب الناس إلى محمـد علي باشا وأن الباشا شخصيا هو الذي أوكل إليهم مهمة حفظ الوثائق الخاصة به. يبين المؤرخون المصريون أن “دار الوثائق المصرية” تم إنشاؤها عام 1828, أي بعد أربعة وعشرين عاما من تولي محمـد علي باشا الحكم. يوضح المؤرخون المصريون أن أسرة الشراكي هي الجهة الوحيدة في العالم التي تمتلك الوثائق الصحاح عن تلك الفترة كما يشيرون إلى أن أسرة “الدفتردار” – أحد فروع أسرة الشراكي – قد حصلت على لقبها هذا لعملها بـ”الدفترخانة” وهو الاسم الأصلي لدار الوثائق المصرية. حقيقة الأمر, يشير المؤرخون المصريون إلى الوثائق المتوفرة لدى أسرة الشراكي باسم “الصحاح”.
لا يوجد “أدنى وعي” لدى المؤرخين المصريين, بهذا الشكل, أن موقفهم هذا يجعل من الصعب, إن لم يكن من المستحيل, تكوين “أية صورة” واقعية عن حياة محمد علي باشا. أولا, لا تمثل الوثائق الصحاح سوى نسبة ضئيلة للغاية من مجموع الوثائق الخاصة بفترة حكم محمد علي باشا. على حين يصل عدد الوثائق الخاصة بفترة حكم محمد علي باشا إلى عدة ملايين فإن عدد الوثائق الصحاح لا يتعدى أكثر من مئة ألف على أقصى تقدير. لا يمكن لمن يريد الوصول إلى صورة حقيقية لحياة محمـد علي باشا تجاهل ملايين الوثائق المتعلقة بحياته. ثانيا, تحتوي الوثائق الصحاح على نسبة كبيرة من الوثائق المزيفة. لا يوجد أدنى شك في أن محمـد علي باشا لم ينشيء خط سكة حديد بين القاهرة والاسكندرية عام 1833. لا يوجد أدنى شك كذلك في أن محمـد علي باشا لم ينشيء “جامعة محمـد علي باشا”. حقًا, أنشأ الباشا نظاما تعليميًا كان نظامًا ثوريًا بالنسبة إلى عصره, كما أنه أنشأ عددًا من المعاهد العليا, إلا أنه لم ينشيء “جامعة محمـد علي باشا”. أيضًا, لم يقم الباشا في “مذبحة المماليك” بقتل كل رجال الحكم في البلد, والاستيلاء على ممتلكاتهم, وسبي نسائهم, واستعباد أطفالهم. على الرغم مما جاء في الوثيقة رقم 17 من الوثائق الصحاح لم يرتكب الباشا هذه الفظائع.
المثير في الأمر, وهو فعلاً أمر مثير, هو أن المؤرخين المصريين يرفضون رفضا تامًا أي دعوة إلى التحقق من الصورة التي تقدمها الوثائق الصحاح. حقيقة الأمر, يذهب المؤرخون المصريون إلى حد الهجوم على أصحاب الدعوة إلى التحقق بأنهم يهدفون إلى تزييف التاريخ. يبين المؤرخون المصريون هنا أن الدعوة إلى “التحقق” ما هي إلا دعوة إلى “التشكيك”. يصرح المؤرخون المصريون مرة بعد مرة, ثم مرة بعد مرة, بأن أسرة الشراكي هي الأسرة الوحيدة التي يمكن الثقة بها, وأن الحديث عن التحقق ما هو إلا هجوم على الحقيقة. يشير المؤرخون المصريون إلى أنه لا يمكن الوثوق بصحة وسلامة الوثائق المتعلقة بالباشا والموجودة في مكتبات الغرب, حيث إن الغرب منحاز ضد الباشا, كما يشيرون إلى أن الموظفين العاملين بدار الوثائق المصرية بعد خروجها من يد أسرة الدفتردار كانوا موظفين مرتشين قاموا “بدس” مئات الآلاف من الوثائق المزيفة التي قام الاستعمار البريطاني بدسها للإساءة إلى الباشا. وأخيرًا, فإنهم يشيرون كذلك إلى عدم ثقتهم بالوثائق التي تحتفظ بها الأسرة العلوية ذاتها, وذلك لعدم دقتها. يشير المؤرخون المصريون هنا إلى أسرة الدفتردار وصدقها المطلق, وذاكرتها القوية. لم يكن لدى أولاد الباشا وقت للاهتمام بوثائق الباشا. هكذا هم يقولون.
