قصة #جان_بياجيه وعلم النفس الإدراكي!

 

 

قصة جان بياجيه وعلم النفس الإدراكي

الكتاب :

قصة جان بياجيه وعلم النفس الادراكي

KMAL.png

 

إذا كنا قد اقتصرنا حتى الآن في دراستنا لـ”ظهور العلم” على دراسة ظهور العلم على المستوى المجتمعي, فقد حان وقت دراستنا لظهور العلم على المستوى الفردي. 

ساعدتنا دراستنا لتاريخ العلم على إدراك أن العلم “منتج ثقافي” مثله في ذلك مثل الكتابة.  لا ينتج المجتمع هذا المنتج (أو أي منتج, في حقيقة الأمر) إلا إذا كان هناك احتياج شديد وملح لهذا المنتج.  هذا هو السبب في أن مجتمعات الصيد والتقاط الثمار لا تنتج حضارة, ولا كتابة, ولا علما.   لا تنتج مجتمعات الصيد والتقاط الثمار, مثلها في ذلك مثل مجتمعات الرعي والزراعة البسيطة, حضارة لأن المخزون الغذائي لديها يكفيها بالكاد ولا يسمح “بتفرغ” بعض من أفراد المجتمع لإدارة شؤونه ومن ثم أخذ الخطوة الأولى نحن الحضارة. حقيقة الأمر, صياغة الوضع بهذا الشكل هي صياغة خاطئة, حيث يتوجب القول إنه على حين لا يوجد مخزون غذائي “من أصله” لدى مجتمعات الصيد والتقاط الثمار, فإن المخزون الغذائي لدى مجتمعات الرعي والزراعة البسيطة لا يسمح إطلاقا بظهور “طبقة” لا تعمل بإنتاج الغذاء.  في مثل هذه الحالات لا يوجد في مثل هذه المجتمعات عمل واحد “يستحيل” أداؤه إلا عن طريق الكتابة أو عن طريق العلم.   وعليه فلا كتابة ولا علم.  يقول المثل العربي “عد غنمك, يا جحا.  قال واحدة نائمة والثانية قائمة”.   واحدة نائمة وواحدة قائمة, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 لا تظهر الكتابة, بهذا الشكل, إلا إذا كان المجتمع مشتبكًا في أعمال لا يمكن القيام بها إلا عن طريق الكتابة, كما لا يظهر العلم إلا إذا كان المجتمع مشتبكًا في أعمال لا يمكن القيام بها إلا عن طريق العلم.  يحتاج ضبط أعداد البط والأوز وأرادب الغلة الداخلة إلى مخزن الرجل العظيم إلى “تسجيل”, كما يحتاج ضبط أعداد البط والأوز الخارجة منه إلى تسجيل.  بدون “تسجيل” لا يمكن ضبط العمل في مخزن الرجل العظيم, وهكذا “يضطر” المجتمع إلى “اختراع” الكتابة.  يحتاج تحقيق العدل إلى ألا يستمع الإنسان إلا إلى ما يقوم عليه دليل, وهكذا “يضطر” المجتمع إلى “اختراع العلم”.   العلم, كما اتفقنا, هو ألا تستمع إلا إلى ما يقوم عليه دليل.  “يستحيل” تحقيق العدل إلا إذا استمعت “فقط” إلى ما يقوم عليه الدليل.   هذا هو العدل, وهذا هو العلم:  عدم الاستماع إلا إلى ما يقوم عليه دليل.

 إذا كانت دراستنا “لتاريخ ظهور العلم” قد ساعدتنا على “فهم” متى يظهر العلم على مستوى المجتمع, فإن دراستنا لعلم النفس الإدراكي سوف تساعدنا على “فهم” متى يظهر العلم على مستوى الفرد.  أي سوف تساعدنا على “فهم” العمر الذي يبدأ فيه الفرد في التفكير بطريقة علمية.  أي بعدم الحديث إلا عما يقوم عليه دليل وعدم الاستماع إلا إلى ما يقوم عليه دليل. 

 من الضروري التوكيد, في بداية رحلتنا هذه مع “علم النفس الإدراكي”, على نقطتين أساسيتين.  الأولى, أن قصة علم النفس الإدراكي هي, أساسا, قصة رجل واحد اسمه جان بياجيه (إضافة, طبعًا, إلى آلاف الرجال والنساء الذين عملوا – وما زالوا يعملون – على مساعدتنا على فهم كيف نشأ “الإدراك” لدى الإنسان).  الثانية, أن محاولة عرض نظرية بياجيه في خمس أو ست صفحات – أو حتى عشرين – تشبه محاولة إنسان أن يخصص ساعة أو ساعتين من وقته يوم الخميس لدراسة اللغة الفرنسية حتى يستطيع قراءة النصوص الأصلية لكتب علم النفس الإدراكي كما كتبها جان بياجيه يوم السبت, وبذا يتجنب “مشاكل الترجمة”.  ساعتان لا تكفيان لدراسة اللغة الفرنسية حتى تقرأ النصوص الأصلية لجان بياجيه, وعشرون صفحة لا تكفي لعرض نظرية جان بياجيه في نمو الإدراك لدى الإنسان.  يعني ذلك ضرورة النظر إلى الكلام الوارد في الصفحات القادمة على أنه “دردشة” لا على أنه “بحث” في نظرية جان بياجيه في نمو الإدراك.  المسألة, بهذا الشكل, تشبه من يقدم لك “بحثا” في خمس (أو ست) صفحات يتحدث فيها عن “الدراسات الإسلامية في القرون الأولى من الهجرة”.  ماذا يمكنك أن تقول عن الدراسات الإسلامية في القرون الأولى من الهجرة في ست صفحات؟  هذا, بالضبط, ما نحاول أن نفعله هنا.    

 يستطيع القاري المهتم, بالطبع, أن يرجع إلى النصوص الأصلية.  يتوافر على الشبكة أكثر من ثلاثة ملايين موقع تتحدث عن بياجيه.  أيضا تتوافر بالعربية ثلاثة كتب لا مفر من قراءتها لكل من يريد أن “يأخذ فكرة” عن الموضوع.  هذه الكتب هي “اللغة والتفكير عند الطفل” لجان بياجيه, و”الحكم الأخلاقي لدى الطفل” لجان بياجيه أيضا.  يتوافر الكتابان في مكتبة جامعة القاهرة حيث يمكن الحصول على صورة منهما.  الكتابات مترجمان ترجمة دقيقة إلى أقصى حد.  يتوافر كذلك كتاب “نظرية النحو العربي القديم” من تأليف كمال شاهين ونشر دار الفكر العربي.  يحتوي الكتاب على 80 صفحة يقدم المؤلف فيها عرضا وافيا – إلى حد ما – لنظرية جان بياجيه في نمو الإدراك لدى الإنسان. 

ولد جان بياجيه في مدينة نوشاتل السويسرية عام 1896 ونشر أول بحث له في الثالثة عشرة من العمر وحصل على الدكتوراة في البيولوجيا وهو في الحادية والعشرين من العمر.  يمكن القول, بهذا الشكل, إننا نتحدث عن “عالم بيولوجيا” أكثر مما نتحدث عن “عالم نفس”.  حقيقة الأمر, ظل بياجيه معظم حياته تقريبًا “عالم بيولوجيا” أكثر منه “عالم نفس” ولم يتحول إلى عالم نفس إلا في السنين الأخيرة من حياته – هذا إذا كان قد تحول. 

 حقًا, أظهر بياجيه اهتماما مبكرًا بعلم النفس الإدراكي, كما أنه قضى حياته كلها يدرس كيف “يدرك” الإنسان العالم حوله, إضافة إلى أنه هو مؤسس علم النفس الإدراكي, إلا أنه كان دائما “عالم البيولوجيا” المهتم بـ”علم النفس”.  يظهر ذلك بوضوح تام في نظرته إلى الإدراك على أنه “وظيفة بيولوجية” لا تختلف إن كثيرًا أو قليلا عن “وظيفة الهضم”, أو “الإخراج”, أو “الشم”, أو “النظر”, أو أي وظيفة بيولوجية أخرى.  تعمل كل هذه الوظائف على “الحفاظ على حياة الكائن الحي”.  يعني تعطل أي وظيفة نهاية الكائن الحي.  تماما مثلما تنتهي حياة الكائن الحي إذا فقد القدرة على الهضم – أو الإخراج – تنتهي حياة الكائن الحي إذا فقد القدرة على الإدراك.  الإدراك وظيفة بيولوجية.  صبغت هذه النظرة البيولوجية إلى الإدراك عمل بياجيه في حقل علم النفس الإدراكي من أول لحظة عمل فيها في هذا الحقل إلى آخر لحظة تقريبا.

تعود البدايات الأولى لاهتمام جان بياجيه بـ”وظيفة الإدراك” إلى الفترة التي انضم فيها إلى فريق من علماء النفس الفرنسيين كانت وزارة التعليم الفرنسية قد كونته في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين للنظر في المشاكل التي يواجهها نظام التعليم الفرنسي.   كانت فرنسا قد أدخلت في أواخر القرن التاسع عشر نظام التعليم الإلزامي الذي يلتحق فيه جميع الأطفال الفرنسيين بالتعليم المدرسي.  كان هذا عملا رائعًا, بالطبع, إلا أن المفاجأة التي كانت تنتظر وزارة التعليم الفرنسية هي في الفشل المزري لهذه الوزارة في تعليم هؤلاء الأطفال كما بينت ذلك نتائج الاختبارات السنوية, سنة وراء سنة, وراء سنة.  

 انضم جان بياجيه إلى هذا الفريق الضخم من الخبراء الذين يدرسون كل جوانب العملية التعليمية, من مناهج تعليمية, إلى معلمين, إلى أطفال, إلى اختبارات, إلى كل شيء.  في حالة الأطفال, مثلا, كانت هناك مجموعة تدرس “حجم ونوع المعلومات التي خرج بها الأطفال من دراسة منهج الوزارة”.  كانت هناك مجموعة أخرى تدرس “قدرة هؤلاء الأطفال على التعلم أصلا, بغض النظر تماما عن منهج الوزارة”.  كانت هناك مجموعة ثالثة تدرس “طريقة عمل حواس هذه الأطفال بغض النظر عن التعلم أصلا”. 

 كان عمل بياجيه يقتضي منه النظر في نتائج الاختبارات والتعرف على نوع الأسئلة التي أخطأ الأطفال في الإجابة عليها.  لم يمضِ وقت طويل, على أية حال, حتى بدأ بياجيه يفقد اهتمامه بموضوع أين أخطأ الأطفال هذا ويهتم بموضوع آخر هو : لماذا أخطأ الأطفال؟   لماذا يجيب كل الأطفال في الخامسة من العمر (تقريبا) إذا سألتهم عن معنى “إن غاب القط العب يا فأر” بأن هذه الجملة تعني أن القط لا يحب اللعب مع الفأر وأن الفأر يلعب لوحده؟  ولماذا يجيب كل الأطفال في الخامسة عشرة من العمر (تقريبا) على نفس السؤال بأن هذه الجملة تعني بأنه عندما يغيب “المسؤول” تنفرط الأمور ويفعل كل فرد ما يحلو له؟  لماذا إذا سألت أي طفل في الخامسة من العمر (تقريبا) ما إذا كان من الصواب القول بأن القاعدة العامة فيما يتعلق بالمصريين هي أنهم يتحدثون باللهجة المصرية فيأتيك الرد دائما (تقريبا) بأن هذا الكلام غير صحيح حيث إن صديقه أحمد ابن طنط منى يتكلم كويتي؟ وأن أحمد مصري.   كيف تفسر العجز الدائم, والمستمر, والأبدي عن إدراك أننا نتحدث عن قاعدة عامة وأن موضوع أن صديقه أحمد ابن طنط منى يتكلم كويتي لا يعني أن المصريين “كقاعدة عامة” لا يتحدثون باللهجة المصرية؟   في سن الخامسة عشرة يأتيك الرد دائما بأن هذه الجملة صحيحة, وأن المصريين فعلا يتحدثون – بشكل عام – باللهجة المصرية.  لماذا إذا أمسكت بكوب ضخم من الزجاج الشفاف به بعض الماء, ثم سكبت الماء في إناء ضيق طويل من الزجاج الشفاف كذلك بحيث يمتليء تماما, ثم سألت طفلا في الخامسة من العمر عما إذا كان الماء قد زاد أم نقص جاءتك الإجابة دائما وأبدا بأنه زاد, ثم إذا سكبت الماء مرة أخرى في الكوب الضخم ثم سألت الطفل نفس السؤال جاءتك الإجابة, أبدًا ودائما, بأنه نقص؟  لماذا تأتي الإجابة دائما بكل هذه الثقة, وكل هذه الجدية, وكل هذا الاعتزاز بالنفس؟  ولماذا ينظر الأطفال في الخامسة عشرة (أو حتى الحادية عشرة أحيانا) إليك إذا سألتهم نفس السؤال بعيون مليئة بالدهشة؟  ما معنى أن يسأل إنسان “عاقل” هذا السؤال الغبي؟  كيف يمكن للماء أن يزيد أو ينقص لمجرد أنه انتقل من كوب إلى كوب؟  أي عالم هذا الذي نعيش فيه الذي تزيد فيه كمية الماء عند نقلها من إناء إلى إناء, وتنقص مرة أخرى عند نقلها من إناء إلى إناء؟   نحن نعلم ذلك, والأطفال في الثالثة عشرة من العمر تعلم ذلك, فلما لا يعلم الأطفال في الخامسة من العمر ذلك؟  كانت هذه الأسئلة, ومئات من الأسئلة غيرها (حقيقة الأمر, آلاف الأسئلة) هي التي جعلت جان بياجيه يهب حياته “بالكامل” للإجابة عليها.  وهي الأسئلة والأجوبة التي أنتجت لنا في النهاية “علم النفس الإدراكي”.

21 مارس 2013

 

 

 

 

نظرية نمو الإدراك –  تخيل صنعة الله!

كان من الواضح تماما لبياجيه أن إدراك الأطفال للعالم حولهم يختلف تماما عن إدراك الكبار. وعليه, اتخذ قرارًا واضحًا بأن إدراك الأطفال يختلف عن إدراك الكبار.  كانت هذه أول مرة في التاريخ يتم النظر فيها إلى تفكير الأطفال على أنه “فعلا” تفكير أطفال.  كانت الفكرة السائدة قبل ظهور بياجيه هي أن تفكير الأطفال لا يختلف عن تفكير الكبار إلا من ناحية الكمية, أي أن كمية المعلومات المتوافرة لديهم تختلف عن كمية المعلومات المتوافرة لدى الكبار.  أثبت بياجيه أن الاختلاف إنما هو اختلاف في “النوع” وليس في الكمية وحسب.  أي أثبت أن إدراك الأطفال يختلف اختلافًا “نوعيًا” عن إدراك الكبار.

كان من الواضح لبياجيه كذلك أن إدراك الأطفال يتغير بحيث يصبح “مع الوقت” من نفس نوع الإدراك الموجود لدى الكبار.  يعني هذا, طبعًا, أن “إدراك الإنسان” يتغير مع الوقت, أي ينمو.   وعليه, ذهب بياجيه إلى أن إدراك الكائن البشري للعالم حوله ينمو عبر أربع مراحل, هي كالتالي:

  1. المرحلة الحسية الحركية
  2. المرحلة الحدسية
  3. المرحلة العينية
  4. المرحلة التجريدية

 

  1. المرحلة الحسية الحركية

تشير المرحلة الحسية الحركية إلى تلك المرحلة التي “يتعلم” فيها الطفل كيف يستخدم “حواسه” وكيف “يحرك” يديه وقدميه, وكيف يقف على قدميه, وكيف يتجه يمينا أو يسارا, أو يستمر في سيره إلى الأمام, وكيف يحدد مكان صدور الصوت – في حالة صدور صوت, إلى آخر ما هنالك من أشياء يتعلمها فيما يتعلق بحواسه وحركته.  يظهر هذا الأمر, بوضوح تام, إذا انتبهنا إلى ما يفعله الأطفال في هذه السن (من الميلاد إلى أقل من عامين) عندما تلفت نظرهم لعبة بجوارهم ويمدون يدهم للإمساك بها.  الذي يحدث هنا (دائما وليس تقريبا) أن الطفل يفشل في “إدراك” مكان اللعبة ويمد يده للإمساك بها في مكان هي لا توجد به.  يعيد الطفل المحاولة عدة مرات حتى ينجح أخيرًا في الإمساك باللعبة التي يريد الإمساك بها.  الذي يحدث هنا هو أن الطفل “يتعلم” التنسيق بين ما تراه عينه وبين يده, فضلا عن أنه يتعلم “أين” توجد بالضبط تلك اللعبة.

تمتد “المرحلة الحسية الحركية” من لحظة ميلاد الطفل إلى اللحظة التي ينطق فيها بأول كلمة – وهي دائمًا (وليس تقريبا) كلمة “ماما”.  تعود أهمية هذه اللحظة إلى أنها تعلن ميلاد “الإنسان”.   الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يستخدم “الرموز”.  من الضروري هنا الإشارة إلى أن أول كلمة يستخدمها الطفل في أي لغة من لغات العالم لا بد أن تكون كلمة تشير إلى الأم.  يعود ذلك إلى أن الأم هي الشخص الملازم له طوال الوقت في هذه المرحلة.  من الضروري كذلك الإشارة إلى أن الدراسات التي تمت في حقل علم اللغة تشير إلى أن الطفل يحتاج في هذه المرحلة إلى أن تتردد “أي كلمة” أمامه ما لا يقل عن مئة ألف مرة لكي يمكنه اكتسابها.  تخيل, مئة ألف مرة!

 

  1. المرحلة الحدسية

المرحلة الحدسية هي تلك المرحلة التي يحاول فيها ذلك الإنسان الذي ولد لتوه (بعد أن “نطق”) أن يمارس دوره كإنسان.  أي أن يسيطر على العالم حوله.  تذكر هنا أن الإنسان هو المخلوق الوحيد من مخلوقات الله الذي لا يكتفي بأن “يتكيف” مع البيئة حوله بل يعمل على “تغييرها” لتتواءم مع رغباته. 

هل رأيت حيوانا يحرك حجرًا ليجلس عليه؟  هل رأيت قردًا يبني عشا لعروسه؟  هل رأيت قرودًا تمسك بعصي لتضرب بها قرودًا أخرى؟  أو لتتوكأ عليها؟  هل رأيت حيوانًا يبني بيتا, ويصنع له بابا, ويدخل بيته ويغلق بابه عليه؟  الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يفعل ذلك, وهذا الإنسان الذي ولد لتوه (نطق بكلمة ماما) سوف يفعل ذلك, وسوف ينجح بإذن الله في فعل ذلك.  كل ما هو مطلوب منه هو أن “يتعلم” كيف يفعل ذلك. 

من الضروري هنا أن نتذكر أن الله خلق “الإنسان في أحسن تقويم”, أي أن الله لم يخلق الإنسان ثم علمه كيف يصنع المنازل, والأبواب, والنوافذ, وإنما خلق إنسانا يستطيع أن يصنع المنازل, والأبواب, والنوافذ, بل يستطيع أن يصنع ما يريد.  تخيل الفرق بين أن تصنع آلة حاسبة وتزودها بأعظم برامج في العالم, وبين أن تصنع آلة حاسبة تستطيع أن تصنع أي برنامج في العالم تريد صنعه.  تخيل صنعة الله!  فقط, تخيل صنعة الله! 

لكي يحقق الإنسان إرادة الله, إذن, عليه أن “يتعلم” كيف يصنع ما يريد.  أي عليه أن يتعلم كيف يسيطر على العالم حوله.  مرة أخرى, تذكر أن الإنسان هو خليفة الله في أرضه.  تبين قصة نمو الإدراك قصة كفاح الإنسان في التخلص من المعوقات التي تعيق فهمه لدنيا الله وبالتالي تعيق مسعاه إلى السيطرة على دنيا الله.  باختصار, تبين قصة نمو الإدراك قصة كفاح الإنسان في سبيل تحقيق مراد الله.

تبين دراسة بياجيه لنمو الإدراك لدى الإنسان وجود عدد من المعوقات التي تعيق فهم الإنسان للعالم الذي نعيش فيه.  من ذلك تصور الإنسان أنه “مركز الكون” وبالتالي فالكون يسعد بسعادته, ويحزن لحزنه, ويفرح لفرحه, ويشقى لشقاءه.  من ذلك, كذلك, عجز الإنسان عن النظر إلى أي موضوع نظرة كلية والحكم على الأمور بالنظر إلى جانب واحد فقط منها وعدم أخذ الجوانب الأخرى في الاعتبار.  من ذلك أيضا تأسيس حكمنا على أي موضوع بناء على معطيات حواسنا, إضافة إلى قائمة طويلة من الأشياء الأخرى.  يحتاج كل عائق من هذه العوائق إلى دراسته مع بعض التفصيل.

 

مركزية الذات

يعجز الكائن البشري في هذه المرحلة عن إدراك أنه “كائن مستقل” يختلف عن الكائنات الأخرى حوله.  يظهر ذلك بوضوح تام في عجز الكائن البشري عن إدراك أن الآخر له وجهة نظر مختلفة.  يظهر ذلك, مرة أخرى, بصورة واضحة تماما في أن الكائن البشري في هذه المرحلة يتصرف كما لو أن الآخرين يعرفون ما يعرفه, ويرون ما يراه, ويشعرون بما يشعر به.    يظهر ذلك عندما يلعب الأطفال في هذه المرحلة (تمتد المرحلة الثانية من لحظة نطق الطفل بكلمة ماما إلى لحظة إدراك الطفل أن الآخر يمكن أن ينظر إلى نفس الشيء ولكن من زاوية مختلفة وبالتالي يرى شيئًا مختلفا) الاستغماية, وهي اللعبة التي يقوم فيها الطفل بإغلاق عينية حتى يعطي الأطفال الآخرين الفرصة في الاختباء ويبدأ في العد من واحد إلى عشرة وبعد ذلك يفتح عينيه ويبدأ في البحث عن الأطفال في الأماكن التي يحتمل أن يكونوا قد اختبأوا فيها.  العادي في هذا العمر (من سنتين إلى خمس) أن تجد طفلا جالسا في مكانه لم يفعل شيئا من أجل أن يختبيء أكثر من أنه أغمض عينيه.    الفكرة هنا أن الطفل يتصرف على أساس أنه طالما هو لا يراك فأنت لا تراه. 

تظهر مركزية الذات كذلك في تجربة بسيطة يقوم بها الباحثون في علم النفس الإدراكي.  يجهز الباحث مائدة يجلس على طرف منها طفل, على حين يجلس على الطرف الآخر طفل آخر.  يضع الباحث في منتصف الطاولة كتابًا به صورة كلب من ناحية وصورة قطة من الناحية الأخرى, بحيث إذا نظر إليه الطفل الجالس على اليمين رأى صورة كلب, أما إذا نظر إليه الطفل الجالس على اليسار وجد صورة قطة.  يذهب الباحث إلى الطفل الجالس على اليمين ويبدأ في سؤاله عن الصورة التي يراها, وبالتالي ينطلق الطفل في الحديث عن الكلب الأسود الكبير الموجود في الصورة أمامه.  ينتقل الباحث إلى الطفل الجالس على اليسار ويبدأ في سؤاله بدوره, وهنا ينطلق الطفل في الحديث عن القطة البيضاء, الصغيرة, الجميلة التي يراها أمامه.  هنا يقترب الباحث من الطفل ويسأله بصوت منخفض عن رأيه فيما يخبرهم به الطفل الجالس على اليمين.  ما موضوع الكلب الأسود هذا؟  يرد الطفل دوما (تقريبا) بأن الطفل الآخر مجرد طفل كذاب.  ها هي الصورة أمامك يا عمو,  قطة بيضاء.  في هذه المرحلة, إذن, ما أراه أنا يراه الآخرون.  أنا أرى قطة بيضاء, إذن الكل يرى قطة بيضاء.  أنا ألعب استغماية.  أنا أغمضت عيني فأنا لا أرى أحدًا, إذن لا أحد يراني.    من الضروري الانتباه هنا إلى أنه على الرغم من أن هذه الظاهرة تعود إلى عجز الطفل عن إدراك أنه كائن “مستقل” وأن ما يراه هو لا بد أن يكون مختلفا عما يراه الآخرون, وأن ما يعرفه هو لا بد أن يكون مختلفا كذلك عما يعرفه الآخرون, إلا أن سلوك الطفل (يبدو) وكأنه يتصرف على أساس أنه هو مركز الكون.  ما يراه هو يراه الآخرون, وما لا يراه هو لا يراه الآخرون. 

يظهر أثر مركزية الذات في نظرة الطفل كذلك إلى الأشياء المحيطة به.  إذا كان الطفل يتصرف على أساس أن ما يراه هو يراه الآخرون, وما لا يراه هو لا يراه الآخرون, وأن ما يعرفه هو يعرفه الآخرون, وما لا يعرف هو لا يعرفه الآخرون, فإن من الطبيعي للغاية أنه إذا كان الطفل يشعر فالأشياء تشعر, وإذا كان الطفل يقصد فالأشياء تقصد.  أي باختصار, إذا كان الطفل طفلا فكل الأشياء أطفال مثله.   يظهر هذا في تعامل الطفل مع العالم حوله, كما يظهر في تفسير الطفل للأشياء حوله.

إذا حدث وأن اصطدم الطفل بجدار أثناء جريه من مكان إلى آخر, فإن على “ماما” أن تضرب الجدار لأن الجدار “وِحِش” ومؤذٍ لأنه كان “يقصد” الاصطدام بـ”أحمد”.  الجدار “وِحِش”.   إذا حدث أن انهار جسر أثناء مرور أشخاص فوقه, فإن ذلك لم يحدث لأن الجسر متهالك, أو لخطأ في التصميم, وإنما لأن الجسر “شرير” يقصد إيذاء الناس.  إذا حدث وأن سقطت أمطار فإن ذلك لم يحدث نتيجة اصطدام تيار من الهواء البارد بكتلة من الهواء تحمل بخار ماء, وإنما لأن السحابة “الطيبة” أرادت أن تروي النباتات “العطشانة” أو لمجرد مضايقة “أحمد” أو إسعاد “أحمد”.    وقصة طويلة ملخصها أن الطفل لا يعيش معنا في هذا العالم “الميت” الذي لا توجد به حيوانات مثلنا (حتى الآن) تقصد ما تفعل, وإنما يعيش في عالم ينبض بالحياة, عالم تحول فيه كل شيء إلى طفل مثله.  عالم من الأطفال.

لا يكف الطفل عن التصرف على أساس هذه الفكرة إلا بعد آلاف الاصطدامات مع الأطفال الآخرين وهي الاصطدامات التي تدفعه إلى إدراك أن هناك أطفالا آخرين في هذا العالم لهم وجهات نظر أخرى, ورغبات أخرى, وأنه لا بد أن يأخذ هذا الأمر في الاعتبار وإلا تحولت حياته إلى سلسلة لا تنتهي من الاصطدامات.  عندما يحدث ذلك.  عندما يدرك الطفل أن هناك أطفالا أخرى, لها وجهات نظر أخرى, وأن وجهة نظرة ليست وجهة النظر الصحيحة الوحيدة على حين أن كل الأطفال الآخرين كذابون, يكون ذلك إعلاما بانتهاء المرحلة الثانية, وأن الطفل قد دخل المرحلة الثالثة.  مرحلة العمليات العينية.

 

النظرة الجزئية

المقصود بالنظرة الجزئية هنا هو عجز الطفل عند النظر في أي موضوع عن أخذ أكثر من جانب واحد من جوانب الموضوع.  جانب واحد فقط من جوانب أي موضوع يكفي للحكم على كامل الموضوع ولتذهب كافة الجوانب الأخرى من الموضوع إلى الجحيم.  يظهر ذلك بصورة واضحة تماما في مسلسل تجارب نقل الماء من إناء إلى إناء.  يأتي الباحث بإناء من الزجاج الشفاف يمتاز باتساع قاعدته وقصر جوانبه.  يملأ هذا الإناء “ببعض” الماء.  يعرض الباحث هذا الإناء بالماء الذي يملأه على الأطفال.  يقوم الباحث بعد ذلك بإخراج إناء زجاجي شفاف آخر وإن كان يمتاز هذه المرة بضيق قاعدته وطول جوانبه.  يقوم الباحث بسكب الماء من الإناء القصير إلى الإناء الطويل.  يمتليء الإناء الطويل إلى قمته بالماء.  يسأل الباحث الأطفال عما إذا كان الماء قد زاد, أم نقص, أم بقي على حاله.  يجيب كل الأطفال بلا تردد بأنه قد زاد.  يعيد الباحث سكب الماء في الإناء القصير ويعيد السؤال.  تأتي الإجابة من الأطفال هذه المرة بأنه قد زاد.  وهكذا زاد ونقص, ونقص وزاد بدون أي مشكلة على الإطلاق.  والسبب هنا هو تلك النظرة الجزئية التي لم تأخذ في الاعتبار إلا بعدًا واحدًا فقط هو بعد “الطول” – طول الإناء –  مع تجاهل بعد العرض – عرض قاعدة الإناء – تماما.    مرة أخرى, لا يبدأ الطفل في التخلص من هذه النظرة الجزئية وأخذ كل أبعاد الموضوع في الاعتبار إلا مع دخوله المرحلة الثالثة, مرحلة العمليات العينية.

 

سيطرة الحس

لفهم هذه النقطة يلزم أن نفهم أولا أن هناك فرقًا بين الكون كما “نعرفه” والكون كما “نراه”.  يظهر الفرق بين الكون “كما نعرفه” والكون”كما نراه” عندما نقود السيارة في الطريق من مرسى مطروح إلى واحة سيوة عبر 300 كيلو وسط رمال صحراء مصر الغربية.  تمتد آلاف الأعمدة على امتداد الطريق تحمل أسلاك الهاتف من مرسى مطروح إلى سيوة.  إذا نظرت إلى أقرب واحد منها إليك لوجدته يرتفع إلى ما يقترب من ستة أمتار (تقريبًا –  مجرد تقدير شخصي) أما إذا نظرت إلى أبعد واحد منها, هناك عند خط الأفق, فسوف تجد أن طوله لا يزيد عن ستة سنتيمترات.  هذا هو العالم كما “يبدو” لنا.  هذا هو العالم كما نراه.  يبلغ طول أقرب عمود لنا ستة أمتار على حين يبلغ طول أبعد عمود عنا حوالي ستة سنتيمترات.  إلا أننا نعلم أن هذا هو العالم “كما يبدو” لنا.  هذا هو العالم  “كما نراه”. هذا ليس هو العالم “كما هو عليه”.  هذا ليس هو العالم الذي نعرفه.  نحن لا نعيش في عالم يبلغ فيه طول أقرب عمود لنا ستة أمتار على حين يبلغ طول أبعد عمود عنا ستة سنتيمترات.  هذا ليس هو العالم الذي نعيش فيه, هذا هو العالم الذي يعيش الأطفال فيه.  نحن نميز بين الصورة التي تعطيها لنا حواسنا عن العالم (العالم كما نراه أو العالم كما يبدو لنا) وبين العالم كما هو “حقًا” عليه, إلا أن الأطفال لا تميز.  الأطفال لها العالم الذي تراه فقط لأن هذا هو كل ما لديها.  نحن لدينا العالم الذي نراه والعالم الذي نعرفه.  الأطفال لا يوجد لديها سوى العالم الذي تراه فقط لأنه لا يوجد لديها العالم الذي تعرفه.

