رسائل في الانتقام 1- المشكلة

اتركوهم لله، جئت لأغير وما جئت لأنتقم.

Leave them for god,
I am coming to change only,
I am not coming to revenge.
#مهاتما_غاندي

رسائل في الانتقام

1.     المشكلة

المشكلة التي نعاني منها جميعا بأننا وبصورة طبيعية نحب الانتقام وأنا لست شاذا عنكم فأنا أيضا أحب الانتقام. ولعلمكم فقد مسني الظلم كثيرا وكنت أزداد نقمة على الظالمين وهي حالة طبيعية ولا أظنكم تتعجبون منها. لكنني حينما درست أحوال الأنبياء وأردت التعرف على السر في تعيينهم سماويا رسلا من الله تعالى خالق الكون المهيب إلى المدركين من عبيده في أرضنا فإنني شاهدت الفرق بيني بل بيننا وبينهم. إنهم يكرهون الانتقام ويحبون نشر الهدى بين الناس ويحبون الناس حبا غير عادي. أظن بأن رسول الله كان يحب الذين حضروا زمانه ومكانه أكثر من حب الآباء لأبنائهم. قال تعالى في سورة الكهف: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6). والآية تبين للقارئ تأثر رسولنا نفسيا لصالح المسيحيين. واللغويون متفقون تقريبا على معنى بخع وأكتفي بالراغب في المفردات:

البخع: قتل النفس غما، قال تعالى: {فلعلك باخع نفسك}[الكهف/6] حث على ترك التأسف، نحو: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات}[فاطر/8].  انتهى النقل.

فالرسول الأمين يتألم من رفض قومه لدعوته لأنه يعلم نتائج رفضهم ولكن الله تعالى لا يهتم بما يهتم به رسله. إنهم بشر متواضعون ويحبون بني جنسهم ولا يهتمون بكسب الملك والسلطة. ولنعلم  الفرق بين اهتمامات ربنا وبين مشاعر رسله نقرأ بداية الكهف ونقارن بينها وبين الآية السادسة أعلاه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا (1) قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا ِلآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاّ كَذِبًا (5).

وحتى نعرف المزيد من السورة اسمحوا لي أن أستعرض باختصار موقعها في القرآن الكريم. هي ضمن مجموعة سور بدأت بالإسراء التي تتحدث عن بني إسرائيل ثم الكهف التي تتحدث عن المسيحيين ثم مريم التي توضح لنا حقيقة رسول الله عيسى إلى بني إسرائيل الذين آمنوا به وسميناهم في ما بعد بالمسيحيين وتنتهي المجموعة بسورة طه التي تتحدث عن رسول الله موسى إلى بني إسرائيل الذين عرفوا باليهود. وبعد هذه السلسلة الطيبة من السور فإنه تعالى يوضح لنا معنى النبوة عن طريق بيان أمثلة من الأنبياء في سورة الأنبياء. فالسور الخمسة جميعها مرتبطة بالأنبياء وبأتباع الأنبياء.

الأنبياء صفوة طيبة خيرة تحب الإنسان وتحب معه كل خلق الله. إنهم جميعا مظاهر رحمة الله تعالى ولكن الله الرحيم لا يمكن أن يعمم الرحمة دائما على كل العصاة فهو سبحانه مهتم بالعدالة قبل كل شيء. ولذلك تعجبت من قول أخي الكريم الطبيب سلامه بأن الله تعالى أمرنا بإنزال العقوبة والانتقام وأنا ما رأيت شيئا من ذلك النوع من الأوامر في الكتاب الكريم. لقد عهد الله تعالى على نفسه أن ينتقم من الظالمين واكتفى الرسل بذلك ولم يأمر الله تعالى رسله بالانتقام حسب ظني. قال تعالى في سورة إبراهيم: فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47). لكنه تعالى اكتفى بالإذن بالعقاب.

