النبي المعلوم – الرد على منشور حسين الوادعي

بسم الله الرحمن الرحيم

ليس لدي أي مانع يحول دون أن أدرس حياة الرسول الأمين بكل دقة وشفافية ولست متعصبا لأحد عدا تعصبي الشديد للحقيقة. فأنا أريد الحقيقة أينما كانت ولذلك فأنا لا أرفض مقالة الأخ الوادعي ولا الكتب التي ذكرها ورشحها لنا لنطلع عليها. بالطبع أنني اطلعت على كتاب المرحوم الرصافي وقرأت الكثير منه ولكن لم يعجبني الكتاب لأنه غير مسند لا إلى القرآن ولا إلى العلم. وكذلك اطلعت بعض الشيء على كتاب المرحوم المحامي خليل عبد الكريم. أما الشخص الثالث فلم أطلع على كتبه. الأخوان الذين كتبا عن رسول الله لا يمكن أن يمثلا حقيقة تاريخ الرسول إذ أن الكتابين فعلا غير مسندين إلى مؤرخين أرخوا الواقع لحظة وقوعها لنقارن بينهم فنميز بين المنصف وغيره والذي يذكر كامل القصة أو الذي يذكر الجوانب التي تساعد رأيه في الرسول عليه السلام.

والواقع أننا لا يمكننا أبدا أن ندرس حياة الرسول من واقع كتب كتبت أيام الخلافة العباسية التي كانت تتدخل في كل الشؤون سعيا لتوثيق الحكم العباسي وحقه الشرعي في الملك. كما أننا نرى الكتاب الجدد غالبا ما يتحدثون عن محمد بن عبد الله عليه السلام من واقع قرشيته وسعيه لتثبيت الملك في قريش ولكن من سلالة هاشم وليس من سلالة أخيه عبد شمس. فلو تمكنوا من إخراج الملك من سلالة عبد شمس فقد اقتربوا من تثبيت الحكم في بني العباس باعتبار أن العباس كان عم الرسول وكان حيا بعد وفاة ابن أخيه. تاريخ مسخ كتب على هذا الأساس وبعد أكثر من قرن من وفاة الرسول فلا يمكن أن نعتد به إلا إذا تجاوزنا حدود الإنصاف واتبعنا شهواتنا في تثبيت ما نريد لمن نريد.

وأما القرآن الكريم فلا نجد فيه أية إشارة إلى سعي رسول الله عليه السلام لتثبيت قريش أو بني هاشم أو أي عنصر آخر من العناصر العربية لقيادة المسلمين. فمما لا شك فيه قرآنيا بأن الرسول عليه السلام مات دون أن يوصي لأحد لأنه لم يكن ملكا بل كان حاكما معينا من قبل الناس فترة إقامته في يثرب. إن شأنه المهم المرتبط بالله تعالى هو الرسالة السماوية التي انتهت وكملت قبل وفاته عليه السلام ولا شيء غيره. ولذلك فأي بحث تاريخي حول إنسان بقامة محمد بن عبد الله عليه السلام؛ ذلك الرجل المرتبط بوحي السماء؛ لهو بحث عقيم وظالم وفاقد لأية قيمة علمية أو تاريخية.

فالرسول الأمين في القرآن ليس إلا بشرا رسولا. ليس الرسول ملكا ولا حاكما سماويا ولا نجد آية قرآنية تعينه ملكا على الناس. قال تعالى في سورة الكهف: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110). فهو عليه السلام بشر مثلنا وقد أوحى الله تعالى إليه أن يبلغ جدودنا ويخلف القرآن الكريم الموحى إليه لنا نحن بأن إلهنا واحد فعلى من آمن بلقاء ربه أن يعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا. فمحمد عليه السلام ليس سيدا علينا ولا على من سبقه من الأنبياء وليس سيدا على الخلق ولا على أولاد آدم. كل ذلك كلام بشري لا أساس له في القرآن الكريم. والمضحك أن الذين ذكروا ذلك لم يكونوا ليعرفوا معنى السيد في اللغة العربية. السيد يعني الذي يسود الناس ويؤمهم ويوجههم ويحميهم ويقضي بينهم. فهل الرسول اليوم يوجهنا أو يحمينا أو يحكم بيننا؟