يظهر هذا الأمر بصورة واضحة تمام الوضوح إذا أتيت بكوب من الزجاج الشفاف وملأته إلى منتصفه بالماء.  ضع الكوب على مائدة بحيث يراه الأطفال بوضوح.  أمسك بقلم ثم ضعه في الكوب.  سوف “يظهر” القلم وكأنه مكسور.  اسأل الأطفال عما إذا كان القلم “سليما مستقيما” أم أنه مكسور.  سوف تأتيك الإجابة دائما (تقريبًا) بأنه مكسور.  حاول أن تتأكد مما إذا كانوا يقصدون “مكسور” فعلا أم أنهم يقصدون أنه فقط “يبدو” مكسورًا على حين أنه لا مكسور ولا يحزنون وأن المسألة مسألة “خداع بصري”.  وسوف تأتيك الإجابة بأنه “فعلا” مكسور.  إخرج القلم من الكوب وأعد سؤال الأطفال.  سوف تأتيك الإجابة, بدون تردد, بأنه “الآن” غير مكسور.  ضعه مرة أخرى. مكسور.  الأطفال لها “ما تراه”.  الأطفال لا يوجد عندها “ما تعرفه”.    مكسور, سليم, قصير, طويل.  لا توجد أي مشكلة.  لا توجد أي مشكلة على الإطلاق.  عندما تكون مستسلما للصورة التي تعطيها لك حواسك عن العالم.  عندما تكون هذه الصورة “الحسية” هي كل ما تملكه, فسيادتك لا توجد لديك أي مشكلة على الإطلاق في أي شيء.  أنت تعيش في عالم كل شيء فيه ممكن.  عالم أطفال المرحلة الثانية.

طبعًا, ليست هذه هي كل خصائص المرحلة الثانية, إلا أن هذه هي أهم خصائص المرحلة الثانية, وسوف نرى, إن شاء الله, أن كل الخصائص الأخرى مشتقة منها, سواء كان ذلك هو العجز عن إدراك التناقض, أو العجز عن تكوين المفاهيم, أو العجز عن التصنيف, أو العجزعن إعادة التصنيف, أو العجز عن التصريح بالقاعدة التي يقوم عليها التصنيف, أو العجز عن التحقق, أو الاستدلال, أو التعريف, أو الاستنتاج.  حقيقة الأمر, أو العجز عن أي شيء.  في المرحلة الثانية من مراحل نمو الإدراك أنت ليس لك إلا ما تخبرك به حواسك وحسب.  طويل, طويل, قصير قصير.  ولا شيء غير ذلك.   22 مارس 2013

كل شيء ممكن

تحدثنا في المقال السابق عن العوائق التي تمنع الإنسان في المرحلة الحدسية من “فهم” العالم الذي نعيش فيه, حيث عرضنا لثلاثة من هذه العوائق هي “مركزية الذات”, و”النظرة الجزئية”, و”سيطرة الحس”.  دعنا اليوم نضيف عددًا آخر من المعيقات, على أن يكون واضحًا أنها “كلها” مشتقة من هاته الثلاثة الكبار.

 

  1. العجز عن التصنيف على أساس قاعدة ثابته

لا يستطيع الطفل في هذه المرحلة تكوين “مجموعات” على أساس قاعدة ثابتة لا تتغير.  مثال على ذلك, إذا أعطيت طفلا مجموعة من اللعب تتكون من مكعبات, وأهرامات, وكرات بعضها أصفر, والبعض أزرق, والبعض أحمر, ثم طلبت منه أن يقسمها إلى ثلاث مجموعات, فإن الطفل هنا أمام خيارين: إما أن “يصنف” على أساس اللون, فيقسم اللُعب على أساس اللون, وإما أن يقسمها على أساس الشكل.  فإذا قسمها على أساس اللون, فعليه أن يضع كل المكعبات والأهرامات والكرات الحمراء في مجموعة واحدة, يلي ذلك المجموعة الزرقاء, ثم الصفراء.  أما إذا قسمها على أساس الشكل, فعليه أن يضع كل المكعبات سويا بغض النظر عن اللون, ثم كل الأهرامات, ثم كل الكرات.  ومرة أخرى بغض النظر عن اللون.  الذي يحدث في هذه المرحلة أن الطفل لا يفعل ذلك أبدا (تقريبا).   ما يحدث هو أن الطفل قد يبدأ بالتصنيف على أساس اللون, وبذا يضع كرة حمراء, يليها مكعب أحمر, يليها هرم أحمر, إلا أنه يضع هرما أصفر وراء الهرم الأحمر لأن الاثنين أهرامات, وبذلك يبدأ “مسلسل” الأهرامات و”ينسى” موضوع اللون.  لا يستمر مسلسل الأهرامات طويلا, على أية حال, إذ سرعان ما يضيف إلى الأهرامات الحمراء, أو الصفراء, مكعبا أحمر, أو أصفر.  وينتهي الحال, كما هو الحال دائما في هذه المرحلة, بمجموعة من الأشكال والألوان المختلفة لا رابط بينها.

 

  1. العجز عن تكوين مفاهيم متجانسة

المفهوم مصطلح يقصد به الفكرة أو التصور الموجود في ذهن الفرد عن جزء من أجزاء الواقع.  بناء على ذلك, يعد “الحب” مفهوما, وكذلك “الحرب” و”الخبز” و”الكبريت” بل وحتى مصطلح “مفهوم” نفسه.  أي في حقيقة الأمر, كل شيء وأي شيء موجود في أذهاننا. 

الآن إذا أخذنا واحدًا من هذه المفاهيم وقمنا بفحصه لوجدنا أنه يشير إلى “عدة أجزاء من الواقع يجمع بينها وجه شبه واحد أو عدة أوجه شبه”.   بعبارة أخرى, يشير مصطلح “مفهوم” إلى “مجموعة من أجزاء الواقع تجمع بين أفرادها نفس الخاصية أو نفس الخصائص”.  مثال على ذلك, يشير المفهوم “كلب” إلى نوع من أنواع الحيوان تجمع بين أفراده عدة أوجه شبه, وأوجه الشبه هذه هي التي تساعدنا على التعرف على ما إذا كان حيوان ما من ضمن هذا النوع أم لا. 

عملية تكوين المفاهيم, بهذا الشكل, ليست سوى عملية “تجميع” على أساس وجه الشبه.  من هنا يمكن أن ندرك الصعوبات التي يلاقيها الطفل الحدسي.  كما سبق أن رأينا أثناء دراستنا لعملية “التصنيف”, يقوم الطفل في المرحلة الحدسية بتجميع أجزاء الواقع بطريقة عشوائية, حيث إن النظرة الجزئية للواقع لا تمكنه من إقامة مجموعات متجانسة تجمع بين أفرادها نفس الخاصية.  من الطبيعي, بهذا الشكل, أن يعجز الطفل عن تكوين مفاهيم تشير إلى “أجزاء من الواقع تجمع بينها وجه شبه واحد أو عدة أوجه شبه”.   هذا هو, إذن, ما يفسر لماذا تنتهي عملية تكوين المفاهيم عند الطفل الحدسي إما بمفاهيم واسعة تضم أجزاء من الواقع غير متجانسة, أو بمفاهيم ضيقة لا تضم أجزاء من الواقع على الرغم من تجانسها مع باقي أفراد المجموعة.   مثال على ذلك, قد يكون مفهوم الطفل الحدسي عن “الكلب” واسعًا بحيث يشمل بعض أنواع الذئاب والثعالب, أو ضيقا بحيث لا يشمل بعض أنواع الكلاب.

 

  1. العجز عن إدراك التناقض

في دراستنا لنقطة “سيطرة الحس” قلنا إنه لكي نفهم هذه النقطة لا بد أن نفهم أولا الفرق بين “العالم كما نعرفه” و”العالم كما نراه”.  العالم الذي نعرفه هو عالم لا تكبر فيه الأشياء عندما نقترب منها كما أنها لا تصغر عندما نبتعد عنها, وإنما هو عالم “ثابت”.  كل ما يحدث هو أن الأشياء “تبدو” صغيرة عندما تكون بعيدة عنا إلا أنها تكبر عندما نقترب منها.  “طبعًا” نحن نعلم أنها “لا تكبر” وإنما “تبدو” وكأنها تكبر.  هذا هو العالم كما نعرفه.

وعليه, تخيل لو أنك في الطريق إلى واحة سيوة وجدت صف أعمدة الهاتف على الطريق “يبدو” وكأنه “يصغر” كلما ابتعد عنك بحيث يقل طول العمود من ست أمتار إلى أن يصل – بالتدريج طبعا – إلى ست سنتيمترات عند خط الأفق, ثم “اكتشفت” أن الأعمدة “لا تبدو” وكأنها تصغر في الحجم وإنما تصغر “فعلا”.  تخيل لو أنك عندما وصلت إلى “العمود عند خط الأفق” وجدت أن طوله هو فعلا ست سنتيمترات.  كلي ثقة من أنك ستشعر بأن هناك كارثة كونية قد حدثت للتو.  العالم الذي نعيش فيه “لا يعمل” بهذا الشكل. 

إدراك التناقض, إذن, يحتاج أولا إلى أن تكون لديك “فكرة” عن الطريقة التي يعمل بها العالم, ثم حدوث شيء يتناقض مع هذه الفكرة – أي لا يتفق معها.  أما إذا لم تكن لديك فكرة أصلا عن كيف يعمل العالم فلا يوجد بالتالي أي مجال لتناقض أي فكرة مع أي فكرة.  في حالة الطفل الحدسي, لا توجد لدى الطفل الحدسي أي فكرة عن الطريقة التي يعمل بها العالم, وبالتالي لا يوجد لديه أي إدراك  للتناقض بين الصورة التي تقدمها له حواسه عن العالم, وبين العالم كما هو عليه بالفعل.  أقرب عامود هو أكبر عامود.  حقًا وصدقا.  أبعد عامود هو أصغر عامود.  صدقا وحقا.  عندما نقترب من أبعد عامود يبدأ في “النمو”بسرعة ويصبح أكبر عامود.  هذه هي طبيعة الأشياء.  باختصار, العالم الذي يعيش فيه الطفل الحدسي هو عالم مختلف تماما عن العالم الذي نعيش فيه.  عالم لا يحكمه أي قانون على الإطلاق.  عالم من “الفوضى” المطلقة.  عالم لا حدود للممكن فيه.  كل شيء ممكن.  في مثل هذا العالم لا يمكن أن يتناقض أي شيء مع أي شيء.  كل شيء ممكن.  هذا هو السبب في عجزالطفل الحدسي المطلق, والتام, والشامل, والكامل عن إدراك التناقض.  في المرحلة الثانية من مراحل نمو الإدراك, كل شيء ممكن.

 

  1. العجز عن الاستنتاج, أو الاستدلال, أو الاستقراء, أو التعريف, أو الافتراض

يعجز الطفل في هذه المرحلة عن الحصول على أي نوع من المعلومات خلاف المعلومات التي تقدمها له حواسه.  يظهر هذا بصورة واضحة تمام الوضوح في عجز الطفل الحدسي عن استخدام المعلومات “الموجودة لديه” للحصول على معلومة جديدة.  هناك تجربة تستطيع القيام بها للتأكد بنفسك من هذه النقطة.  كل ما تحتاج إليه هو طفل في حدود السادسة من العمر.

يبدأ الباحث في هذه التجربة بالجلوس إلى مائدة يجلس الطفل على الجانب الآخر منها.  يقوم الباحث بفتح درج في هذه المائدة توجد به ثلاثة عصي كل واحدة ذات لون مختلف أطولها العصا الحمراء, يليها في الطول العصا البيضاء, يليها العصا السوداء.  (ألوان العلم المصري).  يخرج الباحث اثنتين فقط من هذه العصي, هما الحمراء والبيضاء.  يقوم الباحث بسؤال الطفل عن أيهما أطول على أن يتفحص الطفل الاثنتين بيديه للتأكد من أنه يعرف ما هو المطلوب منه بالضبط وحتى لا يكون هناك أي مجال للشك.   يتفحص الطفل العصوين ويقرر أن الحمراء أطول من البيضاء.  يمسك الباحث بالعصا الحمراء ويعيدها إلى الدرج ويخرج العصا السوداء.  يضع الباحث العصا السوداء والبيضاء أمام الطفل ويطلب منه أن يتأكد من طولهما.  يقوم الباحث بعد ذلك بسؤال الطفل عن أيهما أطول.  يرد الطفل – بكل ثقة, طبعا – أن العصا البيضاء أطول من السوداء.   يعيد الباحث العصوين إلى الدرج ويقفله ثم يعيد سؤال الطفل.  عندما قدمت لك العصا الحمراء والبيضاء, أيهما كانت أطول؟  يجيب الطفل بأنها كانت الحمراء.  وعندما قدمت لك البيضاء والسوداء, أيهما كانت أطول؟  يجيب الطفل بأنها كانت البيضاء.  ممتاز.  العصا الحمراء, إذن, أطول من البيضاء؟  نعم, يا عمو.  والبيضاء أطول من السوداء.  نعم, يا عمو.  وعليه, أيهما أطول من الأخرى؟  لا أعرف, يا عمو. 

لا أعرف, يا عمو.  هذا هو ملخص الموضوع.  يعرف الطفل الحدسي أن العصا الحمراء أطول من العصا البيضاء.  كما يعرف أن البيضاء أطول من السوداء.  إلا أنه لا يعرف ما إذا كانت الحمراء أطول, أم أقصر, من السوداء.  يعود ذلك إلى أنه “لم يرَ” العصا الحمراء ممددة أمامه على المائدة وبجوارها العصا السوداء.  هو لم يرَ, فكيف يعرف؟  يحتاج الحكم بأن الحمراء أطول من السوداء إلى “عملية عقلية” تسمى الاستنتاج.  الطفل الحدسي لا يستطيع القيام بأي عملية عقلية, سواء كانت استنتاجا, أم استدلالا, أم استقراءً, أم تعريفـًا, أم افتراضـًا, أم أي شيء.  الطفل الحدسي ليس له إلا ما “يراه”.  لا توجد هنا عمليات عقلية عليا.  يوجد هنا إدراك حسي فقط. 

 

 

  1. العجز عن التحقق

يستمد الطفل في هذه المرحلة المعلومات الموجودة في ذهنه إما من التجربة الشخصية المباشرة (أي المشاهدة) أو من التجربة الشخصية لأشخاص آخرين (أي الإخبار).   ينظر الطفل في كلتا الحالتين إلى هذه المعلومات على أنها “الواقع”.   لا يوجد هنا أي مجال “للشك” في صحة وسلامة هذه المعلومات حيث إنها إما أن تكون صادرة عن التجربة الشخصية المباشرة للطفل وبهذا فلا مجال للشك, أو صادرة عن التجربة الشخصية المباشرة لشخص آخر وهنا لا مجال للشك أيضا.  يعود ذلك إلى أنه مهما كان نوع هذه المعلومات فهي لا يمكن أن تتناقض مع العالم الذي يعيش فيه الطفل.  في العالم الذي يعيش فيه الطفل كل شيء ممكن. 

قصة نمو الإدراك لدى الكائن البشري, بهذا الشكل, هي قصة التغلب على مركزية الذات, والنظرة الجزئية, وسيطرة الحس, والعجز عن التصنيف على أساس قاعدة ثابتة, والعجز عن تكوين مفاهيم متجانسة, والعجز عن إدراك التناقض, والعجز عن الاستنتاج, أو الاستدلال, أو الاستقراء, أو التعريف, أو الافتراض, وأخيرًا, العجز عن التحقق.  المرحلة الثانية من مراحل نمو الإدراك, بهذا الشكل, هي المرحلة التي لا توجد فيها أية “عمليات عقلية عليا”, لا استنتاج, ولا استدلال, ولا افتراض, ولا استقراء, ولا تعريف, بل ولا حتى مفاهيم متجانسة.  كل ما هو موجود هو ما رآه الإنسان – أو سمعه – بنفسه أو أخبره به أبوك الحاج عبد الهادي شاهين أو أبوك الحاج أحمد لاشين, ولا شيء غير ذلك – لا شيء على الإطلاق.  لا يبدأ الطفل في أخذ الخطوات الأولى نحن إدراك الواقع كما هو عليه وليس كما تخبره حواسه أو يخبره أبوك الحاج عبد العاطي العكابري إلا في بداية المرحلة الثالثة من مراحل النمو الإدراكي.  تبدأ المرحلة الثالثة عندما يدرك الطفل أن حسام لم يكن كاذبًا عندما كان يتحدث عن “الكلب الأسود”.   حقًا, لم يرَ أحمد أي كلب أسود وإنما كان يرى قطة بيضاء, إلا أن حسام لم يرَ قطة بيضاء هو الآخر.  حسام كان يجلس على الناحية الأخرى من المائدة, ويتحدث عما يراه “من وجهة نظره”.  أنا لم أرَ كلبا أسود لأني كنت جالسا في مكان آخر.  هناك احتمال في أن حسام رأى فعلا ذلك الكلب الأسود الذي كان يتحدث عنه.  تبدأ المرحلة الثالثة عندما يدرك “الأطفال” أن هناك احتمالاً في أن الطفل الآخر لم يرَ القطة البيضاء التي كنا نحن ننظر إليها وإنما كانوا يرون كلبا أسود.

وللحديث, إن شاء الله بقية, إن كان في العمر بقية.   

23 مارس 2013

 

 

حكاية الكلب العجيب الذي تحدث عنه حسام

انتهى بنا الحديث في المقال السابق إلى كلام يلخص المقال السابق واللاحق, إذ يبين ما يحتاج الطفل إلى أن يتخلص منه من أجل الحصول على ما يحتاج إليه.  تقول آخر فقرتين في المقال  إن:

“قصة نمو الإدراك لدى الكائن البشري, بهذا الشكل, هي قصة التغلب على مركزية الذات, والنظرة الجزئية, وسيطرة الحس, والعجز عن التصنيف على أساس قاعدة ثابتة, والعجز عن تكوين مفاهيم متجانسة, والعجز عن إدراك التناقض, والعجز عن الاستنتاج, أو الاستدلال, أو الاستقراء, أو التعريف, أو الافتراض, وأخيرًا, العجز عن التحقق.  المرحلة الثانية من مراحل نمو الإدراك, بهذا الشكل, هي المرحلة التي لا توجد فيها أية “عمليات عقلية عليا”, لا استنتاج, ولا استدلال, ولا افتراض, ولا استقراء, ولا تعريف, بل ولا حتى مفاهيم متجانسة.  كل ما هو موجود هو ما رآه الإنسان – أو سمعه – بنفسه أو أخبره به أبوك الحاج عبد الهادي شاهين أو أبوك الحاج أحمد لاشين, ولا شيء غير ذلك – لا شيء على الإطلاق. 

لا يبدأ الطفل في أخذ الخطوات الأولى نحو إدراك الواقع كما هو عليه وليس كما “تصوره” له حواسه أو “يخبره” به أبوك الحاج عبد العاطي العكابري إلا في بداية المرحلة الثالثة من مراحل نمو الإدراك.  تبدأ المرحلة الثالثة عندما يدرك الطفل أن حسام لم يكن كاذبًا عندما كان يتحدث عن “الكلب الأسود”.  حقـًا, لم يرَ أحمد أي كلب أسود وإنما رأى فقط قطة بيضاء, إلا أن حسام لم يرَ القطة البيضاء هو الآخر.  حسام كان يجلس على الناحية الأخرى من المائدة, ويتحدث عما يراه هو “من وجهة نظره” هو.  أنا لم أرَ الكلب الأسود الذي كان يتحدث عنه حسام لأني كنت جالسا في مكان آخر.  هناك احتمال في أن حسام رأى فعلا ذلك الكلب الأسود العجيب الذي كان يتحدث عنه.  تبدأ المرحلة الثالثة عندما يدرك “الأطفال” أن هناك احتمالا في أن الطفل الآخر لم يرَ القطة البيضاء التي كنا نحن ننظر إليها وإنما رأى كلبًا أسود.

 

قصة نمو الإدراك لدى الكائن البشري, بهذا الشكل, هي قصة التغلب على مركزية الذات, والنظرة الجزئية, وسيطرة الحس, والعجز عن التصنيف على أساس قاعدة ثابتة, والعجز عن تكوين مفاهيم متجانسة, والعجز عن إدراك التناقض, والعجز عن الاستنتاج, أو الاستدلال, أو الاستقراء, أو التعريف, أو الافتراض, وأخيرًا, العجز عن التحقق.   أوضحت لنا آلاف التجارب التي تمت في حقل علم النفس الإدراكي (“حرفيًا” آلاف التجارب) كيف يتخلص الطفل في المرحلة الثالثة من مراحل نمو الإدراك من هذه الخصائص.

 

  1. قصة مركزية الذات

تبدأ المرحلة االعينية عندما يبدأ الطفل في إدراك الفرق بينه وبين العالم المحيط به.   هذه هي المرحلة التي يكتشف فيها الطفل أن الأشياء لا تفكر كما يفكر هو, ولا تشعر كما يشعر هو, ولا “تقصد” أن تصطدم بالأطفال لإيذائها, كما أن الجسور لا “تتعمد” أن تنهار عند مرور الأطفال الأشقياء فوقها.  هنا يكف الطفل عن النظر إلى الأشياء التي حوله كما لو كانت أشخاصا, كما يكف عن تخيل أشخاص تدير الأشياء من حوله.  هنا يبدأ الطفل في إدراك أن الأمطار تسقط عندما يتكثف بخار الماء الذي تحمله السحب نتيجة اصطدامها بتيار هواء بارد (وليس لأن شخصا يمسك بخرطوم ماء يرش به الأرض, كما كان يتخيل في المرحلة السابقة), كما يبدأ في إدراك ان الأنهار تنشأ من نحر المياه (وليس لأن أشخاصًا قاموا بحفرها في قديم الزمان, أيضا كما كان يتخيل).

هذه هي المرحلة التي يبدأ فيها الطفل في إدراك أنه مختلف عن الأشخاص الآخرين.   بمعنى أن الطفل هنا,على العكس من المرحلة الحدسية, تظهر لديه القدرة على إدراك أن الآخرين قد تكون لهم وجهة نظر تختلف عن وجهة نظره.   هنا يكف الطفل عن إبداء الدهشة عند رؤية طفل آخر يصف أشياء لا يستطيع هو أن يراها.  أشياءَ مثل ذلك “الكلب العجيب” الذي تحدث عنه حسام.   هنا يكف الطفل عن التعامل مع الآخرين كما لو كانوا يرون ما يراه, ويشعرون بما يشعر به, ويعرفون ما يعرفه.  في عبارة واحدة, لم يعد الطفل مركز العالم.

 

  1. قصة النظرة الجزئية

يصاحب ضمور مركزية الذات ضمور مماثل في “النظرة الجزئية” التي كانت تميز أحكام الطفل في المرحلة السابقة.   هنا يكف الطفل عن إصدار حكمه بأن كمية الماء في إناء ما أكبر من كمية الماء في إناء آخر بناءً على بعد واحد هو ارتفاع الماء في الإناء, ويبدأ في أخذ الأبعاد الأخرى في الاعتبار.  

 

  1. قصة سيطرة الحس

هنا أيضا “يبدأ” الطفل في التحرر من سيطرة الحس على حكمه على الواقع, وهنا أيضا يبدأ في إدراك أن العالم يتسم بـ”الثبات”.   لا يزيد الماء – هكذا فجأة – لمجرد أنه انتقل من إناء إلى إناء, ثم يقل – هكذا فجأة – لأنه عاد إلى نفس الإناء.   هكذا يبدأ الطفل, شيئا فشيئا, في إدراك أن العالم الذي نعيش فيه لا توجد به أشياء يزداد عددها – هكذا في لحظة – عما كان عليه في اللحظة السابقة, أو تزداد  كميتها – هكذا في لحظة – عما كانت عليه في اللحظة السابقة.  أي أن الطفل يبدأ في إدراك أن العالم الذي نعيش به هو عالم يتسم بـ “الثبات”.

توضح الدراسات التي أجراها بياجيه أن اكتشاف الطفل لـ”ثبات العالم” لا يتم فجأة في جميع القطاعات, وإنما بالتدريج, وفي قطاعات مختلفة.  في بداية المرحلة العينية, أي بين السابعة والثامنة, يبدأ الطفل في إدراك ثبات الكتلة, والمسافة, وحجم السوائل.   وفي منتصفها, أي بين التاسعة والعاشرة, يبدأ في إدراك ثبات الوزن.  في حين لا يبدأ في إدراك ثبات حجم الجوامد إلا في نهاية المرحلة العينية, أي بين الحادية عشرة والثانية عشرة من العمر.

 هنا يبدأ الطفل في إصدار حكمه على الواقع تأسيسًا على “ما يعرفه عنه” وليس تأسيسًا على “ما يراه عليه”.   في هذه المرحلة, وعلى العكس من المرحلة السابقة, يحكم الطفل على العصا بأنها “غير مكسورة”, حتى عندما  “تبدو” مكسورة, تأسيسًا على سابق معرفته لها بأنها “غير مكسورة”.  عندما يتعارض ما يعرفه الطفل العينيّ مع ما يراه فإنه لا يتردد في إصدار حكمه بناءً على ما يعرفه, وليس بناءً على ما يراه.

  1. قصة التصنيف على أساس قاعدة ثابتة

مع تحرر الطفل من سيطرة الحواس على إدراكه للواقع, وضمور النظرة الجزئية التي كانت تميز أحكامه في المرحلة السابقة, يبدأ الطفل في إظهار القدرة على تنظيم الأشياء في مجموعات متجانسة تجمع بين جميع أعضائها نفس الخاصية.   في هذه المرحلة,وعلى العكس من المرحلة الحدسية, إذا عرضنا على الطفل عددًا من الأشياء ذات الألوان المختلفة, والأشكال المختلفة, وطلبنا منه تصنيفها فإنه لا يجد صعوبة في تكوين مجموعات مختلفة على أساس اللون, أوعلى أساس الشكل, أو على أساس اللون والشكل.   أي أن الطفل في هذه المرحلة يكف عن تنظيم مجموعات يوجد بين كل عضو منها والآخر وجه شبه على حين لا يوجد وجه شبه مشترك بين كل أعضائها.

 

  1. قصة تكوين المفاهيم المتجانسة

مع ضمور النظرة الجزئية, وبالتالي زيادة مقدرة الطفل على أخذ أكثر من خاصية من خصائص الموضوع في الاعتبار, تبدأ في الظهور لدى الطفل القدرة على تكوين مفاهيم تضم أعضاءً متجانسة.  هنا يكف الطفل عن النظر إلى بعض الذئاب أو الثعالب على أنها كلاب, كما يكف عن النظر إلى بعض أنواع الكلاب على أنها حمير.  أي أن الطفل في هذه المرحلة, على العكس من المرحلة السابقة, يبدأ في إظهار القدرة على تكوين مفاهيم تجمع كل أعضاء النوع وتمنع دخول أعضاء أنواع أخرى.

 

  1. قصة العجز عن إدراك التناقض                                  

على العكس من طفل المرحلة الحدسية الذي كان يقرر أن العصا “مكسورة” عند وضعها في الكوب المليء إلى منتصفه بالماء, ثم يقرر أن نفس العصا “سليمة من كل سوء” بمجرد إخراجها من الكوب, ثم يقرر بمنتهى السهولة أيضا أنها “مكسورة” إذا أعدناها مرة أخرى إلى الكوب, فإن طفل المرحلة العينية يقرر أن العصا “سليمة مائة في المائة” سواء وضعتها في الكوب أم أخرجتها من الكوب.  في العالم الذي نعيش فيه “يستحيل” أن تنكسر أي عصا لأنك وضعتها في كوب به ماء.  ما هكذا يعمل العالم.  يدرك طفل المرحلة العينية, بهذا الشكل, أن الصورة التي تقدمها له حواسه عن “العصا المكسورة” إنما هي صورة تتناقض مع “ما يعرفه” عن العالم.  يصدر الطفل حكمه على العصا بناءً على ما يعرفه عن الطريقة التي يعمل بها العالم وليس بناء على الصورة التي تقدمها له حواسه.  

النقطة الأساسية هنا, والتي لا يمكن بدونها “أبدا” أن نفهم السبب في العجز عن إدراك التناقض, هي أن إدراك التناقض “لا يمكن أن يظهر” إلا مع ظهور “معلومات عن العالم تبين ما هو ممكن وما هو غير ممكن”.  في عالم تسكنه “الفوضى”, في عالم يمكن أن يحدث فيه أي شيء, في عالم يمكنك فيه أن تشتري آيس كريم من خنزب والولهان, لا يوجد أي تناقض بين أي شيء وأي شيء.  لا تظهر القدرة على إدراك التناقض إلا بعد إدراك أن العالم الذي نعيش فيه هو عالم “منتظم” يخضع لسنن إلهية من صنع خالق الكون وهي سنن يستحيل نقضها هكذا بمنتهى السهولة لأن أباك الحاج محمد أبو اسماعيل قد أخبرنا بذلك.   بدون هذا الإيمان بسنة الله في خلقه يستحيل أن يتناقض أي شيء مع أي شيء لأن كل شيء حينئذ يصبح ممكنا.

 

  1. قصة العجز عن الاستنتاج

مع تحرر الطفل من سيطرة الحس, ونمو القدرة على تكوين مفاهيم متجانسة, تبدأ في الظهور لدى الطفل “القدرة على استخدام معلومات قديمة للحصول على معلومات جديدة”.   عندما كنا نقدم للطفل في المرحلة السابقة (المرحلة الثانية) ثلاث عصي يرى الطفل “بأم عينيه” أن الحمراء منها أطول من البيضاء, وأن البيضاء أطول من السوداء – وهو ما يعني أن الحمراء, بدون أدنى شك, أطول من السوداء – كان الطفل دائما (ربما تقريبًا دائمًا) يرد عند سؤاله عما إذا كانت الحمراء أطول من السوداء أم أقصر, أم نفس الطول, كان الطفل يرد دائما (ربما دائمًا تقريبًا) بأنه لا يعرف.  لا يعرف لأنه لم “يرَ” العصا الحمراء بجوار السوداء – وكأن الأمر يحتاج إلى “تحقق”.   قد يبدو الأمر غريبا, إلا أن هذا هو ما يخبرنا به علم النفس الإدراكي, وهو أيضا ما يمكننا التحقق منه.    كل ما يحتاج إليه هذا التحقق هو طفل أو اثنان في السادسة من العمر.

