صعوبة معرفة الله بالعقل وحده

صعوبة معرفة الله بالعقل وحده

معرفة الله
لفظ الجلالة الله Allah

المقالة التالية كتبتها قبل ست سنوات لمركز تطوير الفقه السني حينما لاحظت بعض الأعضاء المكرمين يسعون لإثبات وجود الله تعالى بالعقل.

إخواني وأخواتي الأكارم

لا يوجد فعلا برهان عقلي كامل على الله تعالى كما لا يوجد برهان عقلي كامل على عدم وجود الله تعالى. هناك إشكالات عقلية كبيرة على الله سبحانه وتعالى و قد ذكر البعض بعضا منها مثل:

من أين أتى الله تعالى نفسه أو كيف تشكل وجوده حسب منطقنا نحن البشر؟ دعني أوضح ذلك.

ألف:

نحن بعقولنا ننظر إلى أعماق الأشياء لنصل إلى الجزء الذي لا يتجزأ فنبدأ منه لمعرفة تكوين الشيء وليس لله أجزاء ولا تركيب لنتعرف عليه فنتثبت منه. فلو كان الله تعالى مركبا لكان محتاجا إلى أجزائه والمفروض ألا يكون محتاجا.

ب:

نحن نستعمل المعادلات العقلية لإثبات المسألة عقليا. وفي كل هذه المعادلات نحتاج إلى شيئين على الأقل لنفصل بينهما ونستنجد بالاختلاف بينهما لفهم المطلوب.

فنحن نستنجد بالجنس والفصل مثلا لتحديد ماهية الشيء، والله تعالى ليس له جنس ولا فصل فكيف نصفه عقلا، هذا على فرض إثبات وجوده جل جلاله.

الجنس يعني التعريف الذي يجمع اثنين فأكثر من الأشياء مثل الحيوان الذي يجمع كل الكائنات النامية المتحركة بنفسها على الأرض. والله تعالى أحد لا مثيل له فلا جنس له. والفصل هو أفراد الجنس أو أنواعه والذي لا جنس له فلا فصل له أيضا. فلا يمكن وصفه.

ج:

نسعى لفهم بداية الشيء فنتعرف على كيفية شروع الوجود فيه. ولكن الله تعالى لا يمكن أن يكون قد بدأ لأنه سيكون معدوما قبل أن يبدأ وسيحتاج إلى المكان والزمان والقوة التي تساعده ليبدأ. كل ذلك يتنافى مع وجود الله تعالى. فنحن نحتاج إلى الإيمان بالله تعالى لننسب إليه الأولية والشروع فكيف ننسب ذاته إلى الأولية؟ نحتاج إليه لنقول بأنه هو الأول كما نحتاج إليه لنقول بأنه هو الآخر. ذلك لأن عقولنا ترفض اللامحدود وترفض الصدفة وترفض الأزلية. ليس للعقل أن يحيط بشيء لم يبدأ، لأن العقل نفسه عبارة عن قوة تتحرك باتجاه شيء موجود لتصل إلى أوله ثم تمشي معه لتصل إلى آخره فتحيط به وتتعرف عليه ثم تصفه. كل ذلك محال بالنسبة لله تعالى فليس للعقل أي دور في التعرف على ذات الله تعالى.

وليس للعقل أي دور في التعرف على وجود الله تعالى. ذلك لأن وجود الله تعالى واجب لإثبات غيرِه، ووجودُ العقل ليس واجبا فهو حادث وليس قديما وهو مع بعض الكائنات وليس مع كل الكائنات. فالعقل وجود ممكن في ذاته والوجود الممكن يتعرف على وجودات الممكنات فقط. فمثلا لو جاء أحد وادعى رؤيته لأي شيء غير عادي فسيبحث العقل بداية عن إمكانية وجود ذلك الشيء في ذلك المكان وفي ذلك الزمان فلو لم يجد شيئا رفض ادعاء ذلك الشخص لعدم إمكانية وجود ذلك الشيء. لكن الله تعالى ليس ممكنا بل هو واجب والعقل لا يتأتى له البحث عن الواجب لأنه يفقد آلية البحث عنه. فالواجب واجب ليكون للعقل وجود وإلا فالعقل غير موجود بنفسه.

لكن العقل يبحث دائما عن الابتداء والانتهاء كما يبحث دائما عن الأسباب والعلل كما يبحث دائما عن الزمان والمكان كما يبحث دائما عن الوجود والعدم وعن القوة والفعلية. كل هذه المسائل بعيدة عن وجود الله تعالى. فهو لم يبدأ ولن ينتهي وهو لا علة له وهو لا يحتاج إلى الزمان ولا إلى المكان.

