يوسف ايها الصديق 12- امرأة العزيز 2

Shepherds are looking what has happened in Bethlehem.

تواصلا مع شرح سورة يوسف :

يوسف أيها الصديق ح 12 – امرأة العزيز 3

المراودة عن النفس:

راود أحدٌ أحداً يعني أراد شيئا منه فقام بعمل ليقوم الشخص المقابل بنفس العمل طوعا فيشتركان في الإرادة.

ذلك لأن المراودة من باب المفاعلة وهي رغبة الطرفين في إنجاز عمل أو في التفاعل مع بعضهما كالمحاربة والمقاتلة.

وراوده عن نفسه يعني بأنه أراد ولكن الطرف المقابل لم يرد فأراد فرض الرغبة في نفسه ليريد هو أيضا على الرغم من عدم رغبته.

وقد استعمل التعبير ست مرات في سورة يوسف وسنشرحها هنا باختصار:

1.      وراودته … عن نفسه: يعني أنها سعت بإظهار مفاتنها ليقع في حبها فيقع عليها على الرغم من أنه لا يُظهر أي رغبة في ذلك ابتداء.

2.      راودتني عن نفسي: يعني أنها أرادت أن تغويني وتستولي على نفسي بالرغم من رفضي.

3.      تراود فتاها عن نفسه: يعني أنها تسعى لإقناع فتاها أن يبادلها الحب ولذلك أردفن: قد شغفها حبا.

4.      ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه: يعني هل رأيتم من يوسف ميلا للغرام فسعت كل واحدة منكن لتطلبه وتجذبه إلى نفسها.

5.      أنا راودته عن نفسه: مثل المعنى الأول.

6.      سنراود عنه أباه: سوف نسعى لإقناع أبينا أن يقبل بما نريده على الرغم من تمسكه بإبقاء أخينا عنده.

7.      وحتى تتم الفائدة ويتبلور المعنى فإن في القرآن آية آخرة تستعمل نفس التعبير وهي في سورة القمر حول قوم لوط:

وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37).

يعني بأنهم أرادوا من لوط أن لا يمنعهم دفاعا عن ضيفه. إنه كان يريد أن يمنعهم وأرادوا منه أن يقاوم إرادته بإرادة أخرى للسماح لهم بما يريدون فعله في ضيفه. والعلم عند الله تعالى.

إذن كان هناك مكر نسائي ضد امرأة العزيز،

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴿31﴾

لم تمض أيام طويلة على تداول الخبر بين زميلاتها المترصدات لمثله من الاخبار منذ أمد حتى عاد الخبر إلى امرأة العزيز مزودا بتعليقات الزميلات.

اهتمت امرأة العزيز بنجوات الخدم والصديقات المخلصات وكل من يمكن أن يتحدث عن هذه القضية التي تصدرت مجالس الخواص من حاشية الملك حتى وصلت إلى الملك عن طريق زوجته وبناته أو النساء المرتبطات به كائنا من كانوا.

بالطبع أن مثل هذه الأخبار لا تؤثر أبدا في اهتمام الملك بوزرائه ممن يُشاع عنهم شيء من هذا القبيل ولن يقلص من اعتماد النظام عليهم ولا يقلل من منازلهم الوظيفية .12

(هامش 12 : ذلك لأن كل المرتبطين بالسلطة بمن فيهم الملوك ولو كانوا من الحكومات المعروفة بالدينية فإنهم مغمورون على الأغلب بالإجرام وبالزنا وبالقتل ولنا في الآية التالية خير مونس لقلوبنا إن كنا مؤمنين نتحاشى هذه القبائح الظالمة التي تزيد العصاة إثما. إنها من سورة الفرقان التي هي فرقان حقا:

وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68).

أنظر بأن هذه القبائح كلها مترابطة ببعضها البعض، قتل النفس والزنا ودعوة غير الله مع الله تعالى.

ولو نفتح عيوننا قليلا لنرى القتلة تحت أي لباس كانوا وبأية ذريعة اقترفوا القتل فإنهم يأتون بالزنا بكل وقاحة ويبررونه كما أنهم يشركون بالله المفتين والملوك وغيرهم ممن يوجبون على أنفسهم طاعتهم.          نهاية الهامش 12.)

