نظرية ظهور العلم -18 مشكلة البحث العلمي في مصر


نظرية ظهور العلم -18

مشكلة البحث العلمي في مصر

كنت أراجع اليوم ما كتبته بالأمس وذلك استعدادًا لاستكمال ما بدأت الكتابة فيه عندما وقعت عيناي على السطر التالي:

“مشكلة البحث العلمي في مصر, إذن, هي غياب “التفكير العلمي” من الثقافة المصرية”

وعليه, قررت الحديث عن مشكلة البحث العلمي في مصر.  يهدف هذا الحديث إلى بيان أن الحديث عن غياب التفكير العلمي من الثقافة العربية ليس حديثًا “خياليا”, أو مجرد حديث لإنسان لا يعاني من أي مشاكل في حياته فقرر أن يخلق لنفسه مشكلة يعمل على حلها دفعًا للملل الذي يعاني منه.  يمثل غياب التفكير العلمي (تفكير المرحلة الرابعة حسب مقياس بياجيه) من الثقافة المصرية مشكلة حقيقية في كافة المجالات وعلى كافة المستويات.  حقيقة الأمر, من الخفير إلى الوزير (حرفيا).  إلا أنها تظهر بوضوح في مجال البحث العلمي.  يعود ذلك إلى أن البحث العلمي لا يكتفي بـ”تلقي” ما قاله أبوك الحاج جان بياجيه وإنما يعمل على “التحقق” من صحة ما قاله أبوك الحاج جان بياجيه.  وموضوع “التحقق” هذا موضوع صعب للغاية لمن تربى على “التلقي”.  يعود ذلك إلى أن التلقي لا يتطلب منك إلا “ذاكرة” قوية تستطيع أن “تحفظ” ما قاله أبوك الحاج جان بياجيه, على حين أن “التحقق” يتطلب منك بداية “القدرة على إدراك التناقض” وهي قدرة لا تتوافر إطلاقا لأبناء ثقافات المرحلة الثانية, ومنها, بطبيعة الحال, ثقافتنا العربية السعيدة. 

وحيث إن الحديث سيدور حول البحث العلمي, فليس هناك أفضل من أن ندع عالمنا الكبير الأستاذ الدكتور عبد الفتاح السيد أستاذ علوم البحار بجامعة الإسكندرية يحدثنا عن قصة البحث العلمي في مصر.  يقول سيادته:

“لقد أثار موضوع النهوض بالبحث العلمي الكثير من الشجون لدي بصفتي أحد المنتمين له والعاملين فيه.   على الرغم من أهمية الوفرة المالية للنهوض بالبحث العلمي، إلا أنني لا أميل الى وضع التمويل كسبب رئيسي للتخلف العلمي. هذا على الرغم من أن معظم باحثينا وعلمائنا – خاصة في العلوم الأساسية والتطبيقية – يعزون تردي المستوى البحثي، وفشلهم في النشر في الدوريات العالمية المتخصصة إلى نقص الإمكانات المادية. ولكن هذا ليس صحيحا بشكل مطلق.

لقد أشاد الدكتور كمال  بالتجربة العلمية المذهلة لماليزيا، من خلال معايشته للمجتمع الماليزي أثناء عمله أستاذا بجامعة ماليزيا للعلوم، والتي شرفت بالعمل أستاذا زائرا بها في نفس الفترة الزمنية التي تواجد سيادته بها، وشرفت بالتعرف على الدكتور كمال هناك.  قد لا يعلم الكثيرون أن ماليزيا كانت من أفقر دول العالم قبل 30 عاما.   لم يكن في ماليزيا عام 1965 سوى جامعة واحدة بعد استقلالها عن انجلترا، في الوقت الذي كان فيه في مصر 6 جامعات لها أفرع في العديد من المحافظات.  كان المجتمع الماليزي مجتمعًا بدائيًا متخلفا يعيش على الصيد وإنتاج المطاط والأخشاب.     وكلنا يعرف ماذا حدث بعد ذلك في كل من ماليزيا وفي مصر.    لم يكن المال قاطرة النهضة هناك.

من الأسباب الرئيسية الأخرى لتخلفنا العلمي – من وجهة نظري -:

1- انحدار مستوى التعليم بجميع مراحله, وبالتالي فإن أي عالم حقيقي, أو علم حقيقي, يخرج من هذا النظام التعليمي المتردي يكون طفرة أو صدفة، أو استثناءً يؤكد القاعدة.