وكل ما ذكره ربنا من عذاب دنيوي ضد بعض أقوام الرسل فهو منه سبحانه وليس من الرسل عليهم السلام. وإذا قرأنا عن نوح بأنه اشتكى من قومه وطلب إزالتهم فإنه صبر عليهم 950 سنة وهو صبر بشري غير معهود لدى غير نوح كما أظن. ثم إنه عليه السلام خاف على المؤمنين فخاطب ربه كما في سورة نوح: وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاّ فَاجِرًا كَفَّارًا (27).

ويمكن لنا ملاحظة أن ما فعله الله تعالى بقوم نبينا كان منه سبحانه وليس بطلب من رسوله عليه السلام؛ نراه جليا في ما يلي من سورة التوبة: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15). فالذي يريد إنزال العذاب هو الله تعالى ولكنه يريد ذلك على يد عبيده المؤمنين. ويمكن لنا فهم السبب لو أمعنا في التالي:

1. الذين يحضرون الرسالات فإنهم يرون الحق مشفوعا بالمظاهر الإعجازية التي تؤكد لهم حقيقة الدعوة وبأنها من الله تعالى. فالذين كذبوا منهم فهم كافرون بالحقيقة وليسوا جاهلين لأنهم يرون ما لا يراه غيرهم من آيات الله تعالى. فحكمهم واضح وهم أصحاب النار ولا معنى لتركهم بسلام بل يقدر الله تعالى إزالتهم عادة. هذا ما فعله مع أقوام الرسل الذين أكملوا دعواتهم وكفر بهم من كفر من قومهم.

2. لم يعذب الله قوم إبراهيم لأن الدعوة لم تتكامل لديهم ولم يظهر حقيقة كفرهم فتركهم ربهم ليختبرهم ربهم بصورة عادية في غياب رسولهم إبراهيم عليه السلام.

3. لم ينزل الله العذاب على فرعون موسى وقومه لأنهم كانوا مختلطين مع عامة الناس. لكنه تعالى قدر لموسى عليه السلام أن يهرب فتبعهم فرعون و جنوده دون عامة الشعب ولذلك أغرقهم الله تعالى بأنهم لم يكونوا مختلطين مع الناس العاديين. وبقي منهم عالم البلاط الفرعوني قارون فلم يتركه ربه حيا بل أنزل عليه عقوبة الهلاك خسفا كزملائه من قوم فرعون. ولا ننس بأن قارون كان من بني إسرائيل.

4. كان مشركو مكة مختلطين مع مسلمي مكة ولذلك قدر الله تعالى للكافرين أن يُعذَّبوا كأفراد على يد المؤمنين وقدر للمؤمنين أن يروا من كل فرد منهم ما يؤكد لهم مشاركته في التآمر ضد الذين آمنوا بالله ورسوله. وهكذا أنزل الله تعالى عذاب الدنيا على كل الذين كفروا برسله.

لكن الرسل غير نوح الذي خاف على المؤمنين من قومه، فهم لم يطلبوا العذاب. وحينما قدر سبحانه أن يعذب قوم لوط وهم الفينيقيون كما أحتمل، تألم إبراهيم فحكى الله تعالى القصة في سورة هود: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَىيُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76). لكن علينا أن نعرف بأن عذاب الله في الدنيا خاص بأصحاب الرسل ولا يحق لأحد غير الله تعالى أن يأمر بها.

وأما دعاء لوط فهو عليه السلام دعا بأن ينصره الله على قومه فقط ولم يدع بهلاكهم ولنستمع إلى الحكاية مرة أخرى من سورة العنكبوت: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاّ أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَن جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33). ولعلنا نعلم بأن الله تعالى كان يمهد كما أظن لنزول التوراة على بني إسرائيل فكان من الضروري أن يزيل خطر اندثار العوائل بسبب انتشار ارتباط الرجال بالرجال والنساء بالنساء وتوقف الإنجاب. كما أنه تعالى ذكر في نفس سورة العنكبوت قصة قوم شعيب لأن انتشار تنقيص المكيال والميزان كان يشكل خطرا كبيرا على بني إسرائيل أيضا. يريد الله تعالى كما أظن أن يختبر البشرية بالعائلة كما فعله مع أبناء إسحق وأن يختبرها بالقوانين كما فعلها مع أبناء إسماعيل. ولذلك أزال مخاطر اندثار العوائل كما أزال مخاطر انتشار الظلم التجاري في عائلة اهتمت بالمال وبالتجارة. والعلم عند المولى عز وجل.