في المرحلة الثالثة من نمو الإدراك, على خلاف ذلك, لا يجد الطفل العيني أية صعوبة في الرد على هذا السؤال. العصا الحمراء أطول من البيضاء.  يفعل الطفل ذلك بمنتهى السهولة, بل قد يضيف “طبعًا”, وكأن الموضوع لا يحتاج حتى إلى سؤال.  وكأنه لم يكن يجد من بضعة أسابيع فقط أن هذا السؤال هو سؤال عجيب.    كيف أجيب على سؤال بهذا الشكل وأنا لم “أرَ” شيئا؟

يختلف الطفل العيني, بهذا الشكل, عن الطفل الحدسي.  على حين لا يحصل الطفل الحدسي على المعلومات المتوافرة لديه إلا عن طريق الخبرة الشخصية المباشرة (المشاهدة), أو الخبرة الشخصية لشخص آخر (الإخبار), يستطيع الطفل العيني استخدام المعلومات “القديمة” المتوفرة لديه في الحصول على معلومات “جديدة”.  كل ما يحتاجه الأمر للحصول على هذه المعلومات هو “الاستنتاج”.  المشكلة هي أن “الاستنتاج” هو عملية عقلية عليا لا تتوفر للطفل إلا في المرحلة الثالثة فقط من مراحل نمو الإدراك.  في المرحلة الثانية من مراحل نمو الإدراك لا تتوفر أي عملية من العمليات العقلية العليا.  للحصول على أي معلومة لا بد أن ترى بنفسك, أو أن تسمع بنفسك, أو أن تسمع كلام أبيك الحاج عبد العاطي العكابري.  ولا شيء غير ذلك.  لا شيء على الإطلاق.

علينا أن نلاحظ, على أية حال, أن ظهور القدرة على الاستتنتاج لدى الطفل العينيّ لا يعني أنه قد تحرر “تمامًا” من سيطرة الحس المباشر.   يظهرذلك بوضوح في عجز الطفل في هذه المرحلة عن استخدام هذه القدرة على الاستنتاج إلا إذا كانت المعلومات التي يتعامل معها تتفق مع المعلومات التي حصل عليها عن طريق  المشاهدة أو الإخبار – أي تتفق مع الواقع كما يعرفه هو شخصيا.   مثال على ذلك, إذا ذهبنا إلى الطفل (في التجارب العلمية, نحن لا نذهب, بالطبع, إلى طفل واحد, وإنما إلى أكبر عدد ممكن من الأطفال وذلك لضمان صحة النتائج.  لا يمكن تأسيس “قاعدة عامة” بناءً على دراسة اقتصرت على طفل أو طفلين, أو حتى ثلاثة) الذي سألناه عن موضوع العصا الحمراء والسوداء, وقلنا له “على فرض, مجرد افتراض, أن العصا الحمراء كانت أصغر من البيضاء, وعلى فرض أن العصا البيضاء كانت أصغر من السوداء, فهل يمكن القول بأن العصا الحمراء أصغر من السوداء, أم أنها أكبر, أم نفس الطول؟”   بمجرد الانتهاء من السؤال سيأتيك الرد بأنها أطول.  بدون تردد أطول.  الطفل هنا لا يرد على السؤال الذي سألته, بناء على المعلومات المتوفرة في السؤال الذي سألته.  الطفل هنا يرد بناءً على المعلومات المتوفرة لديه هو, والمعلومات المتوفرة لديه هو (حسب ما رأى على أرض الواقع) هي أن العصا الحمراء أطول من البيضاء, والبيضاء أطول من السوداء.  وعليه, تكون الحمراء أطول من السوداء.  هذا هو ما يعرفه لأن هذا هو ما رآه.  هذا هو “ما رآه”.  مرة أخرى, نحن نتحدث عن سيطرة الحس المباشر.  عندما يستمع الطفل العينيّ إلى ما تقول, يستمع إلى ما تقول ويرد حسب ما رأى.  هو لا علاقة له بما تقول.  حكاية أن العصا الحمراء أصغر من البيضاء هي حكاية لا معنى لها أصلا.  الذي “يعرفه” الطفل – الذي “رآه” الطفل – هو أن العصا الحمراء أطول من العصا البيضاء, كما أن العصا البيضاء أطول من السوداء, وعليه تكون العصا الحمراء أطول من العصا السوداء.  قل سيادتك أنت ما تشاء وسوف يخبرك الطفل دوما بما يعرف.  وما يعرفه هو هو أن العصا الحمراء أطول من البيضاء.

 

قصة نمو الإدراك لدى الكائن البشري, بهذا الشكل, هي قصة التغلب على مركزية الذات, والنظرة الجزئية, وسيطرة الحس, والعجز عن التصنيف على أساس قاعدة ثابتة, والعجز عن تكوين مفاهيم متجانسة, والعجز عن إدراك التناقض, والعجز عن الاستنتاج, أو الاستدلال, أو الاستقراء, أو التعريف, أو الافتراض, وأخيرًا, العجز عن التحقق.  المرحلة الثانية من مراحل نمو الإدراك, بهذا الشكل, هي المرحلة التي لا توجد فيها أية “عمليات عقلية عليا”, لا استنتاج, ولا استدلال, ولا افتراض, ولا استقراء, ولا تعريف, بل ولا حتى مفاهيم متجانسة.  كل ما هو موجود هو ما رآه الإنسان – أو سمعه – بنفسه أو أخبره به أبوك الحاج عبد الهادي شاهين أو أبوك الحاج أحمد لاشين, ولا شيء غير ذلك – لا شيء على الإطلاق. 

 

لا يبدأ الطفل في أخذ الخطوات الأولى نحو  إدراك الواقع كما هو عليه وليس كما “تصوره” حواسه عنه أو “يخبره” به أبوك الحاج عبد العاطي العكابري إلا في بداية المرحلة الثالثة من مراحل نمو الإدراك.  تبدأ المرحلة الثالثة عندما يدرك الطفل أن حسام لم يكن كاذبًا عندما كان يتحدث عن “الكلب الأسود”.  حقًا, لم يرَ أحمد أي كلب أسود وإنما رأى فقط قطة بيضاء, إلا أن حسام لم يرَ القطة البيضاء هو الآخر.  حسام كان يجلس على الناحية الأخرى من المائدة, ويتحدث عما يراه هو “من وجهة نظره” هو.  أنا لم أرَ الكلب الأسود الذي كان يتحدث عنه حسام لأني كنت جالسا في مكان آخر.  هناك احتمال في أن حسام رأى فعلا ذلك الكلب الأسود العجيب الذي كان يتحدث عنه.  تبدأ المرحلة الثالثة عندما يدرك “الأطفال” أن هناك احتمالا في أن الطفل الآخر لم يرَ القطة البيضاء التي كنا نحن ننظر إليها وإنما رأى كلبا أسود.

 

قصة المرحلة الثالثة من مراحل نمو الإدراك, بهذا الشكل, هي قصة الرحلة التي قطعها أحمد من لحظة إدراكه أن هناك احتمالاً حقيقيًا أن حسام ربما يكون قد رأى فعلا ذلك الكلب العجيب الذي كان يتحدث عنه إلى اللحظة التي بدأ فيها في استخدام المعلومات القديمة المعروفة لديه والخروج منها بمعلومات جديدة.    مر أحمد خلال هذه الرحلة بتغيرات عديدة.  خسر أحمد الكثير إلا أنه كسب الكثير أيضا.  باديء ذي بدء, خسر أحمد مركزه كمركز الكون, إلا أنه تخلص كذلك من سيطرة الحس المباشر على رؤيته للعالم من حوله, كما اكتسب القدرة على التصنيف على أساس قاعدة ثابتة, فضلا عن القدرة على تكوين مفاهيم متجانسة, وأخيرًا القدرة على إدراك التناقض. 

 

انتقل أحمد, بهذا الشكل, من كونه مجرد “كائن حي” لا يستطيع النظر “نظرة شاملة” إلى أي شيء, لا توجد لديه أي فكرة عن الطريقة التي يعمل بها العالم, عاجز عن تكوين مفاهيم متجانسة, غير قادر على إدراك التناقض, عاجز عن الاستنتاج, أو الاستدلال, أو الاستقراء, أو التعريف, أو الافتراض.  لا يوجد في رأسه إلا ما رآه أو سمعه أو أخبره به أبوك الحاج أحمد لاشين.  حقًا, ما زال أحمد عاجزًا عن “التحقق” من صحة الأفكار الموجودة في رأسه, إلا أنه الآن قد أنهى المرحلة الثالثة بنجاح وسوف ينتقل قريبا جدًا إلى المرحلة الرابعة وهناك سوف يدرك أن هذه الأفكار الموجودة في رأسه ما هي إلا أفكار.  بعضها يستند إلى دليل, وبعضها الآخر لا يستند إلى دليل ويلزمه التحقق من صحتها.  والبعض الثالث لا يستند إلى دليل, ولا يمكن التأكد من صحته.  إلا أن هذه أشياء لا علاقة لها بالمرحلة الثالثة وسوف ننظر إليها في وقتها عند دراستنا للمرحلة الرابعة.  أما في الوقت الحالي فقد انتهت رحلتنا مع المرحلة الثالثة من مراحل نمو الإدراك, وهي مرحلة بدأت بذلك الكلب العجيب الذي تحدث عنه حسام, وانتهت بتلك النتيجة العجيبة التي يستطيع الواحد منا عن طريقها استخدام معلومات قديمة للخروج منها بمعلومات جديدة.  نتيجة عجيبة جدا.

24 مارس 2013

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عندما تدرك أن الأفكار الموجودة في رأسك ليست أكثر من تصورات عن الواقع

 انتهى بنا المقال السابق إلى أن “المكسب” الوحيد الذي خرج به أحمد من المرحلة الثانية هو أنه “أدرك” أن من الممكن أن ينظر إلى “نفس الشيء” ويرى جانبا لم يرَه حسام كما أن من الممكن أن ينظر حسام إلى نفس الشيء ويرى جانبا لم يرَه أحمد.  يحدث ذلك عندما ينظر أحمد إلى الجانب الأيمن من السيارة بينما ينظر حسام إلى الجانب الأيسر.  يحدث ذلك كذلك, وبصورة أوضح, عندما ينظر حسام إلى “مقدمة” السيارة بينما ينظر أحمد إلى “مؤخرة” السيارة.  المسألة تعتمد, إذن, على الزاوية التي تنظر منها. 

 

انتهى بنا المقال السابق كذلك إلى أننا إذا كنا ندخل المرحلة الثالثة ونحن لا نملك من “حطام الإدراك” سوى القدرة على تفهم أن الآخر ينظر إلى الواقع من وجهة نظر مختلفة وأنه عندما يحدثنا عن أشياء “لا نراها” فما ذلك إلا لأنه “يرى أشياءَ لا نراها”, فإننا نخرج من المرحلة الثالثة وقد اكتسبنا القدرة على النظر إلى الأشياء “نظرة شاملة”, إضافة إلى القدرة على التصنيف على أساس قاعدة ثابتة, فضلا عن القدرة على تكوين مفاهيم متجانسة, والقدرة على إدراك التناقض, إضافة إلى القدرة على استنتاج معلومات جديدة من المعلومات القديمة المتوفرة لدينا.   لا ينقصنا, بهذا الشكل, سوى القدرة على التحقق.  وكما جاء في المقال, فإن هذه القدرة لا تظهر إلا بعد الانتقال إلى المرحلة الرابعة.  

 

بداية, وأولا, وأساسًا, تحتاج فكرة “التحقق من صحة الأفكار الموجودة في رأسك” إلى فكرة لا تخطر على بال طفل عادي.  ملخص هذه الفكرة هو أن الأفكار التي في رأس هذا الطفل قد تكون “غير صحيحة”.  وهذه, للحق, تكاد أن تقترب من كونها “معجزة كونية”.  متى رأيت “رجلاً” أو “امرأةً”, ودعك من موضوع “طفلاً” هذا, ينظر إلى الأفكار الموجودة في رأسه على أنها ليست أكثر من “محاولة للاقتراب من الحقيقة” إلا أنها لا تمثل “الحقيقة” بأي شكل من الأشكال.  الله وحده هو الذي يعلم الحقيقة أما نحن فليس لنا إلا أن “نسعى”. 

 

حسب ما أعرف, فأنا لا أعرف أحدًا غيرنا في “مركز تطوير الفقه السني” يؤكد باستمرار على أن الفهم الذي نقدمه لكتاب الله ما هو إلا “فهمنا” نحن, وهو, في نهاية الأمر, فهم بشري, أي أنه قد يصيب وقد يخطيء.  لا أحد فينا “يجرؤ” على الادعاء بأن فهمه هذا هو ما يقصده الله.  من أين لنا أن نعرف ما يقصده الله؟  من أين لنا أن نعرف مراد الله؟  كل ما يمكننا قوله هو أننا “نفكر” أن هذا هو مراد الله, إلا أننا “لا نعرف” ما إذا كان هذا مراد الله.  الله وحده يعلم.   

 

حسب ما أعرف أيضا, فإننا هنا في “مركز تطوير الفقه السني” نؤكد باستمرار أن معرفتنا بدنيا الله تعكس ما نعرفه “اليوم” عن دنيا الله, وهي معرفة قد تتغير غدًا, فالعلم في حالة تغير دائم, وسوف يبقى في حالة تغير دائم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.  لن يصل الإنسان يوما إلى “معرفة دنيا الله”.  هذه معرفة غير متاحة إلا لله وحده.  إلا أنه سيصل غدًا إلى معرفة دنيا الله بشكل أفضل من المعرفة المتاحة له اليوم, كما أن معرفته بدنيا الله بعد غد سوف تكون أفضل من المعرفة التي ستتوافر له غدًا. 

 

حينما تعلم أنك لا تعلم مراد الله وأن ليس لك إلا أن تسعى.  وحينما تعلم أنك لا تعلم كيف تعمل دنيا الله وأن ليس لك إلا أن تسعى.  فإنك تعمل طوال الوقت على التحقق من صحة ما توصلت إليه.  هذا هو الفرق بين طفل المرحلة الثانية الذي لا يتسرب إليه الشك لحظة في صحة تصوراته عن الواقع وطفل المرحلة الرابعة الذي لا يكف لحظة عن التحقق من صحة تصوراته عن الواقع.

 

ثانيا, يحتاج التحقق من “صحة” أي فكرة إلى وجود “مقياس” للصحة. في المرحلة الثانية وغالب المرحلة الثالثة كان الحكم على صحة أي فكرة لا يزيد عن التأكد من “مصدر” هذه الفكرة.  إذا كان أبوك الحاج عبد الهادي شاهين هو المصدر فلا شك أنها فكرة صحيحة, أما إذا كان المصدر هو الواد سيد المشط, فلا شك كذلك في أنها فكرة غير صحيحة.  في المرحلة الرابعة, خلاف ذلك, يتم التحقق من صحة الفكرة بعرضها على “ما نعرفه عن العالم الذي نعيش فيه”, فإذا اتفقت الفكرة مع العالم كما نعرفه كانت فكرة صحيحة, أما إذا اختلفت فهي فكرة غير صحيحة.  من الضروري الانتباه هنا إلى أن عملية “التحقق” – بهذا الشكل – لم تكن ممكنة في المرحلة الثالثة. 

 

يحصل الطفل في المرحلة الثانية على المعلومات الموجودة في رأسه إما عن طريق التجربة الشخصية المباشرة (المشاهدة) أو عن طريق التجربة الشخصية لشخص آخر (السماع).       لا يوجد أي دافع يمكنه أن يدفع الطفل في هذه المرحلة إلى عرض هذه المعلومات على ما يعرفه عن العالم “للتحقق” من توافقها مع ما يعرفه عن العالم.  يعود ذلك إلى أن العالم الذي يعيش فيه الطفل هو عالم “كل شيء ممكن”. عالم “جميل” تسكنه فئران تثور ضد الظلم وتطالب بالكرامة, والحرية, والعدالة الاجتماعية.  أو قرود تمارس الجنس خارج مؤسسة الزواج وتعرِّض نفسها, ومن تحب, لانتقام المجتمع منها لخروجها على الأعراف والتقاليد المرعية في مجتمعات القرود, حيث تنتهي قصة الحب الآثم بالموت رجما بالحجارة  بينما القرد العاشق يحتضن القردة الزانية محاولا إبعاد الحجارة عنها –  ويدفع الاثنان الثمن الذي يدفعه كل قرد أو قردة يدفعه الهوى إلى مصارع السوء.   عالم ترفض “الشمس” فيه كل صباح أن تشرق على الكون ويعمل الجميع على إقناعها بأداء دورها والقيام بدورتها حتى يعم الضياء ويرى البشر طريقهم إلى حقولهم.   في مثل هذا العالم لا يزيد التحقق عن التأكد مما إذا كان أبوك الحاج محمد أبو اسماعيل قد قال هذا الكلام فعلاً أم لا, فالكل يعلم أن أباك الحاج محمـد أبو اسماعيل رجل صادق, ثقة, غير مدلس, ثبت, عدل, لا يتحدث إلا بما رآه أو سمعه, ولا يعرف عنه الناس أنه تحدث عن مخلوق في كفر نفرة بالسوء, وللحق, ولا حتى في المنوفية كلها.    يعني هذا الكلام أن “التحقق” لا يبدأ إلا في المرحلة الرابعة بعد ما يكون الطفل قد كون فكرة عن العالم تسمح ببعض أشياء ولا تسمح ببعض أشياء. 

 

في عالم المرحلة الرابعة (العالم الذي نعيش فيه؟) لا يوجد بقر يتكلم باللغة العربية الفصحى (ولا حتى الركيكة) محتجًا على أن أصحابه يركبونه, كما لا توجد ذئاب تعترض على من يمنعها من ممارسة حقها المشروع في أكل الغنم, ولا سحالٍ فاسقة, ولا براغيث فاضلة, ولا غربان شريرة. 

 

هذا عالم المرحلة الثانية.  عالم الجدران التي “تقصد” إيذاء الأطفال “الحلوة”, والجسور التي تنهار عند مرور الأطفال “الأشقياء” فوقها.  عالم السحب “الطيبة” التي تروي عطش النباتات التي طال بها العطش, عالم الأنهار التي قام العمالقة بحفرها أيام أبيك الحاج علي السُنبُسي أيام كان طول الرجل يبلغ طول عمارة من ثلاثين طابق.   عالم الأطفال الذي تحولت فيه كل الأشياء إلى أطفال.  

 

هذا أيضا عالم المرحلة الثالثة حيث لم يتخلص الطفل بعد من “الموروث الثقافي للمرحلة الثانية” – حيث “يتجاور” أحدث ما أنتجه العلم في أحدث المجتمعات البشرية جنبا إلى جنب مع “الجنية”, و”البعبع”.  ما زلت أذكر إلى اليوم كيف كنت أحرص تمام الحرص على الابتعاد عن الترعة التي تمر أمام منزلنا في كفر نفرة خوفًا من هذه “الجنية” الشريرة التي تهوى خطف الأطفال.  لا أذكر كم كان عمري وقتها بالضبط, إلا أنه كان يقع, بكل تأكيد, ما بين السابعة والحادية عشرة. أي تمام المرحلة الثالثة.  في هذا العمر يذهب الأطفال إلى المدرسة ويدرسون مادة اسمها العلوم.  وفي هذه المادة يدرسون كيف تسقط الأمطار عند اصطدام السحب المحملة بالماء بكتلة هواء باردة, وكيف أن القمر كوكب تابع للأرض يدور حولها مرة كل شهر, وكيف أن الأرض تدور حول نفسها مرة كل أربع وعشرين ساعة, وحول الشمس مرة كل عام – أي يدرسون أحدث ما وصل إليه العلم في أحدث المجتمعات البشرية.  ما زلت أذكر كذلك – وكأنه كان بالأمس –  حيرتي في هواية القمر في تتبع خطاي.  كنت كلما نظرت خلفي وأنا بين الحقول أراه ينظر إلي وابتسامة خفيفة تعلو وجهه.  لم أفهم يومًا لماذا اختارني أنا بالذات دون خلق الله لكي يتتبع خطاي.  لماذا كل هذا الاهتمام؟   حتى عندما كنت أحاول أن آخذه “على غرة” وأنظر إليه فجأة, كنت أجده ينظر إلي. 

 

في المرحلة الثالثة “يتجاور” أحدث ما أنتجته البشرية من علوم مع أقدم ما أنتجته البشرية من أساطير.  بصورة أكثر تحديدا, في المرحلة الثالثة ترقد أفكار المرحلة الثانية جنبا إلى جنب بجوار أفكار المرحلة الرابعة (التي تعلمها الطفل في المدرسة) بكل ألفة وتآلف, وبدون أدنى إحساس بالتناقض.  لا يبدأ الطفل في التخلص من “الموروث الثقافي الخاص بالمرحلة الثانية” إلا بعد خروجه من المرحلة الثالثة, ولا يتخلص منه نهائيا إلا بعد الانتهاء من المرحلة الرابعة.  أي عندما يبدأ نظام الإدراك الخاص بالمرحلة الرابعة بالعمل بكامل أجزائه.  يحدث ذلك “تقريبا” في سن الثامنة عشر, أي بعد أن يكون الطفل قد كف عن أن يكون طفلا.

 

يكتشف الطفل في هذه المرحلة أن أفكاره عن الواقع ليست أكثر من أفكار عن الواقع.  أي أنها ليست الواقع وإنما مجرد “تصورات” عن الواقع.  هنا فقط يستطيع الطفل أن يفحص مدى اتفاق تصوراته عن الواقع مع الواقع.  بعبارة أخرى, يستطيع الطفل الآن أن “يتحقق” من صحة أفكاره.  في هذه المرحلة كذلك تنمو لدى الطفل قدرات لم تكن موجودة لديه في المرحلة السابقة.   في ميدان التصنيف,على سبيل المثال, يبدأ الطفل في التصريح بالأساس الذي يقوم عليه التصنيف.  أي أن الطفل الآن “على وعي” بما يفعل.   يستطيع الطفل في هذه المرحلة أيضًا أن يتعامل مع “الممكن” و”الافتراضيّ” تمامًا مثلما يستطيع أن يتعامل مع “الفعليّ” و”المحسوس”.  عند سؤال الطفل في المرحلة الثالثة عما إذا كان من الممكن – على افتراض أن شبرا هي حي من أحياء باريس – السفر من العتبة إلى شبرا باستخدام أتوبيس رقم 36 كانت الإجابة تأتي باستمرار أن ذلك غير ممكن حيث إن الأتوبيس الذي يذهب من العتبة إلى شبرا هو خط 37 شرطة.    عند سؤال الطفل في المرحلة الرابعة نفس السؤال دائما ما يأتيك الرد أنه – على افتراض أن شبرا هي حي من أحياء باريس –  فإنه لا توجد أتوبيسات تذهب إلى باريس- فرنسا.  عليك باستخدام الطائرة.

 

يستطيع الطفل التجريديّ, بهذا الشكل, أن يتعامل مع هذه الأسئلة “الافتراضية”.   لم يعد من الضروريّ, إذن, أن تتفق المعلومات الواردة في القياس مع الواقع المعروف للطفل شخصيا.  يعلن ظهور هذه المقدرة لدى الطفل عن تحرره أخيرًا من سيطرة الحس المباشر على إدراكه للواقع.   لم يعد تعامل الطفل مع الواقع, بهذا الشكل, مقصورًا على “ما هو كائن بالفعل”, وإنما أصبح يشمل “ما يمكن أن يكون”.  بعبارة أخرى, أصبح باستطاعة الطفل أن يتعامل مع “الممكن” و”الافتراضيّ” تماما مثلما يستطيع أن يتعامل مع “الفعليّ” و”المحسوس”.

 

كلي ثقة من أن القاريء يدرك أننا لم نفعل في هذه المقالات الأربع عن نظرية جان بياجيه عن نمو الإدراك لدى الكائن البشريّ أكثر من أننا خدشنا السطح.  كلي ثقة من أن القاريء يعلم كذلك أن هذا هو أقصى ما يمكن أن نقوم به في كتاب لا يتعلق بعلم النفس الإدراكي وإنما بـتاريخ العلم.  المهم أنه أصبحت لدينا الآن فكرة عن الأنظمة الإدراكية المختلفة التي يستخدمها الإنسان في مراحل نموه الإدراكي. 

 

بينت دراستنا لتاريخ العلم أن العلم لم يظهر إلا بعد اختراع الزراعة, ومن ثم زيادة حجم الجماعة البشرية, ثم تعقد العلاقات البشرية وظهور الحاجة إلى الكتابة, وهو ما أدى بدوره إلى ظهور الحضارة, ثم ما حدث في اليونان من اختفاء نظام القبيلة وبالتالي اختفاء علاقات القرابة بين سكان المدن وتحولها إلى علاقات غير شخصية, وهو ما أدى إلى ظهور الحاجة إلى قواعد “عامة” (قوانين) لتحقيق العدل, ومن ثم ظهور الحاجة إلى “تحديد” معنى العدل, وكيف يمكن تحقيق العدل, وهو ما أدى في النهاية إلى ظهور فكرة أن ليس من العدل سماع ما لا يقوم عليه دليل.  أي إلى ظهور أهم خاصية من خصائص العلم وهو ما أدَّى فيما بعد إلى انفجار براكين العلم اليونانية في أثينا القرن الخامس قبل الميلاد.

 

بينت دراستنا لعلم النفس الإدراكي كذلك كيف أن التفكير العلميّ لا يأتي إلا في نهاية مسلسل طويل من مراحل نمو الإدراك.  لا يحتاج طفل المرحلة الثانية إلى أي دليل لقبول أي فكرة “حلوة”, كما لا يقدم أي سبب لرفض أي فكرة “وحشة”.  لا مجال هنا لطلب أي دليل من أجل قبول أي فكرة حلوة ولا تقديم أي دليل لرفض أي فكرة وحشة.  يتم في هذه المرحلة قبول أي فكرة “حلوة” لأنها “حلوة” ورفض أي فكرة “وحشة” لأنها “وحشة”.    لا يختلف الأمر كثيرًا, في حقيقة الأمر, في حالة طفل المرحلة الثالثة.  يعود ذلك إلى أن فكرة طفل المرحلة الثالثة عن الطريقة التي يعمل بها العالم ما زالت محدودة للغاية بحيث لا يمكن استخدامها كثيرًا كإطار مرجعي تتم العودة إليه من أجل قياس صحة الأفكار المشكوك في صحتها.  أضف إلى ذلك أن طفل المرحلة الثالثة لم يتخلص بعد من أفكار المرحلة الثانية, مما يعني أن رأسه تحتوي على كمية كبيرة من المعلومات التي تتناقض كل معلومة منها مع كل معلومة أخرى ترقد بجوارها.  يعني ذلك أن التفكير العلمي الذي لا يستمع إلا إلى ما يقوم عليه دليل, ولا يتحدث إلا عما يقوم عليه دليل لا يظهر إلا في المرحلة الرابعة والأخيرة من نمو الطفل.  حقيقة الأمر, كثيرًا ما لا يظهر إلا بعد أن يكون الطفل قد أصبح شابا في الثامنة عشرة من العمر.

 

كلي ثقة كذلك من أن القاريء سوف يتساءل عن “الطريقة” التي تم بها هذا النمو الإدراكي.  في دراستنا لتاريخ العلم, كان واضحًا تمام الوضوح أن الحضارة لم تكن لتظهر إلا إذا كان قد سبقها اختراع الزراعة, كما أن الكتابة لم تكن لتظهر إلا إذا كانت قد سبقتها الحضارة, وأن القانون لم يكن ليظهر “أبدًا” إلا إذا كانت قد سبقته الكتابة, وأن العلم لم يكن ليظهر “أبدًا” إلا إذا كانت قد سبقته المحاولات الأولى لكتابة القانون من أجل تحقيق العدل.  العلم منتج ثقافي, ومثله مثل كل شيء آخر في هذا العالم الذي نعيش فيه, لا ينتج أي مجتمع من هذه المجتمعات التي تعيش – أو عاشت – على سطح الأرض أي شيء إلا إذا كان هناك احتياج إليه.   والسؤال الآن هو كالتالي: ما هي العوامل التي تحكم ظهور المرحلة الثانية, أو الثالثة, أو الرابعة؟  باختصار, ما هي العوامل التي تحكم نمو الإدراك لدى الكائن البشري؟   يظهر هذا السؤال بوضوح تام في الرسالة التي كتبها سيادة الدكتور أبو المكارم والتي لم تنشر حتى الآن لأني كنت أنتظر نشرها حين يحين وقت نشرها.  والآن قد حان وقت نشرها.  يقول سيادته:

 

“أنتظر بشغف بقية المقالات, ولكنني أخشى أن تنتهي المقالات دون أن نستخلص منها, أو ندرك من خلالها, مثل هذه الأمور.  هل يمكن أن يحدث التطور لدى الطفل تلقائيًا أم عن طريق الاختلاط, والتعايش مع الواقع والبيئة, والتي يقوم فيها غيره بتعليمه ومراجعة حصيلة إدراكه, وتصويب خطئه؟  ومنها هل يتساوى طفل عاش في بيئة متحضرة مع آخر عاش في بيئة بدائية؟ 

 

ثم ننتقل إلى السلوك, فهل يترتب على نمو الطفل الإدراكي أشياء لها علاقة بمستوى التفكير والتعامل مع الواقع من بشر وغير البشر؟   هل يمكن أن أكون أنا شخصيًا قد وصلت إلى مستوى إدراك يظهر في سلوكياتي, وطريقة تفكيري, وتعاملي مع الآخرين مماثل لمن هو في مثل سني بل وتخصصي العلميّ في مجتمع متقدم؟

 

ونحن نحاول اللحاق بركب الحضارة, ماذا يجب علينا أن نفعل بمن بلغ من العمر عتيًّا, والشباب, ثم الطفولة؟   ماذا نفعل معهم لنلحق بركب الحضارة سويَّا ؟  إن المقالات تهدف, كما أتصور, لتشخيص حالة, ثم تقديم العلاج.   وأحسب أن من لا يعنيه البحث عن علاج لما تعانيه أمتنا فلن يأبه بمثل هذه المقالات.   شكراً يا دكتور كمال.”   انتهى كلام سيادته

 

بداية, يجب أن أعبر عن خالص شكري لسيادة الأستاذ الدكتور محمـد أبو المكارم على اهتمامه بسلسلة مقالات “ظهور العلم”.  أؤكد لسيادته أنه لولا اهتمامه بهذه المقالات ورسائله اليومية التي تعلق على هذا الجانب أو ذاك لكانت هذه السلسلة قد انتهت منذ وقت طويل.  من أصعب الأمور أن يتحدث الإنسان إلى نفسه.  حمدًا لله على وجود مركز تطوير الفقه السني وجماعة المودة.  خالص الشكر كذلك لسيادة الأستاذ غسان ماهر, والأستاذ الدكتور عبد الفتاح السيد, وفقيهتنا العظيمة الأستاذة هالة كمال, والأستاذ الدكتور محيي الدين عبد الغني, والأستاذ عزت هلال, وأستاذنا وأستاذ الجيل عبد الفتاح عساكر, والدكتور عادل مصطفى, والأستاذ الدكتور أحمد عمر سعد.  استفدت منهم جميعا, وأشكر لهم مساهتمهم في هذا العمل.   ويبقى الرد على الأسئلة التي أثارها الدكتور أبو المكارم, على أن أرد على أسئلة باقي أعضاء المركز في رسالة أخرى.   والإجابة هي كالتالي:

المذهل في العمل الذي قام به بياجيه هو أنه لم يتعرض لأيّ من الأسئلة التي طرحها سيادة الدكتور أبو المكارم.  لم يدرس بياجيه ما إذا كان التطور يحدث لدى الطفل تلقائيًا أم عن طريق الاختلاط, والتعايش مع الواقع والبيئة, والتي يقوم فيها غيره بتعليمه ومراجعة حصيلة إدراكه, وتصويب خطئه.  كما أنه لم يدرس ما إذا كان الطفل الذي عاش في بيئة متحضرة يتساوى مع آخر عاش في بيئة بدائية.  يعود ذلك, في حقيقة الأمر, إلى أن بياجيه لم يكن عالم نفس يدرس نمو الإدراك لدى الكائن البشري بقدر ما كان عالم بيولوجيا يدرس نمو الإدراك لدى الكائن البشري.  قام بياجيه بمئات التجارب المذهلة في عبقريتها والتي كشفت عن تفاصيل تفاصيل نمو الإدراك لدى الطفل البشريّ إلا أنها كانت كلها تجارب ذات متغير واحد هو “العمر”.  لم يدرس بياجيه أثر الأسرة على نمو الإدراك, ولا أثر الطبقة الاجتماعية, ولا أثر التعليم, ولا أثر الثقافة.   يعود ذلك, بلا أدنى شك, إلى أن بياجيه نظر إلى كل هذه العوامل على أنها عوامل ثانوية.  كان العامل الوحيد الذي درسه بياجيه هو عامل “النضج البيولوجي”.  عند بلوغ الكائن البشري عمر 18 شهرا يكون المخ البشري قد نضج بما يكفي لأن يبدأ الطفل في استخدام الرموز, وعندما يصل الكائن البشري إلى عمر 6 سنوات أو سبع يكون المخ البشري قد نضج بحيث يمكنه استخدام العمليات العقلية العليا الخاصة بالمرحلة الثالثة, أما في عمر 12 فإن المخ البشري يكون قد نضج بما يسمح ببدء العمليات العقلية العليا الخاصة بالمرحلة الرابعة.  المسألة, بهذا الشكل, بيولوجية بحتة لا يحكمها سوى متغير واحد: عمر الكائن البشري, أي درجة “نضج” المخ البشري.  قدم لنا بياجيه, بهذا الشكل, نظرية في نمو الإدراك تذهب إلى أن الإنسان ينتقل من مرحلة إدراكية إلى مرحلة إدراكية بطريقة آلية.  المسألة في نهاية الأمر, لا علاقة لها بالتعليم, ولا بالمستوى الاجتماعي والاقتصادي للأسرة, كما أن لا علاقة لها بثقافة المجتمع.  المسألة بيولوجيا. 