لم يثبت في القرآن أي فضل لرسولنا على من سبقه من الرسل بل هناك احتمال العكس. قال تعالى في سورة النحل: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123). فإبراهيم عليه السلام هو المتبوع ورسولنا عليه السلام هو التابع لإبراهيم. فهل يجوز لنا القول بأن التابع أفضل من المتبوع بدون بينة؟

وأما قولهم بأن رسولنا رحمة للعالمين فإنهم فعلا لم يفكروا بل اتبع الخلف السلف دون تفكير. كيف يمكن أن يكون رسولنا رحمة لإبراهيم أو رحمة للملائكة أو رحمة لمن يعيش في الكرات الأخرى من هذا الكون المهيب؟ مشكلة الإخوة المفسرين أنهم لم يحققوا في معنى العالمين. ظنوا بأن العالمين يعني ما سوى الله تعالى وهو خطأ جسيم.

قال تعالى في سورة آل عمران: وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ (42). فهل تعني الآية بأن الله تعالى اصطفى مريم عليها السلام على كل نساء الكون؟ هناك نساء جئن بعدها وهناك نساء كن ميتات حينما كانت السيدة حية. ما معنى أن يصطفيها الله تعالى على الموتى أو على من لم تأت بعد؟ والواقع أنه سبحانه اصطفاها على من عاشت معها في زمانها ومكانها أو اصطفاها على نساء الأرض الموجودات في ذلك اليوم لو توسعنا في المعنى. كلمة العالَم تعني ما يُعلم به. فالعالَم بالنسبة لله تعالى تعني كل الوجود لأنه سبحانه معني عند كل الكائنات والعالمون جمع ضروري حتى يرتفع شبهة المفرد في الجملة برأيي المتواضع. فالله تعالى رب العالمين يعني رب كل الممكنات ولكن مريم مصطفاة على من تُعرف مريم بهن وهن النساء المعروفات في منطقة وزمان حياة مريم فقط أو كل زمانها.

وهكذا فإن نبينا عليه السلام لا يمكن أن يكون رحمة لكل الممكنات فهو ميت الآن فكيف يكون رحمة لنا كما هو لم يكن قبل ميلاده فكيف كان رحمة لمن قبله؟ والآية في الواقع لا تتحدث عنه عليه السلام بل تتحدث عن الله تعالى. لننظر إلى آية مشابهة لها في القرآن. قال تعالى في سورة يونس مخاطبا فرعون: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92). فهل فرعون هو آية الله تعالى أم أن ما فعله ربنا فيه بأن نجى بدنه الميت ليُحنط ويوضع في أهرامات مصر هو آية لله تعالى؟

إن إرسال بشر من أهل مكة لأهل مكة رحمة لهم ولكل من سمع عنه وليس ذلك البشر نفسه. إن الله تعالى هو الرحيم لكل الناس وليس رسولنا عليه السلام رحيما بالعالمين. إنه عليه السلام رحيم بالذين آمنوا به فقط لأنه معهم يساعدهم ويهتم بهم وليس بغيرهم. قال تعالى في سورة التوبة: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128). فهو عليه السلام رؤوف بالمؤمنين من صحابته وليس رؤوفا رحيما بالمشركين. إنه عزيز عليه عنت المشركين وحريص عليهم فقط. لكن الله تعالى رحيم بالمشركين والمؤمنين وكل البشرية في كل أرجاء الكون المهيب.

وأما شططهم الكبير في رسولنا بأن حلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة فهو كلام مضحك لا أساس له في القرآن إطلاقا. ليس رسولنا عليه السلام مشرعا ولم يسمح له ربه بأن يفتي فتوى ملزما لأحد. قال تعالى في سورة النساء في الآيتين 127 و167: يستفتونك؛ ثم يأمره ربه سبحانه بأن يقول لهم: قل الله يفتيكم. أليس معنى ذلك بأنه عليه السلام ليس مشرعا والتشريع خاص بالله تعالى؟ وأما قولهم الساذج بأن الأحاديث قد تنسخ حكم الله تعالى فهو كلام إنسان لم يفكر ولم يعرف حدود البشر. إنهم ينسبون النسخ في آيات القرآن ولكن الأحاديث باقية وقد تنسخ القرآن. معاذ الله. لو كان القرآن عاجزا عن أن يأتي بأحكام يبقى لمدة 23 عاما فقط فكيف يمكنه أن يساعدنا نحن بعد 14 قرنا؟ لا توجد آية منسوخة في القرآن وآية النسخ تتحدث عن نسخ حكم واحد في التوراة بأمر الله تعالى باعتبار أن ذلك الحكم لم يكن تشريعا وإنما عقابا لما فعله بنو إسرائيل. ليس لأحد في الكون أي حق بأن يغير أي مفهوم تشريعي أو غير تشريعي من القرآن العظيم. قال تعالى في سورة البقرة: مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (107). فقد نسخ الله تعالى آية من التوراة وليس من القرآن الكريم. قال تعالى في سورة الأنعام: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ (146).

