إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ

الاجابة عن السؤال  حول معرفة الله تعالى لما في الأرحام وقد ظن المفسرون الكرام بأن المقصود تمييز الذكر من الأنثى. إنه تفسير وهن وفهم خاطئ. ما هي أهمية فهم أن الوليد الجديد سيكون ذكرا أو أنثى حتى ينسبه الله تعالى إلى نفسه؟

قال تعالى في سورة لقمان: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34). سورة لقمان تتحدث عن لزوم التمسك بالله تعالى وباللقاء معه وتذكر لنا الفوائد الأخروية لهما بعكس سورتي البقرة وآل عمران التي تبدأ بنفس فاتحة ألم ولكنهما تحدثان عن الفوائد الدنيوية لتلك التمسك في الغالب.

ولذلك يختم الله تعالى السورة ليقول لنا بأن سبب دعوته لنا للتمسك به سبحانه هو أنه وحده:

1. عنده علم الساعة ويعني التغييرات المفاجئة التي تبهت الخلق مثل يوم الحساب.

2. ينزل الغيث. بمعنى تنزيل المطر بما يفيد الناس ويغيثهم.

3. يعلم ما في الأرحام. يعلم إمكانات الأجنة ومستقبلها فيقدر اين يعيشوا. إنه سبحانه يوزع أصحاب الشأن من البشر في كل الأرض حتى ينظم الإمكانات الإنسانية بقدر حاجة كل مكان. فمثلا يقدر توزيع من يمكن أن يصير طبيبا في كل البلاد حتى لا يخلو بلد من الأطباء وتلك التقديرات تتم قبل أن ينتبه الناس.

4. ولذلك قال عز من قائل: وما تدري نفس ما ذا تكسب غدا. إنه هو وحده يدري ويقوم بالتقديرات الضرورية لتعميم فوائد الطاقات الإنسانية.

5. وليس للمرء أن يقدر مكان موته والأرضية التي يموت عليها. فهل سيموت مؤمنا او فاسقا أو مفيدا للآخرين أو ضارا بهم أو زعيما أو ما دون ذلك.

6. فهو سبحانه عليم بحقائق الناس وخبير بهم باعتبار أنه رأى من سبق ورأى من حضر الكواكب الأخرى فيحمل خبرة كافية لتوزيع الناس حسب حاجة المجتمعات؛ والعلم عنده سبحانه.

وإليك بعض التفصيل.

موضوع تنزيل المطر بصورة مفيدة. فتنزيله بصورة عامة ليست في مقدور البشر. نحن قادرون على تحريك بعض الغيوم أو رفع نسبة الكلوروفيل في الأرض لنستعين به على الإمطار. لكن الآية تتحدث عن أصل التنزيل. وإليك ما توصلت إليه أهل ذلك العلم بعد سعي حثيث لمعرفة ذلك خلال عدة عقود.

يقولون: 

إن تنزيل المطر المخزون في كل غيمة على شكل نقط متجمدة يحتاج إلى إيجاد طاقة كبيرة داخل الغيمة بعد الفصل بين السالب والموجب منها لكسر الجمود ثم الانهمار.

ولعلك تعلم بأن العلماء ونتيجة لتجارب علمية دامت أكثر من قرنين ونصف القرن احتملوا الطريقة التالية لتفاعل الغيوم التي تتبادل البرق مع الأرض أو مع نفسها أو مع غيرها من الغيوم. فحينما تتكون غيمة كبيرة نسبيا فإن قطع الثلوج التي تكونت داخلها تصطدم ببعضها البعض فتتهشم وتتمزق متحولة إلى قطع صغيرة تكتسب الطاقة السالبة (تترجح فيها الإلكترونات) وأخرى أكبر منها تكتسب الطاقة الموجبة (برجحان كفة البروتونات) على الأغلب. والمتوقع أن تتوجه النتاج للانفصال تحت ضغط التيارات الهوائية الصاعدة زائدا الجاذبية الأرضية، حتى تحصل القسم العلوي المحتفِظُ بالقطع الصغيرة من الغيمة على الطاقة الموجبة الخالصة والقسم السفلي على السالبة في جهة الأرض. هذا الانفصال للشحنات الموجبة والسالبة يُنتج جهدا كهربيا هائلا يمكن أن تبلغ ملايين الفولتات في الغيمة وكذلك بينها وبين الأرض. وأخيرا تفقد الهواء المتوسط العازل مقاومتها وتبدأ الومضات. فالبرق إذن شحنة كهربائية مفرغة بين منطقة سالبة وأخرى موجبة في مناطق نشاط العاصفة الرعدية. وميض البرق هذا، ينطوي على عدة ضربات سريعة في حدود أربعة وأوج القوة في كل ضربة يصل إلى ألف بليون واط بالمعدل.

وقد أشار الله تعالى هذه الومضات في سورة البقرة:

أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ ﴿19﴾ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿20﴾.

بالطبع أن آيات البقرة تشير إلى الصيب وهو المطر الشديد ولكنها تشير أيضا إلى الطاقات الشديدة التي تتحصل داخل الغيوم التي يريد ربها لها أن تمطر علينا.

ثم إن جعل المطر غيثا مفيدا يعوزه تنظيم السحب في الجو وتوزيعه توزيعا دقيقا مفيدا للناس وللمواشي والنباتات. كل هذه المسائل تحتاج إلى مقدمات دقيقة في مقومات الطبيعة لتتم العمليات وتتحقق الأهداف بصورة أتوماتيكية جهد الإمكان.

