ملحق : فواتح سور القرآن

ملحق بموضوع فواتح السور المؤرخ 20/9/2016

Quran – holy book of Muslims around the world put on wooden boards

حينما بدأت بتفسير الفواتح عند تفسير بداية سورة مريم سعيت لفهم معاني كل الحروف. وبعد أن شرحت الكل في جلساتنا في ساري أخفيت معنى السين. كنت أريد كتمان معناها لفترة حيث أن الوقوف على عمق المعنى ليس سهلا ولكني أتذكر بأن طموح الدكتور حازم العبيدي جعله يعرف المعنى بعد يوم من كتماني لهم في جلسة ساري. قال لي ونحن في جلسة السبت وكان في بيت أبي مصطفى كاشف الغطاء: سعيت اليوم كثيرا لأجد المعنى من السور التي بدأت بحروف تتضمن السين فعلمت بأنها السمع. قلت له صحيح ولكن بيانه ليس سهلا.

على كل حال ورغم أنني أظن بأني قد كتبته خوفا من أن يموت المعنى مع موتي ولكني لا أدري أين احتفظت به. والمعنى هو السمع باعتبار أن السمع لا يقتصر على مرور الأصوات على أوتار آلة السمع بل هو يعني الإصغاء الكامل لمعرفة أعماق الوحي الربوبي وهو واجب على الأنبياء وبدونه لن يتعرفوا على الوحي. فالوحي ليس بمثابة حقن الفيتامينات في الوريد بل ارتباط طاقوي بين الملَك والنبي وتفاعل مشترك مع من يوحي ليستلم منه المادة الموحاة بعناية فائقة وبحضور خاشع لا يشترك معه أي أمر في ذلك الخضوع. فلو لم يكن الرسول ساعته سمعا كاملا لما يوحى فسوف يكون استلامه للوحي شبيها باستماعنا نحن للمقرئين وهو غير مجد له لأن عليه أن يعمل بهذا الوحي ويحتاج لقيامه بالعمل به إلى يقين لن يتأتى بدون إدراك حقيقة الوحي، لا سيما في المحكمات. وحتى يتجلى الموضوع أكثر للقارئ الكريم فإنني أرفق ملحقا لبيان أهمية بعض الفواتح كمرافق علمي للأصل.

عود إلى ألم:

 لو ننظر إلى هذه السورة الكبرى التي هي كتاب يحتوي على الكثير من المواضيع العلمية التي نعيى عن الإحاطة الكاملة بها في الحقيقة، فإن مجاراتها بدون المعاني المقصودة مع “ألم” غير ممكنة بشريا. نحن لا نكاد نكتب صفحة علمية واحدة إلا ونحن بأنفسنا بعد فترة نلمس فيها مسألتين أو عدة مسائل متضادة أو متناقضة أحيانا، فكيف بسورة بهذا الحجم. إنني أحد الذين سعوا للكشف عن أخطاء القرآن وتناقضاتها بكل حرية في الواقع مع أني مسلم ولدت مؤمنا بالقرآن، فعجزت واستيقنت بأنه كتاب الله تعالى، لاريب. فعلت ذلك قبل أكثر من عقد وقبل أن أفكر في تفسير القرآن العظيم. إنني اليوم عاجز عن أن أقوم بنفس العمل لأني بعد فهم الكتاب الكريم، صرت أشعر بالنقص الكبير بدون القرآن. فأنا اليوم أتحدث بعصبية تجاه هذا الكتاب من شدة اليقين به وبأنه قطعا منزل من عند الله تعالى. حاشا الخلق أن يأتوا بمثله ولو استعانوا بالجن وكان بعضهم لبعض ظهيرا.

وقبل أن أوضح ما أفهمه من الآية القرآنية العظمى فإنني أضرب مثلا بسيطا لعله يساعدنا على التعرف على مفهوم التمسك بالله وباللقاء معه سبحانه وتعالى. ولا ضير أن نعرف كيف يتفاعل حضور الجبار معنا طاقويا بمثال أيضا. والمثال الأول هو أن نتصور الطفل الصغير كيف يفتح عينيه بادئ ذي بدء فيشعر بضعفه وبقوة أبويه وبأنه يجب أن يتمسك بهما ليكسب الأمان ويطمئن ضد الهلكة. هذا الطفل يلعب ويلهو ويفعل كل ما يفعله الأطفال ولكن عينه وفكره لا تفارق الأب أو الأم، فإذا ما شعر بأنهما قد غابا من أمام عينيه فإنه يلوذ بالبكاء ليستعطف أيا منهما فيعود إليه أحدهما ليمنحه الطمأنينة والأمان ضد السقوط والجوع والعطش والألم وكل سوء يمكن أن يشعر به أي طفل. وكلما ينمو الطفل فإنه يشعر بمواهبه وطاقاته الشخصية فيسعى لكسب أبويه فيساعدانه عند الحاجة والضرورة. والشعور بالحاجة تتضاءل كميا ونوعيا مع نمو الطفل وشعوره بفرديته واستقلاله وإمكاناته.

لو أن نفس الطفل شعر بأن أباه أو أمه يكافئه أو تكافئه على بعض التصرفات ويعاقبه أو يظهر اشمئزازه من نوع آخر من تصرفاته، فإنه يسعى لتصحيح تصرفاته إرضاء لذلك الأب أو تلك الأم الذي يشعر هو بالحاجة الملحة إلى واحد منهما على الأقل في كل حياته وبكل وجوده. هذه التصرفات المصححة تمنحه الرضا المصحوب بالمكافأة في حين أنها تدرء عنه الأخطار وتمنحه التجربة والعلم وتضاعف صحته ونشاطه وتقويه ضد كل السيئات والسلبيات. وهذا طبيعي لأن الأبوين العاقلين لا يرومان سوى الخير والتقدم والصحة والعلم لولدهما. إن تطور العلاقة بين الأبوين وولدهما تزيد من تعلق وتمسك الطفل أو الشاب بهما لو أنهما أرياه مزيدا من الحكمة والخبرة فشعر بأن إصغاءه لهما يزيده قدرة للتغلب على مشاكل الحياة ويفتح أمامه سبل النجاح والازدهار. ثم إن الشاب يشعر شيئا فشيئا بأنه قادر على جني المزيد من المنافع لو أنه سعى لتجنب الغضب أو الاستياء من أي منهما ضده. وتزداد المكاسب لو أنهما كانا قادرين ماليا وعلميا في منحه مزيدا من العطاء. حينذاك يسعى الطفل الذي تحول شابا، لإظهار الطاعة والحب والشكر المتزايد حفاظا على مصالحه الشخصية وعرفانا بالجميل وتمتعا بالحب المتبادل.

يمكن أن نوظف كل جوانب هذا المثال تقريبا في علاقتنا مع سيد الكائنات جل جلاله. إنه مع تملكه لكامل القدرة فهو رحيم غفور ودود يحب الخير لعبيده ويمنحهم عطاءه ورضاه، بل يدافع عنهم ويدرء عنهم كل ما يزعجهم ليشعروا بالطمأنينة والراحة ثم الدعة والتمتع. إنه سبحانه يلاحظ فقر عبده وضعفه وجهله وقلة علمه أو ذكائه ولكنه لا يمكن أن يتقبل من عبده العناد والأنانية والتعالي وعدم الاهتمام ببقية عبيد الرحمن الذين هم أمثاله أو الذين هم محتاجون إليه. إن الله سبحانه بجانب كل ما ذكرناه من صفات إيجابية فهو عادل يحب القسط ولا يمكن أن يظلم أحدا أبدا. والشخص الذي لا يحب الله تعالى فهو لا يحب العدالة والحق والإيجابيات فهو لا يستحق عطاء الرحمن ولا يمكن أن يهتدي بهدي الله تعالى الممنوحة للطيبين من عبيده. كل إنسان يتعالى على الله تعالى فهو بلا شك يتعالى على كل الخلق لأنهم جميعا خاضعون لربهم شاءوا أم أبوا، فالمتعالي على الله مجرم بكل المعايير ولا يستحق رحمة الرحمن أيضا. وأما المؤمن الطيب فهو يستعين بربه ومولاه حينما يستعين ببقية إمكاناته المادية ولا ينسى الآخرة. فإذا ثبت على الإيمان بالله ازداد سعيا لإرضاء الذات القدسية جل جلاله فنسي ما دونه وتمسك به وحده. إنه يستفيد من كل الماديات المتاحة له لا من باب الاستعانة بل باعتبار أن الله تعالى قد أذن له في ذلك فعليه التمتع بها ويترك كل ما لا يقوى عليه لله تعالى واضعا ثقته الكاملة في الرحمن عز اسمه.

سورة مريم

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كهيعص ﴿1 هذه السورة المباركة تتحدث عن الدعاء وعن كيفية الدعاء المضمون استجابتها من الرحمن سبحانه ليتعلم الناس كيف يرتبطوا بربهم الكريم ويطلبوا منه قضاء حوائجهم المعقولة مهما كانت مهمة أو غريبة. وبالنظر الممعن إلى ما تُشير إليها هذه الأحرف الخمسة التي فتح الله بها هذه المقطوعة الفنية البديعة من الكتاب الكريم وتطبيقها على القصص التي تفيض بها هذه السورة الكريمة، فإننا سوف نتعرف على سر كبير من أسرار استجابة الدعاء كما نتعرف على مجموعة من الأسرار والخبايا لحكايات الصالحين الذين انطووا في ثنايا الآيات البهية ليكونوا لنا نبراسا مشرقا نتعلم منهم التمسك بحبل الله والتشبث بأذيال رحمته وحده لا شريك له، ولا من يُفيدنا غيرُه سبحانه وتعالى. وكما نعرف بأن الأحرف تشير إلى كلمات تمس المفاهيم المدرجة في خبايا الآيات، وبما أن السورة تبدأ بقصص الصالحين من الأنبياء كما سنعرف، فإن الحروف تشير إلى ما خفي علينا من مفاهيم مقصودة مع القصص الظاهرة.