يجب الاعتراف, على أية حال, أن بياجيه كان كريمًا في موقفه تجاه المجتمعات البشرية خارج فرنسا وسويسرا.  حصل بياجيه على نتائجه التي أدت به إلى هذه النظرية من دراسته لنمو الإدراك لدى الأطفال السويسريين والفرنسيين, إلا أنه أعلن أن نظريته هذه نظرية “عالمية” تنطبق على كل الأطفال في كل مكان في العالم.  كل الأطفال في كل المجتمعات تنتقل من المرحلة الأولى إلى الثانية, ومن الثانية إلى الثالثة, ومن الثالثة إلى الرابعة.  يحدث ذلك بطريقة آليه مع تقدم الطفل في العمر.  المسألة بيولوجيا. 

 

لم يكن بياجيه يتخيل, بطبيعة الحال, أن يأتي يوم يقوم فيه الدكتور أحمد عمر سعد بكتابة الرسالة التالية.  يقول سيادته:

“عزيزي المحترم الدكتور كمال شاهين,

أقرأ باهتمام تلخيصكم الممتاز لمراحل نمو الإدراك لدى الكائن البشري.  وعندما أقرأ هذا البحث القيم وأفكر في البحث الذى أرسلته لحضرتكم وللدكتور عزت هلال لا يسعني إلا التسرع في الوصول إلى حكم أهوج وليس على أي أساس علمي سوى إلإحساس بأننا كمسلمين سنة لا يمكننا التطور إلى المرحلة الثالثة بأي حال من الأحوال بناءً على اعتمادنا الكلي على            “العلوم” الإسلامية لفهمنا لأنفسنا وللعالم الحسي الذي نعيش فيه.  

كيف نتجاوز مرحلة مركزية الذات ومفهومنا الديني الموروث أن الله خلق العالم كله والسماوات والأرض وما بينهما كمسخَّرات (بمعني التسخير والخدمة لا الانتفاع المتزن) للإنسان؟  مع العلم بحجم الأرض – وحتى المجموعة الشمسية – بالنسبة لحجم الكون.   كيف نتعدى مركزية الذات إذا كنا ما زلنا نتشدق بأننا خير أمة أخرجت للناس بدون تنفيذ الشروط المتزامنة لهذا الوصف؟  كيف نتخطي النظرة الجزئية للأمور إذا كنا ما زلنا نعتقد أن هناك سببية واحدة للكون وأقنعتنا “العلوم” الإسلامية ان الإيمان بقوانين الطبيعة هو من الشرك؟   كيف نتعدَّى المرحلة الثانية للإدراك وعجزنا عن تكوين مفاهيم متجانسة أو إدراك التناقض إذا كان فهمنا العتيق للحسد, والجان, والمعجزات أنها أكثر فاعلية من قوانين الطبيعة التي ننكرها؟

 وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.”   انتهى كلام سيادته

 

يطرح الأستاذ الدكتور أحمد عمر سعد عددًا من الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها إلا في رسالة مستقلة, إن لم يكن في كتاب مستقل, إلا أنه يخبرنا – بوضوح تام – أننا (وسوف أفهم “أننا” هذي على أنها تشير إلينا نحن المسلمين المصريين على أساس أن سيادته مصري وأن من المستحيل أن يكون سيادته قد درس أو حتى تعرف على نظام الإدراك المستخدم في جيبوتي أو جزر القُمُر بحيث يمكنه أن يتحدث عنهم):

  1. نعاني من النظرة الجزئية للأمور, و
  2. عاجزون عن تكوين مفاهيم متجانسة, و 
  3. عاجزون عن إدراك التناقض, و
  4. لم نتجاوز مرحلة مركزية الذات, و
  5. لم نتعدَّ المرحلة الثانية للإدراك, و 
  6. لا يمكننا التطور إلى المرحلة الثالثة.

 

المشكلة, بهذا الشكل, هي أنه إذا كان سيادة الأستاذ الدكتور أحمد عمر سعد على صواب فيما ذهب إليه من أننا في مصر لم نتعدَّ المرحلة الثانية من مراحل نمو الإدراك, وإذا كان بياجيه على صواب أيضًا فيما ذهب إليه من أن الانتقال من المرحلة الثانية إلى الثالثة, ومن الثالثة إلى الرابعة يتم بشكل تلقائيّ, وأن المسألة بيولوجيا, فنحن إذن في مصر نعاني من قصور بيولوجيّ. 

 

كانت هذه هي المشكلة, المعضلة في حقيقة الأمر, التي واجهت مايكل كول وعلماء علم النفس الثقافي في الستينيات من القرن الماضي.  إلا أن هذه قصة أخرى, مكانها رسالة أخرى. 

25 مارس 2013

 

 

 

 

 

 

 قصة مايكل كول وعلم النفس الثقافي

بداية, وقبل أن أنطق بكلمة, لا بد من أن أؤكد, مرة أخرى, أني لا أقدم هنا بحثًا علميا في موضوع يدور في إطار علم النفس الثقافي, وإنما أتحدث “حديث دردشة” عن موضوع يتعلق بعلم النفس الثقافي.  أتمنى, طبعًا, لو أثار هذا الحديث فضول القاريء ودفعه إلى قراءة النصوص الأصلية في هذا العلم.  وفي هذه الحالة, فإن خير ما يقوم به هو قراءة كتاب “علم النفس الثقافي: ماضيه ومستقبله” تأليف مايكل كول وترجمة كمال شاهين وعادل مصطفى من منشورات دار النهضة العربية, إضافة إلى كتاب “نظرية النحو العربي القديم” من تأليف كمال شاهين ونشر دار الفكر العربي.  يحتوي الكتاب على فصل كامل من ثمانين صفحة يقدم عرضًا مستفيضا لنظرية بياجيه في نمو الإدراك لدى الطفل وللأبحاث التي دارت حول هذه النظرية في علم النفس الثقافي.  إضافة إلى ذلك هناك دائما Questia.  لا يحتاج الأمر إلى التوكيد, وإعادة التوكيد على أهمية “التحقق” من نوع الإدراك المستخدم في الثقافة العربية.  أرجو الله ألا تكون صفيحة الزبالة العربية “الحلوة” هي المستفيد الأول من كتاب “ظهور العلم”.

 

 

تعود البدايات الأولى للإحساس بأن هناك مشكلة فيما تقدمه نظرية بياجيه حول نمو الإدراك لدى الكائن البشري إلى أوائل الستينيات.  كانت تلك هي الفترة التي حصلت فيها غالبية دول العالم الثالث على استقلالها من الدول الاستعمارية الأوربية وبدأت رحلتها في إقامة مؤسساتها من وزارة دفاع, إلى وزارة خارجية, إلى عدل, إلى داخلية, وطبعا إلى تعليم.  قامت وزارات التعليم في هذه الدول بإنشاء مدارس حديثة, على أحدث نظام, وتقديم مناهج دراسية حديثة, على أحدث نظام كذلك.  حقيقة الأمر, قدمت المستعمرات البريطانية السابقة إلى طلبتها نفس المناهج التي تقدمها لندن للطلبة البريطانيين, كما قدمت المستعمرات الفرنسية السابقة نفس المناهج التي تقدمها باريس للطلبة الفرنسيين, وكذا المستعمرات الهولندية السابقة, وكذلك المستعمرات البرتغالية السابقة, إلى آخره.  وللحق, فقد تعاونت وزارات التعليم في الدول الاستعمارية السابقة مع وزارات التعليم في مستعمراتها السابقة وشحنت إليها كل الكتب الدراسية التي تحتاجها مدارسها.  فعلت هذا لندن, كما فعلته باريس, وآمستردام, ولشبونة, وغيرها.  وهكذا بدأت المدارس الجديدة عملها وفي أيدي أطفالها أحدث الكتب التي أنتجتها أحدث المطابع في لندن, وباريس, وآمستردام, ولشبونة.

 

لم يمضِ وقت طويل, على أية حال, حتى بدأ يسري إحساس بأن هناك شيئا ما يحدث غير مفهوم.  وهو شيء كان يظهر دائما وقت الامتحانات.  كان الطلبة يخرجون من الامتحانات وهم يشكون مر الشكوى من أن الامتحان أتى بالكامل – أو تقريبًا بالكامل – من خارج المقرر.  مثال على ذلك, يمكن أن يأتي في الامتحان سؤال على شاكلة التالي:

ذهب أحمد إلى السوق واشترى 3 برتقالات ودفع في كل واحدة ثلاثة قروش.  كم دفع أحمد؟

يخرج الطلبة من الامتحان وهم يشتكون من أنهم عمرهم ما درسوا هذا السؤال.  حيث إن السؤال الذي درسوه في المقرر هو التالي:

ذهب أحمد إلى السوق واشترى 3 برتقالات ودفع في كل واحدة أربعة قروش.  كم دفع أحمد؟

أو أن السؤال الذي درسوه كان التالي:

ذهب عمر إلى السوق واشترى 3 برتقالات ودفع في كل واحد ثلاثة قروش.  كم دفع عمر؟

أو أن السؤال الذي درسوه كان التالي:

ذهب أحمد إلى السوق واشترى 3 بطيخات ودفع في كل واحدة ثلاثة قروش.  كم دفع أحمد؟

 

المسألة, باختصار, أن الممتحن لو غير “كلمة” في السؤال الوارد في الامتحان عن السؤال الذي درسه الطلبة “النجباء” في كتاب الوزارة, فإن هذا يعتبر سؤالا “من خارج المنهج”.  المسألة, بهذا الشكل, حفظ. 

 

لم يكن المسؤولون عن وزارات التعليم في تلك المرحلة من الأفريقيين, وإنما كانوا من الأوربيين وعليه فقد شعروا بأن في الأمر شيئًا غير مفهوم.  (لا يوجد لدي أدنى شك في أنه لو كان المسؤولون عن التعليم في تلك الوزارات في ذلك الوقت من المصريين لما كان في الأمر أي شيء غير مفهوم.  المسألة معروفة, ومألوفة, ومفهومة تمام الفهم.  المسألة حفظ) وعليه, قاموا بالاتصال بمن يهمه الأمر في “الأمم المتحدة” لمساعدتهم في حل هذه المشكلة.

 

قامت الأمم المتحدة, مشكورة, بإجراء عدد من الاتصالات بالعاملين في حقل التعليم وعلم النفس عبر العالم واتصلت بهم لسؤالهم عما إذا كان لديهم استعداد للمساعدة في التعرف على هذه المشكلة.  كان أحد العلماء الذي اتصلت بهم الأمم المتحدة هو العالم الشاب الدكتور مايكل كول الذي كان قد حصل من توه على الدكتوراة في علم النفس.  جمع مايكل بعض الملابس وبعض الكتب, وحمل شنطته واتجه إلى المطار ليطير إلى أفريقيا ليرى ما هي المشكلة بالضبط. 

 

لم يُضع مايكل وقتًا إذ أخرج من حقيبته بمجرد أن لامست قدماه أرض القارة الشابة مجموعة اختبارات بياجيه التي تحدد ما إذا كان الطفل في المرحلة الثانية أم الثالثة أم الرابعة.  قام مايكل, بطبيعة الحال, بتقديم هذه الاختبارات لطلبة المرحلة الابتدائية ليرى نسبة من هم في المرحلة الثالثة مقارنة بمن هم في المرحلة الثانية.  جاءت النتائج واضحة تماما: لم ينجح أحد.  الكل في المرحلة الثانية.  عليه قام بتقديمها إلى المرحلة الإعدادية.  جاءت النتائج غير مختلفة كثيرًا.  لم ينجح أحد.  الكل مرحلة ثانية.  وهكذا في المرحلة الثانوية, وهكذا في الجامعة.  الكل مرحلة ثانية.

 

لا يوجد أي احتياج لبيان أن مايكل قد وجد نفسه في قلب مشكلة هو في غنًى عنها.  حقيقة الأمر, ما زال مايكل إلى الآن, وبعد مرور خمسين عامٍ على الكشف عن هذه المشكلة يعاني من نتائجها.  كانت النتائج واضحة وصريحة ولا يمكن إنكارها.  هناك غياب كامل, وشامل, وتام, للعمليات العقلية الخاصة بالمرحلة الثالثة والرابعة.  أي أن هناك غياباً كاملاً, وشاملاً, وتامًا للعمليات العقلية العليا كالتصنيف على أساس قاعدة ثابتة, وإعادة التصنيف على أساس قاعدة مختلفة, والتصريح بالأساس الذي يقوم عليه التصنيف, وتكوين مفاهيم متجانسة, والاستنتاج, والاستقراء, والتعريف, والقياس المنطقي (وليس الفقهي), والافتراض, إلى آخر القائمة الطويلة من العمليات العقلية العليا.  كانت العملية العقلية الوحيدة المتوافرة هي عملية عقلية دنيا تسمى “التذكر”.

 

كان من المستحيل إنكار تقديم اختبارات بياجيه, كما كان من المستحيل إنكار النتائج التي حصل عليها مايكل من تقديم اختبارات بياجيه.  كان من المستحيل كذلك قبول هذه النتائج التي حصل عليها مايكل.  يعود ذلك إلى أن قبول هذه النتائج التي تبين الغياب الكامل, والشامل, والتام للعمليات العقلية العليا إنما يعني أن أهل القارة الشابة الكرام مصابون بقصور بيولوجي.  يعود ذلك إلى أن مؤسس علم النفس الإدراكي نفسه قد أسس نظريته الخاصة بنمو الإدراك لدى الكائن البشري على أساس أن عملية الإدراك ما هي إلا عملية بيولوجية بحتة تنظمها “ساعة بيولوجية” لا تخطيء, وأن دور العوامل البيئية لا يتعدى أكثر من “تقديمها” بضع دقائق أو “تأخيرها” بضع دقائق, إلا أنه في كل حال عندما تدق ساعة المرحلة الثانية فإن العمليات العقلية الخاصة بالمرحلة الثانية تظهر ويقوم الطفل باستخدامها بطريقة آلية, بدون أي “تفكير”.   وكذا الحال في حالة المرحلة الثالثة والرابعة. 

 

كان من الممكن, بالطبع, “تعديل” نظرية بياجيه في نمو الإدراك لدى الطفل وبيان أن إدراك الكائن البشري للعالم حوله يمر فعلا بهذه المراحل التي بينها بياجيه, وبنفس التفاصيل التي بينتها تجاربه, إلا أن هذا النمو لا تصنعه “البيولوجيا” وإنما تصنعه “الثقافة”.    كان من الممكن أن يأخذ مايكل هذا الاتجاه وبهذا تُحل المشكلة, إلا أنه فضل الابتعاد عن أي مشكلة.  وهذا يحتاج إلى بعض التفصيل.

 

كان قبول النتائج التي أسفرت عنها اختبارات بياجيه مع قبول التفسير البيولوجي لنمو الإدراك كما قدمه بياجيه يعني شيئًا واحدًا, وشيئًا واحدًا فقط, هو أن أهل القارة الشابة يعانون من قصور بيولوجي.  لم يكن مايكل على استعداد – لقائمة طويلة من الأسباب لا نهاية لطولها- لاتخاذ هذا الموقف.  كان قبول النتائج التي أسفرت عنها التجارب مع تعديل التفسير البيولوجي يعفي مايكل من الحرج ويزيل عنه تهمة “العنصرية”, إلا أنه كان سيوقعه في مشكلة على نفس الدرجة تقريبا من السوء.  كان القول بأن “الثقافة” الأفريقية هي ثقافة تخلو من العمليات العقلية العليا الخاصة بالمرحلة الثالثة والرابعة قولاً لا يختلف كثيرًا, من الناحية العملية, عن القول بالقصور البيولوجي للأفارقة.  نحن نتعامل في نهاية الأمر مع أطفال.  الأوربيون الوحيدون الذين يستخدمون النظام الإدراكي الخاص بالمرحلة الثانية هم الأطفال.  لم يكن مايكل مستعدًا وقتها للدخول في مشكلة من هذا النوع, وما زال غير مستعد إلى الآن للدخول في هذه المشكلة.  وعليه, أتى بحل “جميل”.  قال مايكل: حقًا, لا تبين نتائج الاختبارات “وجود” العمليات العقلية الخاصة بالمرحلتين الثالثة والرابعة إلا أنها لا تثبت “غياب” هذه العمليات.  وهذا كلام “جميل” إلا أنه كلام لا معنى له.

 

إذا كانت حرب “تحرير العراق” قد علمتنا شيئا, فهي قد علمتنا أن “من المستحيل إثبات أنك لا تملك أسلحة دمار شامل”.  فعل صدام حسين كل ما يمكن أن يفعله مخلوق من يوم أن خلق الله الأرض ومن عليها إلى يوم أن دخلت القوات الأمريكية بغداد من أجل أن “يثبت” أن مسألة “أسلحة الدمار الشامل” هذه هي مسألة وهمية, إلا أن الولايات المتحدة أصرت إلى آخر لحظة على أنه يملك أسلحة دمار شامل, وصممت على طلبها بأن “يثبت” أنه لا يملك أسلحة دمار شامل. حاول الرجل بكل طريقة أن “يثبت” إلا أنه فشل.  مات وهو فاشل.  حقيقة الأمر, استمرت الولايات المتحدة حتى بعد غزو العراق في “البحث” عن أسلحة الدمار الشامل الوهمية.  لم “تعترف” الولايات المتحدة بأن موضوع أسلحة الدمار الشامل هذا كان فكرة وهمية إلا بعد سنوات من احتلال العراق.  صرحت الولايات المتحدة بأن الموضوع من أوله إلى آخره كان “خطئا”.   طبعًا, لم يكن الأمر خطئا, وإنما كان “قصدا”.  كان الهدف هو احتلال العراق وعليه كانت هذه التهمة التي لا يمكن نفيها.  لو قررت الولايات المتحدة اتهامي أنا “شخصيا” بامتلاك أسلحة دمار شامل فأنا أعلم أنني لا يمكنني “إثبات” أني لا أملك أسلحة دمار شامل.  إثبت!

 

إذا كان صدام حسين لا يمكنه أن “يثبت” أنه لا يمتلك أسلحة نووية, وإذا كان العبد لله لا يمكنه أن “يثبت” أنه لا يمتلك أسلحة نووية, فما معنى الطلب من صدام حسين أن “يثبت” أنه لا يمتلك أسلحة نووية؟  وما معنى أن تطلب مني الولايات المتحدة أن “أثبت” أني لا أملك أسلحة نووية؟  ما معنى أن تطلب من إنسان أن “يثبت” لك شيئا من المستحيل إثباته؟  ما معنى أن يخبرنا مايكل كول أن من “المستحيل” إثبات الغياب الكامل, والشامل, والتام للعمليات العقلية العليا من الثقافة الأفريقية؟   طبعًا, مستحيل.  مات صدام حسين بعد أن أثبت أن من المستحيل أن تثبت أنك لا تمتلك أسلحة نووية.  نحن نعلم أن من المستحيل أن تثبت أنك لا تمتلك لا أسلحة نووية ولا أسلحة غير نووية, ولا حتى سمك.  كيف يمكن لأي مخلوق على سطح الكرة الأرضية أن “يثبت” أنه لا يمتلك سمكًا؟ 

 

لم يكن الدافع وراء قول مايكل كول بأن اختبارات بياجيه “لا تثبت” غياب العمليات العقلية العليا من تفكير أبناء الثقافات الأفريقية دافعًا علميًا, وإنما كان دافعًا شخصيا.  لم يكن مايكل كول على استعداد لأن يدخل في معركة لا ناقة له فيها ولا جمل.  لم يكن على استعداد لتلقي الهجوم من مئات الملايين من الأفارقة الذين سيهاجمون ذلك الأمريكي الأبيض العنصري (حتى لو أقسم على المصحف بأن المسألة لا علاقة لها بالبيولوجيا وإنما هي مسألة ثقافة), حتى لو قال إنها مسألة ثقافة (كيف يجرؤ هذا الأمريكي الأبيض العنصري على التعرض لأعظم ثقافات شهدها العالم المعاصر قبل القديم؟).  ودعك من عشرات الملايين من الأمريكان من أصول أفريقية الذين كانوا سيخرجون إلى الشوارع مطالبين بطرده من جامعة كاليفورنيا, إن لم يكن من كامل كاليفورنيا.  فضل مايكل كول السلامة على الندامة, وعليه طلب منا هذا الطلب المستحيل.  أن نثبت غياب العمليات العقلية العليا من رؤوس أبناء الثقافات الأفريقية.  لن نجادل في الأمر طويلا وسوف نخبره على الفور بأن هذا عمل لا نقدر عليه, ولذا فإننا سنطلب منه هو أن يقوم بعمل يستطيع هو القيام به: اثبت لنا أنت أن العمليات العقلية العليا الخاصة بالمرحلة الرابعة موجودة في رؤوس أبناء الثقافات الأفريقية.  أنت تدعي أن لديك قنابل نووية.  أرِنا.  من كانت لديه قنبلة فليفجرها.  نحن لا نستطيع أن نثبت أنا لا نمتلك قنابل نووية.  أنت تدعي ذلك.  فجرها.  أنت تدعي أن أبناء الثقافات الأفريقية يمتلكون في رؤوسهم العمليات العقلية العليا الخاصة بالمرحلة الرابعة.  أرِنا!  هاك الاختبارات الخاصة بالمرحلة الرابعة. أرِنا!

 

أذكر أني قابلت فرانك فوجل, أستاذ الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بجامعة هارفارد, في أوائل التسعينيات من القرن الماضي أثناء زيارة خاطفة له إلى الرياض, المملكة العربية السعودية.  كنا في ذلك الوقت ما زلنا نتحسس طريقنا – بمنتهى التردد ومنتهى الحذر – فيما يتعلق بالنظام الإدراكي المستخدم في الثقافة العربية.  أذكر أني سألته عما إذا كان من الممكن النظر إلى النظام الإدراكي المستخدم في إنتاج الفقه السني على أنه نفس النظام الذي وصفه جان بياجيه في المرحلة الثانية من نمو الإدراك.  أذكر أن الرجل كان صريحا للغاية حيث أجاب على الفور بأن هذا هو ما تبدو عليه الأمور, إلا أن الأمر, في نهاية الأمر, لا يخصه فهو لا يعيش في ظل نظام يحكمه الفقه السني, وبالتالي فلا معنى لأن يدفع ثمن السعي لتغيير نظام قانوني لا علاقة له به أصلا.  أذكر أن الرجل قال لنا: “هذه مشكلتكم أنتم, وعليكم أنتم حل مشاكلكم بأنفسكم.  لا تتوقعوا من أحد أن يحل لكم مشاكلكم.”  كان الدكتور فرانك فوجل في زيارة إلى الرياض بحثًا عن دعم لإنشاء برنامج الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بجامعة هارفارد.    لم يكن من حسن الفطن أن يحدثنا سيادته, أو يحدث غيرنا, عن النظام الإدراكي المستخدم في إنتاج الفقه السني.  الأمر, في نهاية الأمر, لا يخصه.

 

الأمر يخصنا نحن.  الأمر يخص الدكتور أبو المكارم, والأستاذ الدكتور أحمد عمر سعد, والأستاذة هالة كمال, والأستاذ الدكتور عبد الفتاح السيد, وفضيلة الشيخ الطحاينة, والدكتور عادل مصطفى, وفضيلة الشيخ أحمد المهري, وأستاذنا جميعا الأستاذ عبد الفتاح عساكر, والأستاذة آمال غالب, والمستشار أحمد ماهر, والدكتور مصطفى ريحان, والدكتور سمير الشورى, والأستاذ عزت هلال, والأستاذ الدكتور محيي الدين عبد الغني, والأستاذ ماهر غسان, والأستاذ عادل الحسني, والأستاذ الدكتور محمـد جنيد, والمهندس محمـد خليفة, والأستاذ على نجم,والعميد عاطف سليم, واللواء علي عبد الجواد, واللواء مدحت بهجت. والقائمة طويلة, قائمة تضم جميع أعضاء مركز تطوير الفقه السني وجماعة المودة, بل جميع المسلمين في جميع أنحاء العالم.   نحن الذين يهمنا الأمر, ونحن الذين ندفع الثمن.  إذا تكلمنا فسوف ندفع الثمن, وإذا سكتنا فنحن ندفع الثمن.  ونحن فعلا ندفع الثمن.  لا مايكل كول, ولا فرانك فوجل, ولا حتى بياجيه.   وللحديث, بإذن الله, بقية, إن كان في العمر بقية.

26 مارس 2013

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أثر التعليم على نمو الإدراك لدى الطفل

أو

كيف أخطأ مؤسس علم النفس الإدراكي

 

 

وصلنا في دراستنا للطريقة التي “تظهر” بها لدى الطفل البشري القدرة على التفكير بطريقة “علمية” إلى نقطة لا يمكن تخطيها إلا بالدراسة “العلمية” المتأنية.  تتعلق هذه النقطة بما إذا كان بياجيه على حق فيما ذهب إليه من أننا “مبرمجون” على التفكير بطريقة “علمية” وأن المسألة مسألة وقت.  هل يختلف تفكير الأطفال عن تفكير الكبار اختلافًا نوعيًا, كما يخبرنا بياجيه, إلا أنه مع مرور الوقت سرعان ما يكبر الطفل ويتحول إلى إنسان بالغ, عاقل, رشيد, تتوافر لديه القدرة على “فهم” أي شيء يريد فهمه؟  هل تتوافر لدى الرجل البالغ, العاقل, الرشيد, الأمي الذي لم يغادر واحة جغبوب مرة واحدة في حياته نفس العمليات العقلية التي تتوافر لدى الرجل البالغ, العاقل, الرشيد, المتعلم الذي يتنقل بين القاهرة, وبيروت, ودبي, ولندن, وأمستردام؟  هذا ما يخبرنا به بياجيه, وهذا ما كشف عن خطئه علم النفس الثقافي.

 

لكي “نفهم” ما هو الموضوع بالضبط ونرى كيف أثبت علم النفس الثقافي خطأ مؤسس علم النفس الإدراكي فإننا نحتاج إلى بعض الصبر.  حقيقة الأمر, نحن نحتاج إلى ورقة وقلم من أجل تدوين الخطوط العامة للموضوع.  القصة مثيرة لأنها تبين “بوضوح تام” أن تفكير أبناء الثقافات التقليدية لا يختلف كثيرًا أو قليلا عن تفكير المرحلة الثانية كما وصفها بياجيه.  القصة مثيرة إلا أنها ككل قصة مثيرة تحتاج إلى بعض الصبر.

لا يحتاج الأمر إلى التوكيد, وإعادة التوكيد, على أن الحديث هنا يتعلق بـ”ظاهرة اجتماعية”.  يعني ذلك أننا نتحدث عن الطريقة التي يفكر بها عموم الناس.  يعني ذلك, في حالة المصريين مثلا, أنه لا بد وأن يكون هناك عدد كبير من المصريين ربما يصل إلى مليون (أرجو تأجيل الحديث عن الأرقام الآن) يستخدمون نظام الإدراك الخاص بالمرحلة الرابعة, إلا أن علينا أن “ندرك” أنه في بلد يصل تعداد سكانه إلى 85 مليون (أو حوالي ذلك) فإن رقم مليون يعني أننا نتحدث عن 1% من عدد السكان (أو أكثر قليلا).  لا بد أن نتفق على أن 1% هذه (أو أكثر قليلا) هي نسبة لا أهمية لها على الإطلاق.  حقيقة الأمر, إذا كان ذلك كذلك فإن السؤال الذي يمكن أن تثيره هذه النسبة هو التالي: كيف حدث ذلك؟  كيف نفسر وجود هذا العدد “الضخم” في ثقافة يستخدم عموم أعضائها نظام الإدراك الخاص بالمرحلة الثانية؟  المسألة تشبه إلى حد ما وجود أسرة مصرية, أو قبيلة مصرية, ذات عيون أسيوية (كالصينيين أواليابانيين).  تثبت هذه القبيلة, بلا أدنى شك, أننا لا نستطيع أن نقول إن “كل” المصريين لهم عيون ذات شكل واحد إلا أن السؤال الذي يثور هنا, بلا أدنى شك كذلك, هو التالي: كيف حدث ذلك؟   في حالة حديثنا عن طريقة التفكير المستخدمة في الثقافات التقليدية نحن نتحدث عن “القاعدة العامة” وليس عن المصريين ذوي العيون الصينية.