2- غياب التخطيط والمنهج – ليس في البحث العلمي فقط، بل في كل شيء.  فمعظم أبحاثنا أبحاث عشوائية، لا منهج لها ولا هدف إلا الترقية غالبا.   وبالمناسبة، ماليزيا وضعت برنامجا لتطوير البحث العلمي في عام 2007 يسمي برنامج APEX  (Accelerated Program for Excellence) (البرنامج المعجل أو السريع للتميز- ترجم إنت يا دكتور كمال)، قامت بمقتضاه الدولة باختيار عدد من أفضل جامعات ماليزيا (استنادا إلى أسس علمية صارمة) بحيث يتم دعم هذه الجامعات دعما لا محدودًا حتى تصبح بحلول عام 2017 جامعات عالمية لا تقل عن نظيراتها في الدول الغربية، بل تتفوق عليها، بشرط أن تقوم هذه الجامعات بنقل هذه التجربة للجامعات الماليزية الأخرى خلال الفترة من  2017-2020. وقد عايشت جزءًا من هذا البرنامج أثناء وجودي في جامعة ماليزيا للعلوم التي يسمونها الآن APEX university حيث إنها أولى الجامعات التي تقوم بتطبيق هذا البرنامج.   قارنوا بين التخطيط والعشوائية.

3- إحجام القطاع الخاص والمجتمع الأهلي عن دعم البحث العلمي والاستثمار فيه.   فما زلنا ننظر تحت أقدامنا ونشتري المنتج العلمي ولا ننتجه، ونؤمن بالمثل القائل (شراء العبد ولا تربيته).  تقدمت مرة بمشروع بحثي  بقيمة 40,000 جنيه (فقط أربعون ألف جنيه) لأحد رجال الأعمال في محافظة ساحلية يدَّعي تشجيع البحث العلمي ولكنني عدت بخف واحد وليس بخفي حنين. شركة بتروناس للخدمات البترولية الماليزية تدعم مكتبة جامعة ماليزيا للعلوم بمبلغ 7 مليون دولار سنويا للاشتراك في جميع الدوريات العالمية وشراء الكتب والمطبوعات العلمية العالمية.   قارن بيننا وبينهم.   ربما أعود في مشاركة قادمة للحديث عن نماذج من القطاع الخاص تساهم بشكل لا يصدق في تطوير البحث العلمي وتطبيقاته في ماليزيا، أبرزها رجل الأعمال الشهير مصطفى كمال.

4- ضعف معايير الترقي، مما يؤدي إلى ترقية العديد ممن لا يصلحون للعمل البحثي والجامعي (هذا من خبرتي كعضو في لجان ترقية الجامعات ولجان ترقية مراكز البحث العلمي). كما أن معظم الدوريات والمجلات العلمية المصرية التي ننشر فيها أبحاثنا العلمية لا تصلح إلا لسلة المهملات.   قمت منذ فترة قصيرة بتحكيم أبحاث أستاذ مساعد في جامعة الإنديز الغربية بدولة “ترينيداد وتوباجو” وهي دولة صغيرة في منطقة البحر الكاريبي، ربما لم يسمع عنها الكثيرون –  للترقية لدرجة أستاذ.    وفوجئت بقائمة تضم  أكثر من 40 بحثا معظمها منشور في أرقى الدوريات العالمية، إضافة إلى أنشطة علمية أخرى هائلة.     في مصر الحد الأقصى لابحاث الترقية هو 10 بحوث على أن يكون منها بحثان فقط منشوران في دوريات عالمية. المصيبة أن الكثير من الباحثين عندنا يطالبون بتخفيض عدد البحوث المطلوبة للتقدم للترقية كما يطالبون بإلغاء شرط النشر الدولي.  قارن بين مصر وترينيداد وتوباجو وليس بين مصر وأوروبا, أو أمريكا.

5- معظم أبحاثنا تكرار ونقل لأبحاث الآخرين، لأننا ما تربينا على التفكير, والابتكار, والعصف الذهني، بل دائما نحتاج لمن يفكر لنا.  نحن يا سادة نتاج “فكر النقل قبل العقل”.   نحن أبناء شرعيون “للفكر والفقه البدائي القديم”. أبحاثنا شيء من “المهيصة” التي يشير اليها الدكتور كمال كثيرًا, إضافة إلى عدم الثقة بالنفس, وعدم القدرة على المنافسة, فكثير من شباب الباحثين الذين ألتقيهم في المحافل العلمية يفتقدون الثقة, والحماس, والغيرة العلمية.

6- الفردية, وغياب العمل الجماعي, والتفكير الجمعي.  لقد تربينا على الفردية والأنانية, والمصيبة أن كل واحد منا يعتقد أنه أعلم العلماء, وأن ما يقوم به من بحث لا يوجد نظير له في الكون, وأنه وحيد عصره وفلتة زمانه.

