يوسف أيها الصديق ح 2

انقطعنا وعدنا لنستكمل معكم تفسير سورة يوسف مع الشيخ أحمد المُهري :

يوسف أيها الصديق ح 2

والآن لنبدأ القصة بأسلوب روائي مستندين الى ما يسعفنا به الخيال من افتراضات تستند الى المنطق العام وما توحيه العبارة القرآنية لفهم الآيات.

إِذْ قَالَ يُوسُفُ ِلأبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴿4﴾

يبدو أن إبراهيم عليه السلام قد بعثه الله تعالى إلى قومِ مَلِكٍ في منطقة ما مما يدعى اليوم العراق. ويحتمل بأن اسم ذلك الملك كان نمرود.

سعى إبراهيم أن يدعو قومه قبل أن تأتيه الرسالة وبعد أن جاءته إلى عبادة الله تعالى ولكنه فشل في إكمال رسالته بسبب تعنت أهله وعدم استجابة العدد المعقول من الناس لدعوته والإيمان بها لتكوين النواة الأساسية للدعوة.

كان قومه يؤمنون بالله ويعتقدون كمن سبقهم من أقوام نوح وهود وصالح بعدم إمكانية الطلب من الله تعالى مباشرة وبضرورة توسيط كائنات أخرى من خلقه بينهم وبينه تعالى. وهذا ما يعتبره الله سبحانه شركا وبما أنهم يؤمنون به فإن رحمته اقتضت تنبيههم عن طريق الأنبياء بأن يدعوه وحده ويعبدوه وحده ويخضعوا له وحده.

آزر هو أبو إبراهيم وقد استاء من دعوات ابنه فطرده من عنده وكذلك فعل الملك وحاشيته رغم أنهم قد رأوا منه (عليه السلام) الآيات البينات على صحة دعوته.

لم يؤمن بإبراهيم عدا لوط فخرجا من العراق باتجاه الأرض المقدسة وسكنا فيها. هناك منّ الله تعالى على إبراهيم بولدين هما إسحاق وإسماعيل. ووعد الله تعالى إبراهيم أن يرى هو وزوجته حفيدهما يعقوب.

يعقوب هو المعروف بإسرائيل وقد أكرمه الله تعالى بمجموعة من الأبناء وعددهم اثنا عشر. كان اثنان منهم ولدين لزوجته الأخيرة والتي تزوجها يعقوب بعد وفاة زوجته الأولى احتمالا. مما لا شك فيه أنها لم تكن موجودة حينما انتقلت الأسرة إلى مصر للالتحاق بغائبهم يوسف. ذلك لأن يوسف قد دعا أهله جميعا ولم تكن مع يعقوب أكثر من زوجة واحدة.

وفي ليلة من الليالي رأى يوسف مناما غريبا. رأى بأن أباه وأمه وأخاه من أمه وإخوانه العشرة الآخرين من غير أمه قد سجدوا له جميعا. ولعل في هذا بدايةً دليلٌ على أن أم يوسف كانت الزوجة الحية الوحيدة ليعقوب ليلة حصول الرؤيا أيضا.

تعجب يوسف وفكر بأن يخبر أباه قبل كل شيء بالمنام الغريب. كان يوسف خجلا من أن يقول لأبيه الحقيقة بصراحة فهو يكن له احتراما كبيرا فكيف يصارحه بأنه رآه يسجد له وهو ابنه الصغير ؟.

ولذلك استعمل مثالا جيدا ليقول لأبيه بأن هذا المنام المريب لم يغير أبدا من احترامه لأبويه وإخوانه في قلبه وبأنه لا يشعر بأي كبرياء أو زهو بل هو يوسف الولد القديم الذي يحترم ويحب كل أسرته وعلى رأسهم النبي المكرم يعقوب.

فمثل أبويه بالشمس والقمر ومثل إخوانه بالكواكب ليُشعر أباه بما يحمل في قلبه من احترام وحب لهم جميعا.

كان يوسف يعرف بأن التمثيل بالكواكب ليس دقيقا، فهي ليست بشرا قادرا على الانحناء نحو الأرض واتخاذ هيئة السجود. لكنه أراد أن يحتفظ باحترام أسرته في قلبه فتمثل بالمضيئات ليشير إلى أنهم في عينيه أنوار مضيئة تعطيه ولا تحتاج إليه لتستجديه ولذلك فهو في حيرة من تفسير هذا المنام.

ثم إنه كان على ثقة بعقل أبيه النافذ وبأنه سوف يطبق العدد عليهم وسوف يعرف بأن الشمس والقمر تشيران إلى أبويه. من الواضح أن يوسف لم يكن ليعرف حجم الكوكبين وبأن القمر لا شيء أمام الشمس بل هو جزء بسيط من الشمس نفسها ، وإلا لكان يأتي بتشبيه آخر كما أظن والعلم عند الله تعالى.