الفكرة المسيطرة على المؤرخين المصريين, بهذا الشكل, هي أن “الوثائق الصحاح” هي الطريق الوحيد لمعرفة حياة محمـد علي باشا. التساؤل حول صحة أي من هذه الوثائق هو, بالتالي, هجوم على حياة الباشا. كيف لمن يريد التعرف على حياة الباشا أن يهجم على الطريق الوحيد المؤدي إلى التعرف على حياة الباشا. لا يفيد المرء هنا أن يبين لهؤلاء المؤرخين أننا نستطيع “فعلا” أن نكون صورة حقيقية كأقرب ما يكون لحياة الباشا اعتمادًا على كل المصادر المتعلقة به. يقوم المؤرخ هنا بتجميع كل المعلومات المتعلقة بحياة الباشا, والنظر إلى مدى اتساقها مع بعضها البعض, ومدى توافقها مع ما نعرفه عن عصر محمأد علي باشا. مثال على ذلك, لا يحتاج الأمر إلى بحث طويل لبيان أن الباشا لم ينشيء خط سكة حديد بين القاهرة والاسكندرية عام 1833. لا تشير ملفات أي شركة أوروبية أو أمريكية إلى مثل هذا الشيء. لا يحتاج الأمر إلى بحث طويل كذلك لإثبات أن الباشا لم يقتل رجال حكومته, ويسبي نساءهم, ويستعبد أطفالهم. على حين تشير ملفات كل السفارات الأوربية إلى “مذبحة المماليك”, وتصف محمـد علي باشا بالهمجية, فلا توجد أي إشارة إلى موضوع سبي النساء واستعباد الأطفال هذا. أيضًا, لم يقم الباشا بإرسال حملة إلى “الدرعية” قامت بحرقها, وقتل رجالها, واستباحة نسائها, واستعباد أطفالها. كان محمـد علي باشا مسلمًا, وهذا أمر لا يقوم به مسلم. أضف إلى ذلك أن أهل الدرعية أنفسهم لم يذكروا هذا الأمر بالمرة. لا توجد وثيقة واحدة صدرت عن نجد تشير إلى مثل هذه الفظائع من قريب أو بعيد.
نحن نستطيع. يستطيع المؤرخون المصريون بالتعاون مع علماء السياسة والاقتصاد المصريين, وعلماء الاجتماع المصريين, وعلماء النفس المصريين, وعلماء القانون المصريين, وعلماء اللغة المصريين, والكثير من أهل التخصصات الأخرى, أن يتعاونوا من أجل تكوين صورة قريبة كأقرب ما يكون إلى حياة محمـد علي باشا. يعمل العلماء المصريون هنا على جمع كافة المعلومات من كل المصادر المتاحة, ومقارنتها ببعضها البعض, وبما نعرفه عن العالم.
موضوع أن الوثائق الصحاح الموجودة في أيدي أسرة الشراكي هي الطريق الوحيد لتكوين صورة عن حياة محمـد علي باشا هو موضوع خاطيء من أساسه إلى رأسه. هذا موضوع كان يصلح أيام زمان. أيام أن كنا فلاحين وصعايدة. أيام أن كانت أسرة الشراكي هي الأسرة الوحيدة تقريبًا التي تعرف القراءة والكتابة. نحن الآن صار لدينا علماء. نحن الآن نعرف أن موضوع أن الباشا أنشأ خطا لقطار يسير تحت الأرض بين القلعة وشبرا هو وهم لا يمكن لشعب محترم أن يلقي إليه التفاتًا ودعك من حكاية أن يصدقه. نحن لسنا كيتشي واوا. كلي ثقة من أن أسرة الشراكي لن تنظر إلى كلامي هذا على أن فيه إساءة لهم. كان جيراننا في منزل والدي في مصر الجديدة من أسرة الشراكي, وكانوا لنا من خير جيراننا, وتعلمنا منهم كثيرًا. يكفي أننا تعلمنا كيف نحبهم ونحب كل الشراكسة. لكن الموضوع لا يتعلق بأسرة الشراكي, أو أسرة طبوزادة. الموضوع يتعلق بمؤسس مصر الحديثة. عشت أعواما طوالا قريبا من أسرة الشراكي وأعلم مدى حبهم, ووفائهم لمحمد علي باشا. آمل أن يكون هناك إدراك أنه قد حان الوقت للاعتراف بأن “صحاح الشراكي” لا تكفي. آمل أن يكون هناك إدراك بأن صحاح الشراكي تحتوي على عديد من الصفحات المزورة. يستحيل أن يكون الباشا قد أنشأ خطا للسكة الحديد بين القاهرة والاسكندرية. لم يحدث. يستحيل أن يكون الباشا قد سبى النساء واستعبد الأطفال. لم يحدث. يستحيل أن يكون الباشا قد أنشأ خط قطار الأنفاق بين القلعة وشبرا. لم يحدث. التمسك بهذه الوثائق يسيء إلى أسرة الشراكي, والأهم أنه يسيء إلى محمـد علي باشا. لم يحدث.
