يوسف أيها الصديق ح 43 – قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ

تواصلا مع شرح سورة يوسف :

يوسف أيها الصديق ح 43 – قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ

يعقوب لا ينتظر أخبار يوسف وأخيه وهو يعلم من الله تعالى بأنهما بخير، بقدر ما ينتظر انتهاء اختبار أبنائه الذين عصوا واتبعوا سبيل المفسدين.

إنه أحرص منهم على بني إسرائيل وعلى سلامة الأسرة المباركة التي ستحتضن مجموعة غير قليلة من أنبياء الله تعالى ورسله الكرام. لقد فعل ما بوسعه كما فعل يوسف ما بوسعه لتعديل توجهات الإخوة الذين غرر بهم الشياطين.

عرف يوسف بأن المحاولات البشرية التعليمية قد انتهت وبدأ دور آخر هو دور هجرة بني إسرائيل إلى مصر. إن قائد هذه الهجرة هو يعقوب وليس يوسف بالطبع. هي حركة عظيمة في سلسلة التحركات البشرية في الأرض وكانت عظيمة بالنسبة للأسرة أيضا.

لم تشمل دعوة يوسف كل الذين عاشوا معهم في بلادهم منذ هجرة إبراهيم إليها. إنها هجرة تغاير هجرة عمهم الكبير إسماعيل الذي نقله أبوه لوحده إلى مكة الفعلية والتي كانت بكة يومها ليبني الأمة التي سوف توازي بني إسرائيل في الاختبار السماوي الكبير لأهل الأرض جميعا.

وعلينا ألا ننسى بأن يوسف قد أخذ الإذن دون شك من ملك مصر وسنعرف بعد قليل بأن الملك كان منتظرا لهم 72.

قال يوسف مخاطبا كل إخوانه وأظن بأن أخاه الصغير قد أرسله معهم أيضا ليحضر أهله إن كان متزوجا وليساعدهم:

اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ﴿93﴾

عاد القميص مرة أخرى للصورة. هو نفس القميص الحقيقي الذي اتفق يوسف مع أبيه أن يحتفظ به لمثل ذلك اليوم فيكون في إرساله إليه دليلا قطعيا على انتهاء كل المسائل الفرعية وابتداء الهجرة.

ليس لدينا أي دليل على أن يعقوب كان يعرف الكتابة فلم يكن هناك أي طريقة لإرسال الرسائل إلا بمثل هذه العلامات.

لم يكن إخوة يوسف مأمونين على صدق الحديث فهم كما رأيناهم يستمعون إلى أبيهم ويُظهرون له الامتثال ثم يفعلون ما يبدو لهم، فهم خونة في الواقع. و دعنا نحتمل أن هناك شيئا من هذه السجية المعيبة مع أولادهم اليوم فنجعلها في اعتباراتنا حينما نتعامل معهم. أتمنى أن لا يكونوا كذلك.

فهم قد يكذبون ويمكن أن يخونوا وليست الخيانة عيبا على من يرضى لنفسه أن ينزل إلى مستوى الكاذبين. إن يوسف يعرف بأن أباه لا يثق في إخوانه وأراد أن يقول لهم بأن نقل رسالته الشفهية لن تكون مقبولة ليعقوب حتى يرضى بالهجرة الكبرى.

انتبه الإخوة أيضا بأن هناك سرا كبيرا في هذا القميص واستيقنوا بأن ظنهم في السرقة كان ظنا خاطئا ولعل ذلك كان مقصودا عند يوسف ليريهم سوء ظنهم عمليا.

وقد أكد يوسف عليهم بقوله: اذهبوا بقميصي هذا، ليقنعهم بأن يعقوب منتظر لهذا القميص وليس لغيره.

انتبه المتآمرون بالشر بأن أباهم ويوسف كانا أكثر منهم استعدادا لمواجهة مؤامرتهم وعرفوا تماما بأنهم كانوا في منتهى الضلال والجهل أمام يوسف وأبيهم.

ويبدو بأن يوسف كان ينتظر إنهاء كل المحاولات في ذلك اليوم أو في تلك الأيام، فكان القميص حاضرا عنده في مكان عمله وليس في مسكنه الذي لا يمكن أن يكون في إدارة المخازن.

