الترحيب برمضان — فلا صلى ولا صام

الترحيب برمضان 2019

بسم الله الرحمن الرحيم

كل واحد منا يظن بأنه إنسان يقينا ولو لم يتفطن لإنسانيته فسوف لن ينظر إلى هذه الرسالة نظرة عالمة ليتلوها ويفهمها. ولو تسأل أيا منا عن نوعه الحيواني فسيقول لك: أنا إنسان. بالطبع أن الإنسان حيوان ببدنه ولكنه يحمل طبيعة أخرى يفقدها كل بني جنسنا من مختلف الحيوانات على وجه البسيطة. تلك هي الطبيعة الإنسانية. فالإنسان ليس دائما حيوانا بل هو حيوان حينما يعيش في الدنيا وقد يكون ببدنه حيوانا أيضا حينما يُعاد خلق بدن له في الآخرة. لكنه يبقى إنسانا فاقدا لأية طبيعة حيوانية في عالم البرزخ المتوسط بين الحياة الدنيا والبعث للحياة الثانية. قال تعالى في سورة القيامة: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الإنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاّ لا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الإنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13).

لقد سمانا الله تعالى إنسانا حينما تستعد الكواكب للزوال ونكون نحن فاقدين لأي بدن بل نكون نفوسا مجردة. فالإنسانية في منطق القرآن أمر خارج عن الحيوانية التي نعيشها بأبداننا. إنسانيتنا تبدأ من لحظة خلق النفس في الخلية الأولى في أرحام الأمهات وتبقى إلى الأبد إنسانا بعناية الرحمن عز اسمه. لكن حيوانيتنا تزول بمجرد الموت وحينما نُبعث من جديد فمن الصعوبة القريبة من الاستحالة أن نعرف طبيعة الأبدان الجديدة للحياة الأبدية. إنسانيتنا لا تحتاج إلى أكل ولا شرب ولا نوم ولا متع جنسية ولا حركات بدنية ولا غسيل بالمنظفات. إنسانيتنا ليست أزلية ولكنها أبدية بفعل القادر القهار جل جلاله. الفرق بين أبديتنا وأبدية الخالق العزيز هو أنه تعالى لا يمكن أن يزول إطلاقا ولكننا يمكن أن نزول ولكن الرحمن وعد بأن يُبقينا بفعله وإرادته عز اسمه، فأبديتنا فعلية وليست مطلقة.

وبما أننا أناسي بشريون فنحن نحتاج إلى أن نتزكى ونتطهر دائما وأبدا بما يتأتى لنا. نتزكى لأن المحيط الذي نعيش فيه يُلهمنا الشقاء والجهل والخيانة والغدر وكل السيئات بجوار ما نستلهمه من خير من الله تعالى وملائكته المكرمين. ونتطهر تطهيرا معنويا من الشرك بالله تعالى الذي لم يفرض علينا الإيمان في الدنيا بل جعله في متناول يدنا فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. بمعنى أن كُلا منا كإنسان يحتاج إلى أن يزداد معرفة ويستلهم صبرا من ربه ليحارب الحركة الرجعية الشيطانية ويواكب الحركة التطورية الربانية. فكيف نستلهم الصبر وكيف نزداد معرفة؟

الضغط المؤقت على عامل الإنسانية لدى كل منا وهو نفسه، تروض النفس على تقبل كل مشقة وتحمل كل مصيبة في سبيل تزكية تلك النفس. النفس هي عامل الإنسانية وهي منسجمة انسجاما كاملا مع البدن الحيواني، فكل ضغط على البدن يؤثر في النفس. كما أن كل إشباع لشهوات البدن يريح النفس الإنسانية التي خُلقت مستوية مع بدنها. ولذلك وبكل بساطة أمرنا ربنا بأن نصوم شهرا كاملا كل عام لتزكية نفوسنا. لم يأمرنا بأن نصوم طيلة ساعات الشهر بل سمح لنا بأن نشبع شهواتنا إلى حد ما في ساعات الليل ونكتفي بالصوم في النهار. ليست هناك نية في العقاب ولكنها ترويض للانتقال إلى الأفضل نفسيا.

الصوم حرب فعلية مع النفس التي تقول لك كل واشرب حينما تجوع وتعطش كما تقول لك أشبع شهواتك الجنسية إذا ما رأيت إليها سبيلا. لكن عملية الصوم هي التي تأمرك بأن تكف عنها جميعا لأنك صائم. وهكذا نجد بأن ربنا الكريم لا يكتفي بالموعظة بل يأمر بالرياضة النفسية أيضا. فهناك رياضتان أساسيتان في النظام الإسلامي هما الصوم والحج. كل مسلم بل وكل إنسان يحتاج إلى شهر واحد يصوم فيه كل عام ويحتاج الأغنياء إلى مرة واحدة في العمر ليصوموا فيها عن الكثير من الشهوات في زيارتهم لحج البيت الحرام. كما أن كل إنسان يحتاج يوميا إلى الإمساك عن التحدث إلى غيره وعن الأكل والشرب وممارسة الشهوات خمس مرات زمانية قصيرة حتى لا ينسى الله تعالى.