تفطن يعقوب بأن هناك مستقبلا مشرقا بانتظار ابنه يوسف وبأن ذلك سوف يثير بقية إخوانه ضده. وأغلب الظن أنه كان يقصد إخوانه الذين هم أكبر منه سنا لا سيما بأنهم ليسوا من أم واحدة. أما أخوه الصغير الشقيق فهو ليس داخلا ضمن الإخوة الذين سيكون لهم الدور التالي من القصة الطويلة.

عاش يعقوب لحظات جميلة وهو يفكر في مستقبل الابن الذي يحبه كثيرا. شعر بأن ما كان منه من  الحب في مكانه فهذا الولد هو الذي سيخلفه في النبوة. إنه يعرف بأن النبي الصغير لا يمكن أن يسود إخوانه إلا بعد أن يتخطى عقبات في الحياة العملية تساهم في تطوير شخصيته وإنضاجها، كما شعر بأن يوسف سوف يبتعد عن إخوانه فترة ليكتسب القدرة السياسية أو المالية الدنيوية حتي يهابه إخوانه فيخضعوا لمقامه العظيم المرتقب.

انتبه يعقوب إلى أن رسالة هذا الولد سوف تكون أكبر من رسالته هو والمحصورة في الأسرة وبأنه سوف يُنذر أمة أخرى.

إنه كنبي يعرف بعدم إمكانية أن ينتقل نبي إلى قوم غير قومه إلا إذا كان صغيرا ليعيش بينهم فيصير واحدا منهم. يعقوب فكر في كل ذلك من منطلقه العلمي باعتباره نبيا علمه الله تعالى الكثير من المفاهيم العلمية عن طريق الوحي.

بالطبع أن يعقوب كغيره من الأنبياء كان يسعى بنفسه لكسب العلم ولكن إيمانه العميق الذي أوصله إلى درجة النبوة كان يساعده على درك الحقائق العلمية شيئا فشيئا.

وبعد أن عاش يعقوب لحظات مع تأملاته في ذلك المنام وتطبيق معلوماته العلمية على ما فهمه من الرؤيا الغريبة بدأ بتقديم النصيحة لابنه.

قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴿5﴾

اختار يعقوب كلمة جميلة حينما أراد أن يمنع ابنه من نشر رؤياه. استعمل كلمة القصة ما يدل على أنه آمن بصحة الرؤيا التي رآها ابنه واعتبرها حقيقة سوف تظهر وتتجلى.

وحينما ننتبه لتفسيره للرؤيا نعرف بأنه عليه السلام تحدث مطمئنا بنبوة ابنه يوسف في المستقبل وبصحة كلّ ما احتملنا مروره في مخيلته كإنسان مفكر عظيم.

وكلمة القصة مصطلح قرآني يدل على سرد حقيقي لمواقف متعددة وقعت أو ستقع لاحقا. وغالب القصص القرآني منسوب إلى الله تعالى وقلما نجد الله تعالى ينسب القصة إلى أنبيائه كموسى و يوسف في هذه الآية الكريمة.

فقول يعقوب لابنه لا تقصص يعني لا تكشف هذه الحقيقة لإخوانك. فإخوانه الذين طالما امتعضوا من قرب يوسف من قلب يعقوب، لن يتحملوا أن يروه نبيا يسودهم كما يسودهم أبوهم اليوم.

قال يعقوب ذلك لينجي أولاده العشرة من ورطة الكيد لأخيهم فلا يمكن أن يغفر الله تعالى لهم ذنب القتل لو وقع منهم.

إنه سبحانه يعتبر قتل إنسان واحد قتلا لجميع الناس كما كتبه تشريعا على أمة موسى. لكن هؤلاء هم أسرة أنبياء وكان آباؤهم مشرعين لهم وكانوا جميعا مسلمين تشريعا.

يعرف يعقوب بأن جريمة القتل العمد تجلب غضب الله تعالى وإذا جاء الغضب ذهبت الرحمة وذهب معها الهدى. كما أن يوسف المرشح للنبوة كان يعرف ذلك قطعا ولذلك لم يوضح له يعقوب بأن سعيَ إخوانه لقتله سوف يجلب غضب ربهم.

إنهما كانا على يقين من عدم إمكانية قتل يوسف بعد هذا المنام الذي يدل دلالة واضحة كما سنعرف على ما ينتظر يوسف من النبوة. لكنهما لا يريدان تورط الإخوة في جريمة قاطعة يكفي التهيؤ لها لجلب الغضب المميت للقلب موتا أبديا لا رجعة فيه.