فلما استكملت امرأة العزيز ما يمكنها من تحريات حول الإشاعة فكرت في أن تعد لهن مجلسا ترفيهيا ليشعرن بالراحة وبأنها لا تعرف شيئا عما أخفوه عنها حول يوسف.

أدركت المرأة العبقرية عدم إمكانية الإنكار فقد ترسخت القضية في أذهان الزميلات فعليها الآن أن تثبت لهن بأنها على حق في ما فعلت. فعليها أن تبرهن لهن بصورة عملية بأن ليوسف ميزات كبيرة تفوق زوجها ولذلك رضيت بأن تخونه لتتقرب من قلب يوسف.

لم تر المرأة أية ضرورة لتبوح بكل أسرارها وراء العملية ولعلها استغلت الفرصة لتبدي لهم عدم اهتمامها بمشكلة عدم الإنجاب التي تكاد تستولي على عقلها كأنثى تعرف اهتمام الزوج بالإنجاب وتعرف بأن الأنثى هي المتهمة بالقصور عادة. ولذلك فكرت في دعوتهن لجلسة طويلة نسبيا وهادئة بعيدة عن الشكليات والرسميات ليأخذن راحتهن ويشعرن بالطمأنينة وبأنها لا تعرف شيئا عما شاع بينهن من قصتها.

وارتأت أيضا أن تذكر لكل واحدة منهن إعجابها بشخصيتها وبأهمية أسرتها وبما تنطوي عليه من اهتمام بالشرف وبالأمانة. ذلك لتفرح كل واحدة منهن بأن في يدها شهادة من امرأة العزيز بشرفها وشرف أسرتها فتخلو يدها من أن تكيل لهن التهم ولذلك لا يشعرن بضرورة التستر على ما في قلوبهن ويزددن طمأنينة وسلاما منها.

ثم فكرت في ضرورة إظهار علم يوسف وعلو أخلاقه وفضائله النفسية. فرأت بأن لسان الحال هنا أوسع بيانا من لسان المقال. ولذلك أعدت الجلسة النسائية بشكل يمكن ليوسف أن يحضرها بكل راحة لتبدي لهن عظمة شخصيته.

هذا يعني بأن الجلسة يجب أن تخلو من التحدث عن الأزواج وعن ارتباطاتهن وسيطرتهن عليهم وحبهم لهن حد الغرام كما تفعل النساء عادة. فعليها بأن تجعل الحديث يدور مدار المعلومات العلمية وإدراك الحقائق والتوسع الذهني. هكذا ستظهر شخصية يوسف وينكشف السر الكامن في تلك الشخصية المهابة التي تملك بدن يوسف.

هناك تشعر كل واحدة منهن بضرورة إرضاء يوسف بإرضاء شهواته كشاب في مقتبل العمر لعلهن يملكن ركنا من أركان قلب هذا الإنسان العظيم. ثم تبوح لهن بأنها هي التي راودته عن نفسه.

 قامت المرأة التي علَّمت يوسفَ تأويلَ الأحاديث عمليا بإظهار تفوقها عليهن وبأن تلميذها أكبر بكثير من زوجها ولذلك السبب أرادت أن تستولي على قلبه بإرضاء شهواته.

وأرادت في نفس الوقت بأن توضح لهن مدى كرامة يوسف وترفعه عن أن يطلب الجنس من خادمات القصر الجميلات الحسناوات والشابات. فهو في عطش آخر يسعى من خلاله للتفوق على رغبات النفس بالاستئناس بعلمه وبخالقه العظيم.

هكذا يشعرن بأن يوسف ليس إنسانا عاديا فيسقطن في غرامه وحبه. هناك تتحول النساء اللائمات بعد أن يتورطن بحب يوسف إلى نساء مدافعات عنها.

