نظرية ظهور العلم 12- عندما أعطى العربُ العالمَ اللغةَ العربيةَ


نظرية ظهور العلم 12- 

عندما أعطى العربُ العالمَ اللغةَ العربيةَ

يحتاج ما عرضنا له حتى الآن إلى أن نتوقف قليلا – قبل أن نستكمل بحثنا, بإذن الله – من أجل إلقاء نظرة كلية على كامل الصورة علنا نرى من أين بدأنا, وإلام وصلنا, وإلى أين ننوي الذهاب.  

بدأ البحث ببيان أن الهدف من هذا البحث هو الكشف عما أشرت إليه باسم “العلاقة الآثمة”, أي الكشف عن العلاقة الوثيقة بين الثقافة العربية القديمة وبين نظام الإدراك البدائي.  تعود أهمية الكشف عن هذه العلاقة الآثمة إلى أن الفقه الاسلامي القديم كان هو نتاج هذه العلاقة الآثمة.  عمل الفقه الاسلامي القديم على تقديم “فهم” لدين الله مستخدما في ذلك نظام الإدراك البدائي شديد التردي المتاح في الثقافة العربية على خلفية الأوضاع الاجتماعية شديدة التدني السائدة في المجتمع العربي القديم.

يظهر نظام الإدراك البدائي المستخدم في إنتاج الفقه الاسلامي القديم في العجز الشامل, والكامل, الواضح تمام الوضوح عن إدراك التناقض – وهو ما قامت مئات المقالات الصادرة عن “مركز تطوير الفقه الاسلامي ” بالكشف عنه – كما تظهر الأوضاع الاجتماعية شديدة التردي في أحكام الفقه الاسلامي القديم فيما يتعلق بأحكام الجهاد التي تبيح القتل, والاستعباد, والتحريق, والتغريق, والعرقبة, والمجنقة, والسبي من أجل نشر دين الرحمة.   تخيل لو أنك أرسلت كوكبة من فرسان الجهاد من أجل نشر دين الرحمة في باريس أو لندن!  تخيل أي لعنة حطت على باريس أو لندن!  تخيل ما يمكن أن يحدث لو تم استباحة لندن, ثم أخبرني عن الفرق بين فرسان الجهاد وفرسان هولاكو.  يستحيل أن تظهر رجال تدعو إلى مثل هذا الهلاك إلا في مجتمع تعارف على قبول هذه الأفعال المشينة.  كما يظهر في أحكام “الطعام” التي تبيح ذبح وأكل تارك الصلاة إذا كان المؤمنون في حال مخمصة.  كما يظهر في أحكام النكاح التي لا تزيد عن كونها أحكام نكاح فعلا يتم فيها النظر إلى أن الهدف من النكاح هو “التلذذ” وأن عقد النكاح ما هو إلا عقد تمليك أو إيجار يعطي الذكر حق التلذذ ببُضع الأنثى طالما كان قد اشترى الأنثى بالكامل (حسب ما إذا كان عقد النكاح عقد تمليك) أو ما إذا كان قد قام باستئجار البُضع فقط (عقد إيجار).  تماما مثلما صدرت مئات المقالات التي تكشف عن بدائية النظام الإدراكي المستخدم في إنتاج الفقه الاسلامي القديم, صدرت كذلك مئات المقالات التي تكشف عن مدى تردي وتدني أحكام الفقه الاسلامي القديم.