وأما الوجود والعدم فنحن نعبر عنه بأنه سبحانه موجود ولكن ليس موجودا كوجودنا، بمعنى أن مشاركتنا معه في الوجود ليست مشاركة كاملة. فإذا قلنا بأننا كنا موجودين مع الله تعالى بالقوة فنحن نعني بأن فرض عدم وجود الله تعالى يسلب قوة وجودنا بالكامل. ففرض القوة لوجودنا متكئ على إثبات وجود الله تعالى. وبما أننا موجودون فعلا بعد أن كنا غير موجودين، وبما أننا أتينا فهو يعني بأن إمكانية وجودنا كانت ثابتة قبل أن نأتي ولكن بفضل وجود الله تعالى كنا ممكنين، فعلينا بأن ننفي العدمية كاملة عن الله تعالى ليكون لوجودنا بالقوة معنى وإلا فنحن وليدو الصدفة وهو غير مقبول عقلا. ذلك لأننا كائنات متطورة واضحة المعالم وبأن هناك سبقُ نيةٍ مبيتة لمجيئنا من قوة قاهرة قادرة على خلق الإنسان المعقد والمتطور منذ بداية الخلق.

هذا يعني بأننا مضطرون لدفع العدمية بالنسبة للقدوس واعتبارها غير واردة أصلا حتى نتمكن من فرض القوة لغير الله تعالى من الممكنات. فكل موجود يمكن أن يكون معدوما من البداية أو في النهاية ولكن هذا الإمكان مرفوض تماما حين الحديث عن الله تعالى. ولو أمكن فرض ذلك فهو يعني بأن الله تعالى قد بدأ فنحتاج معه إلى من يقوم بعمل الابتداء ونحتاج معه إلى فرض الزمان والمكان وهلم جرا.

وأما القوة والفعلية بالنسبة له سبحانه فهما منتفيان أيضا لأننا نحتاج إلى أن نقول بأنه سبحانه كان يوما ما موجودا بالقوة واليوم أو الزمان بنفسه يحتاج إلى وجوده سبحانه وإلا فلا زمان أصلا.

لا أريد الإطالة ولكن ليعلم الإخوة والأخوات بأن العقل عاجز عن إثبات الله تعالى من حيث الذات وعاجز عن إثبات وجوده سبحانه ولكن العقل يقبل بأن إثبات عدم وجود الله تعالى غير ممكن. وذلك لأننا موجودون ولأن العقل موجود. والعقل لا وجود له إلا بوجود كائن آخر متصف بالعقل مثل الإنسان. والإنسان كغيره من الممكنات يحتاج إلى تصور البداية والنهاية بل إلى فعلية البداية والنهاية. والبداية والنهاية تحتاجان إلى إثبات وجود الله تعالى بغض النظر عن إثبات صفاته وأعماله.

وأظن بأن الإخوة والأخوات منتبهون بأن الملحدين يسعون لإثبات عدم وجود الحاجة إلى الله تعالى لعدم إمكانية إثبات عدم وجوده. وكلامهم محض خيال باطل لا أصل له ولن يتمكنوا من ذلك. إنهم يتحدثون عن ممكنات محتاجة لبعضها البعض دون شعور.

يقولون مثلا بأن الفضاء يمكنها أن تخلق وينسون بأن الفضاء تحتاج إلى البداية والنهاية وإلى الوجود وإلى أن نفترض عدمه في زمان سابق فتحتاج إلى وجود الزمان ولا يمكن أن يكون الزمان قديما لأنه نتيجة الحركة بل نتيجة حركة الكواكب.

وحتى لو فرضنا بأن الزمان بدأ إثر الانفجار الكوني فإن الانفجار بنفسه يحتاج إلى الفضاء المحتاج إلى الزمان والزمان غير موجود قبل الانفجار الكوني كما يقولون فكلامهم غير متزن. يفترضون مكانا اسمه الفضاء دون زمان ودون تركيب باعتبار أنهم يقولون بأن الانفجار هو بداية الزمان كما يفترضون مع الفضاء مادة صغيرة في الحجم قبل الزمان وقبل المكان. هذا تناقض عقلي لأن الانفجار هو أصل الزمان وهو متوقف على الزمان وعلى المكان فهو متوقف على نفسه، والعقل يرفض توقف الشيء على نفسه.

معنى ذلك لمن لا يعرف المصطلحات المنطقية هو أن كل شيء لا يمكن أن يكون محتاجا لنفسه حتى يتحلى بالوجود. لو صح ذلك فمعناه بأن فرعون مصر يحتاج إلى فرعون مصر ليتواجد وفرعون مصر2 يحتاج إلى فرعون مصر2 ليتواجد وفرعون مصر3 يحتاج إلى فرعون مصر3 ليتواجد، وهكذا دون أن يتواجد أي فرعون مصري لأن وجود فرعون مصر متوقف على وجود فرعون مصر وفرعون مصر غير موجود.