ومما لا شك فيه بأن الكثير من المفسرين الذين لم يشتهر عنهم بأنهم فسروا الأحرف الفواتح، فإنهم قد فتشوا عما يتلاءم مع السورة من كلمات وردت داخل السورة نفسها فعجزوا عن الوصول إلى الحقيقة المشار إليها في هذه الأحرف. ولعل هذا التفسير هو أول من يتناول الأحرف بجدية وعزم بإذنه سبحانه وتعالى، ولكن ليس من الممكن لأي إنسان لم يوحَ إليه مثل كاتب هذا الكتاب أن يجزم بمقصود الكتاب الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فما أكتبه تعبير ظنيٌ أتمنى أن يكون قريبا جدا من الواقع وهو منطبق على سور أخرى ذُكر فيها بعض هذه الأحرف كما أوضحها في كل سورة بعينها بإذنه سبحانه. والعرب لا يُشيرون إلى الكلمات بفواتحها الحرفية إلا بعد إعادتها إلى أصولها، فلا يختارون حرف الميم للمضروب والمقتول بل يختارون الضاد والقاف باعتبار أن أصلي الكلمتين هما ضرب وقتل. والقرآن الكريم نازل بلغة العرب ولا يخالف أصول اللغة إلا بالتي هي أحسن أحيانا. ولِما في القرآن من قوة لغوية وبلاغية فإن علماء العربية مسلمين وغير مسلمين لم يبخلوا على المكتبة العربية بتصحيح المفاهيم النحوية والبلاغية على أساس القرآن أو بإضافة المضمون القرآني الجديد إلى اللغة الأم. مثالهما المسجِد بكسر الجيم بدل المسجَد بالفتح وكذلك الفاسق للمستهتر بالدين إضافة إلى المعنى الأصلي للفسق وهو خروج التمرة من غلافها.

وقبل أن يقرأ الباحث هذا المقطع من السورة فإني أنصحه بأن ينتقل إلى الآية التالية فيقرأ قصة زكريا بالكامل قبل أن يتعرف على تفسيري لفاتحة هذه السورة. فانتقل من هذا المكان إلى الآية الثانية إن شئت أخي وأختي.

الكلمات الخمسة المقصودة بهذه الأحرف برأيي المتواضع هي: الكتمان أو التكتم عن غير الله سبحانه؛ والهمس بالقلب دون الجهر بالقول عند الطلب من رب العالمين؛ واليقين بأنه سبحانه يسمع الطلب قطعا ويرد الجواب قطعا دون شك؛ والاعتزال عن الناس ليتم به الانفراد بالله العزيز الحكيم؛ والصبر بفيض ضد الشروط الزمانية والمكانية. ولبيان ذلك نقول:

أولا- الكتمان:

أما الكتمان فلأنه عامل أساسي لقضاء الحوائج وهو معروف في الأوساط البشرية وقد اشتهرت الجملة التي تكاد تكون حديثا نبويا: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان. والكتمان من شروط الطلب المتعارف بين الناس فعلا، إذ ليس من شأن المهمة أن تقع على ألسن السامعين. الحاجة هي مقصودة نسبيا لكل شخص بعينها ولو أنها قد تصيب الآخرين أيضا. فالذي يطلب يد فتاة أو التي تتعلق نفسها بفتى فإنه يطلب ذلك إرضاء لنفسه لا للطرف المقابل الذي قد يكون غاضبا من هذا الطلب. وقضاؤه يتطلب مقدمة أخرى للتوفيق بين رأيي المطلوب والطالب قبل السعي لتحقق الحاجة. هذه الحقيقة تتنافى مع الجهر الذي قد يبطل مفعول السعي قبل بلوغ الغاية أو يخلق لدى الطرف المقابل شعورا بالمواجهة مع الطلب الذي لا ترتضيه نفسه.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الطلب المقدم لشخص ثالث لتحقيقه قد لا يتناسب مع بقية شؤون الشخص الثالث الذي لا يُريد قضاء نفس الحاجة لشخص آخر. فما بالك بالطلب من رب العباد جميعا الذي لا يتخصص سبحانه بشخص دون شخص، بل هو ربهم جميعا دون تصور أي فرق في هذا الارتباط بين أي إنسان وربه مع إنسان آخر وربه مهما عظـُم أو صغُر شأن ذلك الموجود البشري. إنه سبحانه رب كل شيء بشخصه دون تصوره مع موجود آخر فهو رب الإنسان ألف بغض النظر عن كونه إبنا للإنسان باء أو أبا للإنسان جيم. ثم إن الكتمان دليل واضح على التعلق الشديد من المحتاج بالغني والاعتراف منه بالحقارة أمام الغني المتعالي وهو ما يتناسب مع شأن رب الكون العظيم مع عبد حقير لا أهمية في وجوده بالنسبة للغني القهار جل جلاله.

ثم إن محض وجود الإنسان الضعيف على أي حال وشدة حاجاته سببٌ لاستدرار الرحمة والرأفة من الرب الغني الكريم سبحانه، فالعطايا تنهال على كل شخص دعا ربه أو لم يدع، آمن أم لم يؤمن بالحقيقة المطلقة جل جلاله، استغفر أم لم يستغفر، وأخيرا استرضى ربه أم لم يسترضه سبحانه. هذا الموجود لو أراد المزيد من الرحمة التي تنزل لحظة بلحظة كالمطر لتقع في متناول الجميع، فإنما عليه بأن يتشبث بشكل خاص مُرضٍ لله تعالى؛ وما أجمل من أن يتشبث بحالة الذي يرى كل الأبواب موصدة أمامه إلا باب الله سبحانه أو يرفض التوسل بأي موجود غير الله تعالى فسيكون الكتمان دليلا على رفضه فضلَ كل محسن عدا ربه الكريم. ولمزيد من التأكيد بأنه لا يريد شيئا من أحد فإنه لا يُخبر أحدا بحاجته إطلاقا مهما كان الشخص قريبا منه أو قريبا من قلبه ورأيه عدا الغني الكريم سبحانه.

والذي يكتم أمره، فإنما هو الذي لا يقوم بأية حركة إعلامية ضد الله تعالى. ذلك لأن الذي يذكر حاجته وفقره لغير الله تعالى فإنما يقوم بدعاية مضادة للسيد المالك الذي هو ملتزم بسد حاجات عبيده مهما كبُرت رحمةً منه سبحانه وفضلاً. ونقلُ الحاجة إلى الغير ولو على سبيل السؤال بأن يدعو الله له مثلا، دليل على أن المالك غير مهتم بمملوكه أو غيرُ عالمٍ بحاجته والعياذ بالله. فالكتمان شاهد قوي على اهتمام العبد بإظهار كرم ربه الكريم فعلا وبأنه لا حاجة له حتى يلتمس من أحد أية مساعدة. إن الفقير الذي يُري الناس الغنى فإنه يقول لهم بأن الله تعالى كاف عبده وبأنه في استغنائه عن غير الله يُخبر الناس بأن ربه قد أفاض عليه ما يستحقه من الرحمة فمن يشعر بغير ذلك فإنه غافل عن الكريم الفياض جل جلاله وليس الله غافلا عنه أو مهمِلا له، حاش لله من ذلك.

ثانيا- الهمس:

وهو من علامات الكتمان وشرط أساسي له. ألا ترى الذي يتحدث عن أمر ذي بال فإنه يُخفض صوته قليلا كأنه يريد أن يقول للمستمع: هذه مسألة مهمة فلا تفصح عنها لكل أحد. حتى كبار السياسيين يمارسون خفض الصوت في مقابلاتهم التلفزيونية أحيانا ولا شعوريا ليهمسوا بالأهمية في قلوب الناس دون أن يقولوا ذلك بأفواههم. وهو لغة الناس أمام ربهم عند الحساب حيث يقف الناس جميعا الذين تحدثوا بكل اللغات من مختلف أفراد الأمم الذين عاشوا في الأرض من قبل، طيلة أكثر من عشرة آلاف سنة كما أحتمل، حيث تباينت مكوناتهم الاجتماعية فتباينت معها فهمهم للوحدات اللغوية كما تباينت استعمالاتهم لنفس اللغة كثيرا. فلا يُتصور أن يتحدثوا بلغة واحدة لعدم وجود تفاهم كامل لأية لغة بينهم واستحالة إمكانية نزع القسط السوي عليهم. وأما لغة القلوب فهي ليست من وضع البشر حتى تتغير بل هي لغة الفطرة التي فطر الله الناس عليها جميعا دون تمييز، ولذلك فلا تسمع يوم القيامة لغة ولا كلاما يخرج من الشفاه بل همس قلبي يبعثه القلب إلى القلوب كما تستلمه القلوب من قلب الناطق شاكيا أو مدافعا أو راجيا رحمة ومغفرة من القاضي الديان جل جلاله.

هناك يتحقق المعنى لنظرة رب العالمين جل جلاله الذي يُحرم الكفار منها ومن كلامه الصادق لأنهم عاجزون عن فهمها وتحسسها فضلا عن استحقاقهم المعدوم لها. كما قال سبحانه في آل عمران: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿77وأما لحظة القضاء فإن عدالة السماء تقتضي إيجاد وسيلة للتفاهم بين المؤمن والفاسق أمام محكمة العدل الحقيقية بل محكمة القسط في الواقع الذي هو أدق بكثير من العدل. هذه الوسيلة هي الهمس بالقلوب دون الاستفادة من بقية الحواس الذي يفقد بعضَها الكافرون المشركون المخذولون يوم الحساب. سيعمي الله البعض أبصارهم الفيزيائية أو يطمس على آذانهم حينما يخلقهم من جديد قبل الوقوف أمامه سبحانه فهم لا عين لهم ولا أذن ولا لسانا ناطقا بالنتيجة، ولكنهم أعضاء في المجتمع البشري الذي عاش مع الأنبياء والطيبين والصالحين فترة الحياة الدنيوية.

والإنسان يستعمل فكره وعقله ليحدث الناس بلغة يفهمها أكثرهم إذا أراد أن يُفصح عن مكنونات نفسه وليس أحد قادرا على أن يُفصح بكل المكنونات عن طريق اللسان. إن نسبة التفاهم باللسان لا يتعدى 7 – 10 بالمائة في أحسن الحالات وإذا أضفنا إليها الصورة فإنها تزيد المستمع الناظر فهما ولكن ليس بالكمال والتمام. وهذا هو السر في سوء التفاهم بين الصادقين أنفسهم. وبما أن الله تعالى قادر على تفعيل القلوب للتفاهم فلماذا لا يقوم به في يوم عدله وقسطه بين الناس والجن والملائكة معا على سواء؟ وسوف نزيد ذلك شرحا في سورة طه بإذن الله تعالى.

