القصة الحقيقة للثورة المصرية الحلقة الاخيرة – فتح باب التحقيق

القصة الحقيقة للثورة المصرية الحلقة الاخيرة – فتح باب التحقيق

( مدخل : سيادة وكيل النيابة حلمي بك شاهين هو الذي قام أيضًا من تلقاء نفسه بإغلاق باب التحقيق.  وأغلق باب التحقيق.)

مثله مثل أي يوم آخر, كان اليوم مزدحما بالعمل.  أوراق لم يقرأها بعد وتحتاج إلى أن يقرأها, وأوراق قرأها وتحتاج إلى أن ينتهي منها, ومراجعون ينتظرون دورهم في الدخول عليه, وآخرون فضلوا الانتظار أمام باب مكتبه مباشرة, وتليفون لا ينقطع رنينه بشكل متواصل, إلا أن حلمي بك كان مصمما على فتح باب التحقيق فيما رواه الحاج محمود والوصول إلى الدافع الحقيقي الذي دفعه إلى اختراع هذه القصص الوهمية عن الخلفية الحقيقية للثورة المصرية.  طلب حلمي بك من عم سيد أن لا يسمح بدخول أحد إلى المكتب لمدة نصف ساعة كما طلب منه ألا يترك مكانه أمام باب المكتب.  خرج عم سيد وأغلق الباب خلفه وجلس على مقعده بجوار الباب.

أخرج حلمي بك هاتفه المحمول واتصل بنبيل بك رسلان وكيل نيابة شرق القاهرة.  بعد التحية والسؤال عن الصحة سأل حلمي بك نبيل بك عما إذا كان من الممكن أن يطلب منه المساعدة “بصفة غير رسمية” في إحدى القضايا التي ينظر فيها, أو بالأحرى في جانب منها.  أكد حلمي بك, مرة أخرى, أنه يطلب هذا الطلب “بصفة غير رسمية” وسوف يكون متفهما تمام التفهم إذا اعتذر نبيل بك عن التجاوب مع ما يطلبه نظرًا لحساسية الموضوع.  قال نبيل بك إنه لن يتردد في المساعدة إذا كان ذلك ممكنا, كما أنه لن يتردد في الاعتذار إذا كانت المساعدة غير ممكنة.    يعتمد الموضوع, بهذا الشكل, على ما إذا كانت المساعدة ممكنة أم غير ممكنة.

قال حلمي بك إن الموضوع يتعلق بملف اسمه “مدينة إنتاج المعلومات”.  أوضح حلمي بك أنه هو نفسه لم يرَ هذا الملف, وأن الموضوع يتميز بالسرية الشديدة لدرجة أنه لا توجد ورقة واحدة لدى مكتب النائب العام بهذا الخصوص.  بين حلمي بك أن السبب في ذلك يعود إلى أن الأمر يتعلق بما إذا كان جهاز أمن الدولة السابق قد قام بإنشاء جهاز جمع معلومات لا توجد لدى أي جهة في الدولة معلومات تتعلق به.  أي أنه جهاز يقع خارج سلطة الدولة.  ذكر حلمي بك أن مقر هذا الجهاز كان يقع خلف مبنى “الجماعة” مباشرة أسفل مستشفى اسمها “الشفاء والأمل” قبل أن يتعرض لهجوم الثوار في الأيام الأولى من الثورة حين قام الثوار بالهجوم على مقرات جهاز أمن الدولة السابق.   قال نبيل بك إنه لم يسبق له أن سمع عن هذا الموضوع إلا أن السؤال عنه ليس من الصعب.  كرر حلمي بك رجاءه بعدم الإشارة إلى اسمه في هذا الموضوع.  