قال لهم بأن طريقة إيصال القميص يكون بإلقائه على وجهه. وهذا لا يعني أن يرموه على وجهه الفيزيائي كما تصوره الكثيرون. فلو رموه على وجهه فسوف لا يرى شيئا ولا يعرف القصة، ناهيك عن أن العملية غير مؤدبة وغير جميلة فعلا.

إنه يعني بأن لا يتحدثوا معه شيئا ويكتفوا بإلقاء القميص في مقربة من وجهه ليراه.

يريد يوسف لأهله مفاجأة أخرى لعلهم يهتدوا وهي هذه كما سنعرف بعد قليل بإذن الله تعالى. مثل هذه المفاجآت المدروسة تقلل من المناقشات غير الضرورية وتبعث بالرسالة إلى المقصودين بكل دقة وبكل عناية.

وأما قوله: يأت بصيرا، فيعني بأن أباه سوف يعرف القصة وسوف يقبل منكم الكلام فيأمر بالهجرة.

ليست الهجرة مسألة سهلة ولا يمكن ليعقوب أن يرضى بها فينقل الجميع إلى مصر ثم يعود خائبا حيث يرى بأن الظروف غير مناسبة لهم مثلا وقد فقد في المقابل، بيته ومأواه ومأوى كل أهله.

فالبصير هنا ليست في مقابل الأعمى كما ظنوا ولكن في مقابل الجاهل أو الشاكّ. لم يكن يعقوب أعمى وليس في القرآن أية إشارة إلى ذلك. إنها استنتاجات غير دقيقة.

يعرف يوسف مدى شك يعقوب في إخوانه فأراد أن يبلغ أباه بأن المسألة مقبولة لدى السلطات المصرية وبأن كل الترتيبات قد تمت لإيواء المهاجرين في مصر.

إن كل الحركات التي يأمر بها يوسف مقصودة ومعروفة بينه وبين أبيه. ولعل من يقول لي مستندا إلى ظني بعودة الأخ الصغير معهم بأنه كان جديرا بأن يحمله يوسف رسالته التي سوف يتقبلها يعقوب.

فأقول بأن يوسف ويعقوب حينما تفاهما معا قبل خروجه الأخير مع إخوانه لم يكونا ليعرفا بأن الله تعالى سوف يقدر إرسال أخيهم الصغير بالشكل الذي حصل كما لما يكونا عالمين بالوقت الذي يتم فيه التنفيذ الكامل لأمر الله تعالى.

ولذلك فقد مهدا لكل الأخبار الضرورية بهذا الشكل وعدم تنفيذ أي منها كان باعثا للشك في قلب يعقوب. والعلم عند الله تعالى.

بيد أننا رأينا الأخ الأكبر الذي كان رافضا لإيذاء يوسف لم يتمكن من مخالفة إخوانه بل سايرهم حتى لا يتعرض لمكرهم فكيف بالأصغر الذي ليس من أمهم.

لم يكن هناك أية وسيلة لإقناع يعقوب بالهجرة إلا ضمانات يوسف نفسه ولم يكن هناك ما يبعث باليقين القطعي في قلب يعقوب غير العلامة المتفق عليها بينهما.

سيعلم يعقوب القضية ويقبل بالهجرة إن ألقوه على وجهه بالطريقة التي قال لهم وهم جميعا كانوا حريصين على هذه الهجرة التي تفألوا بها لتخرجهم من فقرهم وبؤسهم فكان احتمال اللعب في تعليمات يوسف غير مظنون.

لقد هابوا يوسف ودخل في قلوبهم الكثير من التعظيم لشخصه ولأبيهم الذي شعروا بخطورته عند مشاهدتهم لذلك الموقف من يوسف.

إنهم دون شك أعادوا دراسة القضايا بشكل عكسي وتفطنوا تماما للكثير من أخطائهم الكبيرة وللكثير مما جهلوه من معرفة لشخصيتي يعقوب ويوسف.