والآن نأتي إلى التشريع فلا يُعقل ألا يسمح الله تعالى بالعقاب ولكنه يحب لعبيده الصبر والدعاء إلى ربهم ليكفيهم شر أعدائهم. بالطبع أن من حق الناس أن يستفيدوا من تشريعات السماء وينزلوا العقاب على من ظلمهم ردعا و درءً للتكرار. وأنا أظن بأن السبب هو أن من خير البشر ألا يتعلموا على القسوة فتنتشر بينهم الرحمة والحب والحنان ليعيشوا بسلام وأمان. والله تعالى يمن على أهل مكة بأنه خلصهم من حب الانتقام بقوله الكريم في سورة آل عمران:وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104).

نلاحظ من الآيتين الكريمتين بأن الله ورسوله بفضل عدم التسريع في الانتقام حول أمة يحارب بعضها البعض إلى أمة يحب بعضها البعض.

لقد ربى رسولنا المؤمنين من صحابته على حب البشر حتى أضحوا يحبون أعداءهم وقد شهد لهم ربهم بذلك في سورة آل عمران: هَا أَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119). ولنا فيما فعله رسولنا بمن ظلموه يوم فتح مكة بأنه عفا عنهم وقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء. كما أنه عليه السلام أعطى الأمان فور الدخول لمن دخل بيته أو دخل دار أبي سفيان أو دخل المسجد. ثم إنه عليه السلام طلب مفاتيح الكعبة وبعد أن نظفها من الأصنام أعادها إلى نفس الشخص المشرك واعتبره من ذلك اليوم وكيلا عن الحكومة الجديدة لحراسة الكعبة وحفظ المسجد. هذا ما بعض نقله المؤرخون من معاملة رسولنا بعد الفتح.

فالرسل لا ينتقمون أبدا. ولكن المسلمين الذين انتقموا بل ظلموا الذين لم يظلموهم واعتدوا على من لم يعتد عليهم باسم الفتوحات الإسلامية فهم لم يسيروا على منهج الرسل. وليت شعري أرى بعض غير المسلمين يتبعون الرسل. بل أرى بعض غير المؤمنين بالرسل وهم يتبعون الرسل أكثر من الذين يدعون بأنهم أتباع رسل الله. هذا غاندي الهندوسي الذي انتصر على الحكام المرتزقة الذين حكموا الهند بتخويل من الحكومة البريطانية فإنه لم ينتقم منهم بعد الانتصار. وسمعت بأنهم استفسروا عن حكمه في رجال الأمن الذين قاموا بتعذيب أتباعه فقال لهم: اتركوهم لله، جئت لأغير وما جئت لأنتقم. Leave them for god, I am coming to change only, I am not coming to revenge.

وحينما انتصرنا على الشاه الفارسي وكنت مع الثوار فإنني أحببت أن نترك الظالمين لله وهذا ما قاله الخميني في البداية. لم يأذن بإعدام أحد بداية ولكن بعض المتشددين من الثوار أقنعوه بعد عدة محاولات ليسمح بالإعدام. كان ذلك خطأ كبيرا ارتكبه الخميني واضطروا فيما بعد أن ينشروا الرعب بين الناس لأن الكثيرين أرادوا أن يعيدوا الكرة عليهم فينتقموا منهم، وهكذا خسرت الثورة الكثير من رجالها وخسر الشعب الكثير من أفرادها.

