سورة الانشقاق

سورة الانشقاق

مقدمة:

نحن نعيش في عالم يسير نحو الفناء لنُبعث من جديد، فنحيى في عالم آخر يسير نحو الأبدية التي لا تنتهي. ولكل من العالمَيَن مفاهيمه الخاصة به، وكل هذه المفاهيم مأخوذة من طبائع الموجودات في كل من العالمين.

فالأهل هنا هم الأولاد والأزواج والآباء والأمهات والإخوان والأخوات وبقية الأقارب والأصدقاء والمواطنون والنظراء في الخلق؛ ولكنه في العالم الثاني هم الذي يتشابهون في الأعمال والمكاسب والألوان النفسية سواء كانت إيجابية أو سلبية. وذلك دون أي اهتمام بأصله في الدنيا، إذ أن البرزخ الفاصل الذي ينقطع فيه كل الصلات الدنيوية سيكون طويلا جدا مما يكفي لأن ينقطع كل الصلات بصورة طبيعية. والمفاهيم في هذا العالم مأخوذة من التجانس والتشابه في الميلاد والأرض المسكونة والملبس والمأكل وبقية المظاهر الحيوية؛ ولكنها في العالم الآخر سوف يؤخذ من التجانس في الحمولة الإيجابية أو السلبية وفي مدى تمسك الإنسان بالحقيقة المحضة وهو الله تعالى أو عدم تمسكه بتلك الحقيقة التي سوف تبرز جليا بعد انتهاء فصل الاختبار والافتتان الذي نحن فيه اليوم.

وأما مفهوم المكاسب فهو نتيجة الكد والمكر والتوارث والحظوظ الدنيوية ولكنه في الحياة الأخرى سيتمخض من الإخلاص واتباع الحقيقة وعبادة من يستحق ووضع كل شيء في محله وهو العدالة. ومفهوم المكاسب في هذا العالم مأخوذ مما أنت فيه من دون أن يكون لعملك تأثير فعال فيه. لكن هذا المفهوم في العالم الآخر سيولد من رحم الجهد والاجتهاد والعمل الشخصي في هذه الدنيا بعد رفض الحظوظ الطبيعية التي ستضحى فاقدة الشأن في تركيبة مفهوم الكسب هنالك.

وهكذا بقية المفاهيم فهي في الدنيا تعني وترتبط بما هو مشهود للعين وملموس بالحواس ومدين للحظوظ والصدف؛ لكنها في الآخرة مشدودة بالحق والعدل والموازين العادلة التي ستفرض نفسها على كل شيء ليتحول الشيء إلى نتيجة عادلة لما يستحقه الإنسان باهتماماته وسعيه الفردي. فالمفاهيم في العالم الأبدي ستكون أكثر صدقا وانطباقا للواقعيات منها في عالمنا هذا.

وهذه السورة المباركة تتحدث عن سير الموجودات المخلوقة كلها باتجاه الفناء؛ وبما أن الفناء لا تتناسب مع حقيقة مبدعها الحي القيوم، فسوف تكون الفناء بالنسبة لها عبارة عن الفناء المؤقت أو فناء الحالة التي هي فيها اليوم لتتبدل إلى موجوادات تتناسب مع حقيقة مُوجِدها الحي الأبدي الباقي دون زوال. هناك، سوف يتقلص الفرق بين الخالق والمخلوق من حيث الفناء، فيتحول المخلوق إلى موجود يتصف بالأبدية. وهذا بالطبع غير ماح لطبيعة الإمكان في كل ما دون الله تعالى دون استثناء. إن الأبدية بالنسبة للممكنات منوطة بإرادة الخالق العزيز المتعالي الذي وعد سبحانه بألا يُزيل الممكنات في العالم الثاني إلا إذا شاء. إنه سبحانه قادر على إمحاء الموجودات بأفرادها أو بمجموعاتها أو بمجموعها متى ما شاء وأراد؛ ولسوف تكون الكائنات أبدية بإرادته الفعالة. ولذلك فإن الكثير من المفاهيم والحقائق سوف تغير شكلها لتناسب الطبيعة الجديدة ولتصاهر الأبدية.