المذهل أن المؤرخين المصريين ما زالوا متمسكين بصحاح الشراكي. كلي ثقة من أن اليوم سيأتي حين يدرك المؤرخون المصريون أن باستطاعتهم التعرف على “الحق” اعتمادًا على “التحقق” لا اعتمادًا على “التصديق”. صحاح الشراكي ليست كلاما مقدسا. أنزل الله القرآن. لم ينزل الله صحاح الشراكي. حقيقة الأمر, لم يكتب الباشا نفسه حرفًا واحدًا من صحاح الشراكي.
في المرة القادمة إن شاء الله, عندما أذهب إلى القاهرة, إذا أعطانا الله عمرا, سوف أحرص على زيارة مسجد محمـد علي باشا, وسوف أخبره أني أحبه, وأني على ثقة بأننا سوف “نعرفه” كما كان فعلا وليس كما تصوره صحاح الشراكي.
30 سبتمبر 2013
الحديث فيما لا يمكن التحقق منه
تعليقًا على رسالة “حياة وأقوال محمـد علي باشا”, أرسل إلينا فضيلة الأستاذ الدكتور محمـد سلاهه الرسالة التالية التي يخبرنا فيها أن “الرسالة واضحة”. يقول فضيلته:
“الرسالة واضحة. التاريخ أمر لا يمكن التيقن فيه ولا التحقق منه ولكن يوجد غلبة الظن وترجيح هذا على ذاك. ما يجب أن نخرج به هو أن للتيقن والتحقق شروطاً لا يتم إلا بها, فإذا لم تتوافر فلا تيقن ولا تحقق ذلك أنه لا يبنى على الظن إلا ظن, ولا يبنى على الاحتمال إلا احتمال, ولا يبنى على الشك إلا شك, ولا يبنى اليقين إلا على يقين, وما بني على باطل فهو باطل.” انتهى كلام فضيلته
خالص الشكر لمفكرنا الإسلامي الكبير, فضيلة الأستاذ الدكتور محمـد سلامه على كريم رسالته. ولي تعليق.
هل يوجد أي شك لدى مفكرنا الإسلامي الكبير في موضوع “جامعة محمـد علي باشا” ؟ هل هناك أي احتمال ولو واحد في الزيليون بأن هذا الرجل أنشأ هذه الجامعة؟ هل يوجد أي احتمال بأن محمـد علي باشا ذبح رجال المماليك, واستباح نساءهم, واستعبد أطفالهم؟ كيف يمكن لفضيلته أن يخبرنا بأن “التاريخ أمر لا يمكن التأكد منه ولا التحقق منه”؟ لو كان الأمر كما يصوره لنا فضيلته لكانت “تغريبة بني هلال” و”حكاية أبو زيد الهلالي سلامه” و”علي الزيبق وخضرة الشريفة” أعمالاً تاريخية. ليس التاريخ هو ما لا يمكن التحقق منه وإنما التاريخ هو ما يمكن التحقق منه. ما لا يمكن التحقق منه هو الأساطير, والروايات, والقصص, والحكايات. كيف, بالله, يمكن النظر إلى حديث القردة العاشقة على أنه يمثل واقعة تاريخية حين يتعارض هذا الحديث مع كل ما نعرفه عن الدنيا التي نعيش فيها؟ لا توجد أنبياء قرود. لم يرسل الله أنبياءً لهداية القرود. العلاقات الجنسية بين القرود لا تخضع لنفس الأحكام التي تخضع لها العلاقات الجنسية بين البشر. ثم كيف يمكننا القول بأن الإسكندر الأكبر لم ينشيء مدينة الإسكندرية وأن الذي بناها هو يعرب بن قحطان؟
القول بأن “التاريخ أمر لا يمكن التحقق منه ولكن يوجد غلبة الظن وترجيح هذا على ذاك.” قول خاطيء. التاريخ هو ما “يمكن” التحقق منه وما لا يمكن التحقق منه فهو ليس بتاريخ وإنما حكايات, وروايات, وقصص. لم يبنِ يعرب بن قحطان الإسكندرية. حكاية أن يعرب بن قحطان هو الذي أنشأ مدينة الإسكندرية حكاية وهمية. الإسكندر المقدوني هو الذي أنشأ مدينة الإسكندرية وهذا أمر يمكن التحقق منه. البقر لا يتحدث اللغة العربية الفصحى وحديث البقرة