وكنت أتمنى أن ينتبه الإخوان المسلمون بعد أن سيطروا على الحكم في مصر عن طريق الديمقراطية والانتخابات وليس عن طريق الخلافة المشؤومة التي دعا إليها المرحوم حسن البنا. لكنهم استسلموا لضغوط بعض المجرمين من السلفيين الداعين إلى الكراهية والانتقام فخسروا السلطة. وها أنتم في مصر تعانون من ردات الفعل ولا أحد غير الله تعالى يعلم نهاية المواجهات الدموية.

ومما لا ريب فيه هو أن الله تعالى لا يحب لنا الانتقام بل يحب لنا الصبر وأن نترك الانتقام لله تعالى وحده. لكنه تعالى لا يمكن أن يمنع من القصاص لمن يريد أن يقتص ممن ظلمه. فلننظر إلى الذين آمنوا برسوله وكان من بينهم من هو مطلوب للدم. قال تعالى في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ(178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179). نعرف من الآية الأولى بأن المقصود هم الذين قتلوا قبل الإسلام وذلك لقوله الكريم في نهاية الآية: ذلك تخفيف من ربكم؛ وقوله تعالى بعدها: فمن اعتدى بعد ذلك. فالله تعالى كتب القصاص على القاتلين ولكنه قال: فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف. بمعنى أن يكتفوا بالدية ويتركوا القصاص لله تعالى مع أن في القصاص حياة لهم. لا يمكن أن يتخلى الله تعالى عن العدالة ولكنه يفضل أن نترك تحقيق العدالة لربنا ولا نستعجل بالعقاب في الدنيا. كل ذلك لأن الانتقام من شأن العزيز الذي لا يُغلب عز اسمه، وليس من شأن البشر الذي قد يُغلب.

ولقد راجعت كل موارد القصاص الدنيوي تقريبا فما رأيت بأن هناك تشجيعا للاقتصاص بل هناك الكثير من العوائق التي تحول دون الوصول إلى الحقيقة فيضطر القاضي لأن يتخلى عن العقاب إذ تُدرء الحدود بالشبهات. وقريبا سمعنا بأن أمريكيا سُجن عقودا ليقضي عقوبة المؤبد بتهمة القتل العمد ولكنه في النهاية كسب القضية وخرج من السجن. كان الرجل إنسانا طيبا حيث أن القاضية سألته عن التعويض الذي يطالب به نتيجة خطأ المحكمة فقال: لا أريد شيئا إلا أن يعيدوا النظر في القانون الذي يسجن الأبرياء. اهتزت أمريكا لتلك الكلمة فكان ردة فعل القاضية أن نزلت من المنصة وذهبت إليه وعانقته معتذرا ومكبرا نفسيته الطيبة. كما أن الرئيس أوباما زاره ليتعشى معه وقامت زوجة الرئيس بإعداد الطعام في البيت الأبيض فذهبت الأسرة الحاكمة إلى بيت ذلك المتهم البريئ مع قدر الأكل.

هذه هي واقع التحقيقات البشرية ولذلك فمن الأفضل عقليا أن نترك الأمر لله تعالى ونصبر. لكنني لا أدعو أبدا إلى ترك الإرهابيين يفعلون ما يشاؤون. هناك آيات كثيرة تدعو إلى قتلهم ولكن حينما يراهم الناس مستعدين للجريمة. أما الجرائم الأخرى مثل الزنا وبقية أنواع الفاحشة فلا يمكن أن ننفذ حكم الله تعالى إلا إذا قام اثنان بممارسة الفاحشة في الشارع العام وهو شبه محال. وأما ما ذكره السلف وأفتى به الخلف من عقاب وحدود ضد الذين يتركون الصلاة أو يفطرون جهارا في رمضان أو يُظهرون الشرك في العقيدة وما شابه ذلك فهم غير صادقين. إنهم يتدخلون في شؤون الربوبية وأظن بأنهم سوف يلقون من ربهم ما لم يكونوا يحتسبون.