لابد للرجال أن يعلموا بأن الجنس ليس دائما مسيطرا على المرأة ولكنها تستعمل الجنس لإرضاء الرجل لما له من دور كبير في إرغام الرجال للطاعة لهن والاستماع إليهن. إنها بالطبع تستمتع بالجنس ولكنها ليست ضعيفة أمام نزواتها بقدر ضعف الرجل.

والذين تناولوا قصة يوسف وأشبعوها بالجنس وظنوا بأن النساء قمن بتقطيع أيديهن فيزيائيا إثر انبهارهن بجمال شكل يوسف قد وقعوا في خطأٍ  كبير بظني.

وحينما نمعن في تدبير المرأة لمثل تلك الجلسة العلمية الفاخرة نشعر بأنها لم تكن طالبة هوى رخيصة حينما أعدت تلك الحادثة الكبرى لاستمالة قلب يوسف. إنها دبرت لأمر كبير فعلا كما قلنا ولكن الذي دمر تدبيرها الكبير هو الله تعالى الذي أراد أن يكمل فضله على عبده المخلَص يوسف وليس يوسف نفسه.

ذلك لأن الله تعالى يعرف بأنه هو سبحانه الذي أدخل يوسف في هذه الورطة الكبرى لتزكية قلبه ونفسه  إعدادا له للرسالة من ربه فهو سبحانه أجدر من يوسف نفسه لأن ينجيه في اللحظة الحاسمة.

ولهذا السبب سماه العبد المخلَص ليشعرنا بأنه سبحانه كان معه يساعده على أن يتحمل تبعات تلك الدعوة الأنثوية القارعة على كل ما ينطوي عليه يوسف من قوة جهادية لمحاربة الشهوات النفسية.

حتى العزيز نفسه قد وقع في اختبار أكبر من قابليته ولكننا يجب أن نعرف بأنه إنسان طيب لا تتأثر إنسانيته بما صدر منه كثيرا ولكنه ليس بسعة قلب يوسف.

علينا أن نعرف بأن المقارنة بين إنسان مبتلى بالملك مع إنسان مثله مرشح للرسالة العظمى ومبتلى بالعبودية للعزيز ليس أمرا سهلا.

يكفي جميع أبطال القصة سواء العزيز أو امراته بأن الله تعالى ربى عبده يوسف في بيتهم وبأنهم نالوا شرف إكرام نبي عظيم قدر الله تعالى له أن يكمل بناء أمة لها شأنها في تاريخ البشرية وهي أمة بني إسرائيل.

إنه هو السبب في تزكية نفوس إخوانه وفي إثبات أنهم مع ما ظهر منهم من قسوة فإنهم في النهاية لم يكونوا كافرين بربهم بل انساقوا وراء وساوس الشياطين.

لكن الله تعالى في مقام المقايسة بين يوسف النبي وبين ملوك مصر وحواشيهم. إن رسالته الكبيرة هنا هي دفعُنا نحن لأن نميز بين أصحاب العلم وأصحاب الملابس والألقاب؛ أن لا نغتر بما نراه من ظاهر الشخصية فلا نطيعهم لأنهم تمكنوا من تسنم الذروة العليا بمكرهم بل نمعن ونفكر في كل شيء.

هذه السورة دخلت غرف النوم ودخلت غرف الجلوس والاستراحة الملكية وستدخل قصر فرعون كما دخلت بيوت الأنبياء ونقلت لنا صورا عن ساكنيها وما يدور فيها ودخلت سجون الذين لا يملكون سجنا فيلقوا أعداءهم في الآبار المظلمة وستدخل سجون البيوت الكبرى وقصور كبار رجالات الدولة.

هذه السورة لم تكتف بالظاهر بل دخلت قلوب الأنبياء وأبنائهم كما دخلت قلوب الحكام وقلوب زوجاتهم وستدخل قلوب الملوك أنفسهم وقلوب المسجونين والمحتاجين.

إنها سورة غريبة تعلمنا بألا نغلو في البشر ولا نغتر بالدعايات والألقاب ولا نثق في غير ربنا الرؤوف الرحيم سبحانه وتعالى.