فالهمس هو اللغة التي يفضلها الله تعالى بينه وبين خلقه لأن المخلوق يقول بذلك حينما يُحدِّثُ ربه: {ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء (إبراهيم: 38)}. وهي دعاء أبينا إبراهيم أيضا. فرحم الله تعالى معلمنا وأبينا إبراهيم والحمد لله الذي نقل إلينا نماذج من همسات أبينا القلبية مع ربه لعلنا نتذكر أو نخشى. إنك حينما تكتم أمرك عن الناس فإنك لا تراعي الآخرين ولا تلاحظ وجودك بينهم ولا تعبأ بتعليقاتهم وملاحظاتهم عليك، بل تفرغ كل قلبك لله الذي وسع كل شيء رحمة وعلما. فهل هناك لغة أجمل من الهمس الذي يعرفه الله تعالى ولن يعرفه أحد غيره. ثم إنك بالهمس لا تحتاج إلى استحضار كل الصور في خيالك ليكون طلبك من ربك صادقا كاملا، إذ أن القلب الذي تستفيد منه لنقل التِماسك إلى رب العزة فإنه أقرب إلى الله منك لأن الله تعالى يحول بين المرء وقلبه وهو القوي فسيكون قلبك بالطبع محاطا به سبحانه أكثر من أن تحيط به أنت بنفسك. فكل مكنونات القلب الحزين الذي يتذلل أمام الله تعالى واضحة لله ولا تحتاج إلى ذكر كل شيء ويمكنك الاكتفاء بالطلب حينما تناجي الله بقلبك النفسي. لو ترى بأن بعض الأنبياء والصالحين يتكلمون مع الله ويطيلون الكلام معه فإنهم يشعرون باللذة في مناجاة ربهم ولك أن تفعل ذلك وليس لهذه المناجاة أي تأثير في استجابة الدعاء. إنه يمتع الإنسان أكثر من أن يساعده على نقل التماسه لرب السماوات والأرض. فما أسرع من الهمسات لنقل الحاجات إلى قاضي الحاجات جل جلاله.

ثالثا- اليقين:

اليقين مشتق من الفعل الثلاثي يقن ولذلك أشار الله تعالى إليه بالياء حسب ظني. واليقين هو ما يقابل الشك، فهو أحق بأن يكون معك حينما تخاطب السميع البصير الذي يملكك ولا يريد لعبيده إلا الخير والهدى ولا يرضى لعباده الكفر. وليت شعري من الذي يشك في رحمة الله تعالى وهو يخاطبه إلا من أغفل الله تعالى قلبه ليتعلق بالأسباب المادية أكثر من السبب الحقيقي وراء كل مادة وكل شيء وهو الواحد القهار جل جلاله؟ وإنه فعلا وقاحة وحمق أيضا أن يُخاطب العبد المحتاج ربه وخالقه الغني الكريم وهو غير واثق من رحمته سبحانه. إنه واسع الرحمة وكريم فلا معنى للشعور بالخذلان إذا أحسن العبد المؤمن الوقوف أمام سيده وربه الذي لا سيد له غيره ولا مولى له إلا هو سبحانه وتعالى. ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم. إن معنى الشعور بالعبودية أن يكون المرء على علم وثقة بأن الله تعالى لا يسمعه فحسب بل يستجيب له ويقضي حاجته دون شك. ولعل التأخير هو خير له أو لعل الطلب غير صحيح لو أن الحاجة بقيت في حيز الطلب، وليس بأنه سبحانه لم يعبأ به أو أهمله. فعلى المرء السعي لكشف الحقيقة من دون أن يسمح للشك بأن يخصص لنفسه مكانا في قلبه إن كان مؤمنا محبا لله تعالى.

واليقين هي الصفة التي تجمع وتختزل كل الأسباب في مسببها كما أنها هي التي تمنع المرء من التشبث بالأسباب الفرعية الضعيفة بل العاجزة على تحقيق أي شيء بدون السبب الأول جل جلاله. فاليقين جامع ومانع وهو الذي يقوي إيمان المرء بالله تعالى ليترك كل شيء يُفيده وهو واقف أمامسيد الكائنات جل جلاله. ولن يتأتى اليقين لمن يظن بأن هناك سادة غير الله تعالى، ولا لمن يظن بأن الكائنات محكومة بغير حكم ربها جل ثناؤه. وليس الذي كتم أمره عن غير الله تعالى وهمس معه سبحانه بقلبه ونفسه إلا الذي هو واثق من ربه بأنه ربه فعلا وبأنه هو الذي يطعمه ويسقيه وإذا مرض فهو يشفيه وبأنه تعالى هو الذي يغفر له خطيئته يوم الدين وبأن كلَّ من دونه عاجزٌ وضعيف مسلوبُ الإرادة أمام الله تعالى فلو أراد الله أن يُقضى حاجته قضاها ولا رادّ لقضائه ولو أراد غير ذلك فليس من يُجيره غير الله. قال تعالى في سورة الزمر:

أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴿36 وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ ﴿37 وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴿38.

هذه هي مرتبة اليقين التي تمنح المؤمن الطمأنينة في النفس وتجعله بعيدا معزولا عن الناس كائنا من كانوا إلا فيما شاء الله تعالى له ذلك. والمؤمنون الصادقون كانوا يرتبطون بالناس ليدعوهم معهم إلى الله تعالى، ليُصَـلّوا ويشكروا ويستمتعوا بنعمة الله تعالى وليحبوا الله تعالى مع بعض ويقدموا له الشكر على ما رزقهم من الرأفة المشتركة والاستئناس المشترك والقوة المشتركة ويستمتعوا بلذة التعاون في سبيل واحد وهو سبيل الله تعالى. فهم في ارتباطهم مع الناس يزيدون يقينا بالله وهم في الواقع يزدادون انعزالا عن المادة ليزيدوا من المفاهيم المعنوية مع بعضهم البعض؛ والمعنويات الحقيقية هي ما تقربك إلى الله تعالى لا ما تبعدك عن الساحة القدسية جل جلاله. ولا ننس بأن التقرب إلى الله تعالى دائما تقرب معرفي لا أكثر فليس لمخلوق أن يَقرُب من الخالق جل جلاله.

فالذي يزداد يقينا ينعزل عن الناس بأجسامهم ثم يعود إلى قلوب الناس بقلبه ليدعوهم مع نفسه إلى العزيز الكريم سبحانه. قال تعالى في سورة الزمر: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23).

ولذلك أعقب الله تعالى اليقين بالانعزال كما سيأتي. بعد ذلك سيكون البدن طوع إرادة النفس المؤمنة ولن تكون النفس المؤمنة مطيعا للشهوات البدنية. إن التمثل باليقين القاطع ضروري لمن يقف أمام ربه الذي هو سبحانه حق ومؤمن بنفسه وبقوته فكيف تتقرب إليه بنفس غير واثقة من قوة الله ورحمته وحتى عفوه وصفحه عما يحول دون بلوغ المرام إن كان المرام شرعيا مقبولا لدى العزيز الكريم. ولذلك فلن يصل إلى مرتبة اليقين من لم يكن على علم بالحقائق التي تمنح النفس الثقة الطبيعية في الواقع. فاليقين في حد ذاته ليس اكتسابيا بل هو حاصل بحصول العلم الصحيح في القلب. ذلك العلم الذي يسبق الإيمان والذي هو بدوره حاصل بعد السعي وراء طلب الحقيقة. هذا النوع من السعي هو إيمان أيضا ولذلك يأمر الله تعالى المؤمنين بأن يؤمنوا ليتعلموا فيزدادوا يقينا وثقة بالله تعالى. لننظر إلى سورة الحجر: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ﴿98 وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴿99

قاله الله تعالى لرسوله ليخفف عنه آلامه حينما كان غير المؤمنين يطلبون منه المعاجز مثل إظهار الملائكة أمام عيونهم فيضيق صدر الرسول بما يطلبون منه وهو عاجز عن الإتيان به. واليقين هنا يفيد الرسول ليشعر بالسلامة والطمأنينة دونهم فلا يتألم ولا يضيق صدره من مطالباتهم التعجيزية الحمقاء. إن رسول الله عليه السلام كان عالما مؤمنا بالله تعالى ولكنه يحتاج إلى مزيد من الإيمان والعلمِ الحاصل للمرء بالعبادة وإظهار الخضوع لله تعالى. فاليقين مرتبة عالية من مراتب الإيمان مما يمكن تصور عدمه لدى الكثير من المؤمنين بمن فيهم الأنبياء أنفسهم. هذا اليقين هو نفسه الذي نصل إليه بعد الموت وحينما نرى الحقائق بعينها وهو نفسه الذي يحصل لكل الناس بمن فيهم المشركون والكافرون وقد قال الله تعالى عن الكافرين في سورة المدثر: {حتى أتانا اليقين}. وهو يأتي ولا يُكتسب ولكنه لا يفيد المرء أبدا في الآخرة بل يفيده في الدنيا فحسب. والقرآن هو حق اليقين كما في سورة الحاقة لأن القرآن هو الذي يُعلّم الذي يطلب العلم فيتعلم منه حقائق الوجود ومتى ما أدركه بلطف الله تعالى فسيكون في مشارف اليقين. ومما لا شك فيه بأن اليقين لن يتأتى بدون العبادة لأنه مرتبة القرب المعنوي من الله تعالى فكيف يؤتيها الله تعالى من لا يعبده ولا يخضع له.