ثم أكمل يوسف تعليماته بأن قال لهم: وأتوني بأهلكم أجمعين. أحتار حينما أراجع ما قاله يوسف مع أبيه ورسائله إليه وأقارن بين مقولاته ومقولات بقية الأسرة.

يشعر الجميع بعظمة شخصية يعقوب ولكنهم لا يظهرون له الاحترام اللائق به إلا يوسف.

كانوا يتهمونه بالحرض وبالضلال وهم يعلمون بأنه نبي الله كما كانوا من جانب آخر يفتخرون بالانتساب إليه.

لكن يوسف لم يأمر أباه أبدا بأمر بل يترك الأمر له ولم يتحدث أبدا ضد أبيه. كان يسعى ليحترم وليكون على مستوى الابن الذي يتعلم من أبيه طيلة القصة الطويلة.

خاطب أباه بيا أبت حتى في عز قوته وفي قصر فرعون كما سيأتي. لم يقل يوسف ليأت أبي بل خاطب إخوانه: وأتوني بأهلكم أجمعين. يشمل الأهل أزواجهم وأولادهم وأخواتهم وأهليهن ومعهم أبويه أيضا ولذلك أكد على كلمة أجمعين حتى لا يفسروها تفسيرا خاطئا.

واستعماله صيغة المتكلم لوحده في (وأتوني) هو ليُعلمهم بأنهم سيكونون في ضيافته حتى يتمكنوا من تكوين أنفسهم وترتيب حياتهم المستقبلية في مهجرهم الجديد. والعلم عند الله تعالى.

سار الإخوة بجمعهم نحو بلدهم وهم في أسوء حال نفسي ليكشفوا كل شيء أمام أبيهم الذي يعرف كل شيء عنهم ولكنه كان حريصاً أن يسمع منهم.

سوف تُبلى السرائر قريبا وتعرف الأسرة كل القصة. لقد هشم يوسف أنوف إخوانه وأمرهم أن يذهبوا بأنفسهم إلى أبيهم معترفين.

اقتربت العير من مجمع القرى وراحت كل مجموعة تتجه إلى القرية التي أتت منها. ومن الطبيعي أن ينتشر خبر وصول القوافل التجارية إلى أهل القرية أو المدينة التي يسكنونها. شاع خبر الوصول بين العوائل القروية وبلغ يعقوب الخبر. وهكذا يحدثنا القرآن الكريم الخبر الذي كنا نجهله وكان رسولنا غافلا عنه:

وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي َلأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ ﴿94﴾ 

الدور الآن ليعقوب الذي يعرف بأن هذه القافلة ستأتي بأخبار يوسف وأغلب الظن أنه انتظر وصول العلامة من يوسف. إنه يعرف بأن يوسف الآن مسؤول كبير لا يمكنه ترك العمل وعليه بأن يدبر لهم أمراً آخر ليجمع شمل الأسرة.

أراد يعقوب أن يبدأ بترتيب الدور الحاسم الجديد لقصة أولاده بأن يذكرهم بما قاله لهم من قبل وبصورة أكثر دقة. ولذلك تفوه أمام الحاضرين وقبل وصول الإخوة بأنه يحتمل وصول أمانة من يوسف مع المقبلين من مصر.

وعبر عن الموضوع بأنه يجد ريح يوسف. ليس ليوسف ريح حقيقي يصل إلى مشام يعقوب من بعيد ولكنه تعبير عن علمه بأخبار يوسف. هو مثل تعبيرهم عن أخبار أحد أو أنباء سارة بريح الصبا أو نسيم الصبا. ولم يقل يعقوب بأنه يشم ريح يوسف بل قال يجد ليفصح عن الوجدان الفكري.

وأما بقية كلام النبي المحترم لأهله: لولا أن تفندون؛ فنعرف معناه مما قالوه له في الآية التالية. ولو أردنا أن نعود إلى أرباب اللغة لنعرف المعنى فسنضيع بين آرائهم غير المستقرة. الكذب واللوم وتخطئة الرأي والضعف أو الكبر والخرف أو ضعف العقل!

قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ ﴿95﴾

قالوا له ذلك بعد أن أكد لهم ظنه بأن أخبار يوسف مع القافلة المقبلة. قالوا ذلك ليفندوا قول الأب إسرائيل الذي يمثل شرف الأسرة الكبرى وفخرها. فلنعرف من قولهم الجاهل كيف يتعاملون مع أنفسهم ومع بُناة مجدهم ولا نتوقع من الإسرائيليين أن يكونوا واقعيين معنا. علينا أن نتعامل معهم فلا لغة مع بني إسرائيل غير لغة المعاملة والتجارة. كان يمكنهم أن يصبروا قليلا ساعة أو ساعتين فتتبين لهم حقيقة ادعاء شيخ بني إسرائيل. لكنهم لم يصبروا وتفوهوا بكلام أحمق لا يدل إلا على استعجالهم وعدم تأنيهم في الحكم حتى على أقرب الناس إليهم. فما معنى قوله عليه السلام: لولا أن تفندون؟

اعتبر الرسول قولهم السالف تفنيدا لظنه بأنه ينتظر أخبار يوسف من تلك القافلة العائدة فالتفنيد جاء بمعنى نسبة الجهل والضلال إلى الشخص بأنه يقول شيئا لا يدرك خطأه وليس بمعنى التكذيب طبعا.

فقد أصاب من أرباب اللغة من قال بأن التفنيد هو تضعيف الرأي بظني والعلم عند الله تعالى.

وأما قَسَمُهم بالله تعالى فهو ليس من باب الحلف الذي يطلب صاحبُه تأكيد زعمه ولكن من باب لجوء المتعجب إلى الله تعالى ليعينه على تحمل المخاطب. ولذلك قالوا: إنك لفي ضلالك القديم، بمعنى إنك لا زلت تتخبط كما كنت في آرائك الضعيفة الماضية. والواقع هو أن يعقوب وهو فخرهم وعزهم قد ادعى أمرا لم يظهر بعد خطأه، لكن بنو إسرائيل هم عادة أبناء الوقت فلو أنك لا تعطيهم الإثبات الفعلي فهم يستمرون في تكذيبك حتى تظهر لهم الحقيقة. وليس صعبا على بعضهم أن يصدقوك بعد ظهور الحق فالكثيرون منهم يحملون وجوها عريضة لا ترى فيها حمرة الخجل مع الأسف.

فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿96﴾.

وصل الإخوة ولعل القميص كان بيد أكبرهم لأنه كان أقل منهم إيذاء ليوسف وأكثرهم حرصا عليه وعلى صيانة وعده لأبيه. وهناك احتمال قوي بأن يكون البشير أخاه الصغير الذي عاد معهم دون ريب لإحضار أهله ولتجميع ما يريد حمله إلى المهجر الجديد.

كان طبيعيا هذا الحق للأخ الذي اتهموه مرة كما اتهموا أخاه مرة سابقة أن يكشف خطأ إخوانه الذين ظلموهما وظلموا بقية الأسرة الكريمة.

لكني احتملت الاحتمال الأول باعتبار الآية التالية التي تتحدث عن طلبهم الاستغفار فالأخ الصغير لم يكن ضمنهم في هذا الطلب.

جاء البشير فألقى القميص الكاشف لحقيقة كل ما قاله يعقوب والكاشف فعلا لكذبة الإخوة والمبَيِّن بأن يوسف فعلا في مصر، أمام وجه أبيه.

لقد فوجئت الأسرة جميعا لأن الإخوة نفذوا تعليمات يوسف كاملة احتمالا فلم يفتحوا القميص قبل أن يروا أباهم ولذلك عبر الكتاب الكريم بأنهم ألقوه على وجهه والإلقاء قد يضمر معنى المفاجأة.

من الطبيعي أن تتفتح أسارير يعقوب فيعلم بأنه كان على حق طيلة ما مضى ويسعى لإفهام أهله بأنه لم يكن مخطئا حينما خالف أولاده ولم يكن مخطئا حينما قال لهم بأن يوسف حي يعود ووو.

فمعنى ارتد بصيرا أنه عليه السلام انقلب في عيون وأسماع أهله إنسانا بصيرا عالما لا شيخا خرفا يكرر جهله وضلالاته القديمة.