كانت المشكلة, باستمرار, هي في الرفض المستمر لفكرة بدائية الثقافة العربية القديمة.  حقيقة الأمر, كانت فكرة “الثقافة العربية البدائية” تبدو فكرة “أسطورية”.  تماما كما لو كنت تتحدث عن الثقافة الإيطالية على أنها بدائية.  الثقافة الإيطالية؟  بدائية؟  ما القول في دانتي, وليوناردو دافنشي, وبوتيتشيلي, وبوكاتشو, وجاليليو, وفردي؟  ما القول في أزياء ميلانو, وطعام روما, وعلم بولونيا؟  ما القول في روما, وفينيسيا, وفلورنسا, وبيسا, ونابولي, وجنوا؟    الثقافة العربية؟  بدائية؟  ما القول في سيبويه, والخوارزمي, وابن سينا, والفارابي, وابن الهيثم؟  ما القول في عاصمة العالم؟  ما القول في بغداد؟  ألم تكن بغداد عاصمة العالم؟  ما القول في دار الحكمة وتلك الكتب التي يكافأ مؤلفوها أو مترجموها بوزنها ذهبا؟  ما القول في دمشق؟  ما القول في قرطبة؟  ألم تكن قرطبة أول مدينة في تاريخ البشرية تضاء شوارعها ليلا؟  ألم تكن ذات يوم هي عاصمة العالم أيضا؟  وما القول في القاهرة؟  ألم يزل الإمام الشافعي يسكن مسجد الإمام الشافعي؟  ألم يزل يسكنها كذلك ابن الهيثم وابن خلدون؟  ألم تكن القاهرة عاصمة العالم المتحضر مرتين؟  أتعرف مدينة أخرى كانت عاصمة للعالم مرتين؟  وماذا عن القيروان, والبصرة؟  بل ماذا عن صور, ومنف, وبابل, وسومر, وآشور, والجبيل؟  ماذا عن مدن أضاءت العالم, وحضارة أضافت للعالم علما, وفنا, وفقها, وأدبا؟  ألا يكفيك أن جامعات فرنسا كانت تدرس في جامعاتها حتى منتصف القرن السابع عشر كتاب القانون لابن سينا؟  أي أقل من مائة وخمسين عاما قبل الثورة الفرنسية.  

المشكلة هي أني لا أتحدث عن هذا.  أنا لا أتحدث عن الشرق الأوسط القديم, وإنما أتحدث عن العالم العربي.  أنا لا أتحدث عن الشعوب التي كانت تتحدث الأمازيغية, والديموطيقية, والنوبية, والآرامية, والسوريانية, والأشورية.  هذه ثقافات عاشت في هذه المنطقة وماتت منذ مئات السنين.  من منا في مصر يتحدث الديموطيقية؟  لا أحد.  من منا في الشام يتحدث الآرامية؟  عدد محدود من القرى.  وماذا عن الأشورية؟  عدد محدود من القرى كذلك.  هل يمكن النظر إلى أي من هذه اللغات على أنها تشكل الوعي العربي؟  طبعا, لا.  هل تساعدك دراسة أي من الثقافات الديموطيقية أو الأمازيغية, أو الآرامية على فهم المجتمع العربي؟  طبعا, لا.  الثقافة الوحيدة التي تحكم سلوك المجتمع العربي هي الثقافة العربية القديمة.    

نحن نعلم عما حدث في عصر الخلفاء الراشدين أكثر مما نعلم عما حدث في عصر حكم العسكر في مصر؟  كلنا يعرف أن أبا بكر كان أول خليفة في الإسلام.  من يعرف أن سيادة اللواء محمد نجيب كان أول رئيس للجمهورية المصرية.    كلنا نعرف أن محمد علي باشا كان أول حاكم من الأسرة العلوية.  من يعرف من هو ثاني حاكم لمصر من الأسرة العلوية؟  ومن يعرف من هو ثاني خليفة من الخلفاء الراشدين؟   

الثقافة العربية القديمة هي التي تشكل وعينا.  الشعر شعر العرب وما زال المتنبي يطربنا.  وأبو العلاء المعري, وأبو نواس, بل وامرؤ القيس وعنترة.  ما زال “طوق الحمامة” يأسرنا.  ما زلنا نقرأ لابن حزم وكأننا نقرأ لعلاء الأسواني.  أرجو أن يسامحني علاء الأسواني إذا قلت له إن “طوق الحمامة” يأسرني أكثر من “عمارة يعقوبيان” ألف مرة, على الرغم من أني لم أرَ قرطبة مرة ورأيت عمارة يعقوبيان أكثر من ألف مرة.  بل ما زلنا ننظر إلى أحكام الفقه الاسلامي القديم على أنها “شرع الله” واليوم اشتعل الكفاح من أجل أن تحكمنا أحكام الفقه الاسلامي القديم.  لم ينظر المجتمع العربي “المعاصر” يوما إلى الفقه الاسلامي “القديم” على أنه فقه سني قديم, وإنما نظر إليه دوما على أنه الفقه الاسلامي الأبدي, السرمدي. الخالد.  ما زلنا ندرس فقه أبي حنيفة, ومالك, والشافعي, وابن حنبل, وأحاديث البخاري, ومسلم, وتفسير الطبري.  ما زال الأئمة العظام يشكلون وعينا, ويحكمون حياتنا.  ومازلنا ندرس “الكتاب”.  مازالت الجامعات العربية تدرس “الكتاب”.  لا أعرف جامعة واحدة على كوكب الأرض تدرس لغة يتحدثها أهل الأرض مستعينة بكتاب ألفه أحد من أهل الأرض منذ أكثر من ألف ومئتين وخمسين عاما. 