يحتاج الأمر كذلك إلى التوكيد على أني سوف أكون شاكرًا إلى أقصى حد على أية ملاحظة تتعلق بصحة, أو فساد, ما أورده من معلومات في هذا الشأن, أو بطريقة العرض, أو عدم الوضوح.  إذا لم نستطع أن نفكر بصوت عالٍ في بيئة “مركز تطوير الفقه السني” الآمنة فأين يمكننا أن نفعل ذلك؟

 

أثر التعليم على نمو الإدراك لدى الطفل

توضح نظرية بياجيه في نمو الإدراك لدى الطفل أن إدراك الطفل للعالم حوله يختلف من مرحلة إلى أخرى.  يظهر ذلـك على مستوى “العمليات العقلية” التى يستخدمها الطفل لإدراك العالم حوله، كما يظهر على مستوى “تصورات” الطفل عن هذا العالم.

على المستوى الأول، توضح تجارب بياجيه أن “العمليات العقلية” التى يستخدمها الطفل لإدراك العالم حوله تختلف من مرحلة إلى أخرى.   على حين لا يستطيع طفل المرحلة الحدسية، على سبيل المثال، أن يكوِّن مفاهيم تشترك عناصر كل مفهوم منها فى نفس الخاصية (أو الخصائص)، أو استخدام المفاهيم المتوافرة لديه في الحصول على مفاهيم جديدة، فإن طفل المرحلة العينية لا يجد أي صعوبة في تكوين مفاهيم تشترك عناصر كل مفهوم منها في نفس الخاصية (أو الخصائص)، أو في استخدام المفاهيم المتوافرة لديه في الحصول على مفاهيم جديدة.

على المستوى الثاني، توضح تجارب بياجيه كذلـك أن “تصورات” الطفل عن الواقع تختلف هي الأخرى من مرحلة على مرحلة.   على حين يتصور طفل المرحلة الحدسية، على سبيل المثال، أن الأسماء جزء من الأشياء، وأن الأنهار تم حفرها بواسطة السلف، وأن الأمطار تسقط لأن السحب “تريد” أن تسقي الزرع، فإن طفل المرحلة العينية يصرح بأن الأسماء تم وضعها من قبل الحكماء، وأن الأنهار نشأت نتيجة نحر المياه, وأن الأمطار تسقط عند تكثف بخار الماء فى طبقات الجو العليا.

المشكلة، وهى مشكلة حقيقية، أن هذه التجارب تعطي انطباعًا قويًا بأن نمو الإدراك عند الطفل هو نتيجة “تفاعل” الطفل مع العالم حوله: عند وصول الطفل إلى عمر معين تظهر لديه “عمليات عقلية” معينة و”تصورات” معينة، وعند وصوله إلى عمر آخر تظهر لديه “عمليات عقلية” أخرى و”تصورات” أخرى، تماماً كما لو كان “تفاعل” الطفل مع العالم حوله هو المسؤول الوحيد عن ظهور هذه “العمليات” وهذه “التصورات”.   حقيقة الأمر، كان “العمر الزمنى” للطفل هو المتغير الوحيد في كل التجارب التي قام بها بياجيه لدراسة نمو الإدراك لدى الطفل.

لم يحاول بياجيه، بهذا الشكل، دراسة أثر التعليم الذي يتلقاه الطفل، أو الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها, أو المجتمع الذي يعيش فيه على نمو الإدراك لديه.   يؤكد ديفيد كوهين, في هذا الصدد, أن “بياجيه لم يبحث عن الاختلافات بين الأطفال التي تنتمي إلى ثقافات مختلفة، أو طبقات اجتماعية مختلفة، وإنما حاول إثبات التشابه بينها.   لا توجد أي إشارة تقريبًا في أعماله إلى أثر العوامل الاقتصادية والاجتماعية على نمو الأطفال.  أي أنه أهمل أثر العوامل الاجتماعية والثقافية.”   وهي نفس النقطة التى يؤكدها جيرَمي برونر بقوله إنه “مثل أغلب الباحثين في حقل نمو الإدراك أثر بياجيه علينا تاثيرًا عميقًا ولكن على الرغم من أن أعماله تعطي أغنى صورة عن هذه العمليات، فإن بها ثغرة كبيرة إذ أنها تقوم بالكامل على تجارب لا يوجد بها إلا متغير واحد.   يعترف بياجيه بالدور الهام للبيئة من باب إرضاء ضميره فقط.”

من الضروري الانتباه, في هذا السياق، إلى أن إهمال بياجيه لأثر العوامل الاجتماعية والثقافية على نمو الإدراك عند الطفل يعود إلى نظرته إلى الإدراك والتي تذهب إلى أن الإدراك ما هو إلا عملية بيولوجية تهدف إلى التكيف مع البيئة.   حقيقة الأمر, يصرح بياجيه بوضوح تام بأن ظهور العمليات العقلية العليا (ما يسميه المعرفة الرياضية المنطقية) هو المحصلة الحتمية لعملية التطور البيولوجي.   يقول “لا تضمن المباديء البيولوجية انسجام الرياضيات مع العالم الخارجي وحسب، بل تبين أيضًا أن ظهور المعرفة الرياضية المنطقية هو المحصلة الحتمية لكل عملية التطور.”   يشير ديفيد كوهين، في هذا السياق، إلى أن “البيئة الفعلية لم يكن لها أهمية بالنسبة لبياجيه فيما يتعلق بعملية نمو التفكير التي اعتبرها بياجيه عملية بيولوجية أساسًا.”  كما توضح مارجاريت بودن، كان الهدف الأساسي للعمل الذي قام به بياجيه هو “إقناعنا بأن تعرف الطفل على حدود الممكن هو إنجاز ضخم توصل إليه الطفل من نفسه بدون أن يعلمه ذلـك أحد.”  

   قام الكثيرون بانتقاد بياجيه لعدم تقديره أهمية التأثيرات الاجتماعية على الطفل تقديرًا كافيًا ولتجاهله السياق الاجتماعي الأوسع.   تشير مارجاريت بودن، في هذا الخصوص، إلى أنه قد “قام الكثيرون بانتقاد بياجيه لعدم تقديره أهمية التأثيرات الاجتماعية على الطفل تقديرًا كافيًا, ولتجاهله السياق الاجتماعي الأوسع.  من الضروري الانتباه, على أية حال, إلى أن بياجيه لا يهمل تمامًا هذه الأمور.  حقيقة الأمر, أشار بياجيه إلى أن الثقافات المختلفة, والممارسات التعليمية المختلفة, تؤثر على معدل نمو الذكاء, كما أكد في دراساته النفسية المبكرة على عوامل مثل تأثير أصدقاء الطفل.  أكد بياجيه، كذلـك، أن “المجتمع هو الوحدة الأعلى” وأن الفرد لا يمكنه أن يحقق ابتكاراته وتكويناته الفكرية إلا من خلال كونه موضع التعاملات الاجتماعية التي تعتمد من ناحية المستوى وناحية القيمة على المجتمع ككل. إلا أن الفرد والمجتمع يشبهان الدجاجة والبيضة : يعتمد كل منهما على الآخر و”لا يوجد هناك نوعان من المنطق واحد للجماعة والآخر للفرد. العمليات الإدراكية واحدة سواء كان ذلـك في مخ واحد أو نظام اجتماعي واحد.”   بالرغم من هذه الملاحظات, وملاحظات أخرى حول أهمية عوامل أخرى مثل الدوافع على النقيض من العوامل “الإدراكية البحتة” فإن بياجيه يركز أولاً وأخيرًا على تننظيمات الإدراك داخل الأفراد.   هذا هو السبب في أن أولئك الفلاسفة الذين ينظرون إلى الوسط الثقافي على أنه يحدد إلى حد كبير الفرد، والذين يصممون على أن الموضوعية نفسها هي فكرة اجتماعية, ينتقدون ما يعتقدون أنه منهج بياجيه المغرق فى فرديته.”    

حسب ما يذهب إليه بياجيه، إذن، لا يكتسب الطفل العمليات العقلية التي يستخدمها في إدراك العالم من المجتمع الذى يعيش فيه وإنما “يصنعها” من تفاعله مع البيئة التي يعيش فيها.   لا يتعدى دور العوامل الاجتماعية, بهذه الصورة, أكثر من “التأثير على معدل نمو الإدراك عند الطفل.”   طفل بياجيه، بهذا الشكل، لا يتعلم طريقة تفكيره من المجتمع الذى يعيش فيه وإنما يصنعها بنفسه.   ليس من الصعب، على أية حال، القول بأن هذه النظرة لعملية نمو الإدراك عند الطفل لا تتفق مع ما نعرفه الآن عن الواقع، وهو ما كشفت عنه الدراسات التى تمت مؤخرًا في حقل علم النفس الثقافي.

يتساءل محمود أبو النيل، خلال عرضه لنظرية بياجيه في إطار علم النفس الثقافي، عما إذا كانت التجارب التي تمت مؤخرًا في حقل الدراسات الثقافية تساند ما ذهب إليه بياجيه من أن عمليه نمو الإدراك لدى الطفل البشرى هي عملية بيولوجية أساسًا وأن دور العوامل الاجتماعية والثقافية لا يتعدى أكثر من التأثير على معدل هذا النمو.  يقول: “تذهب نظرية بياجيه إلى أن النمو المعرفي يحدث خلال مراحل متتابعة يُعتقد أنها عالمية، أما العوامل الحضارية فتؤثر فقط في العمر الذي تصل عنده هذه المراحل.   فإلى أي مدى تحقق وضع هذه العالمية بالدليل عبر الحضارى؟”   

بشكل أكثر تحديدا، هل ينتقل الطفل البشري من المرحلة الأولى (الحسية الحركية) إلى المرحلة الثانية (الحدسية)، ومن المرحلة الثانية إلى المرحلة الثالثة (العينية)، ومن المرحلة الثالثة إلى المرحلة الرابعة (التجريدية) بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية التي ينتمى إليها أو التعليم الذى يتلقاه، بل بغض النظر عما إذا كان قد تلقى تعليمًا أصلا؟   هل هو صحيح كذلك أن دور العوامل الثقافية لا يتعدى أكثر من التأثير على معدل نمو الإدراك لدى الطفل حيث إن كل أطفال العالم – عبر كل الثقافات – يصلون إلى المرحلة الرابعة، بل يكملونها، بغض النظر عن كل الاختلافات بين هذه الثقافات؟  باختصار, هل المسألة مسألة بيولوجيا أولا, وبيولوجيا أخيرًا؟

فى محاولتنا الإجابة على هذا السؤال سوف نعرض لعدد من الدراسات التي قامت بدراسة أثر التعليم على نمو الإدراك لدى الطفل.   إذا كان صحيحًا, حقًا, ما ذهب إليه بياجيه من أن عملية نمو الإدراك هي عملية بيولوجية أساسًا، عليه يجب أن نتوقع عدم وجود فروق بين المتعلمين والأميين.  يعرض هذا الجزء من البحث لعدد من التجارب التي تمت مؤخرًا في حقل علم النفس الثقافي بغرض دراسة الفرق بين “الأميين” و”المتعلمين” من أبناء الثقافات التقليدية من حيث القدرة على التصنيف, والقياس, والتعريف.

 

أولاً : التصنيف

الفكرة الأساسية التي يقوم عليها العمل الذي قام به بياجيه هو أن إدراك الطفل للعالم حوله ينمو من مرحلة لا يوجد لديه فيها أي وعي بخصائص العالم الذي نعيش فيه (المرحلة الأولى) إلى مرحلة يكون فيها على كامل الوعي بخصائص هذا العالم (المرحلة الرابعة).   يظهر هذا بوضوح في المراحل التي تمر بها مقدرة الطفل على “التصنيف”.

لو حدث أن طلبت مني, مثلا, أن أقسم أوراق اللعب إلى قسمين فيمكنني أن أقسمها إلى قسمين متساويين, يحتوي القسم الأول على كل الأوراق “الحمراء” (26 ورقة بالضبط) على حين يحتوي النصف الثاني على كل الأوراق “السوداء” (أيضا 26 ورقة بالضبط).  يمكن كذلك أن أقسمها إلى نصفين يحتوي النصف الأول على الأوراق التي توجد عليها علامة “القلب الأسود” وهي ثلاثة عشر ورقة بالضبط (من 1 إلى 10 زائد “الولد”, و”البنت”, و”الشايب”), إضافة إلى الأوراق التي توجد عليها علامة “القلب الأحمر”, وهي أيضا ثلاثة عشر ورقة بالضبط.  وهكذا يكون كامل عدد هذا النصف 26 ورقة.    يمكن, كذلك, أن أقسم أوراق اللعب إلى قسمين يحتوي الأول على “الصور” – أي الولد والبنت والشايب – ويحتوي الثاني على “الأعداد”.   وجه الشبه في القسم الأول هو أن كل الأوراق (12 ورقة) تحتوي على صور, في حين أن وجه الشبه في حالة القسم الثاني  (40 ورقة) هو أن كل الأوراق تحتوي على أعداد.

لمعرفة الفرق بين المرحلة الرابعة والمرحلة الثانية, حاول أن ترى ما يمكن أن يحدث لو طلبت من طفل في الرابعة من العمر أن يقسم أوراق اللعب قسمين.    حقيقة الأمر, سوف أصاب بدهشة لا حدود لها لو استطاع “أي طفل” في الرابعة من العمر أن يقسم أوراق اللعب إلى قسمين يوجد بين أعضاء كل قسم منهما وجه شبه – أي خاصية مشتركة.   يعود ذلك إلى أن الطفل في المرحلة الثانية (من عمر ثمانية عشر شهرًا تقريبا إلى السادسة تقريبًا) لا يوجد لديه “وعي” بخصائص الأشياء. 

يبدأ الطفل في “الانتباه” إلى خصائص الأشياء بدءًا من المرحلة الثالثة من مراحل النمو الإدراكي.   هنا يمكن للطفل أن “يقسم” أوراق اللعب إلى أوراق حمراء وأخرى سوداء, أو صور وأرقام, إلى آخر ما هنالك من تقسيمات.   مع بداية المرحلة الرابعة تبدأ في الظهور لدى الطفل, بالإضافة إلى ذلك, القدرة على التصنيف على أساس قاعدة ثابتة ثم إعادة التصنيف على أساس قاعدة مختلفة.   يمكن للطفل, بهذا الشكل, أن يقسم الأوراق إلى قسمين “على أساس اللون” مثلا, ثم إذا طلبت منه أن يعيد التقسيم على أساس آخر قام بتقسيمها “على أساس الصور”, أو على أساس قلب أحمر وقلب أسود في قسم, وكومي وشجرة في قسم آخر.   أي أنه أصبح قادرًا ليس فقط على التصنيف (الفرز) على أساس قاعدة ثابتة بل أصبح قادرًا كذلك على “تغيير” القاعدة التي يقوم عليها التصنيف.  وأخيرًا, تظهر لدى الطفل القدرة على “التصريح بالأساس الذي يقوم عليه التصنيف”.  على العكس من المرحلة الثالثة حيث كان الطفل “يستطيع” تقسيم أوراق اللعب إلا أنه لا يستطيع أن يخبرك على أي أساس قام بالتصنيف, يستطيع طفل المرحلة الرابعة أن يقوم بالتصنيف وأن يخبرك بالأساس الذي يقوم عليه التصنيف.  في المرحلة الرابعة فقط يستطيع الطفل أن يصنف أوراق اللعب على أساس اللون, مثلا, ثم إخبارك بأنه قام بالتصنيف على أساس اللون, أو على أساس ما إذا كانت الأوراق صورًا أم أعدادا.   في المرحلة الرابعة فقط يكون الطفل “على وعي” بما يفعل. 

كشف بياجيه, بهذا الشكل, وهذا هو المهم, عن وجود خط تطوري في مقدرة الطفل على التصنيف.    المشكلة, وهي مشكلة, أن بياجيه قد صور هذا التطور في مقدرة الطفل على التصنيف على أنه يعود أولاً, وآخرًا, إلى البيولوجيا. 

 

أثر التعليم على القدرة على التصنيف

تتفق النتائج التي كشفت عنها التجارب التي تمت في حقل علم النفس الثقافي مع ما ذهب إليه بياجيه من وجود خط تطوري فيما يتعلق بقدرة الطفل على التصنيف.    لا يتفق ما كشفت عنه هذه التجارب, على أية حال, مع ما ذهب إليه بياجيه من أن هذا التطور في قدرة الطفل على التصنيف يتم بمعزل عن العوامل الاجتماعية.   حقيقة الأمر, وعلى العكس تمامًا مما ذهب إليه بياجيه، توضح هذه الدراسات أن الطريقة التي يستخدمها الطفل لتصنيف العالم حوله ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنوع “التعليم” الذي يقدمه المجتمع إلى الطفل.

يهدف هذا الجزء من البحث إلى عرض عدد من التجارب التي تمت في حقل علم النفس الثقافي.   تبين هذه التجارب أثر “التعليم” على كل من القدرة على التصنيف على أساس قاعدة ثابتة, والقدرة على إعادة التصنيف, والقدرةعلى التصريح بالأساس الذي يقوم عليه التصنيف.  في عرضنا هذا سوف نتناول أولاً تلك التجارب التي قامت بدراسة القدرة على التصنيف على أساس قاعدة ثابتة, يلي ذلك تلك التجارب التي درست نوع القاعدة التي يقوم على أساسها التصنيف.

 

1.1          قدرة الطفل على التصنيف على أساس قاعدة ثابتة

كشفت التجارب التي تمت في حقل علم النفس الثقافي عن صحة ما ذهب إليه بياجيه من وجود خط تطوري فيما يتعلق بنوع “العمليات” المستخدمة في التصنيف.   يتم التصنيف في البداية على أساس ما يطرأ على ذهن الطفل, تظهر بعد ذلك القدرة على التصنيف على أساس قاعدة ثابتة, يلي ذلك القدرة على إعادة التصنيف، وأخيرًا تظهر القدرة على التصريح بالأساس الذي قام عليه التصنيف.  يقوم الطفل فى البداية بتشكيل “أشباه مجموعات” لا يجمع أعضاءَها “خاصيةٌ مشتركة”, يلي ذلك تكوين “مجموعات” حقيقية تجمع “خاصية واحدة مشتركة” أو “عدة خواص مشتركة” بين كل أعضائها وتفصل بينهم وبين كل المجموعات الأخرى التي لا تتوافر فيها هذه الخاصية (أو هذه المجموعة من الخصائص). 

 

1.1.1  تجربة شعب المايا

في تجربة حول طرق التصنيف لدى أبناء الثقافات التقليدية، قام شارب وكول بإعداد عدد من البطاقات تحتوي على أشكال هندسية مختلفة, ذات ألوان مختلفة, وأعداد مختلفة (أنظر شكل 1 في الملف المرفق).    قام شارب وكول بعد ذلك بعرض هذه البطاقات على مجموعات مختلفة من شعب المايا في المكسيك الذين يعيشون فى مدن ريفية لدراسة كيف سيقومون بتصنيفها.               

انقسم المشاركون في التجربة إلى مجموعتين رئيسيتين.  تتألف المجموعة الأولى من عدد من تلاميذ الصف الأول الابتدائي (6 إلى 8 سنوات), والثالث الابتدائي (9 إلى 10 سنوات), والسادس الابتدائي (12 إلى 14 سنة).   تتألف المجموعة الثانية من عدد من الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين الخامسة عشرة والعشرين والذين أمضوا عددًا من السنوات في الدراسة لا يقل عن سنة ولا يزيد على ثلاث سنوات.

فى البداية كان القائمون على التجربة يضعون البطاقات في كومة واحدة على مائدة صغيرة أمام المشارك ويطلبون منه وضع البطاقات التي تشبه بعضها في أكوام منفصلة.   لم يحدد القائمون على التجربة ما المقصود بعبارة “البطاقات التى تشبه بعضها”, كما لم يحددوا عدد الأكوام التى يمكن تقسيم البطاقات إليها.   قام كل المشاركين في التجربة تقريبًا بفرز البطاقات إلى مجموعتين اثنتين فقط على أساس عشوائي بالرغم من أن البطاقات قابلة للتقسيم, كما هو واضح, على أساس اللون, أو الشكل, أو العدد.   في المرحلة التالية كان القائمون على التجربة يقومون بوضع البطاقات مرة أخرى أمام تلك القلة التي نجحت في تصنيفها على أساس قاعدة ثابتة ويطلبون منهم تصنيفها مرة اخرى بطريقة مختلفة.   تبين النتائج التي كشفت عنها هذه التجربة أن قدرة الأطفال على التصنيف باستخدام قاعدة ثابتة تزداد مع زيادة عدد السنوات التى أمضوها فى الدراسة.   يظهر ذلـك بوضوح في أنه على حين لا تتعدى نسبة نجاح تلاميذ الصف الأول أكثر من 17% ، فإن نسبة نجاح تلاميذ الصف الثالث تصل إلى 47%، بينما تصل نسبة نجاح تلاميذ الصف السادس إلى 84% .

كشفت التجربة أيضًا, وهذا هو المهم, أن نجاح الفرد في التصنيف على أساس قاعدة ثابتة لا يعود إلى عمره الزمنى وإنما إلى عدد السنوات التي أمضاها في الدراسة.   يظهر ذلك من أداء مجموعة الشباب: على حين تصل نسبة نجاح الشباب الذين أمضوا عامين أو ثلاثة في الدراسة إلى 52% فإن نسبة نجاح الشباب الأمي، أو الذي لم يمضِ في المدرسة أكثر من عام واحد لا تتعدى 25%.

تتفق النتائج التي حصل عليها القائمون على التجربة فيما يتعلق بالقدرة على إعادة التصنيف مع النتائج التي حصلوا عليها فيما يتعلق بالقدرة على التصنيف على أساس قاعدة ثابتة.   توضح هذه النتائج أن قدرة الأطفال على إعادة التصنيف تزداد مع زيادة عدد السنوات التى أمضوها في الدراسة.   على حين لا تتعدى نسبة نجاح تلاميذ الصف الأول أكثر من 4% فإن نسبة نجاح تلاميذ الصف الثالث تصل إلى 44%, بينما تصل نسبة نجاح تلاميذ الصف السادس إلى 60%

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يمثل الشكل رقم (1) صورة البطاقات المستخدمة في تجربة شارب وكول لاختبار طريقة التصنيف لدى شعب المايا.   تختلف البطاقات من ناحية اللون (أبيض وأسود) والشكل (دوائر ومثلثات) والعدد (دائرة واحدة أو دائرتين، مثلث أو مثلثين)

 

 

كشفت التجربة أيضًا أن القدرة على إعادة التصنيف لا تعود إلى العمر الزمني للفرد بقدر ما تعود إلى عدد السنوات التي أمضاها في الدراسة.   على حين تصل نسبة نجاح الشباب الذي أمضى عامين أو ثلاثة فى الدراسة إلى 28%, فإن نسبة نجاح الشباب الأمي أو الذى أمضى عامًا واحدًا في الدراسة لا تتعدى 8%.

كشفت التجربة كذلـك عن عدم ارتباط القدرة على التصنيف على أساس قاعدة ثابتة بالقدرة على إعادة التصنيف على أساس قاعدة أخرى.   يظهر ذلك بوضوح في عجز العديد من أطفال المدارس الذين نجحوا في تصنيف البطاقات على أساس قاعدة ثابتة في إعادة تصنيفها على أساس قاعدة أخرى.   على حين نجح 17% من تلاميذ الصف الأول في التصنيف على أساس قاعدة ثابتة, لم ينجح سوى 4% فقط في إعادة التصنيف على أساس قاعدة أخرى.   يشير مايكل كول وسلفيا سكربنر, في هذا السياق, إلى أن “هذه النتيجة يجب أن تجعلنا حذرين للغاية عند تفسير سلوك الأطفال الأمريكيين والأوربيين, حيث نلاحظ بعض التغيرات التي تطرأ على طريقتهم في التصنيف مع تقدمهم في العمر.   يعود ذلـك إلى أن عدد السنوات التى أمضاها الطفل في الدراسة يتغير تغيرًا منضبطاً مع العمر الزمني للطفل.   توضح هذه التجربة، كذلـك، أنه ليس من الضروري أن يكون التصنيف وإعادة التصنيف ناتجين عن نفس العملية – لم يستطع العديد من الأشخاص الذين قاموا بتصنيف البطاقات على أساس قاعدة واحدة القيام بإعادة تصنيفها على أساس قاعدة أخرى. من الممكن للغاية أن تكون القدرة على إعادة التصنيف هي نتيجة الخبرة التي يكتسبها الفرد من الدراسة حيث يدرك أن من الممكن التعامل مع أي مجموعة من الأشياء بعديد من الطرق.  بعبارة أخرى, لا توجد “طريقة صحيحة واحدة” لأداء العمل “بغض النظر عن نوع العمل الذي يقوم الفرد بأدائه”.”

 

كشفت النتائج التي توصل إليها شارب وكول عن نقطتين أساسيتين :

 الأولى : أن كلاً من القدرة على التصنيف والقدرة على إعادة التصنيف لا تعودان إلى عدد السنوات التي أمضاها الفرد على ظهر الأرض, وإنما إلى عدد السنوات التي أمضاها على مقاعد الدراسة. 

الثانية : أن وجود القدرة على التصنيف على أساس قاعدة ثابتة لا يدل بالضرورة على وجود القدرة على إعادة التصنيف على أساس قاعدة أخرى.

 

2.1.1   تجربة قبيلة الكبِلي

في تجربة أخرى حول طرق التصنيف المستخدمة في الثقافات التقليدية, قامت سلفيا سكربنر بعرض عدد من أدوات الصيد, وأدوات الخياطة, وأواني الطهي, والملابس, والأطعمة, على مجموعة من أعضاء قبيلة الكبلي في ليبيريا وطلبت منهم القيام بفرزها.  

تألف المشاركون في هذه التجربة من عدد من الكبار والصغار ينقسمون إلى عدة مجموعات.   تنقسم مجموعة الكبار إلى أربع مجموعات رئيسية: مجموعة من طلبة المدارس الثانوية, ومجموعة من العمال الأميين الذين يعملون بالأجر في قرية “انتقالية” (أي قرية تمثل حلقة وصل بين قرى الأحراج وبين المدن الكبيرة)، ومجموعة من المزارعين الأميين الذين يعيشون في قريد تقليدية تقع على طريق عام, ومجموعة أخرى من المزارعين كذلـك الذين يعيشون في قرية من قرى الأحراج تبعد عن أقرب طريق عام مسافة لا تقل عن 5 ساعات.   تنقسم مجموعة الأطفال بدورها إلى مجموعتين رئيسيتين: مجموعة من الأطفال الصغار (في السادسة إلى الثامنة من العمر)، بعضهم أمى والبعض الآخر يذهب إلى المدرسة، ومجموعة من الأطفال الكبار (فى العاشرة إلى الرابعة عشرة من العمر) بعضهم أمى والبعض الآخر يذهب إلى المدرسة.

في بداية التجربة كان القائمون عليها يطلبون من المشاركين فيها أن يقوموا بفرز القطع المعروضة أمامهم إلى مجموعات متجانسة، على ألا يقل عدد القطع في أي مجموعة عن ثلاث.   بمجرد انتهاء المشارك من عملية الفرز هذه كان يطلب منه إعادة الفرز مرة أخرى.   يستمر ذلـك حتى يقوم المشارك بفرز هذه القطع بنفس الطريقة مرتين متتاليتين الواحدة تلو الأخرى.   يهدف ذلـك الإجراء إلى التعرف على القاعدة “الثابتة” للتصنيف, وليس على القاعدة “التى طرأت على ذهنه أول مرة”.

كشفت نتائج التجربة عن وجود فروق ضخمة بين المجموعات التي شاركت في التجربة.   على حين قام جميع طلبة المدارس الثانوية بلا استثناء تقريبًا بتصنيف القطع على أساس دلالي، قامت غالبية المزارعين الذين يعيشون في الأحراج بتصنيفها على أساس عشوائي, بينما احتلت مجموعة العمال من القرية الانتقالية ومجموعة المزارعين من القرية التي تقع على طريق عام مكانًا وسطًا, حيث قامت غالبيتهم بتصنيف القطع على أساس دلالي – أي على أساس أنها “ملابس”, أو “أطعمة”, أو “أدوات صيد”.

كشفت نتائج التجربة عن وجود نفس الفروق الضخمة بين مجموعات الأطفال. على حين قام أطفال المدارس في سن العاشرة إلى الرابعة عشر بتصنيف القطع تصنيفًا يتفق إلى حد كبير مع الحقول الدلالية (أي أنها “ملابس”, أو “أدوات خياطة”, إلى آخره)، قام الأطفال الأميون في نفس السن بتصنيف القطع تصنيفًا عشوائيًا.   في حالة الأطفال الصغار، على أية حال, لم يكن هناك فرق بين الأطفال الأميين وأطفال المدارس.   قامت كلتا المجموعتين بتصنيف القطع على أساس عشوائي.  مثال على ذلـك كانوا يقومون بتكوين مجموعات مثل : مسدس، فول سوداني، حزام، أو شبكة، رباط رأس، سكين، قبعة، أو إبرة، بطاطس، قميص.  تؤكد نتائج التجربة، بهذا الشكل, ما سبق أن كشفت عنه تجربة شارب وكول من أن القدرة على التصنيف على أساس قاعدة ثابتة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتعليم.

قامت سكربنر أيضًا بسؤال المشاركين في التجربة عن السبب في قيامهم بتصنيف الأشياء بالطريقة التي استخدموها.   كشفت هذه النقطة عن وجود فروق ضخمة بين الكبار. على حين قام جميع طلبة المدارس الثانوية بلا استثناء تقريبًا بالتصريح باسم الحقل الدلالي لمجموعاتهم (“هذه ملابس”) أو بالتصريح بعبارة تشير إلى خاصية يتميز بها كل أعضاء المجموعة (“يمكنك أن تصطاد بهذه الأشياء”)، قام 70% من مزارعي قرية الأحراج بإعطاء أسباب  لا علاقة لها بخصائص الأشياء التي قاموا بتصنيفها حيث كانت معظم إجاباتهم تتكون من عبارات تعسفية مثل “أنا أفضل أن يكونوا بهذه الطريقة” أو مثل “عقلي جعلني أصنفها بهذه الطريقة” – أي لها علاقة بهم هم “شخصيا” ولا علاقة لها على الإطلاق بخصائص الأشياء موضع التصنيف.   في حالة العمال من القرية الانتقالية والمزارعين من القرية التي تقع على الطريق العام, لم تكن هنالك تلك النسبة الضخمة من التفسيرات التعسفية كتلك التي قدمها مزارعو قرية الأحراج، إلا أنهم لم يصلوا إطلاقًا إلى مستوى طلبة المدارس في  التصريح باسم حقل “خاصية” مشتركة.  كان الأسلوب الشائع، على العكس من ذلك, هو الربط بين أعضاء كل مجموعة عن طريق “ما يستطيع المتحدث أن يفعله بها”.   مثال على ذلك, كان التفسير الذي يقدمونه لوضع شبكة، وإناء، وفلفل، وبامية، وفول سوداني في مجموعة واحدة هو أنهم يستطيعون استخدام الشبكة في الصيد، وطبخ البامية, والفلفل, والفول السوداني, في الإناء.