ولذلك أسرع في بيان أنه لا يمكن أن يعلم شيئا بدون أن يُعلمه ربه فقال: ألم أقل لكم إني أعلم من الله. ذلك لأن ما قاله لهم فيما مضى كان يمثل علما يجهلونه وقد ثبت جهلهم وصدقه، فهم الآن قد يخضعون له ولعلمه.

وعلى الأنبياء ألا يسمحوا لأحد بأن يعبدهم ويخضع لأشخاصهم. ما أطيب هذه الصفوة الخيرة، عليهم جميعا سلام الله تعالى وتحياتنا واحترامنا ولهم جميع حبنا وودنا.

قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ﴿97﴾

بادر الإخوة الخاطئون بالاعتذار من أبيهم ولكن بطريقة الأنبياء العارفين لا كالعامة من الناس. إنهم يعلمون بأن الأب العاطفي لن يرضى بأن يصيبهم أية تبعة لما ظلموه بل يدعو لهم دائما بالخير والصحة والسلامة، لكن الذي سوف يؤاخذهم دون شك هو الله تعالى.

إنهم يعلمون بأن الحياة الدنيا هي حياة اختبارية يريد الله تعالى أن يميز بها الخبيث من الطيب.

يكفي للتمييز أنهم قد تعمدوا التخطيط لقتل أخيهم ثم رضوا بنفيه إلى الأبد ظلما وعدوانا فهم مجرمون في منطق الرحمان وسوف لا يتركهم الله تعالى ولو رضي يعقوب ويوسف ألف مرة.

لقد ظهر للرحمن بأن نفوسهم ليست طيبة ولا يمكن أن يتقبل رضوان أهلهم العاطفي عنهم. إن الله تعالى يقتص من المجرمين في الآخرة ليُرضي المظلومين ولكنه في نفس الوقت يرمي بكل المجرمين في نار جهنم لأنهم مجرمون لا لمجرد الانتقام للمظلومين. ولذلك فإن المجرمين في العقيدة والاهتمام بالظلم سيدخلون النار أيضا ولو أننا في الحياة الدنيا لا نمسهم بأي أذى لأنهم لم يمسوا أحدا بسوء.

فنظام الحياة الأخرى لا يجانس نظامنا الدنيوي قطعا. إن نظامنا مبني على أساس السعي للتقليل من الظلم وحفظ النظام والبحث عن السلامة والأمان النسبي والسعي لمراعاة العدالة ما أمكن.

لكن النظام هناك مبني على أساس القسط إلى أبعد الحدود لتمييز النفس الطيبة من النفس الخبيثة. نحن ننظر للظاهر وهناك ينظرون للباطن. نحن ننظر للعمل وهناك يهتمون بالنية والقصد. نحن نريد العيش بسلام وهناك يريدون الفصل بين المؤمن والجاحد.

ولذلك طلبوا من أبيهم أن يستغفر لهم ربهم من ذنوبهم لأنهم كانوا خاطئين.

أرجو أن يتعلم المؤمنون ويعلموا بأن طلب العفو من المظلوم غير مجد لهم يوم الحساب. عليهم السعي لتغيير نفوسهم وجعلها نفوسا طيبة مؤمنة بشكل دائم وإلا فما فعلوه من ظلم سيبقى دليلا إجراميا ضدهم 73.

يبتع …..

 (هامش 72: أنا لا أعرف كيف تم إقناع الملك بهذه الهجرة الخطيرة إلا أننا نعرف بأن الله تعالى وراء كل شيء وهو مقلب القلوب والأبصار سبحانه وتعالى.

ولمن يريد المزيد من التحقيق فإن ملوك مصر لم يكونوا مستبدين بل كانوا يستشيرون المحيطين بهم فلم تكن المسألة سهلة على الملك نفسه أيضا. والقرآن لم يتعرض لهذه المسألة باعتبار أنها ليست ضمن نطاق السرد لعملية صناعة بني إسرائيل بل هي قضية مصرية داخلية تولى الله تعالى دون شك أمرها، والعلم عنده.     نهاية الهامش 72.)