أو يقولون بأن الفضاء تنطوي على الطاقة السلبية وينسون بأن الطاقة السلبية لا تعني عدم الطاقة بل تعني طاقة بسيطة.

إن عدم الطاقة يعني عدم الفضاء نفسه لأن الفضاء من مظاهر الطاقة. فلا يمكن أن نقول بأن الفضاء سلبي فنعني بأنه مغاير للوجود ومعنى كلامنا حينئذ بأن الفضاء غير موجود. نحن نقول بأن الفضاء موجود وبأنها لا بد من أن تبدأ كما يمكن أن تنتهي بدليل توسعها فهي محتاجة وليست واجبة لتكون أصلا لوجود الكواكب. لا يمكن للعقل أن يتصور أية مادة أو أي زمان أو أي فضاء بدون أن يسبقها شيء آخر. هي سلسلة لا ولن تنتهي لا في بدايتها ولا في نهايتها. فكيف يتحقق الشيء المتوقف على أن يكون حتى يكون؟ كل ذلك لأنهم عاجزون عن حل مشكلة البداية في الواقع.

فالعقل أو العاقل مضطر لأن يتصور وجود واجب لا يحتاج إلى الزمان ولا إلى المكان ولا إلى أي شيء آخر وهو قادر على أن يُبدئ لكنه بنفسه لم يبدأ. وليس للعقل أن يفهم أو يتصور معنى عدم البداية أو معنى الأزلية وليس له أن يتصور معنى الأزلية.

هناك مسائل مادية لا يمكن للعقل أن يحلها. فمثلا يرفض العقل أية مادة لا نهائية فيرفض بأن الفضاء غير منتهية مكانا وزمانا. لا بد للعقل أن يتصور جدارا للكون المادي فاللانهائية التي قال بها البعض لا تعني غير سخافة العقل بل قد تعني ضعف الوجدان أو ضعفا في الإنسانية واقترابا من الحيوانية. فالكون متناه دون أدنى شك لأنه في واقعه مادة مركبة محتاجة للزمكان. فلو قبلنا بأن الفضاء مادة مركبة وبأنها تنتهي إلى مكان ولها حدود تحيط بها، فكيف نحل الإشكال التالي:

لو فرضنا أن إنسانا تمكن من أي يصل إلى حافة الكون وتعرف على نهايته ثم مد يده داخل ذلك الجدار المحيط ووصلت اليد إلى نهاية الجدار. لم يقتنع الشخص بل سعى ليمد يده خارج الجدار، فما الذي يمكن أن يحصل؟ لو قلنا بأن يده سوف تدخل في فضاء فسنعني بأن الفضاء غير متناه والكون بنفسه داخل فضاء وهو مرفوض لأننا في صدد الوصول إلى النهاية المادية لكل الكون لمعرفة الجدار المحيط. ولو قلنا بأنه سوف يشعر بوجود حائل قوي يمنعه من العبور، فنحن نعني وجود جدار أقوى من جدار الكون محيط بكل الكون. ولو فرضنا ذلك عدنا للتجربة الفرضية مرة أخرى بالنسبة لذلك الجدار وهلم جرا دون أن نصل إلى نتيجة.

فنحن مضطرون لقبول جدار محيط بالكون وعاجزون عن تجربة تلك الحقيقة حتى بالعقل والفكر. ذلك لأن العقل محدود.

وهكذا فإن العقل يعرف الأولية والآخرية ولكنه عاجز عن تصور الأولية بلا مبدئ يكون هو الأول وهو الآخر كما أن العقل عاجز عن تصور حقيقة ذلك المُبدئ الذي لا يمكن أن يبدأ بنفسه، لأن العقل محدود. فليس للعقل أن يُثبت وجود الله تعالى وليس له أن يُثبت عدم وجوده وليس له أن يرفض وجوده لحاجة كل الممكنات إليه جل جلاله. والخلاصة أننا لا يمكن أن نعرفه ولا يمكن أن نرفضه ولا يمكن أن نقبل بوجودنا إن رفضنا وجوده، سبحانه وتعالى.