إن الله تعالى قريب منك وأنت لا تشعر به إلا قليلا. واليقين هو المرتبة التي تساعدك على أن تشعر بالله القريب منك أكثر فأكثر. فكلما ازددت علما به سبحانه اقتربت خطوة نحو اليقين به سبحانه، فإذا حصل لك اليقين فعلا كما حصل لمريم وزكريا وإبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس وقليل آخر من الصالحين فأنت في معرض استجابة الدعاء ولو كان دعاؤك بما لا ينسجم مع ما اعتاد عليه الناس حولك. وسنعرف فيما بعد ما الذي طلبته مريم وما الذي طلبه زكريا وإبراهيم وما طلبه إسماعيل فقضى الله تعالى لهم جميعا حوائجهم ولو أن تلك الحوائج كانت مستلزمة لتغيير مسيرة الناس وحتى مسيرة الطبيعة أو العادة الطبيعية. ولنكن واقعيين حينما نفكر في حكايات هؤلاء الطيبين الذين يرجون من ربهم ما هو غير مألوف وهم على يقين وثقة من ربهم؛ كيف يمكن أن يكون تجاوب ربهم معهم لو لم تكن طلباتهم مخالفة لتشريع الله تعالى ولم تكن ضارا بعدالة السماء، إلا أن يقضي الله تعالى لهم ذلك؟ وهذا ليس حكرا للأنبياء بل هو وجه آخر من وجوه الرحمة الخاصة لله تعالى، ومن حق كل إنسان أن يتشبث بحبل الله تعالى ويطلب منه حاجته ولو كانت غريبة دون خوف أو وجل أو خجل. إنه ربنا العزيز العليم الجبار القادر الكريم الرحيم فلمَ لا نطلب منه، ولِمَ لا نطرق بابه الواسع المفتوح لكل العبيد؟ لماذا نُحرم أنفسنا مما نحبه لو كنا مؤمنين عابدين واثقين من ربنا؟ فلنطرق باب الحوائج الحقيقي الصادق بصدق وخضوع ويقين وسوف نرى الحاجة مقضية دون أدنى شك.

وليكن واضحا بأن هذا اليقين مرحلي ومدرج وليس مطلوبا من كل الذين يطلبون من ربهم حاجة ولكننا نتحدث عن مراتب الأنبياء ومن في حكمهم في الواقع. فلا تخافوا من أن تطلبوا من ربكم ما تشاؤون وأنتم في أي مرحلة من مراحل اليقين. إن مجرد الطلب الصحيح من الله تعالى يزيدنا يقينا به فلا نخاف من أن نطلب من ربنا ولو كنا جاهلين أو عصاة لا سمح الله تعالى.  

فعلينا بأن نعرف هذا المعنى بكل دقة لنتعرف على المعاني المقصودة للكلمات التي تعني أكثر من معنى واحد في السورة المباركة هذه. هكذا سوف نعيش مع مريم في قطار العبودية التي سارت بها العذراء المؤمنة بربها بكل إخلاص وعبودية وصدق فنسمع همساتها مع ربها ونعرف معانيها ثم نقلدها ونعمل مثلها كما فعل زكريا فكان له ما أراد. وسنعرف فيما بعد أن مريم كانت مدرسة كبيرة بعلمها وإيمانها ويقينها بالله تعالى وهي التي طلبت أغرب الحوائج فكان لها أن تسمى سورةُ الدعاء هذه باسمها عليها السلام. هي معلمة الأنبياء وتلميذة التقوى والعبادة الخالصة. هي التي تمكنت من مناقشة الروح القدس وجها لوجه ولم يكن لأحد غيرها ذلك في هذا الكوكب طيلة التاريخ البشري الذي يمر القرآن على كل مراحلها المهمة، فيختار منها كل ما يتناسب مع ضرورات الهداية فلو كان هناك أحد غيرها قامت بنفس العمل لذكره لنا القرآن ولو بالإشارة. إن الكتاب الكريم لم يبخل علينا بذكر بعض الأنبياء الذين لا نحتاج في الواقع إلى معرفة جزئيات حكاياتهم مثل إدريس. إنه نبي لا نعرف عنه إلا أنه دعا كما دعا إبراهيم وقد ذكره القرآن بالاسم ولم يتركه في زاوية النسيان.

رابعا- الاعتزال عن الناس:

هذا المعنى يتجلى كثيرا في قصة إبراهيم، بتصريح القرآن ولكنه كان ضمن الوسائل التي تشبثت به مريم وتشبث به زكريا وإسماعيل وكل أبطال سورة مريم. والانعزال عن الناس يبعد المرء من غير الله تعالى فيقرب العبد من الله تعالى بالنتيجة. إن الإنسان متوجه بطبيعته المحتاجة إلى جهة من الجهات؛ فهو إما أن يتوجه لنفسه وتطييبها وإرضاء شهواتها أو يتوجه إلى الآخرين ليأخذ منهم أو يُكرمهم أو يطلب اهتمامهم أو يسعى للدعاية لنفسه بينهم أو يُساعدهم وهكذا دواليك. ولكن الذي يعزل نفسه عن الناس فإنه يوجه نفسه إلى الله تعالى وحده الذي يستحق أن يوجّه الناس إليه سبحانه وجوهَهم. وما دعاء إبراهيم عليه السلام إلا تعبيرا واضحا عن الانعزال إليه سبحانه حيث يقول كما في سورة الأنعام: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79). والحنيف معناه المنحرف عن الوجهة التي يتوجه إليها المرء تحت ضغوط الطفولة والحاجة إلى المجتمع وإلى أصحاب القوة والنفوذ وترك كل الجاذبيات البشرية واستبدالها بجاذبية ملك الكون العظيم. القدرة التي تكمن وراء جاذبية الآباء والأمهات والمعلمين والملوك والرياضيين وأصحاب الجمال الجلدي ليست حقيقية ولا دائمة بل هي شكلية مؤقتة تنتهي بعد أمد. بيد أن كل مصادر القوة هذه تتضاءل وتخفى كل يوم عدة مرات: حين النوم وحين الانشغال بالعمل الكادح وحين الابتلاء بالمصائب وحين الجوع وحين العطش وحين المرض وحين الخوف والحرب وحينما يكون الشخص غافلا. ولكن الحي القيوم جل جلاله باق بقوته أبدا ودائما كما كان دون ابتداء ودون انتهاء ودون أن يتأثر بأي مؤثر ودون أن يغفل ودون أن تأخذه سنة ولا نوم. سيبقى هو كما كان مالكا للسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى.

فإبراهيم ومن سار سيره هم العقلاء والمفكرون الحقيقيون والفقهاء الصادقون الذين تخلوا عن كل شيء غير الواحد الأحد الفرد الصمد وقليل ما هم! إنهم انعزلوا عن المجتمع الضعيف البائس الفقير لينشغلوا بالنظر إلى القوي الغني القهار جل جلاله فكفاهم ربهم كل شيء وتركوا غيره ليتركوا السلبيات الفانية التي لا تملك إلا المظهر المؤقت. إن كل هالة وإشعاع يتخيله الجهلاء لغير الله تعالى فهي سراب بِقيعة يحسبه الظمآن ماء فإذا دنى منه ليتحسسه يراه لا شيء. وأما الذين يدعون إلى إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وأمثالهم من البشر فهم يحملون هالة كاذبة أحاطوا أبدانهم ونفوسهم الفقيرة بها من ملابس وألقاب طويلة عريضة غير حقيقية ليخدعوا بها الناس فيعيشوا على أموالهم وإناثهم وسواعدهم العاملة فانخدعوا بأنفسهم بها أيضا كما فعله السامري فنسي. والذي أنساهم أنفسَهم هو الله تعالى لأنهم نسوا الله حينما طلبوا الرزق من الناس وعن طريق إغواء الناس وتضليلهم ونسوا وعد الله تعالى للمؤمنين الذي هو وعد حسن حقيقي لا كذب فيه ولا مبالغة وليس لأحد أن يسلبه منهم إن كان الجبار يريد ذلك لهم، فما أبخس ما باعوا به آخرتهم ورضوان ربهم؟ وما عند الله خير وأبقى.

ولو أننا نفتح عيوننا لنرى بأن الجمع بين الله والعبيد غير ممكن قطعا ولكن الجمع بين التوجه إلى الله تعالى بالقلب والتفاعل مع الناس بالبدن ممكن جدا. ألا يعيش الذين يعبدون الله تعالى بأبدانهم أحياء يتنفسون ويسمعون أصوات الآخرين ويرون ما يمكن أن يضرهم من الأعداء ويهضمون الأكل ويسيرون الدورة الدموية وكل أجهزتهم البدنية تقريبا. إن المصلي يصلي وهو فاتح العينين غير مغطى الأذنين فاتحا جيوبه الأنفية والحلقية للشهيق والزفير وهكذا. فالانعزال يكون بالقلب والنفس عما يُزاحم التوجه إلى الله تعالى وليس الانعزال الكامل. حتى الذي ينتقل إلى زاوية بعيدة عن الناس لينفرد بالصلاة إلى الله تعالى فإنه لا ينعزل تماما عن الناس بل يعود إليهم حين يحتاج إليهم مما أحوجه الله تعالى بطبيعته الإنسانية إليها. كان الرسول عليه السلام متزوجا يعود إلى أهله بعد الفراغ من الاختلاء بربه في غار حراء وكانت مريم تعود إلى بيت أبويها لتأكل وتشرب وتنام بعد الفراغ من عبادتها التي لم تكن حركة أعضاء ولقلقة لسان فحسب بل كانت حركة نحو المعرفة والعلم كما سنعلم بعد قليل.

وهذا الاعتزال يشتد بالنسبة لإبراهيم تبعا للطبيعة التي عاش فيها إبراهيم وقريب منه اعتزال نبينا محمد، ويقل بالنسبة لمريم عليهم جميعا السلام. ذلك لأن مريم عاشت في أسرة مسلمة مؤمنة بالله تعالى كما عاش زكريا، ولكن إبراهيم ومحمد عاشا بين المشركين الذين يتخذون من الأصنام وسائل تقربهم إلى الله زلفى وهو شرك بعينه. لا يجوز للناس أن يوسطوا شيئا أو أحدا بينهم وبين الله لأن ذلك يعني بأن هذه الواسطة أقرب إليهم من الله بل عليهم أن يسعوا للتمسك بالله تعالى واستشعار أنفسهم بالوجود القدسي دون واسطة. وليس أحد أرحم إلى الإنسان من ربه ولذلك فهو سبحانه أرحم الراحمين جل جلاله. ولعل هذا المعنى غير ملائم لأكثر الناس بمن فيهم المؤمنون بالله من اليهود والمسيحيين والمسلمين، ولكنه حقيقة قرآنية يجب الإذعان بها ولا ضير بأن نسمي كل العلماء المعروفين في الأديان الثلاثة، جاهلين لا يعلمون إلا قليلا. ومن الواضح أن بينهم بعض الذين يعلمون الحقيقة ويعترفون بها ولا يدعون إلى غير الله ويعتبرون الأنبياء عبيدا صاغرين أمام ربهم وليس لهم أي دور غير نقل الرسالة التي نقلوها فعلا وأنهم قد ماتوا وهم عند ربهم اليوم مكرمون يُرزقون الأمان من كل خوف. فسلام عليهم بما صبروا وسلام عليهم من ربهم، وهنيئا لهم العبودية الصادقة. جعلنا الله تعالى معهم إخوانا في يوم القيامة لنستمتع بالمجالسة معهم على سرر متقابلين نهنأ في ضيافة رب العالمين على موائد الجنة بمنّه ولطفه سبحانه؛ آمين.

