المحاسبات النهائية

بسم الله الرحمن الرحيم

المحاسبات النهائية

لقد سبقنا سلفنا رحمهم الله تعالى ببعض التحقيقات الناقصة التي أسعفوها بما أسموها أحاديث الرسول فأغلقوا الأبواب على خلفهم المحبين لله تعالى ولرسله. فما إن تفوه أحد بما يراه من إشكال أو تناقض بين القرآن وما دونه فإن سيل التهم كافية لإسكاته. ولعل هذه الحالة الشاذة هي أحد أسباب تأخرنا عن الركب الحضاري الصاعد بتقدير الرحمن عز اسمه. ولكن من حسن حظنا نحن اليوم بأن القدوس جل جلاله هيأ لنا وسائل النشر الرخيصة كما فتح أذهان أمتنا أو بعضهم ليستمعوا القول فيتبعوا أحسنه.

ومن الأخطاء الشائعة هو موضوع ثواب الأعمال وأجور العاملين وكذلك عقاب المعاندين. فلو أنه سبحانه حكم علينا باعتبار مقدار أعمالنا فإن ذلك الأجر سوف ينتهي يوما ما على أن الحياة الأخروية لن تنتهي أبدا، فأين يأخذ الله تعالى عبيده الذين عملوا بعد انتهاء أجورهم؟ في هذه الحالة سنجد هناك شكاوى صحيحة من أطيب الطيبين. فمثلا سوف يقول رسولنا عليه السلام بأن حياته كانت قصيرة جدا ولذلك لم يتمكن من جمع مقدار أكبر من الأجر والثواب. هذا إشكال صحيح على تقديرات العليم الحكيم جل شأنه. طبعا حاشاه سبحانه من تلك التقديرات البائسة.

هذه المقدمة البسيطة ترشدنا إلى حلقة مفقودة بين فهمنا للقرآن الكريم وبين القرآن نفسه. وحتى نكون أكثر اهتماما بالحقيقة فإنني أذكر حديثا منتشرا بين المسلمين وأعقبه بمثال يوضح زيف ذلك الحديث. يدعون بأن رسولنا عليه السلام قال: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.  انتهى النقل.

وأما المثال. لنفرض بأن أحمدا ومحمودا كانا صديقين متشابهين في المال والإمكانات وفي الإيمان. قام كل منهما ببناء مسجد محكم بقصد أن يبقى فترة طويلة يصلي فيها المؤمنون. بنيا المسجدين ومات المؤمنان الصالحان. جاء السيل الجارف وقضى كلية على مسجد أحمد وبقي مسجد محمود عامرا. لم يصل أحد في مسجد أحمد ولكن المؤمنين صلوا قرونا في مسجد محمود. جاء يوم القيامة ولنفرض بأنه سبحانه بناء على وحي الحديث قدر ألف حسنة لبناء المسجد وحسنة واحدة لمن بنى المسجد مقابل كل صلاة يصلي فيه أفراد المؤمنين حتى يوم القيامة. ولنفرض بأن مسجد محمود بقي 300 عاما ودخلها خمسون من المصلين كل يوم بالمعدل. فستكون نتيجة المحاسبات كالتالي:

أحمد: 1000 حسنة فقط

محمود: 1000 حسنة للبناء + 5475000 = 5476000 حسنة على أساس حسنة واحدة لكل صلاة من الصلوات الخمس اليومية لمن صلوا في مسجده. وقد تجاهلتُ الصلوات المستحبة وكذلك صلوات الأعياد والجمع التي يكثر فيها المصلون أضعاف الصلوات اليومية.

ليس لأحمد أي ذنب وليس لمحمود أية مزية من حيث العمل على أحمد. وليست المحاسبة عادلة بالطبع.