وأظن بأنني لست عاجزا عن الرد على كل الإشكالات في هذا الصدد بإذن الله تعالى ولكني أسعى لأوجه عناية الإخوة والأخوات الذين يتطرقون لمثل هذه المسائل الصعبة المستعصية أن يُلاحظوا قصة الذين أنزل عليهم القرآن قبل خمسة عشر قرنا ليروا بأنفسهم كم نحن متأخرون عن الركب الإنساني وكم تراجعنا عن المعرفة المتطورة التي توصل إليها جدودنا. سوف نعلم حينئذ بأن السلفية والعودة إلى البشر الذين مضوا بقصد كسب العلم منهم لهو سخافة ليس وراءها سخافة. ولا أحكر السلفية في الذين أسموا أنفسهم بالسلفية ظنا منهم بأنه اسم جميل بل أقصد به كل الذين ينظرون إلى البشر ويكبرونهم أكثر من حدهم ويظنون بأن السابق أكثر تطورا من اللاحق حتى لو كان السابق نبيا أو رسولا. فالمسيحيون واليهود والمسلمون والبوذيون والسيخ والهندوس وغيرهم جميعا سلفيون إلا الذين يفكرون منهم ويتركون الخضوع والتقليد للسلف.

قال تعالى في سورة آل عمران: تِلْكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ (108) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (109) كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110).

وقال أيضا في نفس السورة الكريمة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ ِلأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195).

لعل الإخوة يعلمون السر في أن السورتين العظيمتين (البقرة وآل عمران) تبدآن بحروف مماثلة: ألم. ولعلهم لاحظوا بأن السورة الأولى تتحدث عن الأحكام والتشريعات والأصول العقائدية التي ترتبط بالله تعالى وباللقاء مع الله تعالى وتأمر الناس بالتمسك بهما. ولعلهم انتبهوا بأن السورة الثانية جاءت بنماذج بشرية من الذين اهتدوا بهدى الله تعالى وآمنوا به وباللقاء معه فاستفادوا من ذلك الهدى في دنياهم ووعدهم ربهم بالحسنى في اللقاء المرتقب معه سبحانه يوم الحساب. فالسورة الثانية بمثابة مرفق نموذجي للسورة الأولى وكلاهما تتحدثان عن أصل الهدى الذي أنزل القرآن من أجله وهو معرفة الله تعالى ومعرفة اللقاء مع الله تعالى والأمر بالتمسك الدائم بكلا الأمرين.

ولذلك فلا غرو لو قلنا بأن الألف في القرآن يشير إلى الله سبحانه وهو اسم مأخوذ من فعل أله يأله ومعناه الذي أخضع الكائنات لذاته، وبأن اللام يعني اللقاء مع الله تعالى والميم يعني التمسك بما قبله وهو الله واللقاء معه. ذلك لأن الاستمرار في ذكرهما يحول دون الضلال ودون الظلم ويبعث بالخوف والسعي للتقوى من الخجل أمام الله تعالى ومن العذاب الأبدي المرتقب لمن يبتعد عن هدي ربه. والتمسك يشتمل على معنى الدوام ولا ينحصر في زمان أو مكان أو حال من الأحوال.

والآن نقوم بتحليل بسيط للمجموعتين من الآيات دون التعرض لتفسيرهما مراعاة للإيجاز. تشير المجموعة الأولى إلى آيات القرآن وبأن الله تعالى يتلوها على الرسول بالحق فصار لزاما أن يذكر لنا سبحانه وجه الحق في تلك التلاوة. فوضح سبحانه فيها بأنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس فصاروا مستحقين ولائقين حقا لاصطفاء الله تعالى إياهم لاستلام القرآن الذي أراد الله سبحانه إنزاله آنذاك.

والأمة في القرآن تعني المجموعة المتكاملة والتكامل عند الله في الدنيا يعني الاكتفاء الذاتي بما في ذلك وجود الوحي الهادي عن طريق الرسل البشريين. فكانت تلك الأمة قادرة على استضافة الغير وكانت تحمل في قلبها رسولا سواء بالقوة قبل أن يظهر ويعلن الدعوة أو بالفعل. وقد لاحظ الله تعالى كل المجموعات المشابهة في الأرض فوجدها خير أمة أخرجت للناس من بين كل التجمعات البشرية.

وأخرجت للناس يعني انبثقت من نظام الطبيعة لتساعد وتهتم بغيره من البشر. وقال السبب بأنهم كانوا يأمرون بالعرف المشهور بين الناس باعتباره حصيلة الحِكَم المفيدة وينهون عما يكرهه الناس لأن المكروهات عادة حصيلة لتجارب الناس أنفسهم.

والله تعالى يعتبر نفسه دائما وراء المعروف والمنكر باعتباره المدير العام لكل الكائنات. فإذا اجتمع اتباع المعروف والأمر به والانتهاء عن المنكر والأمر به مع الإيمان بالله تعالى في مجموعة أصبحوا قادرين على استيعاب الحقائق الغيبية المفيدة لهم. فاتخذهم الله تعالى وسيلة لاستلام الرسالة التي أراد سبحانه أن يختم بها رسالاته ليبدأ الاختبار بأعلى مظاهره حتى يوم انتهاء الحياة في الكوكب الذي نعيش فيه. هذا ما نفهمه من المجموعة الأولى من الآيات الكريمة.