سنرى فيها بأن الأهل والأقربين والأبعدين والأصدقاء والمغرمين بنا يتركوننا للحوادث حينما يرون الخطر محدقا بهم ولن يضحوا في سبيلنا إن كانوا عقلاء. أما المجانين فلا داعي لأن نتحدث عنهم.

وقبل الدخول في الجلسة الهامة التي يختصرها الله تعالى بآية صغيرة نسبيا وكبيرة في المعاني، من الأفضل أن نمر سريعا على شرح لغوي مختصر لبعض تعابير الآية:

سمعت بمكرهن: ولازمه أن يصدر منهن مكر وأن يسعين لإخفائه عنها. وقد حصل الاثنان. مكرنَ لأنهن لم يقلن بأن يوسف أراد الاعتداء على سيدته ولكن قُلنَ العكس وسعين لإخفاء ما قلنه عنها لأنها هي التي سمعت ولسن هن اللاتي قلن لها.

ثم إنها هي التي استنتجت أنهن مكرن بها وليس اللائي ذكرن لها القصص. ذلك لأن السمع في القرآن يعني الوعي عن طريق السمع وليس مجرد وصول الأمواج الصوتية الى الأُذُن.

أرسلت إليهن: يعني أرسلت إليهن رسلها تدعوهن برفق واحترام. لأن الرَّسْل معناه الانبعاث بالرفق والتُّؤَدَة.

وأعتدت لهن متكأ: يعني هيأت لهن مجلسا يجلسن فيه مرتاحات لجلسة استراحة طويلة نسبيا وبعيدة عن الرسميات. والمتكأ يعني المكان أو الفراش الذي يستند الإنسان ببدنه أو بقسم من بدنه عليه للراحة.

وآتت كل واحدة منهن سكينا: هذا التعبير في السرد الروائي لا يعني أن يعطي بيد كل واحدة سكينا فيزيائية. هذه السورة تستعير الجمل لتوصل المفاهيم بشكل روائي إلى قلوبنا وكما قلت في بداية القصة فإننا كبشر نحتاج إلى إعمال الفكر والخيال لتصوير المواقف كلها ولتدبر جزئياتها ثم الحكم بما يمليه علينا العقل.

إن امرأة العزيز بحاجة ماسة إلى أن تثيرهن واحدة واحدة ضدها لتحصل لهن الطمأنينة بأن كل واحدة منهن تحمل الحربة الضرورية ضدها فلا يبخلن بإظهار ما يجول في خواطرهن بكل راحة.

إنها قدمت لكل واحدة منهن ترحيبا حارا يتضمن وصف الضيف ووصف أسرته بالشرف وبالأمانة وعدم الخيانة في حال أنها هي المتهمة بالخيانة.

هناك سيشعرن أولا بأنها تعترف لهن ضمنيا بما فعلت ولكنها تمدحهن حتى يكفينها شرهن وشر الدعايات المضادة لها.

هذا بالإضافة إلى أن صيغة الدعوة كانت صيغة مرنة لطيفة أدخلت في أنفسهن الشعور باعتراف امرأة العزيز بالذنب وبأنها لا تريد الإنكار بل تطلب منهن أن يساعدنها بتركها وشأنها وكتمان أمرها.

وقالت اخرج عليهن: يجب أن نفرق بين الخروج عليهن والدخول عليهن. لقد فسروا الجملة عمليا بالدخول عليهن. وبأنها أمرت يوسف بأن يخرج من مخبأِه إليهن ليروا وجهه الجميل وجاذبيته القوية للإناث الكامنة في وجهه.

كما ظنوا بأن النسوة قطعن أيديهن تقطيعا فيزيائيا برؤية واحدة. لم نسمع بمثل هذا أبدا في قضايا الغرام. لو كانت المسألة كما ظنوا فكان لزاما أن تقطع امرأة العزيز يديها عدة مرات كل يوم!!

كل ذلك من وحي الشيطان الذي يوحي دائما للناس بالغلو في المسائل حينما يتعذر عليه صرف الناس عما لا يريده.