ثم نأتي للسيئات ونعمل مقارنة بين شخصين مجرمين مع بقية المجرمين. جنكيز خان المغولي مجرم سفاك وهتلر مجرم سفاك لدماء الأبرياء. وهناك سفاكون آخرون مثلهما ولكن الأولين وصلا للسلطة وأسرفا في القتل والتشريد والسبي وكل السيئات لكن الآخرين الذين هم مثلهم في الإجرام لم يتوفقوا للقيام بكل ما ينوونها من جرائم. نحن بكل سهولة يمكننا أن نتعرف على الكثير منهم حينما نفكر في أقوالهم وفي بعض أعمالهم البسيطة. هناك الكثير منا نحن المسلمين يظنون بأن الطلاق مثلا بيد الرجل فتراهم بعد فترة قصيرة يتركون زوجاتهم ولا يدفعون لهم النفقات ولا يعاشرونهن ولا يطلقونهن. بالطبع أن تشريعنا ليس قرآنيا ولا علاقة لها بالرحمن الذي لا يفرق بين إنسان وإنسان. لكن أولئك الرجال الذين ظلموا أقرب الناس إليهم مجرمون فاسدون لم يتسن لهم المزيد ليظلموا ويفسقوا ويقتلوا ويأتوا بكل جريمة. وهناك بينهم من هو مثل هتلر وجنكيز خان من حيث الاستعداد النفسي للإجرام. فهل من العدل أن يعذب الله هيتلر وجنكيز خان ويهمل بقية المجرمين لأنهم لم يجرموا لعدم توفر الفرصة للإجرام لديهم. سوف يأتي هيتلر وجنكيز خان بعد صدور الحكم عليهما ويعترضا على ربهما بأنه سبحانه لم يعط فرصة مشابهة لما منحهما لبقية المجرمين النفسيين ولا حجة لله تعالى يومئذ عليهما. معاذ الله.

فإذن هذا الحديث يمثل فرية على الرسول الصادق الأمين. على أنه ينطوي على غيب والرسل لا يعلمون الغيب فأنى لأي منهم أن يقول ذلك؟ إنهم رسل يبلغون رسالات الله تعالى. وليست رسالة رسولنا وحيا خاصا به بل هي وحي قرآني عام له ولصحابته ولنا جميعا. ولذلك صانه الله تعالى ولم يصن شيئا باسم أحاديث الرسول كما أن الرسول لم يأمر بكتابة أحاديثه وهناك من يقول بأن الرسول عليه السلام منع من كتابة الأحاديث وبأن أبابكر رضي الله عنه أحرق الأحاديث الخمسمائة التي كتبها لنفسه حينما شعر بدنو الأجل حتى لا تزاحم كتاب الله تعالى.

وأما الآية التالية من سورة يس والتي يستنجد بها بعض الإخوة الطيبين سلفا وخلفا لإثبات صحة الحديث فلنتلها أولا: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12). لم يقل ربنا وآثار أعمالهم بل قال وآثارهم. آثار المرء مغاير لآثار أعماله. وما من شك بأن ما قدموا أيضا مغاير لآثارهم ولذلك عطف السميع العليم آثارهم على ما قدموا. ظن الكثيرون بأن آثارهم تعني آثار الخير وآثار الشر التي كانوا هم السبب في إيجادها. ومما لا شك فيه من المثالين المقدمين بأن ذلك مخالف للعدالة فلا يمكن أن يأتي الله تعالى بعمل غير عادل. إذن نحتاج إلى أن نعرف معنى آثارهم من القرآن الكريم الذي يفسر بعضه بعضا.

قال تعالى في سورة المائدة: وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (46). الضمير في آثارهم يعود إلى الذين عملوا بدين موسى المذكورين في الآيات السابقة. ولقد مضى فترة طويلة نسبيا تطور فيها الناس كثيرا وكان هناك حاجة لتطوير التوراة بما يتناسب مع شأنهم الحادث. ذلك الشأن تابع لآثارهم في اتباع الكتاب والرسل المرسلين بعد موسى عليهم جميعا السلام. إنهم حافظوا على جوهر دين الله تعالى المنزل على موسى فهم إذن يستحقون استقبال الرسول الجديد باعتبار آثارهم. لا توجد جزاء ولا مكافأة ولكن هناك ضرورة لإجراء بعض التعديلات الضرورية التي تناسب التطور العام للبشر وكان ذلك القوم باعتبار آثارهم العملية مستحقين لاستقبال ذلك الرسول العظيم عيسى عليه السلام.