أنهى حلمي بك المكالمة واتصل باسماعيل بك سالم وكيل نيابة جنوب القليوبية.   ومرة أخرى, بعد التحية والسؤال عن الصحة سأله عما إذا كانت لديه أي معلومات عن هجوم تعرضت له محطة مترو شبرا الخيمة في الأيام الأولى من الثورة.  قال حلمي بك إنه ينظر الآن في قضية ورد فيها أن مجموعة من البلطجية قاموا بالاستيلاء على محطة شبرا الخيمة بهدف شحن قطارات المترو بمتفجرات وقيادة هذه القطارات إلى ميدان التحرير ونسف الميدان بمن فيه.  ذكر حلمي بك أن قوة من ضباط كلية الشرطة تصحبهم كلاب الشرطة قد شاركت في إلقاء القبض على هؤلاء البلطجية وتسليمهم إلى قوات الجيش.  استمع اسماعيل بك إلى حديث حلمي بك وأجاب بأنه لم يسمع عن هذا الموضوع من قبل إلا أن السؤال عنه لن يأخذ أكثر من دقائق إذ لا يمكن أن يمر حدث بمثل هذه الأهمية بدون تسجيل في ملفات النيابة.   شكر حلمي بك اسماعيل بك وأقفل الخط, ودق الجرس ليدخل عم سيد.  طلب حلمي بك من عم سيد أن يحضر فنجانا من القهوة.  لم تأخذ المكالمات أكثر من ربع ساعة.   شرب حلمي بك قهوته وضغط على الجرس مرة أخرى ليدخل عم سيد.  طلب حلمي بك من عم سيد أن يبدأ في إدخال المراجعين واعتدل في مقعده استعدادًا لبدء العمل, وبدا المراجعون في الدخول, والهاتف في الرنين, وبدأت الملفات في الدخول والخروج. 

في حوالي الساعة الرابعة تقريبا رن المحمول.  كان المتحدث هو اسماعيل بك سالم.  قال اسماعيل بك إنه لا يوجد أي ذكر في سجلات نيابة جنوب القليوبية لموضوع الهجوم على محطة مترو شبرا الخيمة.  بين اسماعيل بك أنه تم الاتصال بناظر محطة شبرا الخيمة للتأكد  إلا أن الرجل قال إنه لم يسمع عن هذا الموضوع إطلاقًا وأنه لو كان قد حدث لكان سمع عنه.  شكر حلمي بك إسماعيل بك على اهتمامه وأقفل الخط.

ما كاد حلمي بك يضع الهاتف في جيبه حتى بدأ في الرنين.  كان المتحدث هذه المرة هو نبيل بك رسلان.   قال نبيل بك إنه قام بالسؤال عن الموضوع الذي تحدث عنه حلمي بك وأن لا أحد يعرف شيئًا عن هذا الموضوع.  بين نبيل بك أن هناك احتمال أن السرية المضروبة حول الموضوع قد تكون هي السبب في ذلك.  المؤكد, على أية حال, هو أن هذه العملية لم تتم في المقطم.  ذكر سيادته أنه لا يوجد في المقطم مستشفى باسم “الشفاء والأمل”.  حقيقة الأمر, لا يوجد في المنطقة كلها مستشفى واحد.  كل ما هنالك هو مستوصف في الدور فوق الأرضي في عمارة قريبة من شارع تسعة.   شكر حلمي بك نبيل بك على اهتمامه وأغلق الخط. 

سرح حلمي بخياله بعض الشيء.  المسألة كانت أسوأ مما يتصور.  كان حلمي يتوقع وجود واقعة صغيرة أو حتى تافهة.  خناقة, مثلاً, قام عمه محمود بتضخيمها وتحويلها إلى معركة بين الخير والشر تدخلت فيها قوات الجيش, والشرطة, والثوار, ولا مانع من مشاركة الكلاب والغربان, والسحالي, لإعطائها مسحة “كونية”, إلا أنه لم يكن يتوقع على الإطلاق أن تكون المسألة خيالية من أولها إلى آخرها.  المسألة أسوأ مما كان يتصور.

أنهى حلمي عمله وركب سيارته واتجه إلى منزله.  فتح باب الثلاجة وأخرج بعض الطعام الذي أرسلته معه والدته وقام بتسخينه ثم قام بتشغيل التلفزيون وجلس لتناول الطعام.  كان التلفزيون, كالعادة, يذيع مباشرة من محطة التحرير.  ضحك عندما تذكر أنه لم يُنسف.  الحمد لله على نجاح عملية الليلة الكبيرة.  ما الذي يمكن أن يدفع عمه إلى اختلاق هذه القصة الخيالية؟  ثم ما الذي يمكن أن يدفع ناحية شاهين كلها إلى مجاراته في هذا الموضوع؟   تعلم ناحية شاهين أن لا أحد في البلد سوف يصدق القصص التي يحكيها الحاج محمود.  ثم, مرة أخرى, ما الفائدة؟  ما الهدف من وراء هذه القصص؟   دق جرس الباب وقام حلمي ليفتحه ودخل عبد الفتاح بك وأحمد بك زملاؤه في النيابة.  قال عبد الفتاح بك إنهم حضروا لدعوته إلى العشاء في نادي القضاة بالجيزة.  حمل حلمي أطباق الطعام الذي فرغ من تناوله إلى المطبخ, وخرج لتناول العشاء مرة أخرى.  أي شيء يبعده عن التفكير في قصص الحاج محمود.