هذه هي الثقافة التي أتحدث عنها.  الثقافة التي تحكم حياتنا.  الثقافة التي ولدت في البصرة, وعاشت في الكوفة, وسكنت بغداد.  الثقافة التي ولدت منذ أكثر من ألف وثلاثمئة عام.  وهي ثقافة لم يشارك في صنعها أهل موريتانيا, أو المغرب, أو الجزائر, أو ليبيا.  لم يكن هناك أحد في هذه البلدان يتحدث العربية.  هذي بلاد الأمازيغية.  وهي أيضا ثقافة لم يشارك في صنعها أحد من أهل مصر, ولا أهل السودان, ولا أهل جيبوتي, ولا أهل إريتريا, ولا أهل الصومال.  هذي بلاد لم يكن أحد فيها منذ أكثر من ألف وثلاثمئة عام يتحدث العربية.  وهذي ثقافة لم يشارك في صنعها أحد من أهل العراق أو الشام.  لم يكن أحد من أهلنا في حيفا, ويافا, وبيروت, وصور, والجبيل, ودمشق, وحلب, والموصل, ونينوه, وآشور, وبابل, ونيبور, وأور يتحدث العربية حتى يشارك في صنع الثقافة العربية القديمة.   لم يكن هناك مخلوق في القرن الأول للهجرة يتحدث اللغة العربية خارج الجزيرة العربية إلا في البصرة والكوفة.  ولم يكن هناك مخلوق عام 150 هجرية يتحدث العربية إلا في الجزيرة العربية والبصرة والكوفة. 

منذ ألف وثلاثمئة عام, عندما بدأت الأرض تهتز في البصرة وبدأت سحب الدخان تتصاعد في سماء البصرة إيذانا بانفجار براكين العلم, لم يكن هناك أحد يتحدث العربية غير أهل جزيرة العرب والبصرة والكوفة.  المذهل أن الثقافة العربية لم تكن من صنع المتحدثين بالعربية في جزيرة العرب, أو في البصرة, أو في الكوفة, وإنما كانت من صنع مزدوجي اللغة من المتحدثين بالفارسية والعربية في البصرة.

انظر إلى براكين العلم التي انطلقت في البصرة ثم في الكوفة ثم في بغداد.  كلها براكين علم فارسية انفجرت في البصرة, ثم في الكوفة ثم في بغداد.  انظر إلى بركان العلوم الإنسانية سواء في الصرف, أم في النحو, أم في الحديث, أم في الفقه, أم في التفسير.  البركان فارسي.  انظر إلى بركان العلوم الطبيعية الذي انفجر في بغداد.  أنظر إلى الكيمياء, والفيزياء, والأحياء, والرياضيات, والطب, والصيدلة, والفلك.  البركان فارسي. 

أنظر إلى أول كتاب صدر في العلم باللغة العربية.  أنظر إلى الكتاب.  فجأة وبدون أية مقدمات يظهر في الثقافة (العربية؟) كتاب يصف اللغة العربية بالكامل –  صوتًا, وصرفًا, ونحوًا, بل واستعمالا.  يكفي أن أقسام اللغة العربية, في جميع الجامعات العربية, ما زاالت تدرس الكتاب.  يكفي أنه الكتاب الوحيد في تاريخ البشر المعروف باسم “الكتاب”.  لا تحتاج إلى أكثر من أن تقول إنك تعني الكتاب حتى يفهم محدثك أنك تعني الكتاب.  يستحيل على غير أستاذ في علم اللغة, وتاريخ علم اللغة بالتحديد, أن يتعرف على مدى الإعجاز الذي يمثله الكتاب.  تخيل لو صدر اليوم في القرن الحادي والعشرين كتاب من قبيلة الكبابيش في صحراء مصر الغربية يصف النظام اللغوي الكبابيشي.  يسعدني أن أؤكد لسيادتك أن هذا العمل مستحيل.  مستحيل أن يصدر عن أهلنا من قبيلة الكبابيش الذين لم يسطروا صفحة في تاريخ القبيلة بالكامل منذ ظهورها إلى يوم الله هذا, مستحيل أن يصدر كتاب يصف النظام اللغوي الكبابيشي.  العالم الذي نعيش فيه لا يعمل بهذا الشكل.  العالم الذي نعيش فيه محكوم بسنن إلهية من صنع خالق عظيم.  السنن الإلهية لا تسمح بمثل هذا “الكتاب”.