أنا لا ألعب بالألفاظ ولا أجيز المساس باللغة العربية ولكن لا أرى إمكانية تحقيق العدالة السماوية كما نعرفها من القرآن، فيما عدا إعدام القتلة والإرهابيين. فمثلا جزاء السارق فهو فعلا بتر اليدين ولكن كيف نقطع اليدين ونساعد السارق أن يعيش إذ لا يجوز لنا إعدامه؟ فلو قطعنا يدي السارق فإن على الجهة التي تقضي وتنفذ الحكم أن يستأجر شخصين يتناوبان على مساعدة السارق المقطوع يداه والعاجز عن الحياة الطبيعية ليعيش بصورة طبيعية! إن تكاليف ذلك على المجتمع أكثر بكثير من أن نخفف العقاب على السارق ولا نقطع يديه ونتحمل تبعات قيامه مرة أخرى بالسرقة.

فالانتقام ليس مطلوبا والعقاب لمن يمس الأبدان أو يمس الحياة الاقتصادية موضح في القرآن وتنفيذ غالبية أنواع العقاب غير متاح إلا قليلا وبعضها تستتبع الكثير من المصروفات غير الضرورية للمجتمع. هذا ما أراه بعد قيامي بالتحقيقات وليس لدي أي مانع من أن أغير رأيي بمجرد أن يطلعني أحد على أحكام قرآنية تؤكد خطإي.

أشكر سيادة الأخ الطبيب محمد سلامه على سعيه لنشر الفضيلة ولنشر أحكام الله تعالى وأشكر كل من يستمع إلي والشكر المضاعف لمن يهديني ويحولي جهلي إلى علم.

أحمد المُهري

27/3/2017 

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

  1. شكر على نصيحة

أولاً: أشكركم على نصيحتكم.

ثانياً: يجب أن نعلم أن القرآن نزل على رسول الله كقواعد للحياة عامة وليس لشخص رسول الله خاصة. فالقرآن نزل للبشر جميعاً على رسول الله ليبلغه, ولم ينزل عليه خاصة لنعلمه نحن فقط.

ثالثاً: يجب أن نتفق على سنن الله الكونية, فالانتقام له عناصره, والعفو والصفح له عناصره, ومن يخلط بين الأمرين يخطئ في سنن الله الكونية, فإذا انتقمنا حيث يجب العفو والصفح أفسدنا وقطعنا الأرحام, وإذا عفونا وصفحنا حيث يجب الانتقام وإنزال العقوبة طمع فينا المجرمون.

يجب ألا نفكر بالمطلق, فكل أمر من أمور الدنيا مقيد بقوانين وحدود وضوابط, والفرق بين التحضر والهمجية هو معرفة هذه القوانين والضوابط والتقيد بها, أو الجهل بها والاستخفاف بجدواها.

مازلت عند رأيي, إن الله قد أمرنا بإنزال العقوبة والانتقام كما أمرنا بالعفو والصفح, ونحن من يدرك متى نفعل هذا ومتى نفعل ذاك تبعاً لاستيعابنا لمبادئ التحضر والفهم.

محمّد سلامه

  • متى ننتقم ومتى نعفو

أحسب أننا لا نختلف حول شرعية الانتقام ومعاقبة المجرم, وشرعية العفو والصفح, ولكن اختلافنا يكمن في عناصر كل حكم, أي متى ننتقم ونلاحق ونقتلهم حيث وجدناهم أو ثقفناهم, ومتى نعفو ونصفح, وكيف نكون في كل حالة على منهج الله وسننه الكونية؟

أحسب أن هذا هو موضع اختلافنا أو اتفاقنا, أي كيفية تطبيق حكم الله في كل حالة واقعية.  أتمنى لو أن حضرتكم تفضلتم بذكر الحالات التي يجب فيها القصاص والانتقام والملاحقة وقتل الخصوم, والحالات التي يجب فيها الصفح والعفو, وبهذا نكون قد وضعنا فهماً صحيحاً للقرآن للأجيال القادمة

محمّد سلامه

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.