في اليوم التالي استأذن حلمي من الشغل وترك العمل بعد صلاة الظهر مباشرة واتجه إلى المقطم.  كان يريد أن يرى المكان بعينيه حتى لا تكون المسألة مجرد “نقل كلام”.  كان الطريق إلى القاهرة, كالعادة, مزدحما وكأن أهل البدرشين قد قرروا الهجرة الجماعية من البدرشين. تطلب المشوار أكثر من ساعة.  لم تخف الحركة إلا بعد أن أخذ الطريق الصاعد إلى المقطم حيث بدأ في السؤال عن الطريق إلى مقر “الجماعة”.    لم يأخذ البحث وقتا طويلا حتى وصل إلى المقر.

كان المقر يقع في منطقة شبه مهجورة تتناثر فيها بعض البنايات.  حقًا, كان المقر يقع بين بنايتين كبيرتين إلا أنه لم يكن يوجد خلفه أي بناية وإنما قطعة أرض فضاء. دار حلمي حول المبنى ولمح سوبر ماركت الراية, وصيدلية, ومحل فول وطعمية, وهذا كل ما في الأمر.  فكر حلمي بك أن المكان مكشوف تماما بحيث إنه لو حدث أن قامت السحالي المصرية بثورتها هنا لرآها كل من يسكنون هذه المنطقة.  لا مكان هنا يمكن أن “تختبيء” السحالي المصرية فيه إلى لحظة الهجوم على مدينة إنتاج المعلومات.  أدار حلمي بك السيارة واستدار عائدًا إلى البدرشين.  لا مجال هنا للسؤال عن “مدينة إنتاج المعلومات”.   السؤال هنا عن مدينة إنتاج المعلومات لن يختلف كثيرًا ولا قليلا عن السؤال عن مصنع فوانيس الذئب السحلاوي.  

في الطريق إلى البدرشين غير حلمي اتجاه السيارة وتوجه إلى محطة مترو شبرا الخيمة.  كان الهدف, مرة أخرى, أن يرى بعينيه.   دخل حلمي بك إلى غرفة ناظر المحطة, وحياه باحترام, وتساءل عما إذا كان لديه من الوقت ما يسمح له بالحديث معه لمدة خمس دقائق فقط.  نظر ناظر المحطة إلى الشاب الواقف أمامه وأدرك أن المسألة لا تتعلق بشكوى من أحد الركاب وإنما بأمر “رسمي”.  قال حلمي بك إنه يسأل عما إذا كانت المحطة قد تعرضت لهجوم من البلطجية في الأيام الأولى من الثورة.  لمعت عينا ناظر المحطة وأجاب باهتمام وحماس ولكن بصوت منخفض أنه سئل نفس السؤال بالأمس من قبل نيابة القليوبية وأجابهم على الفور بالنفي.  قال الناظر إنه على الرغم من أنه نفى الموضوع على الفور فإنه قام منذ الأمس بسؤال “الناس كلها” عن هذا الموضوع إلا أن أحدًا لم يسمع عنه على الإطلاق.  حقيقة الأمر, قال الناظر, إنه أتيحت له الفرصة منذ الأمس للحديث مع نظار المحطات الأخرى وأن لا أحد منهم سمع عن أي هجوم للبلطجية على محطات المترو من شبرا الخيمة إلى التحرير.  شكر حلمي بك ناظر المحطة وخرج إلى الميدان حيث ترك سيارته.