هذه الرياضات شبيهة بالرياضة البدنية التي يحتاج إليها المرء ليبقى سليما صحيحا بدنيا والرياضات الثلاث نفسيا نحتاج إليها لتبقى النفس سليمة صحيحة تكره النفاق والغدر والعصيان. وبهذه الرياضات الثلاث سوف يفكر كل إنسان بقدر إمكاناته في غيره ليساير ربه في مساعدة من لا يحتاج إليه سبحانه. إن الله تعالى غني عن العالمين وهو يساعد كل العالمين مؤمنهم وكافرهم؛ مظلومهم وظالمهم؛ ثريهم وفقيرهم؛ ملكهم ومملوكهم. فنحن أيضا يجب أن نساعد غيرنا ولو لم نحتج إليهم لأن ربنا يساعدهم وإيانا دون أن يحتاج إلى أحد. يأمرنا القرآن الكريم بمساعدة من يحتاج دون التوجه إلى قوميته ودينه وجنسه وأعماله.

بتلك الرياضات الثلاث سوف يشعر المرء بأن كل الناس سواسية كأسنان المشط وبأن الكبرياء لا يصح لغير القدوس العزيز عز اسمه وبأن التواضع هو شيمة الأنبياء قبل بقية الناس وصفة العلماء قبل الجاهلين وهو من أجمل صفات الناس كما أنه صفة قبيحة لله تعالى وحده. وبتلك الرياضات الثلاث نعلم بأن الكبرياء عيب علينا جميعا كما أنه من أجمل صفات القدوس العزيز جل جلاله. هكذا يمكننا استشعار الفروق الجوهرية بين الرب والمربوب وبين الخالق والمخلوق. وحينما نلاحظ مدى خضوع الأنبياء في مزاولة الصيام والحج والصلاة فإننا نكف عن الغلو في الخلق ونعلم -لو نتخلى عن العصبيات الحمقاء- بأن الأنبياء الكرام إخوان لنا يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويحجون كما نحج ويبكون خوفا من الله تعالى كما نبكي ويخافون عذاب يوم عظيم مثلنا تماما. فهم فعلا إخواننا الحقيقيون الذين أحبونا ونحن نحبهم في المقابل حباً أخويا وليس حبا خاضعا.

الحب الخاضع مماثل للشكر الخاضع وهما مماثلان للطاعة الخاضعة؛ والعبادة تجمع الصفات الثلاث. فلا نعبد إخواننا الذين هم مثلنا ولكننا نعبد ونخضع للذي ليس كمثله شيء سبحانه وتعالى عما يشركون إلها واحدا أحدا لا نخضع لغيره مهما كبر في عيوننا.

كيف يطيب للذي يصوم خوفا من الله تعالى أن يخضع لصائم يصوم خوفا من الله تعالى؟ هلا نفتح قلوبنا ونوسعها لعلها تقوى على الاعتراف ولو جزئيا بعظمة الله تعالى الذي أرهب كل الخلق. قال تعالى في سورة الإسراء: وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (106) قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109). هذا حال نوح وإبراهيم وموسى وعيسى الذين أوتوا العلم من قبل القرآن وهذا هو حال محمد الذي اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين.

فيا أيها المؤمنون أقول لكم ولنفسي؛ لقد جاءكم رمضان فاستعدوا له وأنصتوا لكتاب ربكم قبل أن تتلوا آياته بتجويد بديع واسمعوا لقول ربكم قبل أن تستمعوا إلى أنشودة القرآن المجود؛ لعلكم تتقون. لقد أنزل الله لنا النظام القرآني المتكامل في شهر رمضان وتكرم علينا بأن عرَّفنا على خلاصة الأديان السماوية متوجة بالاستدلالات العقلية لعلنا نتعرف على ربنا فنخضع له كما يستحق ونخلص له كما هو أهل له ونعبده شاكرين طائعين مسبحين بحمده ولا نخضع لغيره كائنا من كان. ولعل من الصواب أن نختبر أنفسنا في رمضان فإذا رأينا نفوسنا تحن فقط إلى الله تعالى وتعتبر كل الأنبياء إخوانا لها فهي نفس تأثرت بالصيام وتحولت إلى نفس تواقة إلى بارئها؛ ولو رأيناها تحن إلى الطيبين إضافة إلى ربهم فهي نفس لم تتخلص بعد من الشرك الواضح بالله تعالى ويجب علينا تنظيفها بالمزيد من الخضوع للواحد الأحد لعله يمن علينا بالهدى من عنده.