والواقع أن الخروج عليهن يعني إظهار نفسه ومكنونات شخصيته لهن. إنها تريد أن توحي إليهن بأن يوسف يفوق زوجها ويفوق أزواجهن شخصية وعلما. ولا تنطوي الجملة على أي وصف للبدن بل تقتصر على السعي لإظهار الحقيقة العلمية لدى الشخص المنوه عنه.

فلما رأينه: كان قد مر على وجود يوسف حتى ذلك اليوم في بيت العزيز عدة سنوات. لم يكن يوسف في سجن مغلق الأبواب فهو واحد من أبناء القصر وكان على مرأى ومسمع من أصدقاء وصديقات القصر.

ولا أدري كيف ظن بعض المفسرين بأنه كان خفيا عن أنظار الناس حتى ذلك اليوم أو هكذا نستوحي من تفسيراتهم.

ولم يكن يوسف فتاة حتى يغيروا شكلها بالماكياج والأصباغ والمساحيق المعطرة كما يفعلون في الأعراس. أولئك النسوة كن يعشن في أحضان العلم والحضارة ويهتم أهل العلم بالقدرات العلمية ويستمتعون بما يرونه في أحد من حلٍّ للألغاز العلمية والفكرية. لقد نسي الإخوة بأن يوسف نبي والنبي مميز بالعلم لا بجمال الوجه.

ولم يذكر القرآن الكريم أي شيء عن جمال يوسف.

اعتقد بان ما يقال حول يوسف ناجم عن أحاديث غير قابلة للوثوق بها نسبت الى الرسول بينما القرآن الكريم يشير إلى أن معرفة الرسول بيوسف لا تزيد عن معرفتنا نحن به لأننا جميعا نستند إلى القرآن الكريم للتعرف على يوسف.

لقد قال له الله تعالى في مقدمة هذه السورة بأنه هو الذي يقص عليه أحسن القصص بالقرآن وبأنه كان من قبله من الغافلين.

دعنا ننظر إلى هذه الآية الكريمة في سورة الأنعام :

وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75).

فهل رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض بعينه أم ببصيرته؟

أو ننظر إلى هذه الآية من سورة الأنبياء:

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30).

 فهل يمكن أن يرى أحد ما حصل قبل بلايين السنين حينما كانت الأرض ملتصقة بالشمس أم يرى ذلك بفكره وعقله؟ فالنسوة رأين شخصية يوسف بحقيقتها العلمية والفكرية. تلك التي قال الله تعالى عنها قبل أن يذكر لنا قصة امرأة العزيز مباشرة:

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22).

يريد الله تعالى بكل قصة المرأة أن يرينا علمه وحكمه وبأنه يحكم بصورة عقلانية في المسائل. إن شكل القصة غرامي ولكن الحديث حول نبي عالم وليس عن شاب أصبح قبلة للغانيات المتزوجات. ولذلك قال سبحانه بعد أن رأينه:

أكبرنه: هل رأيتم أحدا يتحدث عن شاب جميل بأنه كبير أو بأن الذين رأوه يكبرونه؟ والواقع أنهن أكبرن علمه وذكاءه. رأين ثقافته الواسعة واطلاعه العميق بالقضايا السائدة وتحليلاته السياسية والعلمية. هذا يعني بأن يوسف جلس معهن ساعات حتى أُسقط في أيديهن ورأين أن امرأة العزيز كانت أمام جبل من الكبرياء العلمي والفكري ولذلك فضلته على زوجها وأرادت أن ترتبط به لعلها تكسب قلبه فيبقى بجوارها.

والذي خفي عنهن برأيي أنها أرادات أن تحمل من يوسف. علمن أن من حق امرأة العزيز أن تسقط أمام كبريائه.

ولو ندقق في الآية الكريمة فليس فيها أية إشارة إلى الغناء والموسيقى والرقص وكل أنواع الطرب. وليس بها أي حديث عن النعومة والجمال ولا عن الزينة والمجوهرات. إنهن فقط أكبرنه،

 وقطعن أيديهن: انهارت قواهن أمام كبرياء يوسف الذي ظنوه فتى امرأة العزيز قبل ذلك اليوم. لكنه اليوم رجل علمي وثقافي كبير وليس فتى زميلتهن فحسب. ونعبر عن اليد بالقوة. لقد ذكر الله تعالى اليد لنفسه أيضا باعتبار قوته وذكر لداود أيادي على أنه لا يملك أكثر من يدين عضويين في بدنه، لكنه ذو قدرات مختلفة.

