فقيه الأندلس الأعظم #ابن_حزم_الاندلسي
فقيه الأندلس الأعظم #ابن_حزم_الاندلسي
#حسين_ياسين
#ساسة_بوست
لم يُختلف في رجل، كما اختلف فيه؛ فهو في رأي تلاميذه نموذج للإيمان، وفي رأي أعدائه مخلص للشيطان. كان محاربًا بغير سيف، وعالمًا بغير تشنج، ومفكرًا بغير تعقيد، ومؤمنًا بغير تعصب، وكاتبًا بغير حماية.
اكتسب الثقافة من الكتب، واكتسب الشخصية من الحياة، واكتسب الألم من السياسة. من التجربة أخذ الخبرة، ومن القراءة أخذ المعلومات، ومن السلطة أخذ المرارة، ومن المرأة أخذ الغيرة.
إن هذا الرجل كان معقد التجارب، حافل الحياة، طويل الاسم: «أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم» أعظم علماء الأندلس قاطبة وأوسعهم فقهًا، وأكثرهم أصالة.
نشأ ابن حزم في بيت غني، وقصر فخم مليء بالجواري والنساء، قال إنه تعلم من هذه البيئة دروسًا كثيرة، فقال «لأني ربيت في حجورهن، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن، ولا جالست الرجال، إلا وأنا في حد سن الشباب… وهن علمنني القرآن، ودربنني على الخط، وعلى الشعر».
أعجب ابن حزم، وهو في الثامنة عشر من عمره، وهي لم تزل في السادسة من عمرها، بجارية شقراء الشعر، حسناء الوجه، دمثة الطباع، عديمة الهزل، ولكن اختطفها القدر، فماتت عندما بلغ العشرين من عمره، وكانت هذه المأساة هي الرابعة، بعد وفاة أخيه وزوجة أخيه وأبيه.
عاش ابن حزم في عصر مضطرب سياسيًا في الأندلس، اشتعلت فيه الحروب والطائفية فدخل السياسة من بابها العريض، وحارب مع الأمويين، فانتصر، فعين وزيرًا، ثم هزم، فعاد سجينًا، وهكذا من السجن إلى الوزارة، تنقل ابن حزم مرات ومرات، يصعد مع صعود الخليفة، ويهبط مع هبوطه، ثم قرر ابن حزم أن لا سياسة حلف يمينًا بالطلاق أن لا يدخلها!
يتحول ابن حزم إلى مفكر يدون أفكاره، ويؤلف الكتب، كتب في التاريخ، والمنطق، والفقه، والدين. يكتب في الشريعة، في السيرة النبوية، في تفسير القرآن، في السياسة، في الأدب، في الشعر، في العلم. ظل يكتب ويكتب، حتى كتب أربعمائة مجلد!
يؤمن ابن حزم بأن «الحق لا يصير حقًا، بكثرة معتقديه، ولا يستحيل باطلًا بقلة منتحليه». كان مؤلفًا متمردًا على الآراء السائدة في عصره، فخالف كثيرًا من مذاهب عصره في الأندلس، خالفهم في كل شيء، حتى المنهج، كانوا مالكية، وكان ظاهريًا!
رأت الأغلبية أن الفقيه العالم بالدين يعيبه أن يتعرض لموضوع، مثل الحب بين الرجل، والمرأة، فكتب في هذا كتابًا أسماه «طوق الحمامة في الألفة والآلاف»، عرف فيه الحب، فقال: الحب ـ أعزك الله ـ أوله هزل، وآخره جد.
دقت معانيه لجلالتها عن ان توصف فلا تدرك حقيقتها، إلا بالمعاناة، والحب ليس بمنكر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة؛ إذ القلوب بيد الله ـ عز وجل ـ وقد اختلف الناس في ماهية الحب، وقالوا، وأطالوا، والذي أذهب إليه أنه اتصال بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع.
وينطلق ابن حزم بعد ذلك طارحًا أسئلة، ومقدمًا أجوبة.
هل يمكن أن الأندلسيقع الحب من النظرة الأولى؟ فيجيب: نعم، وكثيرًا، ولكن لا يمكن أن يكون حبًا حقيقيًا؛ فقال «فمن أحب من نظرة واحدة، وأسرع العلاقة من لمحة خاطره، فهو دليل على قلة الصبر، ومخبر بسرعة السلو، وشاهد الظرافة والملل، وهكذا في جميع الأشياء، أسرعها نموًا، أسرعها فناء، وأبطؤها حدوثًا أبطؤها نفادًا».
وسؤال آخر: هل يمكن أن يحب المرء اثنين في وقت واحد، فيقول «من يزعم أنه يحب اثنين، ويعشق شخصين متغايرين، فإنما هذا من جهة الشهوة… وهي على المجاز تسمى محبة، لا على التحقيق».
ثم يتحدث عن فضل التعفف، وقبح المعصية، فيقول «وإني ما رأيت امرأة في مكان، تحس أن رجلًا يراها، أو يسمع حسها، إلا وأحدثت حركة فاضلة، كانت عنها بمعزل، وأتت بكلام زائد، كانت عنه في غنية، مخالفين لكلامها وحركتها قبل ذلك. ورأيت التهمم لمخارج لفظها، وهيئة تقلبها، لائحًا فيها ظاهرًا عليها، لا خفاء به. والرجال كذلك إذا أحسوا بالنساء».
لقد اعتبر الأوروبيون، ابن حزم مؤسس علم الأديان المقارن، بعد ترجمة كتابه «الفصل في الملل والأهواء والنحل»، بل إن كل أعدائه وحاسديه شهدوا له بالإخلاص في دوافعه، والأمانة في سعيه نحو الحقيقة، لكن لم يمنعهم ذلك من طرده، ونفيه، والتشهير به، فتحمل العزلة، والاضطهاد، والنفي، والتشريد، بصدر مفتوح، وقلب لا يشكو، وعقل لا يستسلم.
ولكن حتى نفيه، لم يقنع، ولم يوقف مخالفيه من التحريض ضده، والتشنيع على آرائه، حتى استعانوا، وحرضوا حاكم إشبيلية «ابن عباد» على حرق كتبه، بل أرادوا حرقه، لو كان موجودًا أمامهم، ولكن كل هذا لم يخفه، فقال:
فإن تحرقوا القرطاس، لا تحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق ورق وكاغد وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري
وإلا فعودوا في المكاتب بدأة فكم دون ما تبغون لله من ستر
إن واحدًا من آرائه، لم يهتز أو يسقط، إن الأمل في داخله، لم يستسلم لليأس، إنه لم يندم على رأي واحد أبداه في حياته مطلقًا. لقد قرر ابن حزم باختياره أن يعيش حياته في موقع مختلف، لقد حكم على نفسه بالعزلة، واختار أن يعارض جيله، ويعيش منفيًا مختارًا ومضطرًا.
لقد مات ابن حزم عن اثنتين وسبعين سنة 1064 للميلاد، 456 للهجرة قضاها في صراع طويل، بين الأمل واليأس، وعاشها خصومه في مطاردة مستمرة لا تنقطع ضده. ضد رأي مختلف، انطلقوا خلفه كالأشباح، مع ذلك ـ بعد وفاته ـ وقف أحد سلاطين الأندلس على قبره، وقال كل العلماء عيال على ابن حزم.
في الواقع إن ابن حزم، لم يحصل على كثير مما استحقه، ولم يستحق كثيرًا مما أصابه.
*ملاحظة
المذهب الظاهري هو الذي يتمسك بالنص ويرفض القياس، كأحد أصول الفقه.