وأما المجموعة الثانية؛ فإنه سبحانه يوضح لنا بأن المجموعة التي كانت لائقة فعلا لاستلام الرسالة لم تشمل كل الذين يعيشون في مكة والذين يحبون الضيوف ويكرمونهم ويكرهون الحروب ويعملون بالأحلاف بدلا من التخاصم، بل كانوا أشخاصا معدودين من بينهم سماهم “ذوو الألباب”. إنهم أفراد يعلمون ويؤمنون وهم الذين ينشرون المعروف ويشعرون بهدى ربهم ويتفكرون فيه وهم لا يفرقون بين الإنسان والإنسان. نلاحظ بأن منهم الذكور ومنهم الإناث تماما بعكس المعروف بين العامة منهم من التفريق بين الجنسين. هذه المجموعة التي آمنت بالرسول ليس تقليدا ولا تأثرا بشخصه بل لأنه نادى بما اعتقدوا به جراء تفكيرهم وتوصلهم إليه بالتعمق في أعماق الكون. ولننظر إلى ما فكروا فيه.

لاحظوا بأن في اختلاف الليل والنهار وهو مظهر الزمان لدينا نحن أهل الأرض فلولاهما لما عرفنا للزمان معنى مع ملاحظة خلق السماوات والأرض؛ ففي ملاحظة الاختلاف والخلق علائم تفرض على أصحاب الفكر الإيمان بالله تعالى. فما الذي لاحظوه فعلا.

أظن بأنهم فكروا في أن خلق السماوات والأرض غير ممكن بدون وجود الزمان وفكروا بأنهن عوامل الزمان فلا يمكن تصور الزمان بدونهن ليدرن حول بعضهن البعض ويخلقن الزمان. فشعروا بأن هناك ضرورة واجبة لتصور قوة مهيبة قادرة على خلق الكواكب والزمان معا وهو لا يمكن أن يكون قوة معروفة بيننا ومنبثقة من المخلوقات بل هي قوة الخالق العظيم القادر على تفجير تلك الحركة المهيبة.

هي معنى الانفطار برأيي وهي الانفجار الحقيقي للكون من نقطة غير مادية خارجة عن الزمكان والعلم عند الله تعالى. والواقع هي الانفجار العظيم الذي خلق الفضاء مليئة وسائرة نحن التوسع المستمر إلى اليوم وإلى يوم تقف عن الاستمرار بحركة مهيبة أخرى من الله تعالى نفسه، جل جلاله.

ثم تستمر الآيات في بيان ملاحظتهم الثانية والتي تدل على عدم توقفهم في مسيرتهم الفكرية الرائعة التي مهدت لاستلام أعظم كتاب في الأرض في مكة الخير والبركات. سماهم الله تعالى أولي الألباب لأنهم لا يتوقفون عند حد في فكرهم فهم يريدون الوصول إلى مركز الوجود. لكنهم لاحظوا مسألة أخرى بعد أن توصلوا إلى ضرورة الإيمان بواجب الوجود وحده ليحل لهم مشكلة البداية. نظروا إلى أنفسهم فرأوا بأنهم مختلفون عن بقية الحيوانات المماثلة لهم. رأوا بأنهم لم يتمكنوا من مشاهدة أي حيوان غير الإنسان قادر على القيام والتفكر في حال القيام في أعظم موجود وهو الله تعالى وقادر على القعود والقيام بنفس العمل وقادر على التحرك يمنة ويسرة وعلى كل الأطراف وعدم فقدان القدرة الفكرية. رأوا بأن أيديهم وأصابعهم وأرجلهم تمكنهم من كل أنواع الحركات ولا تحول دون انتباههم للخالق العظيم. (يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون).

قالوا بأن الله تعالى لم يخلق “هذا” الإنسان باطلا. والمفسرون الذين لم يفكروا كعادتهم بل قلدوا السلف مع الأسف ظنوا بأن “هذا” في الآية الكريمة يشير إلى السماوات والأرض وسعوا لدفع الإشكال النحوي دون أن ينجحوا برأيي.

والواقع أن ذوي الألباب لاحظوا خلق السماوات والأرض والإنسان الذي يستفيد منهما معا، فانتبهوا إلى أنفسهم ولذلك دعوا ربهم أن ينقذهم من عذاب النار. إنهم شعروا جديا بالتكليف وبأن الله تعالى ينتظر من هذا الخلق الصغير والعظيم شيئا آخر غير الأكل والشرب والحياة كالأنعام. هنالك عرفوا بأنهم هم السر العظيم في خلق السماوات والأرض وخلق الأنعام وخلق الماديات كلها فخافوا من ربهم. والحيوانات لا تعرف الله تعالى ولا تخاف منه ولا تتقيه.