بالطبع أن القرآن لم يقل بأن يعقوب كان يقصد القتل حينما استعمل الكيد ولكني أحتمل ذلك باعتبار أن الإخوة قصدوا القتل فعلا لولا أخوهم الأكبر، ثم إن يعقوب بين لهم تخوفه من أن يأكله الذئب وهو يعني بأنه كان يحتمل قيام أولاده بقتل أخيهم أو تعريضه للموت، والعلم عند الله تعالى.

نبه يعقوب ابنه يوسف بأن الشيطان عدو واضح للإنسان ومعروف لدى أهل العلم. فعليه كناصح أمين أن يتحاشى فتح المجال للشيطان فيمتنع عن نقل الرؤيا للإخوة. ومن المؤكد أن يوسف لم ينقل الرؤيا لهم أبدا قبل اليوم الموعود في قصر الملك الفرعوني فيما بعد، وما يقوله اليهود غير صحيح قطعا.

خشي يعقوب وكانت خشيته في محلها أن يقوم هؤلاء الإخوة بالكيد ليوسف لذلك التزما هو وابنه بعدم ذكر القصة. لكنهما كانا على علم الآن بأن يوسف مرشح للابتعاد عن الأسرة لفترة غير قصيرة. كانا يشعران بأن الله تعالى سوف يهيئ الظروف لإبعاد يوسف الشاب الذي يريد ربه أن يؤهله للنبوة ومنه للرسالة إلى إخوانه بعد أبيه. ولعلهما فكرا في أن هذا الابتعاد لا يمكن ألا ينطوي على رسالة للقوم الذين سوف يعيش يوسف بينهم.

فكيف يمكن ليوسف أن يكتسب القدرة الاجتماعية دون قوم وكيف يمكن له أن يرى أخطاء الناس ولا ينصحهم، وكيف يمكن أن يتواجد نبي بين قوم يحتاجون إليه وإلى علمه دون أن يبعثه ربه رسولا إليهم؟ ثم انتقل يعقوب إلى المقطع الأساسي من مقابلته مع ابنه الصغير وهو تفسير الرؤيا .

( هامش 2 :  للرؤيا تاريخ طويل في هذه الأسرة الكريمة. فقبل يعقوب كانت هناك رؤيا معروفة لجده إبراهيم التي فسرها بشكل خاطئ فظن وابنه إسماعيل بأن الرؤيا تنطوي على أمر إلهي بأن يقوم الأب بقتل ابنه.

بالطبع لا يمكن أن يأمر الله تعالى أحدا بقتل ابنه وبدون ذنب. كما أنه ليس معقولا أن يرسل الله تعالى أمرا لأحد في المنام. إن الكثيرين يؤمنون بعدم حجية المنام ولكنهم يقولون بأن منام الأنبياء حجة عليهم. بالطبع لم يقدم رجال الدين دليلا واضحا على هذا الادعاء لأناقشه.

لعلهم يظنون بأن الشياطين لا توسوس في صدور الأنبياء وهو غير صحيح. قال تعالى في سورة الحج:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52).

وقال سبحانه في سورة فصلت:

وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36).

وقال عز من قائل في سورة الأنعام:

وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68).

فالرسل كبقية الناس يميزون بين الوحي الباطل الشيطاني والوحي الصحيح من الملائكة بالسلب والإيجاب. فالله يأمر دائما بالإيجابيات، بالعدل والإحسان. ولكن الشيطان بعكس ذلك يأمر بالسلبيات، بالإثم والعدوان والطغيان.

ولكن إبراهيم فهم المنام هكذا، وأصبح تجاوبه وابنه مع هذا الفهم الخاطئ الكبير مجالا عظيما لاختبارهما.

لا شك ان الله تعالى نظر إليهما وهما يريدان تحقيق المنام بتفسيره الخاطئ بعين رحمته ورأفته حتى وصلا حد التنفيذ الأخير. هنالك تدخل الرؤوف الرحيم عز اسمه وأوقف قتل الأب لابنه بسبب الخطأ في تفسير الرؤيا. إلا أن الله تعالى منح إبراهيم وساما عظيما هو أبوة كل من سيأتي بعده من الأنبياء إضافة إلى إمامة الحج المختصة به دون غيره. إنه الإمام الوحيد المنصوص عليه والمعلن عنه في القرآن الكريم وفي كل كوكبنا الأرضي.       نهاية الهامش 2.)

انتهى الحديث هنا والى الحلقة القادمة ان شاء الله

أحمد المُهري

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :

islamjurisdev@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.