والخلاصة أن الموجودات برمتها تنطلق نحو العدالة والحقيقة ليأخذ كل موجود مكانته اللائقة به وبانتسابه المربوبي إلى الله جل وعلا بين بقية الموجودات. والآن دعنا نطبق ما تخيلناه على ما تنطق به هذه السورة البديعة الجميلة لنختبر صحة تفكرنا ونميزها من سقمه. قال تعالى:

بِسْمِ اللهِ الرّحْمنِ الرّحِيْمِ  إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ  1   وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ 2  وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ  3  وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ  4  وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ 5  يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ 6 يحيط بالكون المهيب المؤلف من مجموعة – تفوق تصور الإنسان – من التجمعات الغازية الكبرى (السدم) و المجرات والنجوم أو الشموس والنتائج المتطورة لها وهي الكواكب الأرضية، يحيط بها كلها قبة سماوية مركبة من السوائل المتجمدة والتي تمثل بشكلها غلافا غليظا جدا لتمنح الجاذبية الكافية لكل المجرات المحاذية لها. يعبر القرآن الكريم عن هذا الغلاف الضخم بالسماء لأنه فرد وليس جزءا من الأنظمة الشمسية والمجرية. وبما أن الكون في توسع مهيب من كل جوانبها، فإن هذا الغلاف يتفاعل مع هذا التوسع بإذن الله تعالى كما تفاعلت طوال بلايين السنين الماضية.

فإذا اقتربت الساعة، أمر الله سبحانه بالنفخ في صور الكون ليتحرك نحو توسع غير طبيعي بسرعة أكبر بكثير من سرعته التوسعية الفعلية. إن ذلك إيذان بتدمير الكون الفعلي وهو ما سميناه بالفناء المؤقت والمحدود. ستصبح السماء المحيط عاجزة عن إعادة تكوين مقاطعها كما تفعله اليوم؛ ولا بد لها من التسليم أمام أمر التدمير فتبدأ بالتشقق والاندثار. هناك آيات أخرى سنصل إليها قريبا تتحدث عن هذا التصدع وعن شكله وآثاره وسوف نشرحها بإذن الله تعالى.

وأما المجرات والسماوات الغازية العلا، فإنها برمتها ستميل للدمار المهيب تبعا لدمار القبة السماوية المحيطة الماسكة لها جميعا. حتى الأرض (وهي اسم جمع يحتضن كل الأراضي التي تدور حول الشموس) سوف تنهي اختزانها لمتطلبات الحياة. الكائنات الحية تواجدت بفضل المياه المخزونة أصلا في باطن الأرض _ كما سنعرف مستقبلا بإذن الله تعالى – والتي انتقلت مع أمهاتها حين الانفجار الكوني العظيم Big Bang. ثم إنها صنعت الفحم والبترول في باطنها لتظهر للبشر بعد خلق الإنسان وبدء التكاثر السريع. هذه الأراضي ومن بينها أرضنا قامت بفرز ما في جوفها في عدة مراحل إثر تحرك القطع التحتية Tectonic Plates وظهور البراكين الكبرى الحاملة للمياه. ثم تشكلت المخازن الجوفية الكبرى التي تختزن البترول.

ولكن تمدد الأرض لم يتوقف، فنحن نعلم أن القارة الأمريكية تمر بحركة بطيئة جدا باتجاه الطرف الآخر من المجموعة القارية لتُكَون معا قطعة يابسة كبيرة في مقابل بحر واحد كبير هو المحيط الأطلسي الفعلي ولسوف يختفي المحيط الهادي كما يبدو. هذا التحرك سوف يتم خلال بضعة مئات من ملايين السنين بإذن الله تعالى. وبما أن الأرض مسؤولة عن تدبير معاش الناس وتقسيم أرزاقهم الطبيعية بما تدخره في بطنها، فإنها سوف تفرغ ما في جوفها في الزمان الذي برمج له ربها سبحانه وتعالى، ليتنعم بها أبناء الأرض ويكملوا اختبارهم على سطحها. لا زالت الأرض تلقي بخيراتها علينا، ولكنها في النهاية سوف تفرغ كل منابع الخير وتتخلى عن مسؤولياتها الطبيعية.

إذ ذاك تكون الأرض قد أطاعت أمر ربها وتبرعت بكل حمولتها المفيدة للأحياء وأصبحت مهيأة للفناء. لقد خصها الله تعالى بالذكر في هذه السورة لما يتميز شكل تدميرها عن شكل تدمير الكرات الغازية. تحترق الكرات الغازية بذواتها وتدمر ولكن الكرات الأرضية سوف تدمر بالقرع ببعضها البعض أو بالنجوم المهيبة كما سنعرف قريبا بإذنه سبحانه. كل ذلك يتم بأمر العزيز العليم سبحانه، فهي مطيعة لأمر الله تعالى. وبما أن الله جل وعلا حكيم لا يلعب أبدا فطاعة الكون له حق يجب أن يتحقق لا محالة.