كان الميدان كبيرًا يمتليء بالمحلات, من محلات عصير قصب إلى سندوتشات فول وطعمية, إلى تصوير أوراق, إلى أكشاك سجائر وصحف, إلا أنه لم تكن توجد به مقاهٍ تتسع لجلوس مئات من الثوار انتظارًا لهجوم البلطجية.  ضحك حلمي بك وهو يتذكر حكاية الليلة الكبيرة التي حكاها عمه محمود.  من أين أتى الحاج محمود بكل هذا الخيال؟  أحس حلمي بالحزن حين ارتسم أجمل وجه في الدنيا أمام عينيه, وجه سلمى ابنة عم محمود.  من أين أتى أبو سلمى بكل هذا الخيال؟  لم يكن هناك سوى مقهى متهالك لا يتسع لأكثر من خمسين شخص ارتفعت فوقه يافطة حديثة للغاية باسم “مقهى 25 يناير السياحي”.  ابتسم حلمي عند قراءة الاسم.  قطعًا تيمنًا.  إذا كانت موقعة “الليلة الكبيرة” قد تمت هنا فعلاً فلا بد أن الثوار كانوا جالسين على الرصيف.  ركب حلمي بك سيارته واتجه إلى منزله مباشرة.  كانت الساعة قد تعدت الخامسة ولم يعد هناك مجال للعودة إلى المحكمة. 

لم يكن حلمي يشعر بالجوع عندما وصل إلى الشقة إلا أنه قام بالاتصال بمطعم المنوفي وطلب ساندويتشين شاورمة.  كان حلمي واحدًا من أولئك الناس الذين يأكلون حسب الساعة وليس حسب الجوع.  يتناول الناس طعام العشاء الساعة السابعة, مثلا, عليه يتناول حلمي طعام العشاء الساعة السابعة, أو السابعة والنصف, مثلاً أيضا, بغض النظر عما إذا كان جائعًا أو غير جائع.  ما هي إلا دقائق ووصل عصام, وناوله الساندويتشات, وأخذ الحساب وهو يقول “خليها علينا”, ووضع الإكرامية في جيبه وهو يرفض أخذها, ولم ينسَ أن يحمد الله على سلامة وصول الباشا. 

جلس حلمي أمام التلفزيون ووضع الساندويتشات أمامه وبدأ في تناول طعامه ومشاهدة أخبار ميدان التحرير.  دار في فكره شريط الأحداث التي أخبرهم بها عم محمود.  حمام المنوفيه, والشايقي والجعلي, والسحلية وزة ودفن مدينة إنتاج المعلومات, والغراب النوحي, والكلب هول, وضباط كلية الشرطة, وبلطجية السيدة, إبراهيم الأسود, وإبراهيم الشركسي, وإبراهيم الصعيدي, والمهندس خيري عبد الرحمن.  وهنا اجتاحت جسم حلمي بك قشعريرة.  المهندس خيري عبد الرحمن. 

فجأة سطعت في ذهن حلمي بك فكرة أن المستفيد الوحيد من كامل هذه القصة هو المهندس خيري عبد الرحمن.  لا أحد غيره يتوفر لديه دافع لخلق هذه القصص, ولا أحد غيره تتوفر لديه المقدرة المادية على تمويل هذا المشروع – الرحلات المتواصلة من كفر نفرة إلى القاهرة, ومن القاهرة إلى الإسكندرية, ومن الإسكندرية إلى كفر نفرة – ولا أحد غيره يستطيع تأليف هذه القصص الخيالية.   الجماعة يتوفر لديها المستشارون, والمؤلفون, والمخرجون, وخبراء الإعلام, والدعاية, وعلم النفس, وكل ما يلزم للعب في عقل الشعوب.  الدافع هو نشر فكرة أن رجال الجماعة هم الذين خططوا لهذه الثورة منذ كانوا أطفالا في كفر نفرة, وأن هذه الثورة ثورة مباركة تمت برعاية الله سبحانه وتعالى.  لا أحد في مصر كلها, بل في العالم كله, يستطيع ادعاء ملكية الثورة خلاف “الجماعة”.  المهندس خيري عبد الرحمن هو الوحيد الذي يمتلك المال الكافي لشراء الحاج محمود وشراء تعاونه على نشر هذه القصص بين أهل كفر نفرة, ومن بعدها كفر هلال, ثم كفر عليم ثم المنوفية كلها ومن بعد ذلك مصر. 