ولكن هل كل هذا يحمل دليلا عقليا على وجود الله تعالى وحده لا شريك له؟

من الصعب القول بذلك ولكن الحقيقة هو أن معرفة الله تعالى تتأتى للمؤمنين وبرحمة ونعمة من الله تعالى نفسه الذي يُعرِّف المؤمنين الطيبين بربهم. إنه سبحانه يُلهم الطيبين وجوده فيشعرون به ويتحسسونه في كل ما يرونه من حولهم ومن فوقهم ومن تحت أرجلهم.

وقول البدوي بأن البعرة تدل على البعير وأثر الأقدام تدل على المسير فكيف سماء ذات أبراج وأرض ذات مهاد تكون بدون اللطيف الخبير، ليس دليلا عقليا في الواقع بل هو هدى الله تعالى يهدي به من يشاء من عباده.

أنا شخصيا عرفت الله تعالى بالقرآن العظيم فلا يمكن لأحد أن يأتي بمثله فعلا، والأطباء يعرفونه بهندسة خلايا الإنسان والفيزيائيون يعرفونه بالصغائر الواقعة تحت الذرات والكبائر التي تملأ الكون  والمهندسون يعرفونه بالتصميم البديع للطبيعة وهلم جرا وكلنا نحتاج إليه ليعرفنا نفسه فهناك الكثير من أهل القرآن وهم يشكون فيه وأكثر الفيزيائيين يلحدون وغالبية الأطباء غير مكترثين وقل من ترى من المهندسين يعترفون بوجوده القدسي عز اسمه. كما أن مقولة البدوي في الصحراء لا تمثل مقولة كل أهل البدو.

فمثلا كان إبراهيم رجلا طيبا منحدرا من أسرة مشركة مرتبطة بالسلطة ولكن طيب نفسه أدى إلى أن يحيل عينيه لينظر إلى السماء بدلا عن الأرض وهو يرى قومه يعبدون أصناما منحوتة من الأرض. هذه الأصنام ترمز إلى أناس طيبين أو أنبياء أحيانا أو إلى الملائكة ليجعلوهم وسائط بينهم وبين ربهم. شعر إبراهيم جديا بأن تصور واسطة بينه وبين ربه يعني الخضوع للواسطة وهو عبادة مرفوضة عند ذوي الألباب. لا يمكن أن يكون الله عاجزا عن التواصل مع خلقه ولا يمكن أن يرضى لعبيده أن يخضعوا لمن مثلهم ويعتبرونه واسطة بينهم وبين من هو أقرب إليهم من حبل الوريد.

ولذلك نظر إبراهيم في ما فوقه واختار الكواكب باعتبار قدرتها على أن تمده بالضياء وتسلط عليه ما يساعده على الهدى في الظلام معتبرا العطاء الواضح الجلي شأنا إلهيا يستحق معه الخضوع له. ثم رفض الكوكب المضيء لأنه أفل فليس له أن يستمر في العطاء والله تعالى مستمر في العطاء لأن العبد مستمر في الحاجة. ثم تعلق بالقمر باعتبار كبر حجمه وتوسع نوره على المحيط الذي يعيش فيه إبراهيم، ثم لاحظ أفول القمر فشعر بأنه لا يسعه التعرف على خالقه ليستعطيه ويخضع له فقال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين.

وهذه هي الطريق الصحيحة لمعرفة الله تعالى أن تطلب منه ليعرفك بنفسه ويقنعك بوجوده ويطبع على قلبك العلم به عز اسمه.

كان إبراهيم بانتظار هدى ربه بعد مقولته أعلاه ولذلك استلهم عظمة الشمس المعطاء ثم لاحظ بأن الشمس أيضا لا تستمر في العطاء هنالك أحس إبراهيم بأن الهدى قد أتاه بعد أن رأى بأن أعظم جسم مضيء مشرق لا يستحق الخضوع له وهو أم كل البشر وكل الأرض وكل النظام الشمسي: قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79). استمع إبراهيم لنداء الوجدان بعد أن طهر نفسه من كل آثار التراث ومن كل بقايا السلفية ومن كل معاني التقليد والتبعية ومن كل علامات الخضوع لغير الله تعالى. والحنيف يعني الذي يميل ويترك كل قومه وأهله ليتعرف على حقيقة الحق سبحانه وتعالى بما يتناسب مع شأنه. فترك قومه وأهله ليكون توجهه إلى الله تعالى وحده ليستلهم وحي الهدى.