هذه هي حالة الكون المحيط بالإنسان والتي تضم الإنسان وتتعاون لتُمَتعه بالحياة. فهل للبشرية أن تتعرف على حركة الموجودات الأخرى فتكيف نفسها معها؟ وهل لها أن تتهيأ لما سوف يستقبلها من حقائق لا تنطبق بالضرورة مع الحقائق التي عاش معها طيلة عمره الدنيوي؟ إن لم يكن الإنسان قادرا على فهم ذلك فإن الله سبحانه قد منّ عليه بإنزال القرآن العظيم ليعلمه ويهديه أكثر الطرق أمانا في سيره الفعلي. هذا السير الذي سينظم السير المستقبلي. وبما أن الكريم الحكيمَ رحيمٌ، فقد بادر بنفسه التحدث إلى عبده المختار العاقل بكل ما يتناسب مع ملك الكون والوجود من لطف ربوبي. لقد خاطب الله العظيم كل فرد بفرديته وأشار إلى نفسه الكريمة بتكلم فردي أيضا.

هذه هي أجلى مظاهر الحب والود التي أكرم الله جل وعلا بها عبده المرموق المعروف بالإنسان. “يا أيها الإنسان” اللغة لغة الخطاب، فهي أكثر سماحة من لغة الغياب والأمر. والموضوع شرح مختصر لحقيقة ما يمر به هذا الموجود العاقل المكَلَّف. خص العظيم الكريم الإنسان بالخطاب دون إشراك الجن الذي هو مكلف أيضا. ولعل السبب في ذلك هو سعة اختيارات البشر وتعامله الوسيع مع الهياكل الطبيعية التي تمثل الكون المهيب. حتى ولو كان التعامل معرفيا علميا، فهو خارج عن إطار خيارات الجن وقدرته على الفهم والتعلم. وإذا كان الجن تابعا للملائكة حينما أمرها الله سبحانه بالسجود لخلق الإنسان فإنها اليوم مضموم إلى البشر في العبادة والخضوع لله العظيم وللاستعداد ليوم الحساب.

فيا أيها الإنسان: إنك في سيرك الطبيعي الذي قدره الله لك، ستمر بمرحلة من الكدح والجد في سبيل الوصول إلى ربك. السير في هذه الدنيا المليئة بالتعب والعنت وما لا يتوافق في الغالب مع متطلبات التنعم والتلذذ المحض بالحياة. إن لقاءك بالله محتوم، فإما أن تنظم سيرك بسلوك التشريع السماوي أو تنجرف مع التيارات المعادية. لقد تربيت وترعرعت بعين خالقك الكريم فإما أن تجتهد لإرضائه أو لإرضاء شهواتك أو لا تجتهد بل تستسلم للحوادث. وكل من يستسلم للحوادث فهو في النهاية سيضطر للخوض في معترك المشاكل والهموم فيعود إلى الله أو ينجرف مع التيار الشيطاني أيضا. وكل المسيرات الثلاثة موجهة إلى الله. ولكن الاختلاف في الأشكال والنتائج. والنوع الثالث يكون غالبا في مهب الشهوات مع الأسف لأن طارقيه لم يهتموا بتكييف حياتهم مع تشريع السماء منذ البداية.

فالسير إلى الله والكدح في هذا السبيل متلازمان كما أن اللقاء مع الله محتوم، ولكن:-

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ 7  فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا 8  وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا 9  وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ 10  فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا 11  وَيَصْلَى سَعِيرًا 12  إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا 13  إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ 14 

يعمل الإنسان ما يشاء في الدنيا ولكن أعماله تكيف نمط حياته ومستقبل أمره بشهادة الوجدان. فالذي يعتاد على ضرب العود يغدو مغنيا، والذي يكثر من مساندة المحتاجين يشتهر محسنا، والذي يمارس الرياضة البدنية كل يوم يصبح بهلوانا، والذي يشد على ذهنه لفهم حقائق الكون يتحول عالما؛ وهلم جرا. فالنفس في نهاية المطاف تتكيف مع الأعمال لتمثل فعلا آثار أعمال صاحبها، سواء كانت أعماله إيجابية محمودة أو سلبية ممقوتة حسب منطق الحق والعدل. فالصبغة النفسية الحسنة في جوهرها، تعني غلبة الإيجابيات على السلبيات ثم تحلي النفس اللطيفة بمظاهر الخير والإحسان. وأما الصبغة النفسية السيئة تعني غلبة سيئات المرء على حسناته فتتلوث النفس اللطيفة بالمظاهر السلبية مثل فقدان الشفافية والانكماش والظلام فيتسم المرء بالسوأى.