التي تتحدث العربية الفصحى والوارد في كتاب الإمام الأعظم البخاري, رضي الله سبحانه وتعالى عنه وأرضاه, حديث وهمي. الحيوانات لا تتحدث لا بالعربية الفصحي ولا بالعامية الإنجلزية. لا يعني ذلك, بأية حال من الأحوال أنه لا توجد أمور “لا يمكن التحقق منها”. هناك, طبعًا, أمور لا يمكن التحقق منها, من ذلك الحديث المنسوب إلى محمـد علي باشا بأن “فطير المنوفية أكل ملوك” وأن “فطير كفر نفره أحسن فطير في المنوفية”. حقيقة الأمر, لا يوجد لدي أدنى شك – على الرغم من حبي للفطير المنوفي – من استحالة التحقق مما إذا كان الباشا قد قال هذا الكلام فعلاً أم لم يقله. يعني هذا الكلام أن من المستحيل “إثبات” أن الباشا قد قال هذا الكلام. يعني هذا الكلام كذلك أن من المستحيل كذلك إثبات أن الباشا لم يقل هذا الكلام. يعني هذا الكلام أيضًا أن الحديث في موضوع الفطير المنوفي وما إذا كان الباشا قد وصفه بأنه “أكل ملوك” ليس حديثًا في “التاريخ” وإنما حديث في “المهيصة”. الحديث في الأشياء التي لا يمكن “إثبات” وقوعها مثلما لا يمكن “إثبات” عدم وقوعها ليس حديثًا في التاريخ وإنما حديث في المهيصة. “
آمل أن يكون هذا التعليق قد بيّن الفرق بين الحديث في التاريخ وبين الحديث في المهيصة. الحديث في التاريخ هو حديث عما يمكن التحقق منه على حين أن الحديث فيما لا يمكن التحقق منه هو حديث في المهيصة. آمل كذلك أن يكون هذا التعليق قد بيّن ليس فقط الفرق بين “علم التاريخ” وبين “المهيصة” وإنما بين كذلك الفرق بين “العلم” وبين “المهيصة”. يستحيل النظر إلى ما لا يمكن التحقق منه على أنه علم. هذا هو السبب في أن “كتاب ألف ليلة وليلة” ليس كتابًا في العلم على حين أن كتاب “الحكم الأخلاقي لدى الطفل” هو كتاب في العلم. لا توجد أية وسيلة للتحقق مما إذا كان سندباد قد قام فعلاً بالأعمال المنسوبة إليه في “ألف ليلة وليلة” على حين يمكن لمن يريد (والباب مفتوح) أن “يعيد إجراء” كل التجارب التي قام بها بياجيه في كتاب “الحكم الأخلاقي لدى الطفل”, فإذا اتفقت النتائج مع نتائج التجارب التي أجراها بياجيه, ثبتت صحة ما خرج به بياجيه, أما إذا اختلفت فقد ثبت فساد ما خرج به. يتبقى سؤال واحد فقط:
هل يمكن لمفكرنا الإسلامي الكبير, فضيلة الأستاذ الدكتور محمـد سلامه, أن يزودنا باسم كتاب واحد في “العلم” يحدثنا عن أشياء لا يمكن التحقق من صحتها. أي يحدثنا عن أشياء لا يمكن إثبات صحتها مثلما لا يمكن إثبات فسادها ؟ هل هناك كتاب علمي واحد بهذا الشكل؟ وبالمناسبة, فكتاب الإمام الأعظم البخاري, رضي الله سبحانه وتعالى عنه وأرضاه, ليس كتابًا في التاريخ. هذا كتاب يمكن “إثبات” فساد بعض الحكايات التي أوردها – مثل حكاية البقرة التي تتحدث العربية الفصحى – إلا أنه لا يمكن إثبات فساد كل الحكايات التي أوردها كما لا يمكن إثبات صحتها أيضا. المذهل في الموضوع أن غالبية المسلمين يتفقون معي على أن كتاب البخاري ليس كتابًا في التاريخ.
وإن الحمد لله, والشكر لله, على ما آتانا وما لم يؤتِنا, وما أعطانا وما لم يعطِنا.
7 سبتمبر 2015
https://www.facebook.com/pg/Islamijurisprudence
#تطويرالفقهالاسلامي