تلك ما يقدرها ربنا لنعيش آمنين مطمئنين لا نجوع فيها ولا نعطش ولا تموت مواشينا ونباتاتنا.

علم الساعة:

ولا يمكن الاستقراء لإثبات الساعة أولا باعتبار عدم وجود جزئيات لها كما لا يمكن الاستنباط بالساعة لأن الساعة تشير إلى حادثة مستقبلية واحدة بعينها فنحتاج إلى الارتباط بالغيب والوحي لفهمها وقبولها. ولذلك فليست الساعة مسألة علمية بشرية ولكنها علم إلهي خاص به سبحانه. بالطبع أن الساعة في القرآن كله ليست ساعة واحدة ولكننا نتحدث عن آية سورة لقمان فقط.

ولننظر إلى معنى العلم لدى البشر ودرجة انطباق الكليات على الجزئيات. فباعتبار أن الإنسان يتأثر بالجزئيات فينتقل منه إلى الكليات حتى لو أنه فكر دون استقراء. ذلك لأن الذي يترك التجربة والاستقراء العام فإنه يبني علمه على مجموعة أخرى من الكليات العلمية التي هي بدورها منقولة من البديهيات المستقاة من الجزئيات او البديهيات التي أودعها الله تعالى النفس الإنسانية فطريا ليتمكن من تشغيل عقله وهي التي يعبر عنها في القرآن بالحكم. هي حكم غير مكتسبة.

وليس لغير الله تعالى أن يحيط بأي شيء إحاطة كاملة تطلعه على كل الخفيات والكوامن وعلى كل الآثار والتطورات المستقبلية. ولذلك نرى كل علومنا تتغير مع تغيرنا وتطورنا ولكن علم الله تعالى لا يمكن أن يتغير.

تبعات الساعة:

يجب معرفة كل التبعات والقدرة على السيطرة عليها. إن تبعات تدمير الشمس لحالها ليست قليلة باعتبار أنها تَحْملنا ولكنها محمولة من مجموعة أخرى من الشموس كما أنها تشارك نجوما أخرى لحمل نجمة أخرى وهلم جرا.

فحينما يريد الله تعالى أن يقوم بعمل فإنه سبحانه يلاحظ كل التبعات والآثار ويمهد لها. وتبعات التدمير الشامل للكون ليست سهلة. فمثلا: كل الكائنات المدركة ستبقى بنفوسها بما فيها الملائكة بعد شروع الكون في الانهيار بأمر الله تعالى. هذه الكائنات حتى في حالاتها النفسية تحتاج إلى حامل ولنقرأ بداية سورة الحاقة لنرى كيف أن الله تعالى يوضح لنا أنه لن يغفل عن تلك الحاجة عند تدمير الكون:

الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (8) وَجَاء فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18).

وأما العلم بالأرحام فهو ليس مقتصرا على العلم بالذكر والأنثى كما ظن الكثيرون وهو متاح للعلماء في سن مبكرة من عمر الجنين في الرحم. وليس المقصود ذلك ولا دور له في هذه الآية. يريد الله تعالى أن يتحدث عن تقسيم المهن والأذواق والاهتمامات بين مختلف الناس الذين يعيشون في كل منطقة من الأرض لصون التوازن بين مختلف أصحاب الفنون والعلوم والمهن والإمكانات ليعيش الجميع بسلام وباكتفاء ذاتي في القوى العاملة. فلو أنه سبحانه لا يعلم ذلك فقد يلد في منطقة من الأرض كل الأطفال وهم يحبون أن يصيروا أطباء أو يصير جميعهم عمال بناء فكيف يمكن الحياة في تلك المنطقة؟

أما الكسب النفسي غدا فهو العاقبة التي يخاف منها الصفوة من المرسلين فكيف بنا. قال يوسف كما قال ربه في سورة يوسف: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101).

وقال إبراهيم كما في سورة الشعراء: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83).

وأما مكان أرض الموت فلا تعني مكان الموت فقد يموت المرء خارج الأرض في الفضاء مثلا. بل المقصود هو الأرضية والمؤثرات الدنيوية والعادات والتقاليد التي تصوغ شخصية الإنسان بمن فيهم المؤمنون. فالمرء يتغير ويتطور لو كان نشطا فعالاً بعيدا عن الخمول وهذا ما يمكن أن يؤدي إلى أن يبتلي بأرضية فاسدة تشجعه على الظلم كما حصل للكثير من المؤمنين بأن كانوا متقين محبين ولكنهم ماتوا وهم يقتلون الناس ويهدمون البيوت ويفسدون في الأرض باسم الإصلاح وباسم الإسلام وباسم الدين. هي أرضية الحكم أو جاذبية الحكم من بعيد هي التي غررت بهم فتركوا التقوى وانجروا وراء الموبقات. ولعل الكثير منهم كانوا كإخوان يوسف الذين قالوا: اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9).

ولولا نعمة ربهم لكانوا وهم أولاد يعقوب من المهلكين ولا نعرف مع كل هذا حقيقة مستقبلهم مع الله تعالى.

فعلى العاقل أن يتقي العليم الخبير لينجيه من المستقبل الأسود في الدنيا ومن المستقبل المظلم في الآخرة.

هذا ما قويت عليه حتى هذه اللحظة وبانتظار سؤالكم الثاني لأسعى للرد. ولك أن تنشر ذلك لو رأيته مفيدا في مركز التطوير.

تحياتي وأشواقي لكم جميعا

أحمد المُهري

10/8/2021

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.