وقال سبحانه في سورة الكهف: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6). هم النصارى ورسولنا الأمين عليه السلام كان متألما مما ظهر منهم من رفض لرسالة السماء ورفض لكتاب السماء وبالنتيجة كتبوا وخطبوا ضد القرآن سعيا منهم لإحباط رسالة الله تعالى فتلك هي آثارهم. كلتا الآيتين تتحدثان عن مسائل وآثار دنيوية لا علاقة لها بالجزاء الأخروي. ثم نأتي إلى سورة يس. واضح بأن الآية 12 تتحدث عن الآخرة بعد إحياء الموتى. فهو سبحانه كتب ما قدموا من أعمال سواء كانت عبادات أو أعمال خيرية أو غير خيرية أخرى. وأما الآثار فهي تعني أمرا آخر.

نحن بالإضافة إلى ما نقوم به من أعمال فإننا أحيانا نوصي أولادنا ليعملوا مثلنا. وبعضنا الآخر يكتب ويدون آثاره العلمية ليستفيد منها مجموعة كبيرة من الناس أو ليُظهر بالكتاب علمه وقدرته على التحقيق والتأليف والإنجاز. هذه الآثار أعمال نأتي بها سواء فيها نصائحنا لأولادنا التي تمثل عملا نقوم به أو ما نؤلفه من كتب فإن التأليف يدل على قدرتنا على سرد المواضيع العلمية بأسلوب تعليمي أو تحقيقي يفيد المتعلمين أو يفيد المحققين أو الذين يحبون المزيد من العلم والمعرفة. وليست الآثار مقتصرة على ما يخلفه الشخص من علوم ومعارف بل هي أعم فتشمل الآثار الفنية والصناعية والزراعية وغيرها من الآثار العلمية والمعرفية التي يمكن أن يستفيد منها الناس جميعا. كما أن هناك آثارا يضر الناس ويفسد أخلاقهم ويهز عقائدهم.

تلك الآثار التي تبقى فإنها مسؤولية الفاعل بقدر ما يمكن أن تؤثر في الناس سلبا أو إيجابا بالقوة لا بالفعل. فلو قلنا بأنها مؤثرة بالفعل فسنرى المؤمنين الطيبين مثل الرسل سوف يشعرون بأنهم ظُلِموا بأعمارهم التي لم تكن كافية لعمل المزيد. كما سنرى الفاسقين يشعرون بالغبن لأنهم لم يعلموا بأن آثارهم سوف تدمر العالم وتدخله في الحرب العالمية مثلا. فكيف يجوز للرحمن العادل والرحيم في نفس الوقت أن يعاقبهم على أعمال لم يأتوا بها؟ بالطبع لو نووا حين ترك الآثار أن تتولى آثارهم أهدافا سيئة كبيرة فهم مسؤولون بقدر نواياهم لا أكثر.

وأما حقيقة الأمر فإن المحاسبات النهائية التي تعين مكان المرء الأبدي في اليوم الآخر لا يمكن أن ترتبط بالأعمال بل هي مرتبطة بالنفوس السعيدة والشقية. لكن الأعمال قد تكون دليلا كاملا أو ناقصا لصحة تبويب الملائكة للناس يوم الحساب في زمر مؤمنة وأخرى فاسقة. قال تعالى في سورة هود: يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108). السعادة والشقاء صفتان تلازمان الإنسان باعتبار فكره وعقيدته وإيمانه وخلوص نواياه واستعداده للعمل وللتضحية في سبيل أهدافه أو العكس. سيبقى إبراهيم عليه السلام إنسانا مؤمنا طيبا صالحا ولو عاش مليون سنة أو الأبدية وهكذا ابنه محمد عليه السلام؛ وسيبقى هتلر وجنكيز خان فاسدين فاسقين ظالمين ولو عاشا مليون سنة أو عاشا الأبدية.