لم يقم أي من الأطفال الصغار (المجموعة من سن 6 إلى 8 سنوات) بالتصريح عن الأساس الذي قاموا بناءً عليه بتصنيف هذه الأشياء.   عند سؤالهم من قبل القائمين على التجربة عن السبب في قيامهم بفرز الأشياء بالطريقة التى استخدموها، قامت غالبية الأطفال في هذه المجموعة بالرد بأن القائمين على التجربة هم الذين طلبوا منهم ذلك (أنت قلت لي أن أقوم بفرزها) أو بالإحالة إلى السلطة الشخصية (أردت أن أفرزها بهذه الطريقة ولهذا فرزتها بهذه الطريقة).   لم يكن لدى الأطفال أيَّ وعي بأن خصائص الأشياء يمكنها أن تكون هي الأساس الذي بناءً عليه يمكن تقسيم الأشياء إلى مجموعات.   في حالة الأطفال الكبار (من سن 10 إلى 14 سنة), على أية حال، كان للتعليم أثر واضح على قدرة الأطفال على التصريح بالأسباب التى قاموا بناء عليها بتصنيف الأشياء.   على حين لم يختلف أداء الأطفال الأميين في هذا السن عن أداء الأطفال الصغار، قام نصف أطفال المدارس في هذه المرحلة العمرية بالتصريح بـ”خاصية عامة” تربط بين أعضاء كل مجموعة.   حقيقة الأمر، لم تزد نسبة الأطفال الذين قاموا بإعطاء ردود تعسفية في هذه المجموعة عن 20%.

كشفت التجربه بهذا الشكل أنه على حين لم تختلف مجموعة أطفال المدارس في المرحلة العمرية من 10 إلى 14 سنة عن مجموعة القرويين الأميين فيما يتعلق بالممارسة الفعلية لعملية التصنيف, إلا أن المجموعتين كانتا مختلفتين تمامًا فيما يتعلق بالقدرة على التصريح بالأسباب التى بناءً عليها قاموا بعملية التصنيف.   على حين صرح أطفال المدارس بأسماء الحقول الدلالية للمجموعات التي قاموا بتكوينها (أي ما إذا كانت “ملابس”, أو “أواني طهي”)، لم  يصرح القرويون الأميون بذلـك.    يمكن القول, في حقيقة الأمر, إن “المجموعة الوحيدة في دراسة سكربنر التي قامت باستخدام أسماء حقول دلالية أو خصائص مشتركة لعمليات التصنيف التي قامت بها كانت هي المجموعة المتعلمة.   تبين هذه الدراسة أن التصريح بالأسس التي يقوم عليها التصنيف يمثل أقوى أثر للتعليم”.   يشير مايكل كول وسلفيا سكربنر، في هذا الصدد، إلى أن “المعلومات المتوافرة لدينا في الوقت الحاضر تبيح لنا القول بأنه يبدو أن عمليات التصنيف تتغير عند التعرض لطرق الحياة الغربية أو الحديثة.   تلعب عضوية الحقول الدلالية دورًا كبيرًا في عملية تصنيف الأشياء.  عندما ينتقل الناس من العيش في قرى منعزلة إلى العيش في مدن أكثر تأثرًا بالتجارة وحركة انتقال الناس والبضائع يساعد الذهاب إلى مدارس على النمط الغربي على الانتقال إلى أسس التصنيف الدلالي.   من الضروري, على أية حال, إدراك أن دور التعليم لا يقتصر على ذلك وإنما يتعداه إلى أشياء أخرى : يعمل التعليم على ما يبدو على تشجيع منهج نحو عمليات التصنيف يتضمن البحث عن قاعدة – عن مبدأ يمكنه أن يولد الإجابات.   في نفس الوقت, يبدو أن التعليم ينمي الوعي بأن هناك قواعد بديلة ممكنة – يمكن للمرء أن يطلق على هذا الاتجاه اسم الاتجاه “الشكلي” – وهو الاتجاه الذي يقوم فيه الفرد بالبحث عن قاعدة ضمن القواعد العديدة الممكنة، واختيارها كقاعدة للحل.   في النهاية، فإن النتيجة الوحيدة التي لا غموض فيها في الدراسات التى تمت حتى اليوم، هى أن التعليم (والتعليم فقط) هو الذي يؤثر في الطريقة التي يقوم فيها الناس بوصف وتفسير العمليات العقلية الخاصة بهم”. 

توضح التجارب التي تمت في حقل الدراسات الثقافية المقارنة، بهذا الشكل، أن كلاً من القدرة على التصنيف على أساس قاعدة ثابتة, والقدرة على إعادة التصنيف، فضلاً عن القدرة على التصريح بالأسس التي يقوم عليها التصنيف ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتعليم.

  

2.1          نوع القاعدة المستخدمة في التصنيف

تمامًا مثلما كشفت الدراسات التي تمت في حقل علم النفس عن وجود خط تطوري في مقدرة الطفل على التصنيف, كشف الدرس كذلك عن وجود خط تطوري في “نوع القاعدة المستخدمة في التصنيف”.   في المرحلة الثانية من مراحل نمو الإدراك, يقوم الأطفال بتصنيف الأشياء بصورة اعتباطية, حيث يقوم الطفل بتصنيف الأشياء ليس اعتمادًا على خصائصها  الحسية, أو خصائصها الوظيفية الصحيحة وإنما حسب ما يستطيع أن يفعله بها.   مثال على ذلـك “الكتاب والصحيفة يشبهان بعضهما البعض لأني أستطيع أن أستخدمهما كليهما لضرب الناس”, أو “الملوخية والقرع يشبهان بعضهما البعض لأني لا أحبهما كليهما”.  مع بداية المرحلة الثالثة, على أية حال, يبدأ الأطفال في التصنيف اعتمادًا على الخصائص “الحسية” للأشياء – مثل اللون، والعدد, والحجم, والشكل, والموقع.  مع نمو إدراك الطفل، على أية حال، يقل اعتماده على الخصائص “الحسية” كأساس لتصنيف الأشياء ويبدأ فى إقامة تصنيفاته تأسيسًا على “وظائف” الأشياء.  مثال على ذلـك, “الكتاب والصحيفة يشبهان بعضهما البعض لأنهما يزودان الناس بالمعلومات”، و”الملوخية والقرع يشبهان بعضهما البعض لأنهما كليهما أطعمة”.

تبين العديد من الدراسات, في حقيقة الأمر, أن الأطفال الأوربيين والأمريكيين يميلون إلى تفضيل اللون وذلـك حتى العام الرابع من العمر وبعد ذلك يفضلون الشكل.  مثال على ذلـك, في تجربة قام بها ستشمان وتراباسو قام الباحثان بعرض بطاقات كتلك الموضحة في الشكل (2) على مجموعة من الأطفال بين الثالثة والسادسة من العمر.   طلب الباحثان من الأطفال الإشارة إلى “نفس الاثنين”.  قام الأطفال الصغار (3 إلى 4 سنوات) بالاختيار على أساس اللون على حين قام الأطفال الكبار (5 إلى 6 سنوات) بالاختيار على أساس الشكل.  يشير مايكل كول وسلفيا سكربنر, في هذا السياق, إلى أنه “تؤكد التجارب, الواحدة تلو الأخرى، تفضيل الأطفال

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يمثل الشكل (2- أ) صورة بطاقة لاختبار الخاصية المفضلة عند التصنيف حيث يتغير اللون, والشكل, والحجم.    يشبه الشكل (1) الشكل (2) من ناحية الحجم، على حين يشبه الشكل (3) من ناحية اللون,   بينما يشبه الشكل (2) الشكل (3) من ناحية الشكل.   يمثل الشكل (2- ب) صورة بطاقة لاختبار الخاصية المفضلة عند التصنيف.   يشبه الشكل (1) الشكل (3) من ناية الحجم على حين يشبه الشكل (2) الشكل (3) من ناحية اللون.

 

 

 

 

الصغار في أوربا وأمريكا للون.   يتحول الأطفال بعد ذلك إلى تفضيل الشكل على اللون عند بلوغهم الرابعة أو الخامسة من العمر.” 

يشير برونر، وأولفر، وجرينفليد إلى أن هذه النقلة من تفضيل اللون على الشكل تعود إلى أن “إدراك شكل أى موضوع يحتاج إلى تحليله إلى الأجزاء التى يتكون منها، على حين أن إدراك لون أي موضوع لا يحتاج إلى أكثر من نظرة إجمالية إليه.”  من ناحية أخرى, يفسر سٍربل هذه النقلة من استخدام اللون إلى استخدام الشكل عن طريق ما يسميه “فرضية الخبرة الحسية”.   تذهب هذه الفرضية إلى أن كل الأطفال تفضل اللون في أول الأمر وأن النقلة إلى تفضيل الشكل تحدث عن طريق اللعب الذى يتم فى بيوت الطبقة الوسطى الأوربية والأمريكية أو في المدارس الاوربية والأمريكية.   بعبارة أخرى، لا يوجد سبب منطقي آخر لتفضيل الشكل على اللون.

 

1.2.1   تجربة الوولوف

في دراسة لطرق التصنيف عند قبائل الوولوف في السنغال, قامت باتريشيا جرينفيلد بتقديم ثلاث مجموعات من الصور (انظر شكل 3) تتكون كل مجموعة منها من ثلاث صور لأشياء مختلفة.  كانت باتريشيا تطلب من المشاركين في التجربة الإشارة إلى الصورتين اللتين تشبهان بعضهما في كل مجموعة.  حيث إن كل مجموعة كانت تتألف من صورتين تشبهان بعضهما البعض في اللون، وصورتين تشبهان بعضهما في الشكل, وصورتين تشبهان بعضهما في الوظيفة.  عليه, كان باستطاعة المشارك في التجربة باستمرار أن يقيم تصنيفه على أساس اللون, أو الشكل, أو الوظيفة.   بعد ذلك كان يتم سؤال المشارك عن الأساس الذي بناءً عليه قام بعملية التصنيف هذه.   مثال على ذلـك “ما وجه الشبه بين هاتين الصورتين؟”

اشتركت في التجربة ثلاث مجموعات من الأشخاص.   تتألف المجموعة الأولى من عدد من الكبار والصغار من الأميين الذين يعيشون في أحراج السنغال.   تتألف المجموعة الثانية من طلبة المدارس من نفس المدينة.   تتألف المجموعة الثالثة, على العكس من ذلـك, من طلبة إحدى المدارس الموجودة بمدينة داكار، عاصمة السنغال.  كشفت التجربة عن وجود فروق ضخمة بين سلوك أطفال المدارس وبين سلوك الأطفال الأميين.   على حين كان الميل إلى التصنيف على أساس اللون يقل كلما تقدم أطفال المدارس في العمر، كان الميل إلى التصنيف باللون يزداد كلما تقدم الأميون فى العمر.   أيضًا, على حين كان أطفال المدارس يصرحون بالأساس الذي بناءً عليه قاموا بالتصنيف كلما تقدموا في العمر, كان من النادر أن تعكس التصريحات التي يدلي بها الأميون قواعد عامة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

يمثل الشكل رقم (3) صورة ثلاث مجموعات من الأشياء تم استخدامها في تجربة باتريشيا جرينفيلد لدراسة طرق التصنيف المستخدمة لدى قبيلة الوولوف.   تتكون المجموعة (1) من منبه, وبرتقالة, وموزة, على حين تتكون المجموعة (2) من صندل, وقميص, وجيتار، بينما تتكون المجموعة (3) من دراجة, وقبعة, وسيارة.

2.2.1  تجربة آسيا الوسطى

في دراسة لطرق التصنيف المستخدمة فى آسيا الوسطى, قام لوريا بعرض مجموعة من الصور لبعض الأشياء, مثل ألواح خشب, أو مناشير, أو بعض هذه الأشياء نفسها.   يصف لوريا التجربة بالشكل التالي :

“تم عرض صور أربعة أشياء على المشاركين في التجربة.   تنتمى ثلاثة من هذه الأشياء إلى نوع واحد, على حين ينتمى الشئ الرابع بوضوح إلى مجموعة أخرى.  كان يطلب من المشارك بعد ذلك أن يخبرنا ما هي الأشياء الثلاثة التي يمكن أن يقال عنها إنها “متشابهة” ويمكن وضعها في مجموعة واحدة أو تسميتها باستخدام نفس الكلمة التي تطلق على الأشياء الثلاثة الأخرى”.

كشفت هذه التجربة, كما هو واضح, عن أن المشاركين من الأميين لم يتعرَّفوا على “وظائف” الأشياء المعروضة عليهم, ولم يقوموا بتجريد خصائصها الأساسية ووضعها في مفهوم مجرد.   كانت العمليات التي قاموا بها مختلفة تمامًا إذ قاموا بصنع موقف عملي محسوس تم فيه ضم الأشياء الثلاثة مع استبعاد الشئ الرابع الذي لم يكن له دور في الموقف, حيث كانوا يقولون : “من الواضح أن اللوح, والمنشار, والبلطة, ينتمون إلى بعضهم البعض، إذ يلزم قطع اللوح بالمنشار, ثم تقطيعه بالبلطة, ولا مجال هنا لاستخدام الجاروف، حيث إن مكانه هو في الحديقة” ….. لم يستجب المشاركون إلى تلميحاتنا بالحل الصحيح, حيث كنا إذا أخبرناهم بأن الصور يمكن تصنيفها إلى مجموعات أخرى, أو أن أحد الأشخاص قد قال إن البلطة, والمنشار, والجاروف, لابد من وضعها مع بعضها البعض, أو أنها يشبه كل واحد منها الآخر, أو أنه يمكن إطلاق اسم واحد عليها, أو أن اللوح الخشب ليس “أداة”, أو أن لوح الخشب لا مكان له هنا, فإن المشاركين لم يكونوا يقبلون هذا الحل، ولم يعتبروه حلاً سليمًا, وكثيرًا ما قاموا بالرد بأن “هذا الشخص لم يكن على صواب، وهو لا يعرف الوضع، ما الذي يمكن أن تفعله إذا كان لديك منشار, وبلطة, ولم يكن لديك لوح خشب؟   أما بالنسبة إلى الجاروف فلا توجد حاجة إليه هنا”.  الفرق الأساسي هنا, كما هو واضح, هو أن المتعلمين يقومون بتصنيف الأشياء اعتمادًا على خصائصها (اللون, الحجم, الموقع, الشكل, الوظيفة) على حين يقوم الأميون بتصنيفها اعتمادًا على “ما يستطيعون أن يفعلوه بها”.   الفرق, أساسًا, هو فرق في قاعدة التصنيف.

 

  1. 3.2   تجربة الكبِلي

في تجربة حول الطرق التي تستخدمها الثقافات التقليدية في تنظيم الذاكرة, قامت سلفيا سكربنر بعرض 20 قطعة من الأشياء المألوفة لدى قبيله الكبلي في ليبيريا وطلبت من المشاركين تقسيمها إلى مجموعات متجانسة على ألا يقل عدد القطع في أي مجموعة عن ثلاث.   بعد قيام المشارك بالتصنيف على أساس قاعدة ثابتة كان يتم إزالة القطع ويطلب من المشارك تذكرها.                      

 

 

                     قائمتا المواد المستخدمة فى تجارب التذكر الحر لدى الكبلى

            

           القائمة القابلة للتجميع

         

           القائمة غير قابلة للتجميع

                    

                      طبق

                    صحن

                      قدر

                     قلاية

                    فنجان

                   بطاطس

                    بصل

                    موز

                   برتقال

                 جوز هند

                    سيف

                    فأس

                   سكين

                   مبرد

                  مطرقة

                 بنطلون

                  فانلة

                رباط رأس

                  قميص

                   قبعة

                       

                          زجاجة

                           نيكل

                       ريشة دجاج

                         صندوق

                          بطارية

                           قرن

                           حجر

                          كتاب

                          شمعة

                          قطن

                          حبل

                         مسمار

                        سيجارة

                        عصاة

                        حشيش

                          قدر

                         سكين

                        برتقالة

                         قميص

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

تلقي التجربة ضوءًا هامًا على الفروق بين الأفراد فيما يتعلق بعملية التصنيف, إذ أن الطريقة التي يستخدمها المشارك في ذكر أسماء الأشياء التي عرضت عليه تكشف عن الطريقة التي استخدمها في تنظيم الأشياء من أجل تسهيل عملية حفظها، أو ما إذا كان قد قام بتنظيمها أصلاً.

قامت سلفيا سكربنر باختيار القطع المستخدمة في التجربة على أساس القائمتين الموجودتين في الصفحة المقابلة.  تحتوي القائمة الأولى على عدد من الأشياء التي تنتمي إلى عدد محدود من الحقول الدلالية الواضحة (أواني طعام، أطعمة، أدوات، ملابس).   تحتوي القائمة الثانية، على العكس من ذلـك، على عدد من الأشياء التي يصعب وضعها في عدد محدود من الحقول الدلالية.   تسمى القائمة الأولى باسم “القائمة القابلة للتجميع”, على حين تسمي القائمة الثانية باسم “القائمة غير القابلة للتجميع”.  تشير الأبحاث الأمريكية إلى أن القوائم القابلة للتجميع يتم تعلمها وتذكرها بشكل أسهل.  تألف المشاركون في هذه التجربة من أربع مجموعات تمثل كل منها درجة مختلفة من درجات الاحتكاك بالمؤسسات الحديثة.   تألفت المجموعة الأولى من طلبة مدارس ثانوية، على حين تألفت المجموعة الثانية من عمال يعملون لقاء أجور, بينما تألفت المجموعة الثالثة من مزارعي أرز في قرية تقع على طريق عام.   تألفت المجموعة الرابعة والأخيرة من مزارعي أرز من قرية معزولة من قرى الأحراج.   كانت التنظيمات مختلفة للغاية بين المجموعتين اللتين تقعان على طرفي الحداثة: على حين اعتمد طلبة المدارس الثانوية اعتمادًا تامًا على التقسيمات الدلالية كأساس للتصنيف, لم يستخدم مزارعو الأرز في قرية الأحراج هذا المبدأ على الإطلاق. من الضروري الانتباه, على أية حال, إلى أن المشاركين كان مطلوبًا منهم أن يصنفوا المواد التي كان عليهم تذكرها.   يبقى السؤال التالي : هل يقوم الكبلى بتنظيم المواد المطلوب تذكرها وذلـك من أجل مساعدة التذكر؟  تشير تجربة سكربنر الثانية إلى أن الإجابة هى ” نادرًا “.

في التجربة الثانية قامت سكربنر باختيار 40 مشاركًا من طلبة المرحلة الثانوية و40 مشاركًا من المزارعين.  تم إعطاء المشاركين وقتًا لا يتعدى دقيقتين لدراسة الأشياء المطلوب تذكرها.   تم إعطاء نصف المشاركين تعليمات بأن “يفعلوا أي شيء من شأنه أن يساعدهم على التذكر”.   تم إعطاء النصف الآخر تعليمات إضافية بأن ينقلوا القطع إلى مائدة أخرى “بأى طريقة يمكن أن تساعدهم على التذكر”. كانت سكربنر تعتقد أن التعليمات القاضية بنقل القطع سوف تشجع المشاركين على تنظيمها.   بينت التجربة, على أية حال, خطأ هذه الفرضية.   على حين قام نصف طلاب المرحلة الثانوية ببعض التصنيف لم يحاول اكثر من ثلاثة قرويين فقط (من مجموع عشرين قرويًا) أن ينظموا القطع في مجموعات عند نقلها على الطاولة الثانية.    حـقيقة الأمر، حـاول البعض الحـفاظ على الترتيب الأصلى الذي كانت عليه في الطاولة الأولى على حين قامت الأغلبية بوضعها بصورة عشوائية أو تكويمها فوق بعضها البعض.  لم تتعدَّى نسبة الطلبة الذين قاموا بترتيب القطع من تلقاء أنفسهم في التجربة الأولى أكثر من 15%.

توضح التجارب التي تمت فى حقل التذكر الحر، بهذا الشكل، أنه على حين يقوم المتعلمون بالبحث عن بنية ومن ثم فرضها وتأسيس تذكرهم عليها، فإن الأميين لا يقومون بذلك.   تؤكد هذه التجارب, بهذا الشكل, ما سبق أن كشفت عنه التجارب المتعلقة بالتصنيف والتي توضح أن ابناء الثقافات التقليدية لا يقومون في العادة بتصنيف الأشياء على أساس قاعدة ثابتة.   بعبارة أخرى, أن فرض النظام على الأشياء من تلقاء الذات ليس أسلوباً شائعًا لدى أبناء الثقافات التقليدية.   يشير بيتر تالفست, في هذا السياق, إلى أن “النتائج التي كشفت عنها التجارب التي أجريت مؤخرًا في حقل الدراسات الثقافية المقارنة توضح وجود فروق في قاعدة التصنيف المفضلة, وفي سهولة استبدال هذه القاعدة بقاعدة أخرى عند الطلب, وفي التصريح بالقاعدة المستخدمة.   تبين هذه التجارب أن أكبر هذه الفروق كان بين مجموعة المتعلمين ومجموعة الأميين حيث تبين الدراسات المعاصرة أن المتعلمين يقومون بتصنيف الأشياء على أساس قاعدة دلالية بشكل أكثر (أي اعتمادًا على خصائص الأشياء الحسية أو الوظيفية وليس اعتمادًا على ما يستطيعون فعله بها)، كما أنهم يقومون بتغيير قاعدة التصنيف عند الطلب بصورة أسهل، فضلاً عن أنهم يصرحون بقاعدة التصنيف بشكل أسهل كذلـك”.

 

 

ثانيًا : القياس

كشفت التجارب التي قام بها بياجيه، كما رأينا فى الجزء الخاص بنظريته في نمو الإدراك عند الطفل عن وجود خط تطوري في مقدرة الطفل على التخلص من سيطرة الحس المباشر على إدراكه للعالم في المرحلة الحدسية. على سبيل المثال, لا يستطيع الطفل في المرحلة الحدسية استخدام المعلومات الموجودة  لديه من أجل الحصول على معلومات جديدة.  كما رأينا, لا يستطيع الطفل في هذه المرحلة أن يستنتج أنه إذا كانت العصا الحمراء أطول من العصا البيضاء, وكانت العصا البيضاء أطول من العصا السوداء, فإن العصا الحمراء لا بد أن تكون أطول من العصا السوداء.   لا يستطيع الطفل في هذه المرحلة كذلك أن يستنتج أنه إذا كانت المعادن الثمينة لا تصدأ, وكان الموليبدينم من المعادن الثمينة، فإن الموليبدينم لا يصدأ.   فى المرحلة العينية, على العكس من ذلـك, لا يجد الطفل أدنى صعوبة في التعامل مع هذه المشاكل – أي أنه لا يجد أدنى صعوبة في استخدام المعلومات الموجودة لديه من أجل الحصول على معلومات جديدة.

مرة أخرى، تتفق النتائج التي كشفت عنها التجارب التي تمت في حقل علم النفس الثقافي مع ما ذهب إليه بياجيه من وجود خط تطوري في مقدرة الطفل على التخلص من سيطرة الحس المباشر على إدراكه للعالم.   مرة أخرى كذلـك, لا تتفق النتائج التي كشفت عنها هذه التجارب مع ما ذهب إليه بياجيه من أن نمو مقدرة الطفل على التجريد يتم بمعزل عن العوامل الاجتماعية.  حقيقة الأمر، وعلى العكس تمامًا مما ذهب إليه بياجيه, توضح هذه التجارب أن مقدرة الطفل على التجريد ترتبط ارتباطاً وثيقًا بنوع “التعليم” الذي يقدمه المجتمع إلى الطفل.   يظهر ذلك بوضوح في التجارب التي قام بها علماء الدراسات الثقافية المقارنة للتعرف على الطريقة  التي يستخدمها أبناء الثقافات التقليدية في حل مشاكل القياس.  

توضح التجارب التي تمت في حقل علم النفس الثقافي وجود فروق كبرى بين المتعلمين والأميين عند حل مشاكل القياس وذلك على مستويين اثنين:  (1) طريقة الحل، و(2) نسبة النجاح في الحل. 

  1. طريقة الحل

تشير التجارب التي قام بها علماء الدراسات الثقافية المقارنة إلى أن الطريقة التي يستخدمها الأميون من أبناء الثقافات التقليدية في حل مشاكل القياس تختلف اختلافًا “نوعيًا” عن الطريقة التي يستخدمها المتعلمون من أبناء هذه الثقافات.   على حين يقوم الأميون بالتحقق من اتفاق المعلومات الواردة في المقدمات والاستنتاج مع الواقع، يقوم المتعلمون بالتحقق من سلامة العلاقة بين المقدمات والاستنتاج.

 

تجربة أوزبكستان

يعطي الحوار التالي صورة عما يجري في هذه الدراسات.   يدور الحوار هنا بين عالم النفس الروسي لوريا وبين مزارعٍ أميّ من إحدى قرى القاشجار (آسيا الوسطي).  في البداية يقوم لوريا بتقديم القياس التالي: في أقصى الشمال حيث يوجد الجليد، كل الدببة لونها أبيض.   تقع نوفايا زمليا في أقصى الشمال حيث يوجد جليد باستمرار.   ما لون الدببة هناك؟

–    توجد حيوانات مختلفة هناك.  (يكرر الباحث القياس)

–    لا أعرف، لقد رأيت دُبًا أسود ولم أرَ دببة أخرى.  كل مكان يوجد به نفس النوع من الحيوانات : إذا كان أبيض، تكون الحيوانات بيضاء، إذا كان أصفر، تكون صفراء.

–    ولكن ما نوع الدببة الموجودة في نوفايا زمليا؟

–    نحن نتكلم دائمًا عما نراه. الشيء الذي لا نراه لا نتكلم عنه.

–    ما الشيء الذي يمكن استنتاجه مما قلت؟ (يكرر الباحث القياس)

–    هذه هي المشكلة : ملكنا لا يشبه ملككم، وملككم لا يشبه ملكنا.   الشيء الذي قلته يمكن أن يجيب عليه الشخص الذى رأى، أما الشخص الذي لم يرَ فإنه لا يستطيع أن يقول أي شيء.

–    ولكن حسب ما قلته أنا، أي أن في الشمال حيث يوجد الجليد تكون الدببة بيضاء، هل من الممكن معرفة نوع الدببة الموجودة في نوفايا زمليا؟

–    لو أن شخصًا عمره 60عامًا أو 80 عامًا رأى دبًا أبيض وقال ذلـك، إذن لصدقناه، ولكنني لم أرَ دبًا أبيض وعليه فأنا لا أستطيع التحدث في هذا الموضوع.   هذا هو آخر ما سأقوله في هذا الموضوع.   إذا كان الواحد قد رأى شيئاً فهو سيتكلم عنه، أما إذا لم يكن قد رأى شيئًا فهو لا يستطيع الكلام (يتقدم شاب أوزبكيّ ويقول بناءً على ما قلته أنت، الدببة هناك بيضاء).

–    ممتاز من منكم على حق إذن؟

–     الديك لا يستطيع أن يفعل إلا ما تفعله الديوك. أنا لا أقول إلا ما أعرف.

 

تجربة ليبيريا

يعطي الحوار التالي مثالاً آخر.  يدور الحوار هنا بين سلفيا سكريبنر وبين في زعيم إحدى القري في ليبيريا.   يعرض الباحث المسألة التالية : في يوم من الأيام ذهب عنكبوت إلى وليمة. هناك عرف أن عليه أن يجيب على السؤال التالي قبل أن يتناول الطعام.   السؤال هو: يأكل العنكبوت والغزال الأسود الطعام سويًا باستمرار.   العنكبوت الآن يأكل الطعام. هل يأكل الغزال الأسود الطعام الآن أيضا؟

المشارك : هل كانا في الأحراج؟

المسئول : نعم.

المشارك : هل كانا يأكلان سويا؟

المسئول : العنكبوت والغزال الأسود يتناولان الطعام سويًا باستمرار.  العنكبوت يتناول طعامه الآن.  هل يتناول الغزال الأسود طعامه الآن أيضا؟

المشارك : لكننى لم أكن هناك.   كيف أستطيع أن أجيب على مثل هذا السؤال؟

المسئول : ألا تستطيع أن تجيب عليه؟ يمكنك الإجابة عليه حتى لو لم تكن موجودًا هناك.  (يكرر الباحث السؤال).

المشارك : آه.  الغزال الأسود يتناول طعامه الآن0

المسئول : على أي أساس قلت ذلـك؟

المشارك : على أساس أن الغزال الأسود يمشي في الغابة طوال اليوم يأكل الأوراق الخضراء ثم يرتاح بعد ذلـك لفترة ثم ينهض ليأكل مرة أخرى.

 

كما توضح التجربتان، يقوم الأميون من أبناء الثقافات التقليدية بمحاولة حل مشاكل القياس عن طريق التحقق من اتفاق المعلومات الواردة في القياس مع الواقع المعروف للواحد منهم شخصيًا.   لا يوجد لدى الأميين من أبناء الثقافات التقليدية، بهذا الشكل، أي وعي بأن بإمكانهم التحقق من صحة الاستنتاج حتى لو كانت المعلومات الواردة في القياس غير معروفة لهم شخصيا. 

حقيقة الأمر توضح الدراسات التي أجراها علماء الدراسات الثقافية المقارنة في العديد من الثقافات التقليدية عدم وجود أي فروق في الطريقة التي يستخدمها الأميون من أبناء هذه الثقافات في حل مشاكل القياس. تشير سلفيا سكربنر، في هذا الصدد إلى أن “الطريقة التي يستخدمها أبناء الثقافات التقليدية تكاد أن تكون واحدة إلى درجة أنه يصعب في أغلب الأوقات التمييز بين مقابلة مع أحد الأوزبكيين (أوزبكستان) ومقابلة مع أحد أبناء قبيلة الفاي (ليبيريا)، على الرغم من بعد المسافة من الناحية الجغرافية”.       

تبين الدراسات التي أجراها علماء الدراسات الثقافية المقارنة، على العكس من ذلـك، أن المتعلمين من أبناء الثقافات التقليدية يقومون بحل مشاكل القياس المنطقي بطريقة مختلفة.   يشير بيتر تالفست، في هذا الصدد, إلى أنه “تتوفر لدينا الآن قاعدة عريضة تدفعنا إلى الاعتقاد بأن الأفراد التقليديين يقومون بحل مشاكل القياس البسيطة التي تقدم لهم في الاختبارات النفسية بطريقة تختلف عن الطريقة التي يحل بها المتعلمون هذه المشاكل, وأن الطريقة التى يستخدمها الفرد لربط الاستنتاج بالمقدمات والتي تضمن عدم الخطأ وإعطاء أساس نظري لحل أي مشكلة، بغض النظر عن المحتوى، تظهر أولاً في المدرسة.   يرتبط ظهور هذه الطريقة بالحاجة إلى حل مشاكل من نوع جديد تشبه في بعض الجوانب الأساسية المشاكل الخاصة بالعلم”.