والاعتزال بحقيقته يعني الانفراد بالله تعالى فيما لا يخص غيره. إن الاعتزال حينذاك دليل على اعتراف المؤمن بكامل القوة لرب العالمين وعلى ضعف كل من دونه كائنا ما كانوا. ذلك لأن القوة الحقيقية من خواص رب العالمين وما نراه من قوة لدى الناس لهي قوة غير ذاتية. والصورة الشبيهة بالذاتية لهذه القدرات هي للاختبار فلا تعني بالنسبة لمن يتشبث بها إلا استدراجا من العزيز الحكيم للنفوس الضعيفة الفاسقة التي لا تؤمن بالرحمن. إن المؤمن يعتزل عن الناس ليقول لهم بأنكم لستم إلا إخوانا ضعفاء لي وأنتم مثلي في الضعف وأن القوة لله جميعا. إنه يقول ذلك للمعلمين والآباء والأنبياء والملوك وأصحاب النفوذ والجاه في الأمة. هذا هو السبب الأول للاعتزال وهناك سبب آخر للاعتزال وهو عدم الانخراط مع العصاة الفاسقين بأمر الله تعالى نفسه كما وضحه الحكيم العليم في مثل سورة النساء: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴿140 أو في سورة الأنعام: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿68 وفي سورة الطور: وَإِن يَرَوْا كِسْفًا مِّنَ السَّمَاء سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ ﴿44 فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ﴿45 يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ﴿46  

وبما أن الاعتزال شرط أساسي لاستجابة الدعاء كما يظهر بجلاء في الآية 49 من سورة مريم هذه: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيًّا، فإن القرآن الكريم يوضح السبب في هذا الشرط وهو ترك الناس في عبادتهم لغير الله تعالى. والواقع أن غالبية الناس ولو بحالة لا شعورية، فإنهم يعبدون غير الله ويظنون أنهم على حق. سواء في ذلك الذي يغيّر أو يجهل معنى العبادة كما هو الحال لدينا نحن المسلمين شيعة وسنة أو يُجيز العبادة لغير الله تعالى كما عليه المسيحيون الكاثوليك والبروتستانت أو يعتبرها عبادة من الدرجة الثانية كما يزعمه المسيحيون من شهداء اليهوه. وسوف نشرح هذا الموضوع في مكان آخر والمقصود من الإشارة إليه هنا هو تحديد معنى الاعتزال بأنه يعني الحذر من الاقتراب غير الهادف من الذين يعبدون غير الله ولو كانوا جاهلين. ذلك لأن الدعاء لن يتحقق قبل أن يُخلص المرء قلبه من كل زيغ وفساد وأنى يمكن ذلك لشخص يتعاطف مع الذين أشركوا بربهم.

وليسمح لي القارئ الكريم بأن أوضح جزئية بسيطة وهي أن النبي إبراهيم دعا ربه ليمنحه ولدا فمنحه ربه إسماعيل ولكنه سبحانه جزاء اعتزاله عن الناس أضاف هدية من عنده إسحاق ويعقوب. ليعلم إبراهيم ونعلم بأن الله تعالى يعطي أكثر مما تطلب لو قمت برعاية شريعته.

وكان أبونا إبراهيم على علم بلزوم الانعزال عن الناس قبل أن يتوقع الاستجابة الدائمة من ربه سبحانه لدعائه أو دعواته، ولكنه كان يشعر بوجوب هداية قومه وأهله إرضاء لله تعالى. لقد وضح الله تعالى لنا ذلك في الكتاب الكريم بقوله في سورة التحريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴿6وإبراهيم كان مسلما يعرف ما نعرفه اليوم عن طريق كتاب الله تعالى، فكان مهتما بالسعي لتقديم الهدى لقومه وأهله ولو كان ذلك على حساب حوائجه الشخصية التي سنتعرف عليها بمشيئة الله تعالى ضمن هذه السورة الكريمة. ذلك بالنسبة له عليه السلام تضحية وتفان في سبيل الدعوة إلى الله تعالى، ولكنه على كل حال مانع من تحقق كل حوائج المؤمن. وهكذا نعرف معنى آخر من معاني عدالة من في السماء جل جلاله.

لقد من الله تعالى على محمد عليه السلام بأمة من الناس يصلون خلفه ويهتمون به ويطيعون أمره فحرمه من الذكور بل من كل الأولاد حتى تجاوز الخمسين من العمر. وما يدعيه البعض بأن كان له صبايا وصبيان من خديجة قبل فاطمة، فهو غير صحيح باعتقادي وقد شرحته عند تفسيري لسورة الكوثر. حتى المعروف عن ابن له يُدعى إبراهيم من المصرية مارية غير صحيح بظني.  وكان إبراهيم في معرض نفس المكرمة حتى اطمأن بأن قومه لن يؤمنوا فتركهم وبنى أمة بل أمتين جديدتين من نسله الطيب، من إسحاق ومن إسماعيل. ولما ترك نوح قومه ودعا عليهم بعد أن يئس من قبولهم لدعوته، جعل الله تعالى ذريته هم الباقين. وأما موسى فنحن لا نعرف الكثير عن أولاده الذين رزقه الله تعالى إياهم حينما كان في معزل عن قومه وأهله من أبناء مصر. والقرآن الكريم يذكر لنا ذرية هارون دون موسى. وعيسى كان محفوفا بأصحاب الحوائج الذين يحبونه ويودونه بعيدا حتى عن الزواج كما يبدو. عليهم جميعا سلام الله تعالى. لكنه سبحانه ذكر أهل موسى ليلة التكليم العظيم هكذا في سورة طه: إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ ِلأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10). تعني الآية بأن له على الأقل ابنا واحدا والثاني إما ابنة أو ابن ثان. ذلك لأن خطاب امكثوا خطاب جمع يتجاوز الاثنين على الأقل وخطاب ذكوري لا يصح إلا أن يكون واحدا منهم ذكرا على أقل تقدير، والله العالم.

ولا تقف أهمية الاعتزال عند هذا الحد بل هو الذي يسهل نزول الرحمة بتحديد من تنزل عليه الرحمة. نحن نعرف بأن الله تعالى يراعي استحقاق الخلق للرحمة قبل أن يسمح لها بالنزول عليهم، فما دام الذين يستحقون المطر بعيدين عن مكان نزول المطر فإن النزول أقل احتمالا وكلما دنوا من مكان النزول زاد احتمال التفعيل. ونعرف بأن استجابة الدعاء لشخص ما يؤثر سلبيا أو إيجابيا في الآخرين، فكلما ابتعد الذي يرجو ربه عن الناس، كلما اقترب من موجبات الرحمة ولذلك فالاعتزال عن الناس يؤثر كثيرا في سرعة نزول الرحمة من الله تعالى.

خامسا- الصبر الجميل:

الصبر مفتاح الفرج ومفتاح كل النعم والمكرمات في الواقع. ذلك لأن تحقق أية مكرمة من الله تعالى غير متصور بنفس الزمان والحالة التي نحن فيها حينما ندعو إلا أحيانا. لو كان مطلوبُنا ممكنا قبل أن ندعو، لرَزقنا الله تعالى ذلك ضمن الرزق العام المتاح للخلق أجمعين، ولكنه غير متاح في ما نحن عليه، فلا يمكن أن نتوقع من الله تعالى أن يستجيب دعاءنا ساعة الدعاء إلا قليلا. يجب ألا ننس بأن الله تعالى هو رب كل شيء وبأن هناك الكثيرون محتاجين ويدعون للمزيد وهم يعيشون معك. ولطالما كان قضاء حاجة فرد يستلزم إيراد ضرر وعسر على فرد آخر، ولطالما كان المطلوب مضرا للداعي نفسه في المستقبل أو ضارا بأولاده أو منتقصا منه درجته في الآخرة. دعنا نفكر بأننا لو دعونا أبانا أو صديقنا الصادق معنا ليقدم لنا الماء حينما كنا نشعر بالعطش الشديد بعد التعرض لصعقة كهربائية غير مميتة، فإن إرواءنا في تلك اللحظة يساعدنا في المزيد من التبعات ولعل الموت أحيانا. فهلا نلوم الذي قدم لنا ما يضرنا بطلب منا ولو كان الطلب يصل حد التوسل والاسترحام؟ سوف نقول لله ربنا يوم القيامة: ربنا لولا أخرت عنا ما طلبناه منك إلى أجل قريب فنعلم بأن دعاءنا لم تكن في مصلحتنا. سوف نقول له سبحانه: ربنا لمَ وسعت علينا لننساك فتنسانا اليوم ونحن اليوم أحوج إلى غفرانك وفضلك من يومنا الدنيوي؟

ولطالما كانت الحاجة غير ممكنة الاستجابة لما فيها من ضرر مستقبلي أو ضرر للغير، فكان ردها أولى لنا وللناس. ولكن الذي يتمتع بالصبر فإنه لا يحدد زمنا لصبره بل يصبر حتى يرى الله قضاء حاجته إن رأى الله ذلك في الدنيا أو يعوضه في الآخرة. ولذلك فإن المرء وحينما يطلب شيئا من رب الناس جميعا ورب الملائكة والجن وكل شيء في الوجود فإنه يريد ما يريد إن كان ذلك ممكنا ومفيدا ولا يحمل طياته ضررا له وللآخرين ولا يعيّن لبلوغ هدفه زمنا موقوتا بل يتحلى بالصبر حتى يتأتى ذلك ضمن نظام الرحمة الإلهية. وللصبر فوائد كثيرة تعلم الإنسان الجلد وتحمل الصعاب وتحبب له ساعة الفرج والنصر كما يزيد المؤمن استرحاما واستعطافا من الله تعالى؛ واستعطافه تعالى في حد ذاته عبادة واعتراف بجميل العبودية لمالك الجمال كله. وصبرُ الذي ينتظر حاجتَه من الله تعالى وهو على يقين من أنه ربه الذي لا ينساه ولن ينساه، لهو ممتع وجدير بأن يعيش معه المرء دهرا قبل أن يحل يوم قضائها. وبعد أن يقضي الله تعالى لعبده حاجةً انتظرها فترة طويلة وخرج المحتاج من غمار النعماء بعد أيام أو أشهر قليلة فإنه سوف يشعر بأنه خسر شيئا في مقابل شيء آخر. لقد خسر لذة اللجوء والإلحاح من ربه في كل يوم وخسر لحظات المناجاة الممتعة وخسر التغني بما سيصله من سيد الكون والوجود، لأنه استلم ما كان ينتظره فعلا. فالصبر مرحلة ممتعة للمؤمن الذي ينتظر عطاء ربه بفارغ الصبر ولكنه صعب على غير المؤمن.