وأما مسألة علاقة الرسول عليه السلام بورقة بن نوفل وبالمسيحية عامة؛ فاسمحوا لي بالتساؤل التالي: نحن نعلم بأن الإسلام كدين عام لم يظهر إلا بعد أن عاش محمد عليه السلام أربعين سنة بين قومه. كانت الديانة التي جاء بها المسيح عليه السلام هي دين الله تعالى. ونعلم بأن هناك أناس يدينون بدين المسيح في مكة. فهل يُعقل أن يترك ربنا الذين يدينون بدينه ويأتي بمشرك ليمنحه الرسالة؟ ولذلك فإن رسولنا دون شك كان مؤمنا بالمسيح وعاملا بالتوراة كما صرح عليه السلام بذلك في القرآن. قال تعالى في سورة القصص: فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (49). تعني الآيتان الكريمتان بأن رسولنا كان مطلعا على التوراة والقرآن وعاملا بهما. فهو إذن لم يكن مشركا. كما أننا من الصعب أن نقول بأن خديجة لم تكن مسيحية في حين أن ابن عمها قس من قساوسة النصارى. المسيحيون الأصليون لم يكونوا ليتزوجوا مع المشركين. فما كان لخديجة أن تتزوج بمحمد عليه السلام إلا أن يكون محمد من دينها.

وأما الذي يقولون جهلا بأن رسولنا كان على دين إبراهيم فإن الله تعالى حينما ينزل كتابا فهو يفرضه على كل من يؤمن بالله سبحانه. لا يجوز لأحد أن يبقى على دين سابق حينما ينزل ذكر محدث من الله جل جلاله. لو كان ذلك صحيحا فلماذا يلوم الله تعالى كل أهل الكتاب الذين رفضوا رسالة القرآن؟  وعلى هذه المباني أقول لأخينا الكريم الوادعي:

نحن المسؤولون عن مركز تطوير الفقه الإسلامي لا نقدس أحدا غير الله تعالى ومن قدسه سبحانه في القرآن والله لم يقدس رسله البشريين. نحن لا نقدس كتابا غير القرآن الكريم والتوراة الأصلية لو وجدت. نحن نعتبر كل الكتب التي كتبت بعد رسول الله أعمالا بشرية لا يجوز لنا العمل بها ولا يجوز لنا تفضيلها على القرآن ولا على ما يحكم به عقولنا التي منحنا الله تعالى إياها لنتعرف بها على الحقائق ونطلب بها رضوان ربنا. نحن نفكر ولا نقلد أحدا. نحن نحب رسولنا وكل الرسل عليهم السلام لأنهم رسل ربنا وليس أي منهم سيدا علينا لأنهم جميعا ميتون ولا يمكن للميت أن يسود الحي. نحن نؤمن بأن الله تعالى يطور عبيده ويطور علم عبيده فلو قلنا بأن إنسانا عاش قبلنا يمكنه أن يكون أعلم منا فنحن نعني بذلك أن الله تعالى لم يطورنا وهو محال. ونحن نرى بأم عيوننا التقدم التقني الحديث والتي لم يكن ليعلم بها أي من الرسل الكرام.

ونحن نحترم كل الأفكار وكل الآراء ولكننا لا نلتزم بها إلا ما تقبلتها عقولنا ما لم تكن مخالفة لنصوص الكتاب المقدس الوحيد عندنا. نحن نعتقد بأن كل النصوص غير مقدسة وليس بيدنا نص مقدس عدا القرآن الكريم. ولذلك فكل قصص الرسول نعتبرها صحيحة إذا كانت مذكورة في القرآن كما نعتبرها كلها مشكوكة إن لم نر لها أثرا في الكتاب الكريم. كما أننا لا نعتبر أي تفسير ولو كان منسوبا إلى كل البشرية غير مقدس. فلدينا نص مقدس واحد وليس لدينا تفسير مقدس لذلك النص.

والسلام ختام

أحمد المُهري

21/11/2018

تابع #تطويرالفقهالاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.