فالمعايير يوم القيامة هي درجات التضحية وأنواعها وأنواع الأعمال التي يأتي بها كل مؤمن أو درجات الإسراف وأنواعها وأنواع الأعمال التي يقوم بها كل فاسق. وأما الأعمال نفسها فيمكن اعتبارها دلائل على حسن سريرة الشخص أو سوء سريرته ولا يمكن أن يكون العمل الفعلي معيارا للحكم يوم الحساب. فالطيب يقوم دائما بالأعمال الطيبة والفاسد يتولى دائمة خدمة الشيطان ويضل ويضر ويقتل ويؤذي عباد الله تعالى.

وأما الآية التالية من سورة النحل: وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (25). فهي لا تتحدث عن الذين يضلون إثر دعوات غيرهم إلى يوم القيامة. إنها تتحدث عن الذين قام المضلون بتضليلهم فعلا في حياتهم فهم يحملون من أوزار الذين أضلوهم بغير علم. نلاحظ بأنه تعالى قال ومن أوزار الذين يضلونهم. بمعنى أن هناك أناس معلومون موجودون وهم كانوا يسعون لتضليلهم بكل وقاحة مستغلين جهلهم. هذا عمل قام به المضل الفاسق وليس كتابا كتبه فسبَّب ذلك الكتاب الضلال لبعض الناس. نحن نرى بأن المرء لا يملك بعد موته أي شيء وليس قادرا على أي فعل كما أن كتبه يفقد بريقها عادة ويأتي كتابات وخطابات جديدة لتحل محل ما كتبه الأقدمون. فلا يمكن القول بأن أبا هريرة أضل صدام حسين كما لا يمكن القول بأن علي بن أبي طالب هدى عمر المختار.

فالله تعالى هو الذي يحي الموتى وهو الذي يكتب ما قدمه كل شخص من أعمال ونشاطات مخلصة أو فاسدة وهو الذي يكتب آثارهم الوجودية بالنسبة لمن تأثر بهم فعلا وليس بالنسبة لمن يتأثر بما فعلوه فيما بعد. ذلك لأن الذي تأثر بهم فهو نتيجة لما قام به هو بقصد في حياته وليس لما كتبه أو بناه أو وضع أسسه مما يؤثر حتى بعد وفاته. إنه ليس موجودا ليتوب إلى الله تعالى ويعلن مثلا بأنه كان خاطئا. إن غالبية الأشخاص الذين آمنوا برسول الله عليه السلام ولا سيما من لم يكونوا من أهل الكتاب فهم كانوا مشركين أو فاسقين ظالمين لكنهم آمنوا وحسن إيمانهم. كان الخليفة عمر رضي الله عنه قاصدا قتل رسول الله لجهله لكنه آمن وأصبح من خاصة رسول الله عليه السلام وساعد وبذل في سبيل نصرة الإسلام. فلو كان عمر ميتا قبل أن يتوب وقد اتبعه بعض الحمقاء وأرادوا تنفيذ ما نادى به فهل يمكن أن نقول بأن الله تعالى كان يعاقب عمرا مقابل كل شخص اتبعه.

وهناك مثل عمر أناس ماتوا ولكنهم لم يكونوا شرسين بل فاتتهم الدعوة الطيبة. كل أولئك برأيي المتواضع قد ينالون من رحمة ربهم يوم القيامة ليغفر لهم باعتبار أنهم كانوا جاهلين. وقد كتبت فيما مضى مقالة باسمي الشهيد والشاهد في الإسلام لأوضح كيفية المحاسبة يوم القيامة بقدر علمي المتواضع. تحياتي لمن اطلع على هذا وأوفاني برأيه لعلي أكون مخطئا فأصحح أخطائي.

أحمد المُهري

1/9/2019

#تطوير_الفقه_الاسلامي

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.