يؤكد علماء الدراسات الثقافية المقارنة، في هذا الصدد، أن من الضروري الانتباه إلى أن الفرق بين طريقة الأميين وطريقة المتعلمين في حل مشاكل القياس يعود إلى الفرق بين الأعمال التى يزاولها كل منهم.  على حين تستخدم طريقة الأميين في حل العديد من المشاكل التي يواجهها الناس في حياتهم العملية كل يوم في كل مكان من العالم، في العلم، من المستحيل ومن غير المعقول التحقق من صحة كل الاستنتاجات عن طريق التحقق من اتفاقها مع الواقع مباشرة.   بعبارة أخرى، علي حين يحتاج التفكير العلمي إلي قواعد محددة من اجل ضمان سلامة الاستنتاج (وبالتالي صحته)، لا يحتاج التفكير الفطري إلى مثل هذه القواعد.   يمكن القول, بهذا الشكل، إنه على حين تنتمي الطريقة التى يستخدمها الأميون من أبناء الثقافات التقليدية إلى التفكير الفطري، فإن الطريقة التى يستخدمها المتعلمون من أبناء هذه الثقافات تنتمي إلى التفكير العلمي.   يمكن القول، كذلـك ، إن موضوع الطريقة “الفطرية” يختلف اختلافًا تامًا عن موضوع الطريقة “العلمية”. على حين يشكل الواقع الخارجي الذي تشير إليه أجزاء القياس موضوع الطريقة الفطرية، تشكل العلاقات بين أجزاء القياس موضوع الطريقة العلمية.

 

يبين بيتر تالفست أن النتائج التي كشفت عنها التجارب في حقل الدراسات الثقافية المقارنة، بخصوص الطريقة التى يستخدمها أبناء الثقافات التقليدية في حل مشاكل القياس المنطقي، تقود إلى الاستنتاجات التالية :

1-  تنتمى الطريقة التي يستخدمها أبناء الثقافات التقليدية في حل مشاكل القياس البسيطة إلى التفكير العادي (الفطرى).    تستخدم هذه الطريقة في حل العديد من المشاكل في أي ثقافة.

2- عند ذهاب أبناء الثقافات التقليدية إلى المدرسة يقومون باكتساب طريقة جديدة لحل مشاكل القياس البسيطة.  يعود ذلـك إلى أن المشاكل المدرسية – التى تشبه بعض جوانبها الأساسية بعض الجوانب الأساسية للمشاكل العلمية – لا يمكن حلها باستخدام طريقة التفكير الفطري.

3- تختلف الطريقة الفطرية عن الطريقة المدرسية أساسًا في أن الفرد في الطريقة الفطرية (العملية) يقوم بالتحقق من صدق الاستنتاج عن طريق الربط بين المقدمات والنتائج وبين معرفته بالواقع، على حين أنه في الطريقة النظرية يهتم أساساً بسلامة العلاقة بين المقدمات وبين النتائج.   في العلم, من المستحيل ومن غير المعقول, التحقق من كل الاستنتاجات عن طريق مطابقتها مع الواقع مباشرة.

4- يعود الفرق بين طريقة الأميين في حل المشاكل وطريقة المتعلمين إلى الفرق بين الأعمال التي يزاولها كل منهم.  على حين يحتاج التفكير العلمي، كما أوضح لايبنيتس، إلى قواعد معينة من أجل ضمان سلامة الاستنتاج (وبالتالي صحته)، لا يحتاج التفكير الفطري إلى مثل هذه القواعد.   حيث إن الثقافات التقليدية لا يوجد لديها علم، عليه لا يوجد أي سبب لتصور أن لديها تفكير علمي.

 

يختلف موضوع الطريقة الفطرية (العملية) عن موضوع الطريقة العلمية (النظرية) اختلافًا تامًا.  على حين يشكل الواقع الخارجي الذي تشير إليه أجزاء القياس (المقدمات والنتائج) موضوع الطريقة الفطرية، تشكل العلاقات بين أجزاء القياس موضوع الطريقة العلمية.   تتطلب الطريقة النظرية في حل المشاكل وجود معرفة بالتفكير في الثقافة، بما في ذلـك المعرفة بقواعد التفكير.       

 

  1. مستوى النجاح في الحل

في دراسة قامت بها تام وبيتر تالفست في عام 1977 للطريقة التي يستخدمها أبناء الثقافات التقليدية في حل مشاكل القياس البسيطة، قام الباحثان بتقديم مشاكل القياس التالية إلى المشاركين في التجربة :

1-    يشرب أسان وكنش الشاي سويًا دائما.   يشرب أسان الشاي الآن.   هل يشرب كنش الشاي الآن؟ 

2-    تدعو أنارا صديقتها دامير لزيارتها كل يوم خميس.   غدًا سيكون الخميس.   هل ستدعو أنارا صديقتها دامير لزيارتها غدًا أم لا؟

3-    هناك قرية جبلية يمتلك كل فرد فيها كلبًا.   يعيش صديقي في هذه القرية.  هل يوجد لديه كلب أم لا؟

 

تالف المشاركون في التجربة من قرويين ورعاة أغنام تترواح أعمارهم بين 25 عاماً و 87 عاما، منهم 18 أميًا  و52 من المتعلمين.   بلغ متوسط سنوات التعليم 5,4 أعوام.

 

كشفت التجربة عن النتائج التالية :

1-  زادت نسبة الإجابات الصحيحة لدى المتعلمين عن نسبتها لدى الأميين زيادة كبيرة (61.5% لدى المتعلمين، و30% لدى الأميين).

2- كلما زاد عدد السنوات التي أمضاها الفرد في التعليم، كلما زادت نسبة الإجابات الصحيحة.

3-  كلما زاد عدد السنوات التى أمضاها الفرد في التعليم، كلما قلت نسبة الحالات التي يقوم فيها الفرد برفض الإجابة على الاختبار.

 

يؤكد بيتر تالفست، في هذا الخصوص، أن “مثل هذه النتائج تعد قاعدة لكل الجماعات والثقافات التقليدية التي تم إجراء تجارب فيها على القياس”.  كما يشير إلى أن “نتائج التجارب التي أجريت في حقل علم النفس الثقافي تشير إلى أن الأفراد التقليديين يقومون بحل مشاكل القياس البسيطة ذات المحتوى المألوف في نصف الحالات فقط، أي عن طريق الصدفة، على حين يقوم المتعلمون بحلها بدون أخطاء تقريبًا.   يمكن القول إن هذا الفرق يعود إلى الفرق في طريقة حل هذه المشاكل.   يستخدم المتعلمون هنا طريقة “المدرسة”، وهو ما يضمن استقلال الإجابة عن “الموقف الفعلي”.  على الرغم من أن إجابات الفريقين كانت متماثلة في نصف الحالات، فهناك احتمال في أن كلاً منهما قد استخدم طريقة مختلفة في الوصول إلى الحل.  تدعم الأسئلة التي سألها الأشخاص التقليديون والأسس التى قدموها لإجاباتهم هذه الفرضية.  عليه، يمكن القول إن الفرق بين نتائج الأفراد التقليديين ونتائج الأفراد المتعلمين, فيما يتعلق بحل مشاكل القياس البسيطة, يعود إلى أن التعليم خلق في المتعلمين نوعًا جديدًا من التفكير يلائم العمل مع المعلومات العلمية ويلائم حل المسائل العلمية.”     

 من الضروري الانتباه، على أية حال، إلى أن القدرة على حل مشاكل القياس البسيطة لا تزيد وحسب عند الذهاب إلى المدرسة، بل تنخفض كذلك عند الانقطاع عن الذهاب إلى المدرسة.   مثال على ذلـك، توضح الدراسة التى قامت بها سلفيا سكربنر ومايكل كول أنه كلما طالت الفترة التي مرت على ترك الأفراد في الثقافات التقليدية للدراسة وعودتهم إلى القرية، كلما انخفض الفرق بينهم وبين الأميين.   بعبارة أخرى, القدرة على التفكير التجريدي لا تزيد وحسب عند الذهاب إلى المدرسة، بل تنخفض كذلـك عند الانقطاع عن الذهاب إلى المدرسة.   تشير سلفيا سكربنر ومايكل كول، في هذا الصدد, إلى أن دراستهما قد كشفت أن “الوضع الدراسي للأفراد وقت إجراء التجربة يعد من أهم الفروق – أي ما إذا كانوا لا يزالوا مرتبطين بالدراسة كعملهم الأساسي، أو ما إذا كانوا قد تركوا الدراسة والتحقوا بأعمال قد تحتاج – أو لا تحتاج – إلى المهارات التي اكتسبوها في المدرسة.  يمكن القول، في حقيقة الأمر، بأنه حتى لو قبلنا الفرضية القائلة بأن المدرسة تخلق تغييرات عامة في بعض العمليات العقلية، فإنه قد يكون من الضروري تعديل هذه الفرضية بحيث تقتصر على الطلبة, أو على أولئك الأفراد الذين لم تمضِ فترة طويلة على تركهم للمدرسة, أو على أولئك الأفراد الذين يمارسون أعمالاً تشبه الأعمال المدرسية”.

 

ثالثًا : تعريف المفاهيم

كشفت التجارب التي تمت في حقل الدراسات الثقافية المقارنة عن عجز الأميين من أبناء الثقافات التقليدية عن تقديم تعريفات للمفاهيم التى يطلب منهم تعريفها.   يصرح بيتر تالفيست، في هذا السياق، بوضوح أن “البيانات المتوافرة لدينا في الوقت الحاضر تشير إلى أن أبناء الجماعات التقليدية لا يعرَّفون المفاهيم.”

توضح التجارب التي تمت في هذا المجال أن استجابة الأميين من أبناء الثقافات التقليدية لا تخرج عن واحد من اثنين: إما أن يرفضوا تمامًا تقديم أي تعريف، أو أن يقوموا بتقديم “وصف” لأشياء غير مترابطة.   كان الشئ الذى ينقص “التعريفات” التى قدموها باستمرار هو الإشارة إلى العلاقات بين الكل والجزء، أي بين النوع والفصيلة، وهى العلاقات التي تشكل جزءًا أساسيًا من التعريفات المستخدمة في العلم.

يوضح الحوار التالي، الذي يدور مع فلاح أمي في الثانية والعشرين من العمر الطريقة التي يستخدمها الأميون في تعريف المفاهيم :

–    قل لى ماذا نقصد عندما نقول “شجرة”؟

–    لماذا تريد أن أخبرك بذلـك؟  أنت تعلم أن كل الناس تعلم ما هو المقصود بـ “الشجر”.

–    هناك بعض الناس الذين لم يروا شجرًا أبدا، لهذا علينا إخبارهم.   كيف تقول لهم ما هي الأشجار؟

–    حاضر …. سوف أقول لهم كيف أننا نبذر حبوب البنجر، وكيف تنمو الجذور في الأرض، على حين تنمو الأوراق إلى أعلى، وأننا نزرع الأشجار بنفس الطريقة، إذ تنمو الجذور في الأرض .

–    ولكن كيف يمكنك أن تقول لنا في كلمات قليلة ما هو المقصود بكلمة ” شجرة “؟

–    في كلمات قليلة يمكن أن تقول شجرة “تفاح”, شجرة حور ، شجرة دردار .

–    وما المقصود بكلمة “سيارة”؟

–    النار تجعلها تتحرك، وهناك شخص يجعلها تتحرك.   إذا لم تضع فيها زيتا، ولم يكن فيها ناس، فلن تتحرك.

–    ولكن افترض أنك ذهبت إلى مكان لا توجد به سيارات، وكانت هناك ضرورة لأن تشرح ما هى السيارة كيف ستعرِّفها؟

–    إذا ذهبت هناك سوف أقول لهم إن الأتوبيسات تتحرك, وأن لها أربعة أرجل, ومقاعد أمامية للجلوس، وسقف يحمي من الشمس، وماكينة.  عمومًا سأقول: إذا جلست في واحدة منها ستعرفها.

يؤكد بيتر تاليفست، في هذا الخصوص، أن عجز أبناء الثقافات التقليدية عن تعريف المفاهيم إنما يعود إلى غياب أي مشاكل في الثقافات التقليدية يستحيل حلها إلا عن طريق تعريف المفاهيم المتعلقة بها.  في العلم، على العكس، يستحيل حل المشاكل العلمية إلا عن طريق تعريف المفاهيم المتعلقة بها.   يقول “عند حل مسائل الفيزياء في المدرسة، على سبيل المثال، يعد تعريف مفاهيم مثل “السرعة” أو “الكتلة” أمرًا ضروريًا من أجل حل هذه المسائل.   من الصعب، على أية حال، أن نجد في الثقافات الحديثة نشاطًا يتطلب العمل بمفاهيم تم تحديدها بدقة إلا في حالة العلم والقانون.   حيث إن الثقافات التقليدية لا يوجد بها علم ولا قانون بطريقة تشبه الثقافات الحديثة، عليه لا يوجد سبب يمكنه أن يدفع الناس في هذه الثقافات إلى تعريف المفاهيم”. 

 

كشفت التجارب التي تمت في حقل الدراسات الثقافية المقارنة، بهذا الشكل، عن وجود خط تطوري في قدرة الفرد على التصنيف، والقياس، والتعريف.    توضح هذه التجارب، كما رأينا، أن قدرة الفرد على التصنيف تتغير من مرحلة يعجز فيها عن التصنيف على أساس قاعدة ثابتة (أي التصنيف على أساس الحقول الدلالية التي تنتمي إليها الأشياء المراد تصنيفها)، أو إعادة التصنيف على أساس قاعدة أخرى، أو التصريح بالأساس الذي قامت عليه عملية التصنيف، إلى مرحلة يستطيع فيها القيام بكل هذه العمليات.

توضح هذه التجارب كما رأينا أيضا، أن قدرة الفرد على القياس تتغير هي الأخرى من مرحلة يعجز فيها عن التحقق من سلامة العلاقات بين المقدمات والاستنتاج ولا ينجح في حل مسائل القياس البسيطة إلا عن طريق الصدفة، إلى مرحلة يقوم فيها بحلها كلها بدون أخطاء تقريبا.

توضح هذه التجارب كذلـك أن قدرة الفرد على التعريف تتغير هي الأخرى من مرحلة يرفض فيها رفضًا قاطعًا تقديم التعريف المطلوب, أو يقدم وصفًا لأجزاء غير مترابطة لمدلول المفهوم المراد تعريفه، إلى مرحلة يستطيع فيها تقديم تعريفات تبين العلاقة بين الكل والجزء.

تتفق نتائج هذه التجارب، بهذا الشكل، مع ما ذهب إليه بياجيه من وجود خط تطورى في قدرة الطفل على إدراك العالم حوله.   لا تتفق نتائج هذه التجارب، على أية حال، مع ما ذهب إليه بياجيه من أن هذا النمو في قدرة الطفل على الإدراك يتم بمعزل عن العوامل الاجتماعية المحيطة بالطفل، ولا يخضع إلا للعوامل البيولوجية وحدها.   حقيقة الأمر، وعلى العكس تمامًا مما ذهب إليه بياجيه، توضح هذه التجارب أن نمو الإدراك عند الطفل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعوامل الاجتماعية المحيطة به، خاصة “التعليم”.

في ميدان التصنيف, توضح هذه التجارب, كما رأينا، أن نجاح الفرد في التصنيف على أساس قاعدة ثابتة, أو إعادة التصنيف على أساس قاعدة أخرى، أو التصريح بالأساس الذي قام عليه التصنيف, أو التصنيف على أساس قاعدة دلالية، لا يعود إلى عدد السنوات التي قضاها على ظهر الأرض وإنما إلى عدد السنوات التي قضاها على مقاعد الدراسة.   كما سبق أن أشرنا، يؤكد بيتر تالفست, في هذا السياق، أن “النتائج التى كشفت عنها التجارب التي أجريت مؤخرًا في حقل الدراسات الثقافية المقارنة توضح وجود فروق في قاعدة التصنيف المفضلة، وفي سهولة استبدال هذه القاعدة بقاعدة أخرى عند الطلب، وفي التصريح بالقاعدة المستخدمة.   تبين هذه التجارب أن أكبر هذه الفروق كان بين مجموعة المتعلمين ومجموعة الأميين.   تبين الدراسات المعاصرة أن المتعلمين يقومون بتصنيف الأشياء على أساس قاعدة دلالية بشكل أكثر، كما أنهم يقومون بتغيير قاعدة التصنيف عند الطلب بصورة أسهل، فضلاً عن أنهم يصرحون بقاعدة التصنيف بشكل أسهل كذلـك”.     

في ميدان القياس كذلـك، توضح هذه التجارب، مرة أخرى، أن نجاح الفرد في حل مسائل القياس البسيطة لا يعود هو الآخر إلى عمره الزمني وإنما إلى عدد السنوات التي أمضاهـا في الدراسة.   يؤكد بيتر تالفست, في هذا السياق، كما سبقت الإشارة إلي ذلك أن “نتائج التجارب التي أجريت في حقل الدراسات الثقافية المقارنة تشير إلى أن الأفراد التقليديين يقومون بحل مشاكل القياس البسيطة ذات المحتوى المألوف في نصف الحالات فقط، أي بالصدفة، على حين يقوم المتعلمون بحلها بدون أخطاء تقريبا”.                                               

في ميدان التعريف هو الآخر، توضح هذه التجارب مرة أخرى أن قدرة الفرد على التعريف لا تعود إلى عدد سنوات عمره وإنما إلى عدد السنوات التي أمضاها في الدراسة.   كما سبقت الإشارة إلى ذلك، يؤكد بيتر تالفست، في هذا السياق، أن “البيانات المتوافرة لدينا في الوقت الحاضر تشير إلى أن أبناء الجماعات التقليدية لا يعرِّفون المفاهيم”.

 

يلخص بيتر تالفست الموقف بقوله إن “البيانات المتوافرة لدينا في الوقت الحاضر تشير إلى أن أبناء الجماعات التقليدية لا يعرِّفون المفاهيم.   في التجارب المتعلقة بالتعرف على أوجه الشبه يشيرون إلى التصورات العليا بشكل أقل بكثير من المتعلمين. في التجارب المتعلقة بالتصنيف، يستخدمون طريقة التصنيف الدلالي بشكل أقل من المتعلمين.   يصرحون بأساس حلول المشاكل بدرجة أقل بكثير في كل التجارب”.   كما يشير إلى أنه “طبقاً لما أجمع عليه الباحثون في حقل الدراسات الثقافية المقارنة, يعد الفرق بين المتعلمين وبين الأميين هو أهم الفروق بين الأفراد، وذلـك فيما يخص طريقة التفكير: أي أن التعليم، أكثر من أي عامل ثقافي آخر, هو المسؤول عن تغير التفكير وظهور فروق بين الجماعات.”              

أكثر من ذلك، توضح هذه التجارب أن القدرة على القيام بالعمليات العقلية العليا لا تظهر وحسب عند الذهاب إلى المدرسة، بل تختفي كذلـك عند الانقطاع عن الذهاب إليها.   تؤكد سلفيا سكربنر ومايكل كول، في هذا السياق، أننا “حتى لو قبلنا الفرضية القائلة بأن المدرسة تخلق تغييرات عامة في بعض العمليات العقلية، فإنه قد يكون من الضروري تعديل هذه الفرضية بحيث تقتصر على الطلبة, أو على أولئك الأفراد الذين لم تمضِ مدة طويلة على تركهم للمدرسة، أو على أولئك الأفراد الذين يمارسون أعمالاً تشبه الأعمال المدرسية”.

حقيقة الأمر، لم يقف العاملون في حقل الدراسات الثقافية المقارنة عند حد الإشارة وحسب إلى “ارتباط” نمو القدرة على التصنيف, والقياس, والتعريف, بالتعليم، بل قاموا كذلـك بتوضيح السبب في نمو هذه القدرات عند الذهاب إلى المدرسة.

فى ميدان التصنيف، على سبيل المثال، تبين هذه الدراسات أن غياب التصنيف على أساس قاعدة ثابتة يعود إلى عدم وجود ضرورة في الثقافات التقليدية لفرض النظام على الأشياء، عند الذهاب إلى المدرسة، من الصعب، إن لم يكن من المستحيل،الإجابة على الأسئلة المدرسية إذا لم تكن الأشياء موضع السؤال منتظمة في بنية تجعل عملية الإجابة على هذه الأسئلة أمرًا ممكنا.   يشير مايكل كول وسلفيا سكربنر، في هذا السياق إلى أن “التعليم يعمل، كما يبدو، على تشجيع منهج نحو عمليات التصنيف يتضمن البحث عن قاعدة – عن مبدأ يمكنه أن يولد الإجابات”.

تبين هذه الدراسات كذلـك، فيما يتعلق بالقدرة على إعادة التصنيف، أن “من الممكن للغاية أن تكون القدرة على إعادة التصنيف هي نتيجة الخبرة التي يكتسبها الفرد من الدراسة حيث يدرك أن من الممكن التعامل مع “نفس الشيء” بأكثر من طريقة.   بعبارة أخرى، لا توجد “طريقة صحيحة واحدة” بغض النظر عن نوع العمل الذي يقوم الفرد بأدائه.          

توضح هذه الدراسات كذلك أن النقلة من اللون إلى الشكل، أى النقلة فى نوع الخاصية المستخدمة كأساس للتصنيف تعود هي الأخرى إلى المتطلبات التي تفرضها المدرسة.   يشير برونر وآخرون، في هذا السياق، إلى أن “إدراك شكل أي موضوع يحتاج إلى تحليله إلى الأجزاء التي يتكون منها، على حين أن إدراك لون أي موضوع لا يحتاج إلى أكثر من نظرة إجمالية إليه.”   يشير سربل إلى أن هذه النقلة من “النظرة الإجمالية” إلى “النظرة التحليلية” تحدث هي الأخرى تحت ضغط متطلبات المدرسة.   يعود ذلـك إلى أن الأشكال تعد أهم من الألوان بالنسبة للعمل المدرسي (عند القراءة، على سبيل المثال)

فى ميدان القياس كذلك, تبين هذه الدراسات أن النقلة من الطريقة “العملية” التي يقوم فيها الفرد بالتحقق من صحة القياس عن طريق التحقق من اتفاق المعلومات الواردة فيه مع الواقع المعروف له شخصيًا، إلى الطريقة “النظرية” التي يقوم فيها بالتحقق من صحة الاستنتاج عن طريق التحقق من سلامة العلاقات بين المقدمات والاستنتاج، تعود هي الأخرى إلى متطلبات العملية الدراسية.   في “العلم” من المستحيل التحقق من صحة كل الاستنتاجات عن طريق التحقق من اتفاقها مع الواقع المعروف للإنسان شخصيًا.   حيث إن المسائل المدرسية هي في أساسها مسائل “علمية”، عليه يستحيل حلها عن طريق استخدام الطريقة “العملية”.

في ميدان التعريف هو الآخر، تبين هذه الدراسات, مرة أخرى, أن النقلة من مرحلة يرفض الفرد فيها رفضًا قاطعًا تقديم أي تعريف لأي مفهوم، أو يقدم وصفًا لأجزاء غير مترابطة للمدلول الذي يشير إليه هذا المفهوم, إلى مرحلة يقوم فيها بتعريف المفاهيم عن طريق بيان العلاقة بين الجزء والكل، تحدث بدورها تحت ضغط المتطلبات المدرسية.   كما يوضح بيتر تالفست “عند حل مسائل الفيزياء في المدرسة، على سبيل المثال، يعد تعريف مفاهيم مثل “السرعة” أو “الكتلة” أمرًا ضروريًا لحل هذه المسائل”.  

 

العمليات العقلية العليا، إذن لا تظهر عندما يصل الفرد إلى عمر معين وإنما عندما يذهب إلى المدرسة. العمليات العقلية العليا تختفي كذلـك عند الانقطاع عن الذهاب إلى المدرسة.   يعود ظهور العمليات العقلية العليا عند الذهاب إلى المدرسة إلى أن المدرسة تفرض أعمالاً يستحيل القيام بها بدون هذه العمليات العقلية العليا.    يعود اختفاء العمليات العقلية العليا عند الانقطاع عن الذهاب إلى المدرسة إلى أن الثقافات التقليدية لا توجد بها أعمال يستحيل القيام بها بدون هذه العمليات العقلية العليا.   العمليات العقلية العليا، باختصار، تظهر عند ظهور أعمال يستحيل القيام بها بدون عمليات عقلية عليا، وتغيب عند غياب أعمال يستحيل القيام بها بدون عمليات عقلية عليا.    هكذا أخطأ بياجيه.

1 أبريل 2013

 

 

 

 

 

 

 

 

أثر الثقافة على نمو الإدراك لدى الطفل

أو

كيف أخطأ مؤسس علم النفس الإدراكي

 

تناول البحث في مقال سابق (أثر التعليم على نمو الإدراك لدى الطفل) التجارب التي قام بها علماء الدراسات الثقافية المقارنة لدراسة العمليات العقلية التي يستخدمها “المتعلمون من أبناء الثقافات التقليدية مقارنة بالعمليات العقلية التى يستخدمها “الأميون” من أبناء نفس هذه الثقافات.   كشف البحث، كما رأينا, أنه على حين ينتقل “المتعلمون” من المرحلة الحدسية إلى المرحلة العينية، فإن الأميين يستمرون في استخدام العمليات العقلية الخاصة بالمرحلة الحدسية.   كشف البحث ، بهذا الشكل، عن خطأ ما ذهب إليه بياجيه من أن إدراك الطفل البشري ينمو بمعزل عن العوامل الاجتماعية المحيطة به.

 

يهدف هذا الجزء من البحث إلى التحقق من صحة ما ذهب إليه بياجيه أيضًا من أن إدراك الطفل البشري ينمو كذلـك بمعزل عن العوامل الثقافية المحيطة به.   يعرض هذا الجزء، بالتالي، لعدد من التجارب التى قامت بدراسة العمليات العقلية التي يستخدمها “المتعلمون” من أبناء الثقافات التقليدية مقارنة بالعمليات العقلية التى يستخدمها “المتعلمون” في الثقافات الحديثة, وذلـك في ميدان التصنيف، والقياس, والافتراض, والاستنتاج, وإدراك الصور، إلى آخره.

 

أولاً: التصنيف

تجربة لوساكا

تعد التجربة التي أجراها ديريجوفسكي وسربل لدراسة طرق التصنيف التي يستخدمها أطفال المدارس في الثقافات التقليدية مقارنة بطرق التصنيف التي يستخدمها أطفال المدارس في الثقافات الحديثة من التجارب الهامة في هذا الخصوص.

تألف المشاركون في التجربة من تلاميذ في الصف الثالث الابتدائي من مدينة أبردين في اسكوتلاندا ومدينة لوساكا في زامبيا.   تم تقسيم المشاركين إلى مجموعتين, كان المطلوب من المجموعة الأولي أن تصنف وتصرح بأسماء ثمان لعب تمثل أربع مركبات وأربعة حيوانات.   بالإضافة إلى إمكانية تصنيف اللعب إلى مركبات وحيوانات كان يمكن أيضًا تصنيف المركبات إلى مركبات نقل ركاب، ومركبات نقل بضائع، كما كان يمكن تصنيف الحيوانات إلى حيوانات أليفة وحيوانات برية  كان بالإمكان أيضًا تقسيم كل من المركبات والحيوانات على أساس اللون.  كان المطلوب من المجموعة الثانية، على خلاف ذلـك، أن تصنف “صور” هذه اللعب وتصرح بأسمائها.

 حيث إن الصنفين الرئيسيين كان يمكن تصنيفهما إلى أقسام فرعية، كان ديريجوفسكي وسربل يطلبان من أي تلميذ قام بتقسيم اللعب إلى مجموعات تحتوي كل منها على ثلاث لعب على الأقل أن يقوم بتصنيف هذه المجموعة كذلـك إلى مجموعتين.   بالإضافة إلى ذلـك كانا يطلبان منه أن يصرح عن السبب الذي بناء عليه قام بهذا التصنيف.

عندما كان المطلوب هو تصنيف اللعب، قام كل الطلب الإسكوتلانديين  والطلبة الزامبيين بتقسيم الطلبة إلى مجموعتين رئيسيتين ( لمركبات والحيوانات) ثم قاموا بتقسيم كل مجموعة رئيسية إلى مجموعتين فرعيتين- وذلـك من تلقاء أنفسهم.  عندما كان المطلوب هو تصنيف صور اللعب، على أية حال, أظهر التلاميذ الإسكوتلانديين تفوقًا واضحًا، حيث قاموا بتقسيم الصور إلى أربع مجموعات بدون أن يطلب ذلـك منهم أحد، على حين لم يقم عدد من التلاميذ الزامبيين بعملية التصنيف الثانية إلا بعد أن طلب منهم ذلـك .

تبين هذه النتائج أنه على حين لا يوجد فرق بين صور اللعب وبين اللعب ذاتها بالنسبة للمجموعة الاسكوتلاندية، فإن هناك فرقًا واضحًا بينهما بالنسبة للمجموعة الزامبية.   بعبارة أخرى، على حين يمكن النظر إلى صور اللعب على أنها مؤثرات مساوية تقريبًا للعب ذاتها بالنسبة للأطفال الاسكوتلانديين، فإن ذلـك غير ممكن بالنسبة إلى الأطفال الزامبيين.

 كشفت التجارب كذلـك عن عدد من الفروق الأخرى بين المجموعتين.   مثال علي ذلـك، قام الأطفال الزامبيون بالتصنيف الثانوي على أساس اللون أكثر بكثير من الأطفال الاسكوتلانديين. كانت هناك اختلافات ضخمة كذلـك بين المجموعتين فيما يتعلق بالتصريح بالأساس الذي بناء عليه قاموا بالتصنيف.  مثال على ذلـك، على حين قام 95% من الأطفال الاسكوتلانديين بالتصريح بوضوح بالسبب الذي دفعهم إلى تصنيف المركبات إلى مركبات نقل ركاب ومركبات نقل بضائع ، لم يصرح بذلـك سوي 29% من الأطفال الزامبيين .

كشفت تجربة ديريجوفسكي وسربل، بهذا الشكل، عن وجود فروق ضخمة بين أطفال المدارس الزامبيين وأطفال المدارس الاسكوتلانديين فيما يتعلق بالقدرة علي التصنيف على أساس الخصائص الوظيفية للأشياء، والقدرة على التصريح بالأساس الذي يقوم عليه التصنيف، والقدرة على التصنيف من تلقاء الذات.  كشفت هذه التجارب كذلـك عن وجود اختلافات كبري بين المجموعتين فيما يتعلق بتصنيف “الصور”.  على حين لم يختلف أداء أطفال المدارس الاسكوتلانديين عند تصنيف صور اللعب عن أدائهم عند تصنيف اللعب ذاتها، اختلف أداء الأطفال الزامبيين في الحالة الأولى اختلافًا كبيرًا عن أدائهم في الحالة الثانية.

