يوم القيامة القسم 4- ح 3-الغرض من المحكمة والحساب

 يوم القيامة القسم الرابع – ح 3 

الغرض من المحكمة والحساب:

والغرض من هذه المحكمة ليس للكشف عن حقيقة المتهمين فهي واضحة لرب العالمين ولكن الغرض هو إثبات أن ما حصل لهم إلى تلك الساعة الحاسمة كانت كلها حقا. فما رأوه في حياتهم الدنيا كان صحيحا ولمّا كان في الإمكان أن يُداروا بأحسن ما أُديروا به من حيث الحقوق التي أوجبها الله تعالى على نفسه لعبيده، وهي تفسير لمعاني الرحمة لا غير. ولقد رأى الكثيرون أو الغالبية مظاهرَ مفزعة في البرزخ فكان ذلك حقا وكانوا يستحقون ذلك وسوف يثبت الله تعالى لهم بأن المؤمنين الذين أُكرموا في البرزخ كانوا أيضا مستحقين للإكرام. سوف أشرح ما أعرفه عن الذين يرون المظاهر المفزعة في البرزخ وهكذا الذين يُمنحون الأمان في البرزخ قبل يوم القيامة وحدود ذلك في ملحق بهذا البحث إن شاء الله تعالى.

ثم إن الصناعة الجديدة للأبدان كانت صناعة مناسبة مع نفسيات أصحاب تلك الأبدان وأخيرا يرون بالبرهان أن التقسيمات الملائكية لهم وتبويبهم في زمر كان حقا وصحيحاً أيضا. بالطبع لا يمكن أن يُفسح المجال للكاذبين ولكن الجميع يمكنهم الدفاع عن أنفسهم وقد مروا على مرحلة برزخية طويلة واستناروا فيها بكل ما يحتاجون إليه من معارف وعلوم للدفاع عن أنفسهم. إنهم هناك سوف يرون كل شيء بطبيعته وحقيقته دون غطاء. وبالطبع فإن بعض كبار المجرمين سوف لن يعترفوا بذنوبهم ولكن الله تعالى سوف يوظف حقيقتين أخريين لإبراز حقيقتهم. ولا ننس بأن محامي الدفاع من الملائكة يدافعون عن حقوق كل شخص كما سنعرف بعد قليل ولا مجال للشعور بالظلم أبدا.

هناك الملائكة الأشهاد الذين يشهدون على الذين كانوا تحت حيطتهم في الدنيا. قال سبحانه في سورة هود: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19).والافتراء على الله تعالى تتجلى في رد كتاب الله تعالى أو أن ينسب أحد كلاما بشريا إلى الله تعالى دون أن ينقله من كتابه الكريم أو أن يلعب في تفسير علامات الربوبية التي تتمثل في القرآن وحده في زماننا نحن. فهؤلاء هم أكثر الناس ظلما وهم مع الأسف كثيرون بين المسلمين واليهود والمسيحيين الذين يؤمنون جميعا بالله تعالى ولكن كُلا منهم ينسب ما يهواه إلى الساحة القدسية جل جلاله.

والحقيقة الثانية هي شهادة اللسان والسمع والبصر والجلود عليهم. قال تعالى في سورة هود: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِن يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُم مِّنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالإنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25). فالأصوات والصور والمشاعر الجلدية برمتها كانت تنقل ما تتحسسها إلى المخ حيث يسجل بدوره كل ذلك وكانت النفس الإنسانية تراها أيضا فتسجلها لديها بأمر الله تعالى. وقد قال تعالى بأن الكافرين سوف يُحشرون عميا وبكما وصما، فالذي يشهد عليهم ليس مرتبطا بتلك الأعضاء المفقودة عمليا في الآخرة، ولكنه مرتبط بأسماعهم وأبصارهم وجلودهم الدنيوية. وسوف تقوم نفوسهم بإراءة تسجيلات الأصوات والصور وكذلك الاستشعارات العاطفية وغيرها للملإ في يوم الحساب ولحظة الحكم النهائي.