وليس لمن يريد المرور بمراحل الدعاء المطلوب أمام الله تعالى إلا أن يعلم بأن الصبر مرحلة ضرورية يستحيل تجنبها لو كان الطالب مؤمنا متقيا لا يكتفي بنعيم الدنيا. ولولا ذلك لما ذكره الله تعالى ضمن كهيعص. وبيان ذلك: إن الكتمان ينطوي على الصبر، والهمس غير ممتع في حد ذاته بل المطلوب التغني بالحاجة ورفع الصوت أو إخراجه على الأقل، واليقين لن يتأتى للمرء إلا بعد أن يمر بمراحل علمية وثقافية يصبر فيها كثيرا كما سنعرفه في حال مريم وزكريا بعد قليل، والانعزال عن المجتمع هو أصعب ما يأتي به الإنسان الدنيوي الذي يستمتع بالبقاء بين أهله ومجتمعه وأهل حارته التي عاش فيها والمدرسة التي بدأ دراسته على مقاعدها والبيت الذي تربى بين جدرانها. فالصبر ملازم لكل مراحل استجابة الدعاء ولا مفارقة بينه وبينها. ونحن في هذه السورة الكريمة لا نتحدث عن الدعوات العادية التي يأتي بها الإنسان دائما وأبدا مثل: غفر الله لك، في أمان الله، زادك الله نعمة، اللهم عفوك ورضاك، رحم الله والدي، رب لا تؤاخذني بما نسيت وما شابه ذلك من أدعية الصباح والمساء. الحديث في هذه السورة عن الطلبات الكبيرة التي نطلبها من ربنا الكريم المتعالي والتي تستحق أن نصبر عليها وننتظرها أياما أو سنوات أو يهمنا كثيرا ويؤثر في مستقبلنا ومستقبل أولادنا أو أمتنا. وكهيعص مبتدأ يمكن تعقيبه بهو فيكون خبره:

ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زكريا ﴿2 وذكر الرحمة هنا لغرض التعليم وهداية من يريد من ربه أمرا خطيرا أن يلتمس بالطريقة التي سار عليها أنبياءُ الله تعالى وخيارُ البشر ممن في كوكبنا من خلقه سبحانه. وما يُجاري الذكر في منطقنا نحن اليوم هو الحكاية. فيكون معنى الآيتين: مراحل الدعاء الملخصة بـ كهيعص هي حكاية إكرام الله تعالى عبده زكريا في استجابة الكريم الرحيم لعبده كما سيأتي. وكلما يقول سبحانه: واذكر، قبيل ذكر كل قصة جديدة، فهي حكاية أخرى مارة بمراحل كهيعص؛ وكل منها تنطوي على حكاية مؤمن مَرَّ بكل المراحل فجنى ثمار دعائه وطلبِه من ربه سبحانه. وصيغ الإفراد (ربك، عبده، زكريا) تدل على خصوصية الدعوات وشخصيتها التي تهم الداعين أنفسهم دون بقية الناس إلا قليلا. وحينما نحلل جزئيات الدعوات التي طلبها أبطال السورة، نرى بأنهم يتحدثون هنا عن أشخاصهم وحوائجهم الفردية وليس عن شخصياتهم وضروراتهم الاجتماعية. وذكر القصص في التالي تعليم لرسول الله وبأنه قادر على طلب ما طلبوه لو مر بنفس المراحل كما أن لكل مؤمن ذلك، لو التزم بما التزم به أنبياء الله تعالى. ومن غير المعقول أن يلبي الله طلبات مشابهة لعامة الناس دون أن يمروا بما مر به الخواص من عبيد الرحمن عز اسمه.

والرحمة كلمة عامة تعني كل ما فعله الله تعالى بالنسبة للحقيقة وللواقع وليس بالنسبة للناس جميعا. إن ما يقوم به الرحمن من عذاب للكافرين والفاسقين لهو ضار بهم ولكنه رحمة لغيرهم من المؤمنين المتقين. فما يفعله الله تعالى رحمة واقعية حقيقية تمس من استحق الرحمة ولعلها تضر من ينطوي على باطن مريض أو خبيث. فالموت والتعرض للقتل رحمة للمؤمن قياسا بما وعده الله تعالى من نعيم أبدي عند ربه في المقابل. ولكن الله تعالى يذكر لنا في هذه السورة الكريمة قصص الذين مستهم رحمة كريمة هنيئة في الدنيا من المؤمنين متمثلا بنماذج يُسهّل علينا فهم مسألة الاستجابة طياتها. فالقرآن الكريم كتاب تعليم وتربية وتثقيف وتهذيب، وهو كتاب لكل الناس مهما قَلَّ علمهم وفهمهم. وكلمة “ربك” تنطوي على كل ما يمكن تصوره من معاني المساعدة والحب والرحمة والفضل. إنها تعني بأن الذي سار معك على طول تكوينك فهو يسمعك ويراك ويساعدك حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من قدرات تناسب كيانك الاجتماعي وقوامك الفردي. فالله تعالى يربي الناس ويكبرهم ويربي كل شيء ويسير معه صائنا له ممدا له بكل ما يحتاج إليه من المقومات الضرورية للبقاء والتطور بشكل جميل وبهيج حد الإمكان.

والتذكير بـ ربك بمثابة تشجيع للرسول العربي وللمسلمين ولكل الناس بأن يسيروا على نفس النهج الذي سارت عليه مريم وبقية الأنبياء، فينالوا مبتغياتهم من ربهم دون خوف وحذر ولكن مع عناية واهتمام طبعا. وبما أن زكريا عبدٌ لله وقد رحمه الله تعالى بهذا الاعتبار فأنت يا محمد عبده أيضا وتحمل كل اعتبارات العبودية فاطلب ما شئت ولكن بعد المرور بنفس الخطوات، فالله عادل لا يظلم ولا يعطي دون استحقاق. وهكذا كل من يسير على نفس الدرب دون تمييز، لأنهم جميعا عبيد لله تعالى. وليس هناك سبب آخر قابل للتصور والبحث في هذا المجال، غير أن يعلّم الناس كيف يطلبوا من ربهم عز شأنه. ومن يظن بأن ما حبا الله تعالى به الذين ذكرهم في هذه السورة الكريمة خاص بالأنبياء فإنه ضعيف في فهم القرآن وفهم السبب من نزوله هدى للناس ومَعْلَما يستضيئون بنور معارفه ويعملون وفق تعاليمه. وليس القرآن كتاب قصص الملوك أو كتاب حكايات الغابرين، بل الحكاية والقصة في القرآن وسيلة تذكيرٍ لهم بنعم الله سبحانه أو عذابه وانتقامه، ليعلموا فيتعلموا كيف يعملوا وكيف يكسبوا. 

وزكريا اسم غير عربي لنبي ثابت النبوة ولعله زوج خالة مريم كما يذكره المؤرخون. ونحن نقبل منهم هذا الادعاء غير الثابت قرآنيا إذ لا ضير فيه أولا ولأن تاريخ زكريا ليس بعيدا جدا عن تاريخ الظهور والبروز للعرب أيام الرسول الأمي الذي انتسب في زواجه مع أسرة تؤمن بالمسيحية وقد عايش المسيحيين واليهود طيلة نبوته. ثم إن مسألة عائلية كهذه ليست غريبة وليس الاعتراف بها مضرا أو نافعا لأحد على ما يبدو. وأما السر في تقديم قصة زكريا على قصة صاحبة السورة مريم فهو لأن يحيى قد سبق ظهور المعجزة الكبرى في المسيح حتى يتهيأ المجتمع اليهودي لاستقبال ذلك النبأ غير المألوف. وقصة يحيى غير المثيرة للشك غير مألوف أيضا. أنّى لامرأة كبيرة في السن أن تلد، فضلا عما هو ثابت لزوجها زكريا من ضعف بدني مشهود؟ ومريم هي فعلا بطلة حكاية الدعاء المشروح بتفصيل في هذه السورة الكريمة فهي معلمة زكريا كما سنعرف وهي النموذج الصارخ لاستجابة الدعاء بما لا يتلاءم مع الشك أيضا. فلو كانت مريم مهتمة بالرجال كما تراءى بداية لأصحاب الشكوك من اليهود، لما اتخذت مكانا شرقيا في المسجد لتكون على مرأى من الناس، بل كانت تترك المسجد أو تتخذ لنفسها مكانا مظلما لا تُرى فيها.

إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا ﴿3 يكون النداء عادة بالصوت العالي المسموع فما معنى النداء الخفي؟ وما هو السر في هذا النداء الذي استعقب الاستجابة فعلا فكشف الله تعالى عنه ما كان يتألم من غيابه؟ وكيف يسمي القرآن الطلب الخفي نداء؟ أما النداء فهو يصدر ممن يرى نفسه بعيدا عن متناول المنادى فينادي بصوت يلتمس منه الوصول إلى سمع المنادى. ويكون النداء عادة بالقوة التي تسمح لبلوغ الغاية ولعله يكون غير عال إذا شعر المنادي بقرب المنادى منه. وكلما كان النداء أكثر انسجاما مع قرب المنادى، كان أكثر أدبا وأدعى للاستجابة. والنداء يمكن أن يكون نداء بالنسبة للمنادي الذي يتشوق لإيصاله إلى مسمع المنادى بالحيثية التي تناسب شخصيته وبالطريقة المحببة لنفس المنادى. فلو كان المنادى عالما بالخفيات لزم على المنادي أن يغلو في التخفيض دون الترفيع مراعاة للأدب وانسجاما مع قرب المنادى له. هناك يكون الهمسات القلبية نداء في الحقيقة أكثر من الصوت المسموع لعدم حاجة المنادى إلى ترفيع الصوت أو الاقتراب الفيزيائي منه. والخفي صيغة مبالغة من باب فعيل وذلك إشعار بتحقق ما هو مرجو من النداء ومراعاة للأدب المنسجم مع شخصية المنادى عز اسمه. وليس غريبا أن نقول بأن المطلوب من صاحب الحاجة ألا يشرك أحدا مع المنادى، ولذلك فهو لا يتجاوز حد النداء الذي لا يتجاوز سمع المنادى. ونعرف هنا بأن المنادى جل جلاله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

ومما لا شك فيه أن زكريا كان يدعو الله زمنا طويلا من عمره راجيا منه الولد ولكنه كان يجهل كيفية الدعاء. كان يجهل بأن الغلو في تخفيض الصوت هو الأدب مع الله تعالى لأن الداعي هكذا يعترف مع دعائه بأن الله تعالى واحد أحد عالم بكل الخفايا؛ والتوحيد هو أقصى ما يمكن لكل إنسان أن يقدمه حينما يحمد ويدعو ربه. وهو الأدب بعينه مع الذي يعلم السر وما هو أخفى من السر. هذه المرة ترك زكريا الدعاء باللسان وتجاهل اللغة واستعمل الهمسات القلبية. لقد تعلم زكريا كيف يتحدث بالقلب حين الحمد ففتحت الملائكة عليه أبواب الحديث وهو قائم يصلي في المحراب. لم تحُل الصلاة بينه وبين رسل ربه بل ساعدته على الابتعاد عما حوله وعمن يمكنه أن يستمع إلى ما يلفظه من بين شفتيه. فلا الحالة حالة حديث شفوي ولا المقام مقام التبادل مع البشر. لو كان أحد حاضرا صلاته لما سمع غير أذكار الصلاة المعروفة حينما كان زكريا في تجاذب للحديث مع ملائكة الله تعالى. كانت الأذكار تخرج من فمه كما يفعل كل من يصلي ولكن كان القلب معزولا تماما عن الناس مشغولا بالهمس مع الذين لا يتحدثون باللسان.

هنالك تحقق كل مستلزمات الدعاء. فالكتمان والهمس واليقين والانعزال عن الناس قد تحقق مسبوقا بفترة طويلة من الصبر الزمني في انتظار تلبية الطلب. وقد مارس الصبر في نفس اللحظة أيضا، إذ انتقل قلبه إلى عالم آخر وهو يتلو أذكار الصلاة ولا يجوز له النوم ولا عدم الاهتمام بذكر الله في اللسان وهو قائم في المحراب. ليس العمل سهلا بل هو صعب مستصعب. ذلك لأن القلب يتعب حينما نفصله عن المحيط ويستمتع حينما يتجاوب مع المحيط الفيزيائي المسيطر عليه وعلى صاحبه. وسنشرح هذه الجزئية في المستقبل بإذن الله تعالى. ولا يخفى بأن الملائكة لا يمكن أن تتجاوب هكذا مع شخص لم يدخل اليقين في قلبه أو بالأحرى لم يملك اليقينُ قلبه. فلو لم يكن على يقين وإيمان بالغيب وبالملائكة الذين أمرنا الله تعالى بالإيمان بهم، لكان التجاوب مستحيلا.

ووجه الاستحالة هو أن الملائكة قريبون منا ولكننا نشعر ببعدنا عنهم تبعا لعلاقاتنا البدنية التي تألف الأذن والعين واليد واللسان وكل ذلك غير مفيد في التحدث مع الملائكة. فلا وسيلة للارتباط بالملائكة غير القلب الذي يمكنه استلام الوحي كما يمكنه التحدث مع الموحي. فكيف يتحدث شخص بقلبه مع شخص لم يؤمن بوجوده في مضمار القلب؟ كل الأعضاء الفيزيائية عاجزة في هذا المجال والقلب الذي نتحدث عنه ليس هو الذي يمد البدن بالأوكسجين عن طريق الدم بل هو النفس غير المادي التي تمثلنا تماما.

قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴿4

 كان هذا النداء الخفي غير المحفوف بالكلمات اللغوية ولا بالأصوات التي تخرج من الحنجرة، ذلك النداء الذي انبثق من القلب غير المادي ليتعلق بعالم المجردات، نداء مفهوما يعني موضوعا دقيقا. كان الحديث النفسي والقلبي عن الأعضاء المادية التي تعني في مفهومها جزءا مشْرفا على التلف من عالم الفيزياء ولكن زكريا قد استفاد من هذه المركبات الفيزيائية للترنم بالدعاء وبالتوجه إلى ربه الذي هو محيط بعالمنا. القول هنا ليس باللسان بل هو بالهمسات القلبية وتعني في توجهها إلى الله تعالى أن زكريا قد تزود من دعائه طيلة عمره الذي صرفه في خدمة الله تعالى فقد تمتع بالدعاء ولم يشعر بالشقاء وهو يرى عظامه في وهن ورأسه يشتعل شيبا بعد ما كان مفعما بالشباب لكن هناك مسألة تزعجه وهي ما يوضحه الحكيم الخبير لنا في الآية التالية. إن زكريا يستمتع بالدعاء والسر في توجهه الخاص بالشروط الصحيحة اليوم مع أنه قد فارق عمر الشباب وأصبح ينتظر الموت هو أنه يخشى الموالي من ورائه كما سنعرف بعد قليل. إن زكريا على علم بأنه يشد في الإلحاح على ذي الجلال والإكرام ويريد أن يُشَرِّع عمله بأنه يشعر بالضرورة الملحة في مطلبه وليس ما يقوله من باب العتاب أو الشكوى بل هو بحاجة فعلا.

ليس سهلا أن نتعرف على نفسية إنسان محتاج لا يشعر بأية حاجة إلى غير الله تعالى ولا يطلب من أحد غيره سبحانه شيئا. إنه على أعلى درجات اليقين بالله وبأنه سبحانه يسمعه ولن يرده فلا يرى مناصا من أن يتكلم مع ربه في حاجته دون أن يُخفي ضعفه الطبيعي الذي أوصلته إليه الطبيعة ُالتي جفَته ولم تساعده. إنه معترف على بدنه بالضعف وبعدم صلاحيته للإنجاب ولكنه على يقين من ربه وبأنه لم يفتأ يطلب منه سبحانه نفس الطلب حينما كان شابا ولم يكن أبدا شاعرا بالشقاء حينما كان يدعو ربه. نعرف من هنا أن زكريا لم يكن جاهلا بكل مقومات الاستجابة بل ببعضها، ولعلها الهمس بدل التجاهر بالدعاء لا غيره. فالاعتراف بعدم الشقاء وهو بمعنى التعب والعنت تعني تثبت اليقين في قلب زكريا وعدم تعرضه للشك طيلة عمره. وسنعرف المزيد من معاني الشقاء في هذه السورة عند تفسير الآية 48 منها. وذكر وهن عظمه وشيبة رأسه من باب المبالغة في المناجاة مع ربه وليس من باب الإخبار. فكأنه عليه السلام يقول: رب دعوتك على يقين حتى وهن العظم وابيض مني الشعر ولكني ما فقدت اليقين بل كنت وسأبقى ملحا عليك راجيا كرمك غير يائس من رحمة الرحمن الرحيم سبحانه وتعالى. إن الشيبة والضعف ليسا عائقين أمام الله تعالى لتقدير الإنجاب لكنهما يُعيقان الناس ضمن قواعد الطبيعة أو العادة الطبيعية. ونقول العادة الطبيعية لنفصل بينها وبين الغريزة الطبيعية حيث أنه سبحانه لا يخالف قوانين الطبيعة أيضا لأنها واقعة في نطاق الإمكان وأما ما دون الإمكان فهي ليست قوانين طبيعية أو مستحيلة كما سنعرف مستقبلا.

وجملة وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا، هي من أبلغ ما قيل في هذا المعنى عربيا أو هي أبلغها على الإطلاق. ذلك لأني لم أجد أحدا يذكر لنا ما يشابهها عند تفسيرهم لهذه الآية. وقد ذكر المفسرون رحمهم الله تعالى دلائلها البلاغية وهم أبلغ مني دون شك. ولعلي أضيف إلى ما ذكروه من معاني بأن تصلب العظام يتم خارج الرحم وعند حصوله يتمكن الطفل من الاعتماد على نفسه في الجلوس والوقوف ثم المشي شيئا فشيئا. والذي يقوي البشر على التغلب على وزنه ليس هو العظم بل العضلة أو العضلات والأعصاب. فبعد انتهاء زمن القوة البدنية تضعف العضلات وتهن الأعصاب وتقل المقاومة قبل أن تبدأ العظام بالتآكل. حينذاك يمكن للمرء أن ينشط عضلاته بتكثير الحركة البدنية واستعادة بعض النشاط، فإذا ما بدأ العظم بالوهن تظهر بوادر ألم العظام فتتقلص القدرة الرياضية لدى المرء نتيجة الألم ومع تناقص تحريك العضلات أو ما يُعرف باستعمال العضلات يضعف الإنسان ويستعد للمراحل النهائية من الحياة الدنيا. فوهن العظم دليل قوي على تقلص الحركة ومع تقلص الحركة تصغر حجم العضلات شيئا فشيئا. فقول زكريا: وهن العظم مني يعني به أن جنس العظم وهن منه فأوهن بقية قدراته وهو صادق وصحيح علميا.