(هامش 73: بلغني بأن أحد الفضلاء المعاصرين فرّق بين الخاطئ والمخطئ بالقول بأن الأول يعني الخطأ المقصود والمتعمد والثاني يدل على السهو. وبعض السلف من اللغويين ظنّ ذلك أيضا.  وفي ذلك مجانبة للصواب على ما أرى . فالله تعالى استعمل لفظة الخاطئ بالنسبة لقوم فرعون حينما أنقذوا موسى يوم كان رضيعا من البقاء في البحر وهم لم يتعمدوا ذلك بالطبع بل أخطأوا فيه. قال تعالى في سورة القصص: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8). وقد قال بعض الإخوة المفسرين بأن الله تعالى بصدد التعليل ليكون موسى لهم عدوا وحزنا قال بأنهم كانوا خاطئين. حتى الزمخشري احتمل هذا الاحتمال ولو أنه لم يجزم. والواقع أننا لغويا لا يمكن أن نصل إلى معنى جازم للمقصود. ذلك لأن الخاطئ هو أصل فعل خطأ بدون زيادة ولكن المخطئ مزيد فيه من باب الإفعال وقد ورد كلاهما في القرآن لمعنى الخطأ المقصود وكذلك السهو. قال تعالى في سورة النساء: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ,, 92. فهذا هو ليس خطأ مقصودا ولم يأت مزيدا فيه. علينا أن نعرف بأن هناك قليلا من الأفعال في لغة العرب يتساوى فيها المجرد وباب الإفعال مثل: سرع وأسرع، خطأ وأخطأ، رفع وأرفع. بالطبع هناك فرق بسيط غير قابل للتعريف بالحد بينهما ولا داعي للدخول في هذه الأبحاث التخصصية.

لكن آية سورة القصص فعلا بصدد بيان أن قوم فرعون كانوا يحذرون من أمر وقعوا فيه دون أن يشعروا. نعرف ذلك حينما نقرأ معها عدة آيات أخرى قبلها وبعدها كما يلي: وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9).

وقد علل سبحانه التقاط آل فرعون لموسى ليكون لهم عدوا وحزنا لأن موسى هو الذي سبب إغراق فرعون وآله (حسب تعبير القرآن) في البحر يوم الخروج. والذي تعمد الإثم هو فرعون وهامان وليس جنودهما الذين ينفذون أوامر الأسياد دون أي قصد. لكنهم جميعا لم ينتبهوا بأنهم يساعدون العدو الحقيقي لهم حينما أنقذوا موسى من الموت في البحر. فساعدوه حتى لا يغرق ولكنه أغرقهم فيما بعد بأمر الله تعالى. فالإثم الحقيقي هو لفرعون وقد وضح الله تعالى ذلك في الآية الرابعة من نفس سورة القصص: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4). وأما إثم جنوده فهو في مساعدتهم له ولكنهم ليسوا أصحاب القضية في الواقع. هم في حمايتهم لفرعون كانوا يخشون من استعلاء بني إسرائيل عليهم لأنهم أكثر منهم ذكاء ونشاطا في جوانب الحياة المختلفة. فكانوا يحذرون بني إسرائيل وهم لا يدرون بأنهم قدموا الحماية للإسرائيلي الأول بتقدير رب العالمين عز اسمه. والآيات التالية تتحدث عن حكاية أخت موسى التي بصرت به عن جنب وهم لا يشعرون. ثم قالت لهم بأنها يمكن ان تدلهم على أهل بيت يكفلونه لهم وهم أيضا لم ينتبهوا.

والخلاصة أن الخطأ المشترك والمتساوي بين فرعون وهامان وجنودهما هو في موسى وليس في أنهم كانوا ظالمين. فالظلم بينهم ليس متساويا، ولذلك نجزم بأن الخاطئين في سورة القصص هو الخطأ في التعرف على موسى وليس الخطيئة المعروفة، والعلم عند الله تعالى. وبالمناسبة فإن لفظة المخطئ لم ترد في القرآن الكريم.        نهاية  الهامش 73.)

أحمد المُهري

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :

islamjurisdev@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.