أدار حلمي شريط الأحداث والأسماء في ذهنه مرة أخرى.  واحدًا واحدًا هذه المرة:  حمام المنوفية.  الشايقي والجعلي.  السحلية وزة وزوجها وجدي ودفن مدينة إنتاج المعلومات بمساعدة المهندس خيري عبد الرحمن.  الغراب النوحي, والكلب هول, وإسفين, وضباط كلية الشرطة, وعتريس, وأبو سريع, وإبراهيم الأسود, وإبراهيم الشركسي, وإبراهيم الصعيدي, والمهندس خيري عبد الرحمن.   الاسم الوحيد المستفيد, مرة أخرى, هو سيادة المهندس خيري عبد الرحمن.    الأسماء “البشرية” الوحيدة التي وردت في هذه القصص هي أسماء بلطجية السيدة, والمهندس خيري عبد الرحمن.  باقي الأسماء هي أسماء حيوانات خيالية لا وجود لها.  حتى ضباط الشرطة لم ترد أسماؤهم ولا أحد يعرف اسم واحد منهم.  حتى الدكتور محمد في مقر الجماعة لم يرد اسمه في أي قصة من هذه القصص ولم يتدخل أي تدخل في واحدة منها.  الموضوع كله في يد المهندس خيري عبد الرحمن.  أما بالنسبة لأهالي كفر نفرة فلم يرِد سوى اسم الشيخ حسن, وزينب, والحاجة كريمة.  ورد اسم زينب عند حديث الشيخ حسن مع أمه عن الضيف في غرفة السطوح, وهو حديث يمكن أن تكون زينب قد انتبهت إليه, أو لم تنتبه إليه.  وحتى إذا كانت قد انتبهت إليه فقد تكون فهمته كما قد تكون لم تفهمه.  من يستطيع أن “يفهم” عند الحديث عن الضيوف أن الضيف هنا هو “الغراب النوحي”؟   أما في حالة الحاجة كريمة فقد وردت إشارة واضحة تبين أنها على علم بموضوع الغراب النوحي.  كان حلمي بك على ثقة من أن الحاجة كريمة إذا سئلت ستقوم “بتكذيب” كل كلمة تتعلق بهذا الموضوع.  كان حلمي بك على ثقة كذلك من أن لا أحد في كفر نفرة يجرؤ على سؤال الحاجة كريمة عما إذا كانت قد استضافت “الغراب النوحي” في منزلها.  السؤال عبيط والحاجة كريمة ليست معتوهة حتى تستضيف غربانًا في بيتها.  وأخيرًا, يتبقى أن لا زينب, ولا الحاجة كريمة, ولا الشيخ حسن نطقوا بكلمة في هذا الموضوع.  حقيقة الأمر, يؤكد الحاج محمود باستمرار أن الشيخ حسن سيستاء كثيرًا إذا علم بما يخبرهم به الحاج محمود.  الشيخ حسن لا علم له بقصص الحاج محمود.

لم يكن حلمي بك شاهين, وكيل نيابة البدرشين, ليغفل أن خيط الأحداث بهذا الشكل الذي يدور في ذهنه إنما يشير “وبوضوح” إلى أن سيادة المهندس خيري عبد الرحمن قد قام “بشراء” الحاج محمود لنشر هذه القصص الوهمية.  لم يكن سيادته ليغفل كذلك عن أنه لو عرف مخلوق واحد بما يفكر فيه لخرجت سلمى من حياته إلى الأبد.    شعر حلمي بالدوخة والحاجة إلى التقيؤ.    ملعون أبو الغراب النوحي, على أبو حمام المنوفية, على أبو الكلب هول, على أبوهم كلهم إذا كان الثمن هو سلمى. 