ولنختبر نفوسنا في شهر الصيام فإذا رأيناها تخاف وتوجل من الله تعالى وحده ولو تكاتفت ضده كل أنصار الشياطين فهي نفس تأثرت بالصيام وتعرفت على ربها بأنه وحده المرجع ووحده الملاذ ووحده العالم القادر والكل عبيد لا حول لهم ولا قوة أمامه. سوف يشعر المؤمن الحقيقي بالقوة ضد كل أعدائه وهو يلوذ بربه مطيعا لأوامره محبا له سبحانه وشاعرا بأنه لا يأكل ولا يشرب ولا يطلب الشهوات ليكون ساعات من أيام رمضان متشبها بملائكة الرحمن الذين لا يأكلون ولا يشربون ولا يمارسون الجنس ولا ينامون ولا يرتاحون ولا يحبون إلا الله ولا يطيعون عدا الله ولا يشكرون غير الله وهكذا يتقربون إلى معرفة الرحمن. إنهم دائما في حالة الطاعة والشكر والحب لربهم يطلبون منه سبحانه أن يعرفهم بنفسه ويزيدهم علما بتلك الساحة القدسية التي تملأ كل الوجود بالوجود وبالحياة وبالحركة جل جلال الله تعالى.

وأخيرا أوصي إخواني وأخواتي بأن يقرأوا ترحيباتي السابقة لهذا الشهر الكريم فقد اخترت مواضيعها بدقة فائقة لتكون مفيدة للصائمين. نريد لصيامنا أن يكون وسيلة للتقرب إلى الله تعالى والاستزادة من المعرفة به سبحانه. نريد لصيامنا أن يبعدنا عن الشر والفساد والقتل ويبعدنا عن مساعدة الذين يظلمون الناس ويقتلون الناس بالحجج الواهية ونلعنهم ونطلب من ربنا أن يخلصنا منهم. لا فرق بين ما يعلنونه لأنفسهم من دين فيهودهم من أعداء موسى ومسيحيوهم من أعداء عيسى ومسلموهم من أعداء محمد عليهم السلام.

الذي يقتل خلق الله تعالى ليس بشرا فهو ليس مستعدا للتسليم والخضوع لربه. لقد خلق الله تعالى الناس جميعا ورزقهم جميعا ويحبهم جميعا فمن يمسهم بسوء فقد مس إرادة الرحمن بما لا يحبه الرحمن. لكن الله تعالى اختبارا لقلوبهم يسمح لهم بتفعيل بعض نواياهم السيئة لتكون حجة عليهم يوم القيامة، وتذكيرا لنا نحن البشر لنعود إلى الله تعالى مستغفرين تائبين.

قال تعالى في سورة الإسراء: وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33). فالنفس محترمة بدون قيد الدين؛ والحق موضح في الآية الكريمة بأن سمح ربنا لولي المقتول أن يقتل قاتل قريبه دون إسراف بمعنى أن يُقتل شخص مقابل شخص لا أكثر. فمن أين أتى المجرمون بحكم القتل الجمعي وعلى أي أساس قرآني يمارس بعض أصحاب الفتاوى جرائم قتل البشر بلا حساب؟ كل أولئك مجرمون مثل القتلة أنفسهم وأرجو ألا يتوقع أي منهم رحمة من ربه. إنه قتل عبيده وأيتم أهلهم دون أي إذن من ربه. لا أدعو إلى اليأس من رحمة الله تعالى ولكن أمرهم في غاية الخطورة أمام ربهم.

وأخيرا لو رأيت نفسك تصلي وتصوم وترضى على المجازر التي يقيمها المجرمون في بقاع الأرض بحجة الانتقام وغيرها فاعلم بأنك ما صليت وما صمت ولكنك مارست طقسا قوميا لا يمت بصلة إلى أمر الله تعالى. لعل الهندوسي الذي يصوم ظنا منه بأنه يتقرب إلى الله تعالى أو إلى الخالق يكون أكثر قبولا عند ربه منك أنت المسلم القومي. أستثني منهم الذين يقتلون الناس فهم أكثر خلق الله شراسة دون أن أفرق بين من ادعى الإسلام أو البوذية أو اليهودية أو الهندوسية أو المسيحية أو الشنتو. كل القتلة بلا استثناء أعداؤنا وأعداء ربنا الرؤوف الرحيم.

صوموا مسلمين مؤمنين تحبون البشرية كلها كما ترون ربكم يحب الناس جميعا.

أحمد المُهري

26/4/2019

#تطوير_الفقه_الاسلامي

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.