إذا كان أول كتاب صدر في العلوم الإنسانية باللغة العربية يمثل معجزة “يقف لها شعر الإنسان”, فإن أول كتاب صدر في الرياضيات يمثل معجزة “تشيب من هولها الولدان”.    صدر “كتاب الجبر والمقابلة” للخوارزمي في نهايات القرن الثاني الهجري تقريبا, أي في نفس الوقت الذي ظهر فيه الكتاب, إلا أنه كان أشد تأثيرًا بمراحل عديدة من تأثير الكتاب.  إذا كان الكتاب قد صاغ الفكر اللغوي “العربي” من يوم ظهوره إلى يوم الله هذا, فإن كتاب الجبر والمقابلة للخوارزمي قد صاغ الفكر الرياضي “البشري” من ساعة ظهوره إلى يوم الله هذا.  كان تأثير الخوارزمي على الفكر الرياضي طاغيا إلى درجة أن اسمه أصبح جزءًا من لغة العلم.  تماما مثل وات.

لا يوجد أدنى شك في الصعوبة المطلقة لتفسير الانفجار العلمي الذي حدث في أواخر القرن الثاني الهجري عندما بدأت براكين البصرة وبغداد في قذف مئات الكتب في شتى قطاعات العلم.  تختفي هذه الصعوبة اختفاء تاما عندما ندرك أن هذه الأعمال العلمية لم تصدر عن الثقافة العربية القديمة لأهلنا من المتحدثين باللغة العربية في نجد والحجاز وإنما صدرت عن الثقافة الفارسية في الضفة المقابلة في الخليج.  لم يأخذ إخواننا في فارس من أهلنا في نجد والحجاز سوى اللغة العربية.

كانت القرون الأربعة الأولى من الهجرة هي قرون الإمبراطورية العربية.  تماما مثلما حدث في حالة الإمبراطورية اليونانية, والرومانية, والبريطانية, سيطرت الجيوش الإمبراطورية على الأرض وسيطرت لغتها على الألسن.  تماما مثلما كانت اليونانية هي لغة الإمبراطورية اليونانية, ومثلما كانت اللاتينية هي لغة الإمبراطورية الرومانية, ومثلما كانت اللغة الإنجليزية هي لغة الإمبراطورية البريطانية, كانت اللغة العربية هي لغة الإمبراطورية العربية.    حينما تحمل جيوشك الإمبراطورية لغتك إلى أطراف العالم, تصبح لغتك لغة العالم.  هكذا يعمل العالم الذي نعيش فيه.  هذه هي سنة الله في خلقه. 

كان الفرق بين الجيوش الإمبراطورية العربية والجيوش الإمبراطورية الأخرى أن الجيوش الإمبراطورية اليونانية حملت معها اللغة اليونانية والعلم اليوناني, وأن الجيوش الإمبراطورية الرومانية حملت معها اللغة اللاتينية والعلم الروماني (القانون الروماني), وأن الجيوش الإمبراطورية البريطانية حملت معها اللغة الإنجليزية والعلم البريطاني, على حين أن الجيوش الإمبراطورية العربية لم تحمل معها سوى اللغة العربية.  يعود ذلك إلى أنه لم يكن هناك “علم عربي”.  لم يكن هناك ما يمكن أن تحمله الجيوش الإمبراطورية العربية في القرنين الأول والثاني من الهجرة سوى اللغة العربية.  وهذا ما حملته, وهذا ما أصبح لغة العالم في هذا الجزء من العالم.  هكذا أصبحت اللغة العربية لغة العلم.   أعطى العرب العالم اللغة العربية, وأعطى العالم العرب العلم.

كمال شاهين

#نظرية_ظهور_العلم

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.