أدار حلمي شريط الأحداث والأسماء في ذهنه للمرة الثالثة.  وللمرة الثالثة لم يجد سوى اسم المهندس خيري عبد الرحمن, وأسماء بلطجية السيدة وإشارة عامة إلى ضباط كلية الشرطة بدون ذكر أسماء.   لا يوجد أي مصلحة لبلطجية السيدة في نشر قصص الحاج محمود الخيالية.  حقيقة الأمر, لا يوجد أي شك في أنه ليس من مصلحة بلطجية السيدة على الإطلاق انتشار هذه القصص عنهم إذ أنها ستلفت الأنظار إليهم وإلى ما قاموا به, أو لم يقوموا به, في شبرا الخيمة.  أضف إلى ذلك أن إبراهيم الشركسي لن يكون سعيدًا بمعرفة أهالي السيدة بأن الغراب النوحي قد خدعه وأفسد عليه خطة نسف ميدان التحرير.  ليس مما يشرف أي بلطجي على الإطلاق أن يعرف الناس عنه أن الغربان يمكنها أن تغرر به.  لا يتبقى, بهذا الشكل, سوى ضباط الشرطة, وهنا لا بد من الاعتراف بأن لهم مصلحة في انتشار القصة الرائعة لتدخل الكلب هول وتدخلهم هم شخصيا لإفساد محاولة نسف ميدان التحرير إذ أن ذلك سيبين وطنيتهم واستعدادهم للتضحية بحياتهم من أجل مصلحة البلد.   النقطة أن لا أحد منهم نطق بكلمة.  القصة كلها جاءت على لسان الحاج محمود, وضباط الشرطة لا يوجد لديهم مليم زائد في مرتباتهم لإعطائه للحاج محمود لنشر هذه القصص الجميلة عنهم وعن وطنيتهم.  الوحيد الذي يستطيع شراء الحاج محمود هو المهندس خيري.    شعر حلمي, مرة أخرى, بالغثيان.  شعر حلمي كذلك أنه لو استمر في الجلوس في الشقة يجتر أفكاره هكذا لانفجرت رأسه.  أخرج حلمي هاتفه المحمول من جيبه واتصل بالدكتور محمد النادي وأخبره أن لديه ما يحتاج إلى الحديث عنه وأنه سيكون شاكرًا لو استطاع رؤيته الليلة بعد العيادة – إذا لم يكن مرتبطًا بميعاد.  ضحك الدكتور محمد ضحكته المعتادة المجلجلة وقال “الله يسمع منك.  ربنا يوعدنا بميعاد.  ما على الله ببعيد.”  واستمر في الضحك.  أغلق حلمي الهاتف واتصل بإبراهيم بك النجار – أحد زملائه في المحكمة – وعرض عليه أن يصحبه في نزهة بين الحقول من الآن إلى الثامنة أو الثامنة والنصف.  كان حلمي يعلم أن إبراهيم بك يهوى التمشية بين الحقول من البدرشين إلى الحوامدية.  طبعًا, مسألة المشي إلى الحوامدية مستبعدة تماما في حالة حلمي إلا أنه مستعد للمشي إلى جهنم طالما أبعده ذلك المشي عن التفكير في موضوع الحاج محمود.  يمكن, طبعًا, في حالة العودة من الحوامدية – ذلك إذا وصلوا إليها فعلا – أن يعودوا في أي مايكروباس.    وهو ما حدث فعلا.

في الثامنة والنصف كان حلمي واقفًا أمام باب العيادة.  كانت العيادة, كالعادة, مفتوحة.  دخل حلمي ونظر حوله.  لم يكن هناك سوى اثنين من المرضى إضافة إلى الحاجة سعاد “المسؤولة” عن العيادة بشكل عام.  حيا حلمي الحاجة سعاد بهزة من رأسه وحيته هي بابتسامة واسعة ودعته إلى الجلوس “في أي مكان تحبه” وقالت إن الدكتور سيراه بعد الأستاذ والأستاذ.  قالتها بطريقة المقصود بها طمأنة “الأستاذ والأستاذ” على أن دورهم محفوظ وليس طمأنته هو على أن الأمر لن يطول.  شكرها حلمي على ذوقها وأخذ مقعدًا بعيدًا عن الباب, والنافذة, وتيارات الهواء.  كان الجو باردًا إلى حد ما.   لم يأخذ الانتظار طويل وقت, وسرعان ما انصرف المرضى والحاجة سعاد التي كانت قد انتهت لتوها من صنع فنجانين من الشاي, ودخل حلمي مكتب الدكتور محمد.