وأما اشتعال الرأس شيبا وهو علامة أخرى من علامات الضعف العام وغير مرتبط بضعف العظام بل مرتبط بضعف الملانين التي تفرزها خلايا الجلد، فتقلص الملانين دليل على وهن الخلايا وهي مقوم آخر من مقومات الحياة والقوة البدنية. ولا شك أن وهن العظم وظهور الشيب دليلان على تقلص تكاثر الخلايا وهي تؤثر سلبيا في تشكل الحوامن بل وفي تشكل وتركب النطفة البدنية المعروفة. والتعبير باشتعال الرأس شيبا كناية عن انتشار البياض في الشعر وليس مجرد ظهوره فالاشتعال أو الاتقاد تعني انتشار النار وليس ضوؤها كما تصوره بعض المفسرين رحمهم الله تعالى، على أن البعض الآخر انتبه لمعنى الانتشار رضي الله عنهم جميعا وعني. إن انتشار البياض في الشعر نذير من نذر الشيخوخة وموت كل مقومات القدرة الجنسية لدى الرجال. ومما لا شك فيه أن هذه التعابير الجميلة الموحية فوق قدرة زكريا بل خاصة بالقرآن الكريم جل جلال مُنزله العظيم خالق السماوات والأرض. ونسبة الاشتعال إلى الرأس تدل على الاهتمام والاستعداد لتجميع القدرات ولكن تمييزها بالشيب تقلب المعنى رأسا على عقب. فحينما يسترسل في مناجاته مع ربه بقوله: ولم أكن بدعائك رب شقيا، فإنه يؤكد استمراره في الدعاء منذ وقت طويل يمتد إلى الصبا وعزة الشباب احتمالا كما أنه يؤكد عدم تأثره بعجزه البدني ليكفه عن الدعاء أو يوهن عزمه في الطلب من ربه القوي العزيز.

ذلك لأن الواو في ولم أكن بدعائك يفيد الحال كما أن لم أكن يفيد الماضي وبما أنه لا يكتفي به بل يعقبه بقوله: فهب لي، فإنه يقصد الاستمرار، كما أن عرضه لحالته الشخصية قبل وبعد هذه الجملة يدل على صلابة عزيمته. ثم إن نفس قوله الهامس لرب العالمين بأنه لم يشقَ في دعائه بل اتبع كل شروط الدعاء ولا زال يدعو ويتابع، يوضح شدة يقينه بأن الله تعالى ليس فقط يسمع بل يستجيب إن شاء أيضا. وحتى يحرك مشيئة الله تعالى تجاهه فإنه عليه السلام لا يقطع الارتباط القلبي بل يطيله مع الله ليستمتع بالمناجاة وليمنح نفسه الثقة والحرارة حتى لا تهن بل تساعده ليسعى في الطلب فإن الذي يدعوه قادر فعلا على أن يستجيب له حتى ولو ازداد هو وهنا على وهن. وبعد أن ينتهي زكريا من عرض ضعفه وما آلت إليه صحته العمومية فإنه يذكر السبب المنطقي المقبول برأيه هو لتبرير طلب مثل هذا. حاله حال من يتحدث مع صديق مؤمن رؤوف له فيقول له: يا أخي ليس لي مال أعدك به حتى تقرضني فإن الفقر قد قضى على كل رأس مالي وأنا بحاجة إلى ما يعينني على دفع نفقات العلاج الباهضة فما رأيك؟ إن الذي يعترف بالفقر أمام الإنسان الغني فهو يشجعه على التقليل من العطاء. إنه معترف بعدم وجود أمل كبير في وجوده ولكن الحال مختلف تماما حينما يذهب العبد المحتاج إلى سيد الوجود ورب الكون العظيم. لنستمر في الإصغاء إلى همسات زكريا مع ربه:

وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا ﴿5 يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴿6 ومما يزيدنا إعجابا بالنبي المؤمن زكريا هو صلابة يقينه بربه الذي لم يمنعه من مواصلة الدعاء إلى الجبار العظيم واستمرار مناجاته للذات القدسية جل جلاله. يقول النبي مؤكدا خوفه بكلمة وإني، وهي ليست قولا يصدر من بين شفتيه بل همسة قلبية كما قلنا ولكنه بالهمس يسعى لتأكيد خوفه من الموالي. وأما الدعاء المستمر بما مضى من الخوف في قوله: خفت، فإنها لا تعني الخوف فيما مضى بل تعني التأكيد في أن خوفه السابق باق في حاله ولم يتغير. والسؤال هنا هو أن الذي يعرف حديث القلب سبحانه وتعالى، لا يحتاج إلى أن نذكره بمخاوفنا من بعد الموت فهو أعلم بذلك، فما معنى مقولة زكريا مع ربه إذن؟

نحن في الواقع، نناجي ربنا بطلباتنا وحوائجنا وكأننا نطلب شيئا من آبائنا أو أهلينا. هذا هو أمر الله تعالى نفسه كما يقول في سورة البقرة: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴿200.

هكذا نطلب من ربنا بغض النظر عن علمه سبحانه بكل ما نحتاج إليه. لو لم نقل شيئا فهو يعلم حاجتنا ولكننا علينا بأن نطلب منه والطلب عادة يتم بذكر الحاجة مقرونة بالسبب. ثم إن ما يوضحه لنا الكريم المتعالي في هذه السورة ليست بالضرورة تفسيرا لما اختلج في نفس زكريا من دعاء، بل هو إفشاء لما يدور في خلد زكريا من أسباب لطلبه، لأن الله تعالى يعلم السر وما هو أخفى من السر. إنه سبحانه وحينما يبين أمرا فإنه تعالى يوضح كل خلفياته وخفياته ليضعنا أمام الحقيقة كاملة دون أن يفرط في شيء منها. وخلجات القلب تتوالى قوة وضعفا حينما يخاطب المرء نفسه أو يخاطب الذي يعلم خطاب الهمس وهو ربه سبحانه. فحينما يتوجه الشخص إلى الله سبحانه بدعاء ما فإن كل خلفيات تلك الدعاء تفرض نفسها على خيال الذي يقوم بالدعاء القلبي. ولو أن امرءا سعى لإبعاد أشباح التعليلات الذهنية التي تمر بخاطر الإنسان فإنه سوف لا يكون قادرا على إبعاد ذلك من أمام رب العالمين. هذه المسائل تمر في الخيال ولكن الله تعالى يظهرها بكل دقة إن شاء أن يُظهرها.

وهذا التعليل القلبي الذي يمر به المرء حينما يخاطب سيد الكون والوجود مفيد جدا لتطمين الإنسان نفسه بأن دعاءه صحيح وهو من حقه أن يطلب مثل هذا الطلب. وفي حكاية زكريا، فإنه وحينما يمر سنوات على امتثاله لأمر الله سبحانه في قوله الكريم: ادعوني أستجب لكم، وهو أمر واضح للعقلاء بأن لا يعيش المحتاج مع عوزه دون أن يدعو ربه الكريم الرحيم؛ ومع يقينه بأن ربه أرحم من أن يرد دعاءه؛ فعليه بأن يذكر نفسه بصحة فعله. إنه يخاف من أن يستغل الشيطان الرجيم الفرصة ليأتي بمعاني اليأس من رحمة الله في قلبٍ لم يواطن غير الرحمة وغير الكرم من رب غفور رحيم ودود. فقوله هذا في أعماق نفسه بمثابة سهم في قلب الشيطان بأني طلبت من ربي ما هو من حقي فليس في عملي خطأ وإن لم يشأ الله سبحانه أن يلبي التماسي منه فهو شأنه الربوبي ولكني لن أفتر من الطلب مهما بلغ بي وبأهلي ما يُعيق استجابة هذا الدعاء. ذلك الدعاء الذي كان معقولا في شباب زكريا ولكنه وكلما يمر عليهما سني العمر الأخيرة، يعود صعبا في نظر الإنسان ولكنه يطلب من الذي لا يصعب عليه شيء في السماوات ولا في الأرض جل جلاله. ولو أردنا أن نبوب ونصنف حلقات القلب فهناك حلقة بارزة هي ما نخاطب به ربنا ويتلوه في الأعماق حلقات أخرى نحتفظ بها كدليل على صحة أقوالنا وأفعالنا ولا سيما إذا كنا في مقام الذل العبودي الطالب من السيادة الربوبية ما الطالب حريص عليه ومحتاج فعلا إليه وتائق له توقا لا مفر منه.

هذه الحلقات الخلفية التي ننسجها ونرسمها لأنفسنا حينما نبدأ بالخطاب ولكننا ننساها شيئا فشيئا، ونحتاج إلى أن نتذكرها أحيانا ونمضي الوقت نفكر لنتذكر لماذا كنا نطلب ذلك من ربنا طوال السنين التي مضت. ولعل زكريا كان يسعى أن يحتفظ بها دائما حتى لا يُصاب بزجر النفس ولوم الوجدان. ولذلك يقول في نفسه: خفت الموالي بلفظ الماضي لا بلفظ الحال. وهو جميل جدا أن تقول لربك بأنك لا زلت تعرف لماذا طلبت ذلك منه سبحانه، ولا زلت تشعر بالرغبة لتحقيق ذلك الهدف الخلفي الذي يعلل مثل هذا الطلب ولو أنه في حد ذاته مطلوب لكل إنسان يشعر بصورة طبيعية بالحاجة إلى رؤية النسل ونسل النسل. وهناك توفيق جميل لما أتى به الله تعالى في استجابة دعاء زكريا في سن الشيخوخة، هو وراء وخلف ما سنعرفه من ضرورة وقوع هذا الحدث في ذلك الزمان ليكون مقدمة لقدوم معجزة كبرى هي وليد مريم دون أب ودون ارتباط جنسي مع أي ذكر. ذلك التوفيق هو أن الله تعالى لا يريد لابن زكريا أن يكون أبا لآخرين فلو أتى به الله تعالى قبل شيخوخة أبويه لكان الباب مفتوحا لهما للبحث عن علة أخرى تسوغ لهما طلب الأحفاد.

أحمد المُهري

#تطوير_الفقه_الاسلامي

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.