هذه النفس بما تعلقت بها من سمات، سوف تُرسَل إلى لقاء الله سبحانه وتعالى بعد الوفاة. ولو أن الملائكة سوف توجهها الوجهة الصحيحة حين الموت ولكنها بسلبياتها سوف تلقى الله وهي مظلمة قاتمة فاقدة للنور والطاقة الشخصية. وبما أن الحظوظ غير ميسرة بعد الموت، فسيذهب كل إنسان بمقوماته الشخصية التي اكتسبها بمحض إرادته وكده وجهده في الدنيا. وسيكون المؤمنون تبعا لطبيعة العالم المتوسط (البرزخ) مشبعين بالطاقة الشخصية. وكما نعرف فإن الطاقة قادرة على حمل الكتابة معها. ألا نستعمل الطاقة الضوئية اليوم لحمل الخطوط والأصوات. وكذلك المؤمن الذي يحمل الطاقة فهو يحمل ما حررته الملائكة الكرام معه طي وحداته الطاقية الشخصية.

ولكن الكافر سوف يكون فاقدا للطاقة ولا مجال في نفسه لحمل التسجيلات الملائكية ولذلك فإنه – احتمالا- سوف يحمل لاصقة غير مادية تحمل أعماله. والله سبحانه يعبر عن هذه اللاصقة تارة بالشمال الذي يعني السلب في مقابل اليمين الذي يعطي معنى الإيجاب، وتارة أخرى يعبر عنها بما وراء الظهر. ولعل المقصود مما وراء الظهر هو ما دون إمكانيات النفس الفقيرة الفاقدة للمقومات الطاقية. ذلك لأن الله جل جلاله قدر لكل فرد أن يحمل معه كتابه طيلة مرور النفس على المعالجات الكونية المتوسطة بين الدنيا والآخرة والتي سوف نتعرف عليها في مسيرتنا التفسيرية شيئا فشيئا بإذن العزيز العليم سبحانه.

سوف يكون الإنسان كذلك حتى بعد الحشر الأخير حيث يبدل الله سبحانه صبغة نفسه بالطاقة أو النور لمن كان يحمل الطاقة فعلا وأما فاقد الطاقة فإنه سوف يُحشر هزيلا فاقدا للمقومات وللوزن. و هكذا فإن المؤمن سوف يخرج إلى الحياة الجديدة قادرا على التمتع بما سيخلق الله فيها من مسببات النعماء والتلذذ؛ كما سيخرج الكافر إنسانا أعمى، مسلوب الطاقات والإمكانات فيمنحه الله بدنا لا يفيده إلا لتذوق العذاب جزاء لما كان مصرا على الإتيان به من السيئات والآثام في حياته الدنيوية.

فالنوع الأول من الناس وهم الذين يتنعمون بالطاقة والنور التي تمثل ما كسبوه من شخصية تعكس حقيقة نفوسهم بدليل أعمالهم سوف يحضرون أمام منصة القضاء العدل ليشاهدوا سير العدالة فيهم بكل يسر وسهولة حتى يسمعوا الحكم القسط من رب العالمين جل جلاله. فهم سيحاسبون حسابا يسيرا. إنهم اتبعوا المنطق في تصرفاتهم وقراراتهم الدنيوية فحُشروا منطقيين استدلاليين ومن خاصية المنطق أن يمنح المتصفين به القدرة على الدفاع  وإظهار الحقيقة التي هي من صميم إرادتهم. إنهم سعوا وراء الحقيقة ولم يتركوها وحينما كانوا يخطئون فإنهم كانوا يتوبون من قريب. وكما نعرف بأن المحكمة تبحث عن آثام وجرائم المتهم فإذا خليت ساحة المتهم من آثام وجرائم كبيرة فإنه بطبيعة حاله سوف يُحاسب حسابا يسيرا، لقلة الإدعاء ضده.