وكما قلنا بأن اللغة المتداولة في ذلك اليوم ليست اللغات اللسانية بل هي لغة النفس المعروفة بالهمس قرآنيا فإن الهمس لغة مفهومة لكل النفوس ولا علاقة لها بالأعضاء المادية. هناك بالطبع احتمال أن تكون تلك التسجيلات محفوظة عند الله تعالى ضمن الخلايا وهو غير ثابت علميا ولكن الثابت قرآنيا بأن النفس تحتفظ بكل أعمال وعلاقات صاحبها. ويقول سبحانه في سورة النور: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25). وهي تعني نفس الشيء حيث أن الألسن تشهد بما قاله صاحبه ولكن الأسماع تشهد بما سمعه صاحبه من كلام الغير واحتفظ به مذعنا معترفا بصحته. وأما الأيدي والأرجل هنا فهي تشمل الجلد المرتبط بالأيدي والأرجل حيث تقوم الجلد بالتحسسات المحرمة إضافة إلى نفس آثار الأيدي والأرجل من قتل وسرقة ودفع ومشي باتجاه المظالم وكلما أحاطت بالسيئات النفسية من آلات بدنية قامت بتنفيذ إرادة النفس وتفعيل السيئات. كل ذلك مسجلة في خزانة النفس وسوف تأمر النفسُ البدنَ الجديد بإظهار ذلك لأن النفس سوف تقدم صورة تلك الحركات للبدن حتى يتمثل بها البدن. هذا الأمر تقوم به النفس بماهيتها لا بوجودها وذلك بأمر الله تعالى لأنه سبحانه يحول بين المرء وقلبه. واعتراض الكفار على أعضائهم باعتبار أن نفوسَهم قد خلقت أعضاءهم وأشرفت على صناعتها داخل الخلايا النباتية الخاصة بالحياة الأخروية.

بالطبع أن كل ذلك سوف يكون مفاجئا للناس في الواقع لأن ما ذكره الله تعالى في كتابه اليوم غير مقروء بواسطة عامة الناس وغير معلوم إلا لعدد ضئيل من الخواص. والذين يحملون بعض العلم بهذه الحقائق ويؤمنون بها بكل قلوبهم فهم قلائل جدا وهم عادة مؤمنون ليسوا من أصحاب النار بإذن العزيز الجبار جل جلاله. ثم إن كل الذين لم يعترفوا بذنوبهم من المجرمين وهم الذين يحملون نفوسا غليظة وشديدة مثل الملوك والزعماء السياسيين وبعض الذين يقومون بالقتل العشوائي دون رحمة وكذلك الذين لا يرحمون الأطفال ويفسدون خيرات الأرض ويقتلون أنفسهم في الدنيا لعلهم يقتلوا مع نفوسهم نفوس أفراد من البشر. كل هؤلاء يحملون نفوسا في غاية الشراسة حتى الذين يتظاهرون بالإيمان والإسلام منهم فإنهم في الواقع كفار فاسدون.

 المؤمن هو الذي يخاف والذي لا يخاف فهو شرير فاسد دون أدنى شك. ألم يخف موسى وهارون من فرعون؟ ألم يقل ربنا في بداية سورة طه: إِلا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى (3)؟ ذلك يعني أن القرآن يفيد الذي يخاف بطبيعته وأما الذي يُخالف غريزته فلا يخاف فهو يحمل قلبا قاسيا كالحجارة ولا يتأثر بالحقائق. والذين يظنون بأن قلوبهم القاسية سوف تُدخلهم الجنة لأنهم يذكرون اسم الله تعالى دائما على لسانهم ويقتلون الناس باسمه الكريم أو ينتحرون ليقتلوا الناس فليعلموا بأنهم سوف يخيبوا جميعا. ليس في دين الله ما يُشرع لهم هذه الأعمال الهمجية البربرية وكل هؤلاء الذين يفتون لهم فسيدخلون معهم النار بإذن الله تعالى. ليس من حق النبي أن يفتي لأحد فكيف بالناس العاديين؟ ليست العمامة ولا اللقب الديني ولا تلاوة الآيات القرآنية ولا التمسك بغير الله تعالى وبغير كتابه الكريم الذي لم يتمكن المجرمون من تغييره وهو كتاب واحد في كل الكرة الأرضية، وليست الشهادات العلمية الزائفة ولا القوميات ولا الأنساب النبوية ولا أهل بيت النبوة ولا النبوة نفسها تغني أحدا يوم الحساب أو تحول دون وقوفه ذليلا أمام الله تعالى بانتظار حكمه فيه. إن محمدا وأباه إبراهيم وبقية الأنبياء يقفون مع أبي جهل وأبي لهب ونمرود وفرعون وكل الفاسدين والفاسقين وكل المؤمنين والصادقين مع بعض أمام المحكمة الكبرى والله تعالى وحده سوف يحكم هناك. قال تعالى في سورة طه: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا (112)

يتبع….. 

أحمد المُهري

#يوم_القيامة

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.