هكذا يهدي الله تعالى ابن المشركين كما هدى امرأة فرعون وهدى مؤمن آل فرعون وكما هدى آدم وزوجه وليس بالمنطق العقلي كما يتراءى للكثيرين. ولنكمل قصة إبراهيم لنزداد علما بمنطق الهدى السماوي:

 وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83). من سورة الأنعام الكريمة.

هذا المنطق العلوي هو حجة الله تعالى على خلقه عن طريق الدعاة إلى الله تعالى وعلى رأسهم الرسل. فنرى بأن الحجة لم تنطو على معادلات منطقية دقيقة توصلنا إلى الله تعالى فعلا بدون جدل ولكنه منطق الوجدان والفطرة التي فطر الله الناس عليها. إنه لم يفطر الأنعام والحيوانات عليها بل فطر الناس الذين يملكون العقل. فالعقل ضرورة استلام الإلهام المعرفي ولكنه ليس كافيا لتحليل القضايا المنطقية حتى الوصول إلى واجب الوجود جل جلاله.

لا حظت تقريبا أكثر آراء الفلاسفة والمتكلمين ولعلي أكون قادرا على الرد عليهم أو إثبات عدم كفاية تلك الاستدلالات. كما لاحظت بأن بعض أولئك الفلاسفة لم يتعرفوا على الله تعالى حتى بمقدار البدوي صاحب البعرة، لكن مهنتهم العلمية وتجمعهم المذهبي والديني فرضت عليهم القيام بتلك الاستدلالات. لاحظت الكثير من المتناقضات في منطقهم ولاحظت بأنهم يسعون لتنزيه الله تعالى من كل شريك مستندين إلى الكتب السماوية وإلى تحقيقاتهم الفلسفية والكلامية ثم ينسبون إليه الشركاء دون دليل من القرآن أو التوراة حماية لمذاهبهم التي تجمع كياناتهم الاجتماعية.

وأولئك هم أصحاب المنطق العقلي الناقص والعاجز عن إثبات الله تعالى. إنهم -لو نريد ألا نظلمهم- يثبتون وجود الصانع حسب تعبيرهم ولكن إثبات أن الصانع الثابت عندهم هو الله تعالى المعروف بيننا ليس سهلا. إن إثبات أن الصانع أو الخالق الأول للوجود هو نفسه الذي يدير الكائنات فيستحق أن نعبده ونخضع له ولا نحتاج إلى غيره صعب مستصعب. ولو ينتبه الإخوة والأخوات إلى القرآن وسعيه الحثيث للرد على كل من يقول بأن الصانع أو خالق الكون ليس هو وحده الذي نحتاج إليه فسيعرفون بأن إثبات الله بالعقل غير كاف. نحتاج إلى الوجدان والفطرة وإلى عناية من الرحمن نفسه لنقبل كل ذلك من صميم قلوبنا ونقتنع بها ونعرف بعد ذلك بأن الله تعالى كاف عبدَه.

وما ترونه من شعور المسلمين عامة بعدم كفاية القرآن بل هم محتاجون إلى الحديث وإلى أئمة الحديث وإلى رواة الأحاديث وكل شُعب هذه المسائل البعيدة عن روح القرآن، لهو نتاج عدم معرفتهم بالله تعالى وبأن الله سبحانه لما يهدهم بعد.

إنهم يسعون لإثبات إله آخر غير الله تعالى الذي لا يمكن معرفته خارج القرآن الكريم في الواقع.

فمثلا إله الشيخ البخاري هو الذي يضع رجله يوم القيامة في النار فتقول النار طق طق طق.

وإله الشيخ الطوسي هو الذي يستشير النبي محمد والأئمة من بعده ثم يأخذ القرار.

وإله الكتاب المقدس هو الذي يستشير الملائكة قبل أن يقوم بخلق آدم. وهو الذي يصارع يعقوب طيلة الليل فينهزم أمامه في الصباح فيقول له إن اسمك إسرائيل فيما بعد لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت عليه.

وإله المسلمين عامة هو الذي يجلس على كرسي ضخم في السماوات ويصلي ويزوره الناس على البراق. وله ديك يصيح فتسمعه كل الديك في الأرض فيصيحون معه وقت السحور.

ليس أي من أصحاب هذه الأوصاف خالقا للكون ولا مبدعا للتصميم الهندسي العظيم للممكنات ولا قادرا على الفصل بين مختلف المدركين يوم القيامة ولو في كل كوكب على حدة.