كان الدكتور محمد, كعادته, نشطًا كما كان, كعادته كذلك, ضحوكا, واستقبل حلمي بك بكل ترحاب تصحب كل كلمة يقولها ضحكة مجلجلة.  كان الأمر يبدو كما لو كنت تتحدث مع رجل يضحك يتخلل ضحكاته كلام أكثر مما لو كنت تتحدث مع رجل يتكلم تتخلل كلماته ضحكات.  ضحك حلمي بك وجلس على الكرسي المواجه للدكتور حلمي.  لم يُضِع الدكتور محمد وقتًا ونظر إلى حلمي بك قائلاً له “هات ما عندك”.   تحدث حلمي عما قام به في اليومين الماضيين وكيف توصل إلى أن القصة وهمية من أولها إلى آخرها, وأن لا مدينة إنتاج معلومات هناك ولا يحزنون, ولا ليلة كبيرة هناك ولا يحزنون.  تحدث عن ذهابه إلى المقطم لرؤية الموقع بنفسه ثم ذهابه إلى محطة مترو شبرا الخيمة.  بيَّن أنه لم يتبق له سوى الذهاب إلى السيدة زينب  والبحث عن إبراهيم الأسود, وإبراهيم الصعيدي, وإبراهيم الشركسي, ثم التوجه إلى كلية الشرطة في التجمع الخامس.  قال إنه فكر في ذلك في حقيقة الأمر إلا أنه أدرك أنه حتى لو صرحوا بأنهم قاموا فعلاً بما قاله الحاج محمود فإن ذلك لن يفسر “السبب” الذي دفع الحاج محمود إلى أن يحكي القصص التي حكاها.  وأخيرًا, تحدث عما توصل إليه من أن المستفيد الوحيد من هذه القصص هو “الجماعة”.  تحدث حلمي بك “بالتفصيل” عن كيف توصل إلى أن “الجماعة” هي التي تقف وراء القصص الوهمية التي ينشرها عمه الحاج محمود شاهين. 

نظر الدكتور محمد إلى حلمي ونظرة دهشة حقيقية واستغراب حقيقي تقفز من عينيه وسأله بهدوء “وما علاقة حلمي بك بهذا الموضوع من أوله إلى آخره؟”   جاء وقع السؤال على حلمي كمن أصيب بلدغة.  لم يخطر هذا السؤال ببال حلمي أبدًا.  ما معنى أن يسأله شخص عن علاقته بهذا الموضوع؟  هذا موضوع سمعه بأذنه من عمه في مندرتهم في كفر نفرة وهو موضوع يمسه كما يمس عائلة شاهين كلها.  لم ينتظر الدكتور محمد إجابة حلمي على سؤاله واستمر في الحديث.  أنت تتحدث عن موضوع يستحيل القطع فيه برأي في الوقت الحاضر وربما أبدا.  أنت تتحدث عن جهاز أمن دولة أقام تنظيما لجمع المعلومات خارج إطار الدولة.  هل تستطيع إثبات ذلك؟  أنت تتحدث عن جماعة قامت باستخدام العنف لدفن هذا الجهاز.  هل تستطيع إثبات ذلك؟  هل ستساعدك هذه “الجماعة” على إثبات ذلك وبالتالي تورطها في أعمال عنف غير قانونية؟  أنت تتحدث عن أشياء يصعب للغاية التعامل معها في أفضل الأوقات فما بالك في أوقات انهيار الداخلية, والانفلات الأمني الذي نعاني كلنا منه؟  أين هي الجهة المسؤولة في مصر التي يمكنها أن تتعامل مع هذا الموضوع؟  أنت أيضًا تتعامل مع قصة لا يمكن أن تقبل أي جهة في مصر التعامل معها.  أين هي تلك الجهة التي ستقبل سماع قصة تقوم السحلية وزة فيها بدور البطولة بالاشتراك مع حمام المنوفية, والغراب النوحي, والكلب هول, وإسفين, والشايقي, والجعلي, وعتريس, وأبو سريع, وكلاب الشوارع, وغربان كفر نفرة؟  من الذي سيستمع إلى هذه القصص يا حلمي بك؟  الله يخليك, من هذا المعتوه الذي سيستمع إلى هذا الخبل؟ 