7- غياب الحافز والتشجيع العلمي (في جامعة ماليزيا للعلوم.. أي بحث ينشر في مجلة عالمية متخصصة لها معامل تأثير يحصل مؤلفة على 1000 دولار).  وللحق بدأ تطبيق هذا الحافز في الجامعات المصرية منذ سنوات قليلة مما أدَّى الى رفع نسبة الأبحاث المنشورة عالميا.   ولقد استفدت أنا من هذا الحافز كثيرًا نظرا لكثرة الأبحاث التي أنشرها في الدوريات العالمية.  وهذا يؤكد مرة أخرى أننا يمكن أن نجري أبحاثا علمية معقولة حتى عند نقص الدعم المالي.

8- الافتقار الى تسويق البحث العلمي.   تسويق البحث العلمي عملية معقدة تحتاج الى ملكات خاصة شريطة أن يكون هذا البحث قابلا للتسويق, وبالتالي يصعب أو يستحيل تحويل نتائج الأبحاث التطبيقية – إن وجدت – إلى منتجات حقيقية.

9-  غياب المدارس العلمية ومراكز التميز.   في الدول المتقدمة تتميز كل جامعة أو مركز بحثي بميزة نسبية يتم دعمها والتركيز عليها لكي تصبح علامة مميزة لهذه الجامعة. وبالتالي تصبح هذه الجامعة أو المركز بيت خبرة أو مركزا للتميز، وبالتالي تصبح قبلة للباحثين والمستفيدين في هذا المجال.   أما عندنا, فنحن بتوع كل حاجة.  يعني الأمر برضه لا يزيد عن “المهيصة”.

هذه بعض النقاط التى أرى أنها – إضافة الى ما ذكره الزملاء الأفاضل – سببا في تخلف ركب البحث العلمي في بلادنا المحروسة.   وأنا واثق أن هناك العديد من الأسباب الأخرى التي يمكن أن تضاف لهذه القائمة

خالص تحياتي, وأعتذر عن الإطالة فهذه ليست عادتي.”  انتهى كلام سيادته 

خالص الشكر لسيادة الأستاذ الدكتور عبد الفتاح السيد على كريم رسالته.  تلخص رسالة سيادته الموقف فيما يتعلق بـ”البحث العلمي في مصر”.  يخبرنا سيادته بالتالي:

1.    أن مستوى التعليم في مصر بجميع مراحله هو مستوى منحدر, و

2.    أن أي عالم حقيقي, أو علم حقيقي, يخرج من هذا النظام التعليمي المتردي فهو إما  طفرة, أو صدفة، أو استثناءٌ يؤكد القاعدة, و

3.    أن معظم أبحاثنا أبحاث عشوائية، لا منهج لها ولا هدف إلا الترقية غالبا, و

4.    أن معظم الدوريات والمجلات العلمية المصرية التي ننشر فيها أبحاثنا العلمية لا تصلح إلا لسلة المهملات, و

5.    أن  معظم أبحاثنا تكرار ونقل لأبحاث الآخرين، و 

6.    أننا ما تربينا على التفكير, والابتكار, والعصف الذهني، بل دائما نحتاج لمن يفكر لنا, و

7.     أننا نتاج “فكر النقل قبل العقل”, و

8.    أننا أبناء شرعيون “للفكر والفقه البدائي القديم”.

يختم سيادته مقاله بقوله إن “الأمر برضه لا يزيد عن المهيصة”.  

لا يحتاج مقال الأستاذ الدكتور عبد الفتاح السيد إلى أي تعليق.  الحديث عن “غياب التفكير العلمي” من الثقافة العربية ليس رفاهية, ولا هو بحديث من يعيشون في بروج عاجية, وإنما هو حديث في أمور تتعلق بحياتنا.   أمور تتعلق بمأكلنا, ومشربنا, وملبسنا, ومسكننا, وتعليمنا, وعلاجنا, وجيشنا, وشرطتنا, ومحاكمنا, وإعلامنا, وشوارعنا, ومرورنا, وكل شؤون حياتنا.  وقبل كل ذلك بحسن فهمنا لديننا. 

يستحيل على أمة أدمنت المهيصة أن تحسن فهم كتاب الله.  تماما مثلما يستحيل أن نفهم دنيا الله بالمهيصة يستحيل أن نفهم دين الله بالمهيصة.  يستحيل أن نفهم أي شيء إلا بالتفكير العلمي, تفكير المرحلة الرابعة حسب مقياس جان بياجيه.  المشكلة أن التفكير العلمي غائب عن الثقافة المصرية. 

يتبع ,,,,

كمال شاهين 

#نظرية_ظهور_العلم

#تطوير_الفقه_الاسلامي  

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.