يمكننا بكل سهولة معرفة أن الحركات المعروفة بالدينية في كوكبنا ليست امتدادا لحركة الأنبياء ولا منتهلا من التوراة والإنجيل والقرآن. ويمكننا بكل يسر أن نرد الفلاسفة والمناطقة والمتكلمين والمتصوفة والعرفاء وغيرهم من أصحاب الألقاب الخاوية الخالية من الحقيقة، ولكن ليس لنا إلا أن نخضع أمام منطق القرآن الكريم وحده.

الله الذي في القرآن يُلهم من يطلب معرفته ولا يحتاج الطالب إلى البرهان العقلي.

الله الذي في القرآن وراء كل حركة في الأرض حتى حركات التحضر والإصلاح والعرف ورد المنكر. إنه وراء كل صحيح يتقدم ويعلو كما أن الشيطان وراء كل حركة تؤخر أهلها وتبعدهم عن الركب الحضاري. لأعطيكم مثالا من القرآن: قال تعالى في مقدمة سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1). كان الله تعالى رقيبا على الذين أنزل عليهم السورة حينما كانوا يتساءلون بالله والأرحام من قبل أن تُنَزل القرآن. إن الله تعالى يصادق على تعبير العرب المعروف “أسألك بالله والرحم” ويقول بأنه سبحانه كان يراقبهم ليقولوا الصحيح.

إنه تعالى كان معهم يعلمهم الأشهر الحرم ليستريحوا من القتال ولذلك أقر بها في القرآن وشرعها تشريعا رسميا لا يجوز مخالفته.

لكن المسلمين بمن فيهم فقهاؤهم قديما وحديثا لا يقرون بالقرآن كتشريع بل هو كتاب جميل يتغنون به تلاوة وترتيلا وتجويدا ويستمتعون بجماله ونحوه وبديعه وبلاغته ووو. فهم في الواقع لا يختلفون عن اليهود والمسيحيين اليوم الذين ضيعوا دين الله تعالى. قال سبحانه في سورة مريم: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59).

دعنا نأخذ الأشهر الحرم كمثال للتشريع الواجب قرآنيا، فمن من الدول والحكومات والتجمعات الإسلامية يعمل بها منذ انتهاء الخلافة الراشدة إلى اليوم؟ لقد قاتل المسلمون سبط رسول الله في الأشهر الحرم ولم يستنكره كل المسلمين مع الأسف. أظن بأن هناك إشكالا كبيرا في إسلام المسلمين.

والسبب الأساسي هو عدم معرفتهم بالله العظيم خالق السماوات والأرض وشركهم البشر معه.

أظن بأنني قرأت هذه الجملة أو ما في معناها من كتابات المستشار أحمد ماهر حفظه الله تعالى بأنهم يجعلون رسول الله مكان الله. هذه هي المشكلة إخواني وأخواتي، ويا ليتهم يكتفون بذلك، فأئمة الفقه ومصححو الأحاديث والمفتون جميعا يحلون محل الله تعالى مع الأسف. إنهم لا يعرفون الله تعالى فلا يشعرون بأنه لهم بالمرصاد.

لو تريدون أن تعرفوا الله تعالى فابحثوا عن الحقيقة كيف ما كانت بكل إخلاص واطلبوا ممن وراء الحقائق ليعرفكم بنفسه كما فعل أبوكم إبراهيم قبل آلاف السنين. اتركوا كتابات السلف جميعا واذهبوا إلى المراصد الكبرى في الأرض وانظروا إلى النجوم المهيبة وحركاتها حول بعضها منذ بلايين السنين لتتعرفوا على الله تعالى وجدانا ولا تحتاجون إلى الفلسفة الفكرية هناك. تلك ليست كراتين خيالية من نسج الشيخ البخاري والشيخ الطوسي بل هي حقائق يمكنكم رؤيتها بالأجهزة الحديثة. هنالك ترجعون البصر كرتين فينقلب إليكم البصر خاسئا وهو حسير.

إنكم تحتاجون إلى أمرين بسيطين هما تزكية النفس وتخليصها من كل العوالق لتصير قادرة على استلهام الحقيقة من الله تعالى؛ ثم السعي الجاد في خلق الله تعالى لتصلوا إليه سبحانه دون شك. قال تعالى في سورة العنكبوت مشيرا إلى الذين لم يؤمنوا بالقرآن من أهل مكة والرسولُ بينهم: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69).

هذا الجهاد ليس حملا للسلاح في وجه البشر كما يفعلون إرضاء لشهواتهم بل هو جهاد مع النفس لتعود إلى ربها من أجل ربها حتى تتخلص من الشوائب فتستلهم الحقيقة من الله تعالى.

أعتذر من الإطالة.

أحمد المُهري

لندن في 3 نيسان 2013

#تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.