ثم دعنا من هذا كله.  دعنا نفترض أن الدولة اهتمت بما تقوله سيادتكم وبدأ تحقيق على أعلى مستوى تفرغت له لجنة قضائية عليا للنظر في قصص الحاج محمود الوهمية وأثبت التحقيق تواطؤ الجماعة مع الحاج محمود في نشر قصص وهمية.  ما هي العقوبة التي ستحكم  بها المحكمة على نشر قصص وهمية؟  لا شيء.  أنا لست رجل قانون مثل سيادتك ولكن أؤكد لك رغم جهلي التام بالقانون في هذه الناحية أن المحكمة لن تنظر في القضية أصلاً.  أي قضية؟  لو كانت هناك عقوبة على نشر القصص الوهمية لدخل كل الأدباء عبر العالم كله في المعتقلات.  كل الذي سيحدث هو أن سيادتك ستدمر حياتك وحياة من تحبهم.  انسَ موضوع سلمى.  هل تتخيل أن الحاج محمود سيقبل أن يزوجك من ابنته بعد الفضيحة التي تسببت سيادتك فيها؟  هل تتخيل أن شخصًا واحدًا في عائلة شاهين سيقبل بمكافأتك على العار الذي ألحقته بهم؟    ثم هل تتخيل أن المشكلة هي مشكلة الحاج محمود وحسب؟ إذا كان كلامك صحيحًا وثبت تواطؤ الجماعة مع الحاج محمود وأن الجماعة قد اشترته ألا يعني ذلك أن الجماعة قد اشترت والدك أيضًا, وكل أعمامك, وكل عائلة شاهين, وإلا لما كانت هناك كل هذه المساندة لقصص الحاج محمود الوهمية؟   ألا يعني ذلك نهاية العلاقة بين سيادتك وبين كامل عائلة شاهين؟  ولماذا؟  ما الذي استفدته أنت؟  وإذا كنا نتحدث وطنية, ما الذي استفادته مصر؟  وإذا كان في هذا فائدة للبلد, فهل أنت على استعداد لدفع الثمن؟  تذكر هنا أن المسألة لن تتوقف عند حد عائلتك.  تذكر أنك إذا كنت على حق فعلاً في أن “الجماعة” متورطة فإن “الجماعة” و”أنصار الجماعة” لن يتركوك.  إذا كانت السحلية وزة, والغراب النوحي, والكلب هول, والشايقي وغيرها من الحيوانات الناطقة هي التي لفتت نظرك إلى ما يحكيه الحاج محمود وإذا كنت تنكر قدرة الحيوانات على الحديث مع البشر فإن ذلك يعني أنك تنكر حديث البقرة الفصيحة والذئب الفصيح.  تذكر أن البقرة الفصيحة لم تكن تتحدث مع رسل ولا أنبياء وإنما مع فلاح لا يعرف له أحد اسمًا.  ينطبق ذلك, كذلك, على الذئب الفصيح.  تذكر أن إنكارك لمشاركة السحلية وزة في المشاكل المتعلقة بجهاز أمن الدولة يعني إنكارك لما قام به أسلافها في تأجيج النيران لحرق سيدنا إبراهيم.  وأخيرًا, تذكر أن العقوبة المقررة لمن أنكر أحاديث البخاري ومسلم هي القتل.  لا أقول هنا إن “الجماعة” سترسل إليك من يقص رقبتك عقابا لك على إنكارك ما هو معروف من الدين بالضرورة, وإنما أقول إنه سيكون معروفا للكافة – بما في ذلك المخابيل – أنك منكر للسنة وأنه لو قص أي أهبل رقبتك لأخذ ثوابا ودخل الجنة.  وأخيرًا, تذكر أنك لو خسرت القضية واتضح أن لا تواطؤ هناك ولا يحزنون وأن المسألة لا تعدو أكثر من تسلية أطفال عائلة شاهين, فإنك سوف تخسر سلمى, وأباك, وأمك, وكامل عائلتك, وربما أيضًا وظيفتك.  باختصار, يا حلمي بك, يمين خسرانة, شمال خسرانة.    هذا موضوع الكلام فيه خسارة.  

لم يكن حلمي بك عبد العاطي شاهين, وكيل نيابة البدرشين, يوما غبيًا ولا بطيء الفهم.  لم يكن مستعدًا – ولن يكون يومًا مستعدًا – للتضحية لا بسلمى, ولا بعائلته, ولا بوظيفته, وطبعًا ولا بحياته, من أجل أي شيء.  إذا كان سيادة وكيل النيابة حلمي بك شاهين هو الذي قام من تلقاء نفسه بفتح باب التحقيق, فإن سيادة وكيل النيابة حلمي بك شاهين هو الذي قام أيضًا من تلقاء نفسه بإغلاق باب التحقيق.  وأغلق باب التحقيق.

كمال شاهين 

11 يناير 2014

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

يمكن تنزيل الكتاب الالكتروني لرواية الشيخ العكابري – القصة الحقيقة للثورة المصرية من هنا : 

حكاية الشيخ حسن العكابري – القصة الحقيقة للثورة المصرية

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.