حتى هذا المقطع لم نر فيه أي حديث عن الغرام، فلننتقل إلى بقية مقاطع الآية العظيمة:

وقلن حاش لله ما هذا بشرا: إنهن الآن يقمن بالمقايسة بينه وبين أزواجهن وأهليهن والملِك الذي يسودهم جميعهم.

إنهن رأينه أكبر من البشر. يجب ألا ننسى بأنهن نسوة الوزراء وليسوا بناتهم. إنهن نخبة فتيات مصر اللائي أصبحن زوجات كبار رجال مصر مركز العلم والثقافة البشرية المحترمة في كل الأرض آنذاك.

لقد وصلت امرأة العزيز إلى هدفها بأن تعترف اللاتي مدحتهن بأجمل الأوصاف بأن يوسف أكثر رفعة ممن لهن معهم ارتباط بالزواج .

وأما قولهن: حاش لله، فتعني سبحان الله. إنهن يؤمن بالله ويعتبرنه فوق الكائنات وخالقها وسيدها فحينما يكبرن أحدا يسبحن الله تعالى ليقلن بأن الله أكبر من أن نفضل عليه أحدا.

حاشا يعني بعيد عنه، والتسبيح يعني منزه عن مجانسة الخلق فمعناهما واحد. لكن التسبيح أجمل من حاش لله والاختصار لا يسمح لي بأن أشرح كل تعبير هنا فمعذرة من القارئ الكريم.

 إن هذا إلا ملك كريم: لقد نزهن الله تعالى فقط وارتفع يوسف في عيونهن فلم يبق إلا الملائكة ليشبهوا يوسف بهم.

هنا نحتاج إلى وقفة لنعرف عمق هذا التشبيه. ولنفتح عيوننا إلى توصيفهن للملَك بالكريم.

والكريم هو تعبير ربنا العظيم ولكنه سبحانه يترجم لنا بدقة ما قصدنه فيكفينا بأن نعرف معنى الكريم باللغة العربية.

لو كن عربيات لكان ممكنا أن نقول بأن الله تعالى ذكر عين كلامهن باعتبار أمانة النقل ولكنهن غير عرب فالله تعالى ترجم كلامهن ترجمة أمينة فعلينا فعلا أن نعرف المعنى بلغتنا.

سأضع معنى للكرم وأسعى لتطبيق بياني على بعض موارد ذكر الكرم في القرآن نفسه. الكرم يعني العطاء ماديا ومعنويا بسخاء دون انتظار التعويض  . 13

( هامش 13 :   قال تعالى في سورة النساء 31:

 إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً.

فأولئك المسرفون في الدنيا سيدخلون الجنة دخولا محترما لا يشعرون معه بأنهم لا يستحقونه. وقال سبحانه في سورة الأنفال 4:

أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.

فلهم رزق سخي دون أن يُطالَبوا بدفع الثمن. قال العزيز لامرأته أن تكرم مثوى يوسف كما في الآية 21 من هذه السورة. ذلك يعني أن تبالغ المرأة في احترام يوسف وإكرامه دون أن تنتظر منه عملا في المقابل أملا في مستقبل مشرق بجوار يوسف. قال تعالى في الإسراء:

 وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً.

فيقول الإبن لأبويه قولا جميلا فيه احترام وتوقير لهما دون انتظار الشكر والثناء منهما. وتطلق صفة الكريم على أزواج النبات والحجارة الكريمة والمقام يعني المنزل باعتبار أن كل هذه النعم تعطينا دون أن تنتظر منا شيئا. وحق الكرم هو عطاء الله تعالى الغني جل جلاله.    نهاية الهامش 13.)

يتبع …

أحمد المُهري

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :

islamjurisdev@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.