حقيقـة الأمـر يوجـد العديـد مـن التجارب التي تشير إلى وجود فروق كبري بين “المتعلمين” من أبناء الثقافات التقليدية وبين المتعلمين في الثقافات الحديثة, وذلـك فيما يتعلق بالقدرة على التصنيف.   يظهر ذلك في التجربة التي قام بها شارب وآخرون في يوكاتان بالمكسيك, حيث كان يُطلب من المشاركين التعرف على شيء رابع يشبه ثلاثة أشياء أخري.  كشفت نتائج التجربة عن غياب كامل للتصنيف على أساس قاعدة دلالية وذلـك فى حالة جميع المشاركين. يظهر ذلـك، كذلـك، في تجربة أخري لسكربنر وكول بين أبناء قبيلة الفاي في ليبيريا عن نفس الظاهرة.   لم تظهر نتائج التجربة وجود أي تأثير للتعليم على التصنيف.

يظهر ذلـك أيضاً فى التجربة التى أجراها سَتشمان لدراسة الخصائص التي يميل أطفال اليوروبا إلى استخدامها عند التصنيف, حيث قامت بدراسة مجموعة من الأطفال في مدارس تحفيظ القرآن تتراوح أعمارهم بين الثالثة والخامسة عشرة من العمر.   لم تجد سَتشمان أية اختلافات نتيجة العمر، حيث قام كل الأطفال فى كل الأعمار بتفضيل اللون على الشكل.

حصل سربل كذلـك على نفس النتائج من دراسة مماثلة للخصائص التي يميل أطفال القبائل الزامبية إلى استخدامها عند التصنيف.  وجد سِربل أن أطفال المدارس، مثلهم فى ذلـك مثل كبار السن من الأميين، يميلون إلى التصنيف على أساس اللون وليس على أساس الشكل.  كشفت تجربة سربل، على أية حال، أن النقلة من تفضيل اللون إلى تفضيل الشكل تحدث عند ذهاب الأطفال الزامبيين إلى مدرسة من مدارس الصفوة فى لوساكا.

 

تؤكد التجارب التي قام بها علماء الدراسات الثقافية المقارنة في ميدان التذكر الحر بدورها بوجود فروق ضخمة بين “المتعلمين” من أبناء الثقافات التقليدية وبين المتعلمين فى الثقافات الحديثة.  مثال على ذلـك، فى دراسة مقارنة لطرق التذكر في الثقافات التقليدية والحديثة، قام كول وآخرون بتقديم القائمتين الموضحتين فى الصفحة التالية.

تألف المشاركون في التجربة من مجموعتين من أطفال المدارس من قبيلة الكبلي.   يترواح عمر الأطفال في المجموعة الأولى من 6 إلى 8 سنوات، على حين يتراوح عمر الأطفال في المجموعة الثانية من 10 إلى 14 سنة.   تم مقارنة النتائج مع مجموعتين من أطفال المدارس فى جنوب كاليفورنيا .

 كشفت التجربة أنه حين يقوم الأطفال الأمريكيون بـ “تجميع” تذكرهم – أي أن المفردات التي تنتمي إلى نفس النوع الدلالي يتم تذكرها مع بعضها البعض – لا يقوم أطفال المدارس في قبيلة الكبلي بالتجميع على أسس دلالية على الإطلاق.   يمكن القول، بهذا الشكل، أن فرض النظام على المادة من تلقاء الذات كعامل مساعد للذاكرة ليس أسلوبًا شائعًا في حالة طلبة الكبلي.

كشفت الدراسات الثقافية المقارنة كذلـك عن وجود فروق بين “المتعلمين” من أبناء الثقافات التقليدية وبين المتعلمين في الثقافات الحديثة فيما يتعلق بإدراك الصور.   كما سبق أن مر بنا، على حين يمكن النظر إلى صور اللعب على أنها مؤثرات مساوية للعب ذاتها في حالة أطفال المدارس الاسكوتلانديين، فإن ذلـك غير ممكن في حالة أطفال المدارس من أبناء القبائل الزامبية، تعد مجموعة التجارب التى قام بها هدسون وماندى كاسل من التجارب الهامة فى هذا الصدد.

في محاولة لدراسة العوامل المؤثرة على إدراك الفرد لبعد “العمق” في الصور, قام هدسون وماندى كاسل بعرض مجموعة من الصور (شكل رقم 4) يظهر فيها فيل، وغزال، ورجل ممسك برمح.   تختلف الصور من ناحية المؤثرات التى تساعد على فهم الصورة.  على حين تحتوي الصورتان 2 و 4 على مؤشرات حجم فقط، تحتوي الصورتان 1 و 3  على مؤشرات حجم ومنظور كذلـك.   قام الباحثان بعد ذلك بطرح العديد من الأسئلة على المشارك بهدف التعرف على ما يراه المشارك فى الصورة.   من أهم الأسئلة لتقييم استخدام المؤشرات المتعلقة بالعمق السؤال التالي “ما الذي يفعله الرجل بالرمح؟”، وفي حالة فشل هذا السؤال في استخرج جواب يقوم الباحث بتوجيه السؤال التالي : ” ما الحيوان الذي يصوب الرجل الرمح نحوه؟”     تألف المشاركون في التجربة من أطفال مدارس أوربيين, وأفريقيين (بانتو), وهنود.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الشكل ( 4 )

        الصور المستخدمة فى تجربة هدسن وماندى كاسل لدراسة أدارك العمق في الصور

 

 

أظهرت النتائج أن الأطفال الأوربيين في بداية المرحلة الابتدائية كانوا يجدون صعوبة كبيرة فى إدراك الصور على أنها ذات ثلاثة أبعاد – أى انهم كانوا يقولون إن الرجل يصوب رمحه نحو الفيل.   في نهاية المرحلة الابتدائية، على أية حال، أوضحت استجابات الأطفال للصور أنهم كلهم كانوا ينظرون إليها على أنها ذات ثلاث أبعاد.   لم يكن هذا هو الحال في حالة الأطفال الهنود أو الأفريقيين في جنوب أفريقيا، ولا في حالة الأطفال الأفريقيين في غانا.   قام كل هؤلاء الأطفال بالنظر إلي الصور على أنها ذات بعدين فقط وليس ثلاث.

حقيقة الأمر، تتوافر العديد من الدراسات التي توضح انخفاض القدرات العقلية بشكل عام لدى “المتعلمين” من أبناء الثقافات التقليدية مقارنة بالمتعلمين في الثقافات الحديثة.  تعد التجربة التي قام بها عبد الله المقوشي لدراسة طرق التفكير المستخدمة لدى طلبة السنة الأولى بجامعة الملك سعود بالرياض نموذجاً جيداً فى هذا الخصوص.

قام المقوشي بتقديم اختبار لطلبة السنة الأولى في جامعة الملك سعود بالرياض يهدف إلى تحديد المرحلة الإدراكية التي وصلوا إليها.   يتكون الاختبار من واحد وعشرين مسألة تتعلق بعدد كبير من القدرات العقلية المختلفة، مثل النسبة والتناسب، والقياس, والفرض, والاستنتاج, إلى آخره.    كشفت الدراسة، كما يبين المقوشي، عن أن  “من أهم النتائج التي توصل إليها البحث هي أن ما يقارب 73% من الطلبة ما زالوا في مرحلة العمليات العينية، وما يقارب 27% في مرحلة انتقالية بين هذه المرحلة ومرحلة التفكير التجريدي ، وأن 0.7% قد دخلوا مرحلة التفكير التجريدي.”

تتضح أهمية هذه النتيجة عند المقارنة بنتيجة دراسة أخرى قام بها جلبرت بيرني في الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة القدرات العقلية لدى طلبة السنة الأولى في جامعة نورذن كولورادو. كشفت تجربة بيرني، الذي استخدم نفس الاختبار الذي قدمه المقوشي إلى طلبة جامعة الملك سعود، أن 78% من الطلبة الأمريكيين قد وصلوا إلى المرحلة التجريدية.

كشفت الدراسات الثقافية المقارنة، بهذا الشكل، عن وجود فروق ضخمة بين القدرات العقلية  “للمتعلمين” من أبناء الثقافات التقليدية والمتعلمين في الثقافات الحديثة في ميدان التصنيف. كما رأينا، كشفت الدراسة التي قام بها ديريجوفسكي وسِربل حول طرق التصنيف المستخدمة في الثقافات التقليدية, مقارنة بطرق التصنيف المستخدمة في الثقافات الحديثة, عن انخفاض القدرة على التصنيف على أساس الخصائص الوظيفية، فضلاً عن غياب القدرة على التصنيف من تلقاء “الذات”، بالإضافة إلى ضعف القدرة على التصريح بالأساس الذي يقوم عليه التصنيف لدى أطفال المدارس من أبناء القبائل الزامبية مقارنة بأطفال المدارس الاسكوتلانديين.   حقيقة الأمر، توضح التجارب التي قام بها شارب وآخرون حول طرق التصنيف المستخدمة لدى أبناء شعب المايا في يوكاتان، فضلاً عن التجارب التى قامت بها سكربنر وكول حول طرق التصنيف المستخدمة لدى أبناء قبيلة الفاي، عن غياب أي تأثير       “للتعليم” على طريقة التصنيف, حيث لم يقم أي من المشتركين بالتصنيف على أساس قاعدة دلالية.

من ناحية أخرى، تبين التجارب التي أجرتها سَتشمان حول الخصائص التي يميل أطفال المدارس من أبناء قبيلة اليوروبا إلى استخدامها عند التصنيف – فضلاً عن التجارب المماثلة التى أجراها سِربل لدى أطفال المدارس من أبناء القبائل الزامبية – أن أطفال المدارس من أبناء الثقافات التقليدية يميلون إلى استخدام اللون، وليس الشكل كأساس للتصنيف.   لم يجد سَتشمان ولا سربل، أية اختلافات نتيجة العمر.   تختلف هذه النتائج, بهذا الشكل, اختلافًا كبيرًا عن نتائج التجارب التي تمت حول الخصائص المفضلة لدى الأطفال في الثقافات الحديثة.   تبين هذه التجارب أن الأطفال الأوربيين والأمريكيين ينتقلون من تفضيل اللون إلى تفضيل الشكل في حوالي العام الرابع أو الخامس من العمر.

توضح التجارب التي أجراها المقوشي بصفة خاصة مدى الفارق في القدرات العقلية بين        “المتعلمين” من أبناء الثقافات التقليدية والمتعلمين في الثقافات الحديثة.   تبين إحدى هذه التجارب أن نسبة طلبة الجامعات من أبناء القبائل العربية الذين وصلوا إلى مرحلة التفكير التجريدي في السنة الأولى الجامعية تصل إلى أقل من 1%.    توضح التجارب المماثلة التي استخدمت نفس الاختبار في الولايات المتحدة أن نسبة الطلبة الأمريكيين الذين وصلوا إلى مرحلة التفكير التجريدي لا تقل عن 78%.

من الضرورى الانتباه، على أية حال، إلى أن انخفاض القدرة على القيام بالعمليات العقلية العليا لدى أبناء الثقافات التقليدية لا يعود إلى “عوامل بيولوجية” وإنما إلى “عوامل ثقافية”.   يشير بول جهومان، فى هذا السياق، إلى أنه “ليس من غير المعقول القول بأن التخلف الذي كثيرًا ما نجده في النمو الإدراكي لدى الأطفال في الدول غير الغربية قد يرجع إلى تفاعل العوامل الاجتماعية والثقافية مع العمليات الإدراكية وليس إلى قدرات وراثية منخفضة.

تؤكد التجارب التي أجراها جهومان فى إنجلترا والبنجاب هذه الفرضية.   يظهر ذلـك بوضوح في التجربة التي قام بها لدراسة نمو العمليات العينية لدى أطفال بنجابيين كان لهم احتكاك بالثقافة الغربية بدرجات مختلفة.   تألف المشاركون في التجربة من خمس مجموعات: (1) أطفال بنجابيون  ولدوا ودرسوا فى إنجلترا، (2) أطفال بنجابيون من الطبقة العليا، (3) أطفال بنجابيون من الطبقة الوسطي، (4) أطفال بنجابيون من طبقة المنبوذين، (5) أطفال بريطانيون.  كما كان متوقعًا, كان أداء أطفال الطبقة العليا (ينتمي هؤلاء الأطفال إلى عائلات ذات توجه غربي، كما أنهم يذهبون إلى مدارس تدار على الطريقة الأوربية) أفضل بصورة واضحة من أداء أطفال الطبقة الوسطي وأطفال المنبوذين.   من ناحية أخري، كان أداء الأطفال البنجابيين المولودين فى إنجلترا مساويًا لأداء الأطفال الإنجليز وأعلى من أداء أطفال الطبقة العليا البنجابية.   توضح هذه التجربة أن انخفاض القدرات العقلية لدى أبناء الثقافات التقليدية لا يعود إلى “عوامل بيولوجية” وإنما إلى “عوامل ثقافية”.

حقيقة الأمر، تفيض الدراسات الثقافية المقارنة بسيل من الإشارات التي تؤكد على أن انخفاض القدرات العقلية لدى المتعلمين من أبناء الثقافات التقليدية إنما يعود إلى “عوامل ثقافية” بحتة. يبين المقوشي، على سبيل المثال، أن عجز طلبة الجامعات من أبناء القبائل العربية عن الانتقال إلى مرحلة التفكير التجريدي يعود أساسًا إلى طبيعة المنهج الدراسي الذي يقوم على الحفظ، وبيئة المنزل التي تتميز بالمستوى التعليمي المتدني للأم وبغياب الألعاب التي تساعد على نمو المفاهيم والمهارات.   يقول: “إذا كان هناك تفسير لهذه النتيجة فلن يبتعد كثيرًا عن العوامل التي تساعد على وصول الطفل إلى مرحلة التفكير التجريدي, وهي طبيعة المنهج الدراسي وبيئة المنزل.   فأما بالنسبة للمنهج الدراسي, فمازال يعتمد على الحفظ, ولا يتيح للطالب الاعتماد على نفسه، كما أن المنهج لا يعكس أسلوب حل المشكلات.   أما بالنسبة للمنزل, فهناك شعور عام بأن الأهالي لا يقضون وقتًا كافيًا مع أطفالهم، كما لا يوفرون لهم الأسباب التي تساعد على نمو كثير من المفاهيم والمهارات من خلال الألعاب التعليمية المحلية والمصنعة، كما أن مستوي تعليم الأم ما زال متدنيًا.”

يبين الباحث البنجابي بول جهومان, من ناحية أخرى، أن سيطرة أسلوب الحفظ على المنهج الدراسي في الثقافة البنجابية يعود إلى التنشئة الاجتماعية للأطفال.   يؤدي هذا الأسلوب إلى قيام الأطفال بترديد المعلومات المدرسية عن ظهر قلب مع غياب أي فهم حقيقي لها.   يظهر ذلـك بوضوح في استعداد الأطفال على الدوام للتخلي عن أي إجابة يقدمونها واستبدالها بغيرها عند أى محاولة للاستفسار عن الأساس الذي بناءً عليه قاموا بتقديم هذه الإجابة.   لو كان الطفل يفهم حقًا ما يقول لما تخلى عنه بهذه السهولة.   يقول جهومان: “في الثقافة البنجابية   (خاصة في الأرياف) ينشأ الأطفال على النظر إلى مدرسيهم على أنهم أساتذة يلزم احترامهم وتقديرهم في كل وقت على الدوام.   من ثم يندر أن يضع التلاميذ شروحهم وكفاءتهم موضع التساؤل, ويميلون إلى حفظ المادة جيدًا.   لا تخلق هذه العلاقة بين الأستاذ والتلميذ أسلوب تعلم يؤدي إلى استجابة فعالة أو إلى طريقة تفكير يتحاور فيها الطالب مع المادة.   فيما يتعلق بمشكلة ثبات المساحة والطول قام الأطفال البنجابيون الذين تتراوح أعمارهم ما  بين 10إلى 11  عامًا، عندما طلب منهم تبرير إجاباتهم، بالرجوع عن إجاباتهم وتقديم إجابات مختلفة.  كان التلميذ البنجابي يتصرف كما لو كان يقول لنفسه “لو أنني كنت على صواب في الإجابة التي قدمتها أول مرة لما طلب مني أن أقدم تبريرًا لإجابتي”.   ينبع هذا السلوك من احترام التلاميذ وإجلالهم لممثل السلطة.   يدعم هذا الاستنتاج أن الأطفال كانوا يتطلعون دائمًا إلى وجه الأستاذ بحثًا عن علامات يقومون بتأكيد إجاباتهم أو إنكارها.”   يؤكد جهومان, فى هذا السياق, أن: “المدرسين البنجابيين يقومون باستخدام وسائل ميكانيكية في التدريس ويعاملون الأطفال كما لو كانوا أوعية عليهم ملأها بمعلومات جاهزة.”  يشير داسين إلى ملاحظة مماثلة في حالة أطفال سكان أوستراليا الأصليين.   يقول: “ليس من عادة الأطفال من أبناء سكان أوستراليا الأصليين التعبير عن آرائهم والتمسك بها.   حقيقة الأمر، ينظر الطفل إلى أي اختلاف على أنه نقد، ومن ثم يقوم بتغيير إجابته.”

يوضح سِربل، من ناحية أخرى، أن غياب النقلة من تفضيل اللون إلى تفضيل الشكل يعود إلى طبيعة النظام التعليمي المستخدم في الثقافات التقليدية.   في نيجيريا، على سبيل المثال، يقوم الأطفال في مدارس تحفيظ القرآن الكريم بحفظه عن ظهر قلب بدون أى فهم على الإطلاق للغة العربية المكتوب بها.

توضح التجارب التي تمت في حقل إدراك الصور بدورها أثر “العوامل الثقافية” على الإدراك. تبين هذه التجارب, كما رأينا, أنه على حين لا يوجد فرق بين صور الأشياء وبين الأشياء ذاتها بالنسبة للمتعلمين في الثقافات الحديثة، فإن هناك فرقًا كبيرًا بينهما بالنسبة للمتعلمين من أبناء الثقافات التقليدية.   تبين هذه التجارب, كما رأينا كذلـك، أنه على حين يستطيع المتعلمون في الثقافات الحديثة إدراك بُعد العمق في الصور، فإن “المتعلمين” من أبناء الثقافات التقليدية يعجزون عن ذلـك.

تشير الدراسات الثقافية المقارنة، على أية حال، إلى أن السبب في ذلـك يعود إلى الخبرة الضعيفة لدى أبناء الثقافات التقليدية بالرسم، والتصوير، والصور.   يشير ماندي  كاسل، الذي قام بدراسة الوضع الاجتماعي لأسر الأطفال الذين شاركو في تجاربه إلى أنه لم يجد “أي دليل على نشاطات مثل القراءة، أو الرسم، أو النظر إلى الصور، أو عمل نماذج، أو اللعب بألعاب تركيبية ….. عليه، كانت فرصة الحصول على خبرة بالصور ضعيفة.”   حقيقة الأمر، لا يتردد هدسون في التصريح بأن البيئة المنزلية، وليس التعليم الرسمي، هي العامل الحاسم في إدراك الصور.   يقول: “التعليم الرسمي، في الوضع الطبيعي، ليس هو العامل الحاسم في إدراك الصور.   يلعب التدريب غير الرسمي في المنزل والتعرض العادي للصور دورًا أكبر بكثير.”   يؤكد هدسون، في هذا السياق، أن الصعوبات التي يجدها أبناء القبائل الأفريقية فى إدراك الصور تعود إلى غياب العديد من التقاليد المستخدمة في الصور – والتي يأخذها الأوربيون على أنها أمر مسلم به – من الثقافات الإفريقية.   بعبارة أوضح، يعود غياب الوعي لدى أبناء الثقافات الأفريقية بالتقاليد المستخدمة في الصور إلى غياب هذه التقاليد من هذه الثقافات.

 

تشير الدراسات الثقافية المقارنة، بهذا الشكل, إلى أن تخلف “المتعلمين” من أبناء الثقافات التقليدية لا يعود إلى “عوامل بيولوجية” وإنما إلى عوامل تتعلق بنوع النظام التعليمي المستخدم في الثقافات التقليدية, وطبيعة المنهج الدراسي، والبيئة المنزلية.   أي، في التحليل النهائي، إلى “عوامل ثقافية” بحتة.   يذهب جهومان، في حقيقة الأمر, إلى أن من الممكن تلخيص نتائج التجارب التي تمت فى حقل الدراسات الثقافية بالشكل التالي:

“أولاً : على الرغم من أن الأسس البيولوجية ضرورية لنمو البنيات الإدراكية، فإن العوامل البيئية – مثل طريقة التنشئة, والعوامل التعليمية والثقافية – تتساوى معها في الأهمية في تحقيق هذه البنيات، و

ثانياً : يعود تخلف الأطفال غير الغربيين إلى تجربتهم المختلفة مع العالم الفيزيائي، والعالم الاجتماعي، و 

ثالثا : على الرغم من أنها حقيقة بديهية، يعد أداء الأفراد الذين تعرضوا لأسلوب الحياة الغربي أفضل من أداء الأفراد التقليديين.”

وهكذا, مرة أخرى, أخطأ بياجيه.

3 أبريل 2013

 

 

 

 

 

 

 

 

علوم الثقافات التقليدية

كشفت التجارب التى تمت في حقل الدراسات الثقافية المقارنة، كما رأينا، عن وجود فروق في التفكير بين الأميين وبين المتعلمين من أبناء الثقافات التقليدية.   ترتبط هذه الفروق, كما رأينا كذلـك, بوجود “الوعي” لدى المتعلمين وغيابه لدى الأميين.  على حين يفكر المتعلمون في المفاهيم, وفي العلاقات بين المفاهيم, في المشكلة نفسها، وفي طريقة حلها، يقوم الأميون بالتفكير في الواقع الخارجي فقط الذي تشير إليه المفاهيم والذى تتعلق به المشكلة.

يتساءل بيتر تالفست, في هذا السياق، عما إذا كان من الممكن أن نكتشف فروقًا بين العلوم التي أنتجتها الثقافات الحديثة وتلك التي أنتجتها الثقافات التقليدية تتطابق مع الفروق التي تمت ملاحظتها بين طريقة الأميين في التفكير وطريقة المتعلمين.   يقول: “هل يمكننا, إذن، أن نقول إننا نجد في النصوص التى تنتجها الثقافات “الحديثة” وعيًا على حين أننا لا نجده في النصوص التي تنتجها الثقافات التقليدية؟   لا يحتاج الأمر، بطبيعة الحال، إلى التأكيد على أننا نتحدث هنا أساسًا عن النصوص العلمية، حيث إن النصوص العلمية هي التي تحتاج إلى وعي أكثر بكثير من أي نصوص أخرى، كالنصوص الأدبية, مثلاً”.

تعد الدراسة التي قام بها هورتون للعلوم الشعبية الأفريقية من الدراسات الهامة في هذا الخصوص.   كشفت هذه الدراسة عن العديد من الخصائص المشتركة بين هذه العلوم وبين العلم الحديث.  عند تفسير الظاهرة, سواء في حالة العلم الحديث أو حالة العلوم الشعبية, هناك محاولة للعثور على الوحدة في التنوع، لتفسير المعقد من خلال البسيط.   في كلتا الحالتين يتم استخدام التشبيه.  في كلتا الحالتين لا يتم اللجوء إلى التفكير التجريدي إلا عندما تستعصي المشكلة على التفكير الحدسي.    مقابل خلفية الخصائص المشتركة هذه، قام هورتون بالتعرف على اختلاف جوهري واحد:  يفترض العلم الحديث باستمرار وجود وجهات نظر بديلة, وأنظمة تفسيرية بديلة, بينما لا يوجد في أي ثقافة تقليدية إلا نظام تفكير واحد فقط، لا بديل له، يضم كل المعارف والمعتقدات الموجودة فى الثقافة.

يؤكد هورتون, في هذا السياق, أنه إذا كانت هناك أنظمة تفكير بديلة في الثقافة يمكن عندئذ نقاش أيها أفضل وأصح، وأيها أقرب إلى الواقع الذي يصفه ويفسره.   فقط في حالة الثقافة التي يوجد بها أنظمة تفكير بديلة يكون من الممكن, بل ومن الحتمي, ظهور علم يستطيع دراسة وتقييم توافق هذه الأنظمة مع قوانين معينة, ودراسة وتقييم الطرق المستخدمة في هذه الأنظمة في وصف وتفسير الواقع, أي دراسة وتقييم الأنظمة نفسها، وليس الواقع فقط الذي يتم وصفه ودراسته عن طريق هذه الأنظمة.   مثال على ذلـك, فإن علم النبات الحديث لا يدرس النباتات فقط، وإنما يدرس كذلـك طريقة الأنظمة المختلفة في تصنيف النباتات, وطريقتها في تفسير ظهور أنواع النباتات وتغير هذه الأنواع.    بعبارة أخرى، العلم الحديث “على وعي” بذاته.  أما في حالة وجود نظام واحد من التفكير في الثقافة, فإن من غير الممكن أن يكون هذا النظام على وعي بذاته.   من الناحية المبدئية, من غير الممكن أن يكون هذا النظام موضع التفكير حيث إنه يحتوي على كل المعارف، لا يمكن نقده، لا يمكن اعتباره نظامًا حسنًا أو نظامًا سيئًا، لا يمكن اعتباره على صواب أو على خطأ.   لكي يحدث ذلـك، لابد من وجود نظام واحد آخر بديل على الأقل.

يشير تالفست، في هذا السياق، إلى أنه على الرغم من أن الدارسين “للعلوم الشعبية” لم يقوموا بتقديم دراسة مقارنة عامة لمثل هذه الأنظمة مع العلوم الحديثة إلا أن دراساتهم قد كشفت أن تصنيفات “علم النبات الشعبي” و”علم الأحياء الشعبي” هي تصنيفات غنية جدًا وتفصيلية جدًا.   حقيقة الأمر, يواجه علماء الإثنوغرافيا أحيانًا صعوبات في استيعابها، وهو ما يدهش أبناء الثقافات التي يقوم علماء الإثنوغرافيا بدراستها.

تبين هذه الدراسات، على أية حال، أن أبناء المجتمعات التقليدية لا يستطيعون تعريف المفاهيم التي يستخدمونها في التصنيف, ولا التصريح بمبادئ التصنيف.   مثال على ذلـك, تبين الدراسة التي قام بها ريفن وآخرون لطرق التصنيف المستخدمة في “علم النبات الشعبي” أن هناك وعيًا فقط بالنباتات ذاتها، إلا أنه لا يوجد وعي بالمفاهيم المتعلقة بها ولا بالعلاقات بين هذه المفاهيم.   بعبارة أخرى، لا يوجد تفكير حول النباتات.

حقيقة الأمر. يؤكد بيتر تالفست أن العلوم الشعبية لا يوجد بها وعي بقواعد التصنيف، ولا معايير أو مباديء للتصنيف تم التوصل إليها بصورة واعية.   يقول: “هناك اختلاف واحد رئيسي بين “العلوم الشعبية” وبين “العلم الحديث” : لا يوجد في العلوم الشعبية وعي بقواعد التصنيف, ولا معايير أو مبادئ للتصنيف تم التوصل إليها بصورة واعية, ولا قواعد للحصول على معلومات من معلومات أخرى”.

 

يلخص تالفست الخصائص الأساسية التي تميز العلم الحديث عن العلوم الشعبية في التالي :

  1. “تهتم العلوم الشعبية أساسًا بالوصف والتصنيف على حين يهتم العلم الحديث أساسًا     

   بالتفسير, و 

  1. في العلم الحديث، على النقيض من العلوم الشعبية، يعد وجود أنظمة وصفيَّة وتفسيريَّة 

 متنافسة خاصيَّة أساسيَّة, و 

  1. يعد وجود التصنيف باستخدام قاعدة واحدة, وقواعد تفسيرية عامة، وغياب التناقض  

 (داخل كل نظام مستقل) أمرًا لازمًا للأنظمة الوصفيَّة والتفسيريَّة في العلوم الحديثة, و 

  1. وجود أحكام عامة مصرح بها لا يوجد بها استثناءات، يعد خاصيَّة من خصائص العلم     الحديث, و
  2. في العلم الحديث، يتم الحصول على بعض المعلومات من معلومات أخرى بموجب قوانين شكليَّة معيَّنة.”

 

يبيِّن تالفست أنه في حال الانطلاق من وجهة النظر هذه يصبح من الواضح السبب في أن هناك علومًا في الثقافات التقليدية تتعلق بالعالم الخارجي على حين لا توجد علوم تتعلق بالتفكير ذاته وعلاقته بالواقع.    يقول: “هناك علوم – أي “علوم شعبية” –  في الثقافات التقليدية تتعلق بالعالم الخارجي إلا أنه لا توجد علوم تدرس التفكير ذاته وعلاقته بالواقع.   هناك “علم نبات شعبي”, و”علم أحياء شعبي”, و”علم فلك شعبي”، إلا أنه لا يوجد هناك “منطق شعبي” ولا “نظرية معرفة شعبية” ولا “علم نفس شعبي” كعلوم تختص بعمليات الإدراك.  الشيء المذهل في الأعمال التي تدعى باسم الفلسفة الأفريقية هو غياب الإشكاليات المعرفية”.

من الضروري الانتباه، في هذا السياق، إلى أن غياب العلوم التي تدرس التفكير ذاته وعلاقته بالواقع ليس مقصورًا على الثقافات الأفريقية وإنما يشمل كافة الثقافات التقليدية.   يشير زكي نجيب محمود, في هذا الصدد، إلى غياب الإشكاليات المعرفية في الثقافة العربية هي الأخرى. يقول: “لم يكن مصادفة أن وجدنا في فلسفات الغرب الحديث نظريات للمعرفة (ابستمولوجيا) تحدد العلاقة النظرية بين الإنسان العارف والموضوعات المعروفة، على حين أننا لا نكاد نعثر في التراث العربي الفلسفي كله على نظرية للمعرفة من هذا القبيل“.

 

هناك أساس إذن، كما يوضح تالفست، للقول بأن أنظمة التصنيف في المجتمعات التقليدية يتم وضعها على أساس الوعي بالأشياء والظواهر في العالم الخارجي فقط، على حين أن العلم الحديث يحتوى أيضًا علي معلومات عن التفكير، والمفاهيم، وعلي قواعد استخدام المفاهيم فى بناء المعلومات العلمية.   يتفق هذا الاستنتاج مع ما أثبتته التجارب في حقل علم النفس الثقافي والتي كشفت عن غياب “الوعي” من تفكير أبناء الثقافات التقليدية.   يؤكد بيتر تالفست أن “مقارنة نتائج التجارب التي تمت في حقل الدراسات الثقافية المقارنة مع نتائج التحليل الذي قام به هورتون لخصائص علوم الثقافات التقليدية وعلوم الثقافات الحديثة تشكل أساسًا للقول بأن هناك بالفعل تطابقاً بين خصائص عمليات التفكير وبين هذه العلوم”.

#تطويرالفقهالاسلامي

#كمال_شاهين

4 أبريل 2013

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.