وسوف نتحدث في المستقبل التفسيري عن قيام الملائكة بتبويب كل الناس حسب مكوناتهم النفسية المكتسبة. ولعلنا نفعل ذلك في سورة الزمر بإذن المولى العلي القدير. في ذلك اليوم، سيكون المؤمنون أصدقاء وإخوانا وأهلاً لمن مثلهم وفي درجتهم من المتقين الصالحين. وأما الكافرون، فسيبوبون في زمر أيضا ولكنهم يلعنون أنفسهم ويلعن بعضهم البعض فلا أهل لهم عمليا. ومن الجدير بالاهتمام أن نرى الآية الكريمة لا تفرق بين المؤمن والمؤمن من حيث الحضور أمام المحكمة الكبرى وكذلك بينهم وبين الفاسقين، ليعلم الناس بعض العلم عن عمق القسط الأخروي لرب العالمين جل جلاله. فالأنبياء والرسل والشهداء والعلماء العاملون وبقية الصالحين وكذلك الزعماء والملوك والوزراء والقتلة واللصوص والكذابون وبقية الكفار والمنافقين سيُحشرون في نفس اليوم أمام القاضي الديان جل جلاله وحده ليحكم بينهم بالقسط. حتى الملائكة المقربون سيُقضى بينهم بالحق في ذلك اليوم كما سنعرف بمشيئة الرحمن.

ولو نمعن النظر في المحاكم الدنيوية وخاصة محاكم الجنايات الكبرى، لنرى كل متهم يدخل مع ذويه قاعة المحكمة. سوف يكون المتهم في قفص الاتهام، وأهله مشدودون بعيونهم إليه تارة وإلى شفتي رئيس المحكمة تارة أخرى. فما أن يسمعوا النطق بحكم البراءة فإنهم سرعان ما ينقلبون مسرورين ضاحكين محتضنين لقريبهم أو صديقهم الذي سوف يُطلق سراحه فورا ليترك قفص الاتهام مهرولا إلى أهله في غاية الغبطة والمرح. هو كذلك مع أهله وقد استمع إلى حكم البراءة من تهمة كانت تمكن أن تقضي على بقية حياته أو تجهده لبعض الوقت. فكيف به وهو يستمع إلى نطق ملك الوجود، القادر المتعالي، بحكم البراءة من كل أخطائه والمغفرة من كل ذنوبه وبالمكافأة العظمى في حدائق الفردوس المخضرة المبهجة إلى الأبد التي لا نهاية لها أبدا. سوف ينقلب هذا الشخص إلى أهله الجدد الذين هم مثله في أعمالهم ومكتسباتهم النفسية وهو وإياهم في حبور يفوق الوصف.

لقد حكمت المحكمة الكبرى التي لا راد لحكم قاضيها ولا استئناف ولا تميز بعده بحكم الغفران والرضوان والتمتع في نعم الحاكم نفسه الذي هو مالك كل شيء وملك كل شيء. فلو كررنا لفظة “مسرورا” إلى الأبد، لما أوفينا حق تلك اللحظة المصيرية الممتعة من وصف وتعريف. هو يوم مسرور يعقبه أبدية ناعمة ممتعة دون شوائب ولا منغصات ولا غول ولا استعتاب. ونعم الحكم الله ونعم الرب ربنا سبحانه وتعالى عما يُشركون.

ولا ننس بأن الله سبحانه يصف لنا في هذه السورة الكريمة، حالة النفس قبل أن تستقبل البدن الشعوري الجديد. إن لفظة الاستقبال “سوف” تمثل مستقبل شأنها وأمرها بعد انتهاء عالم البرزخ وليس إبان ذلك العالم المتوسط. تلك هي الحالة التي تكون كتبنا في يميننا أو وراء ظهرنا. وأما في العالم الآخر فعلا، فسوف نستلم كتبا نقرؤها؛ ولعلنا نقرؤها بعيوننا الجديدة. وأما الذين يُحشرون عميانا فلعلهم يقرؤون كتبهم بطريقة اللمس أو بغير ذلك والعلم عنده سبحانه وتعالى.

وأما حالة النفوس الكافرة التي تُحشر إلى الله مسلوبة الطاقة ومتعثرة الخلقة فهي في انتظار حالة تدعو إلى الهلاك والموت ولا موت. سوف يدعو الكافر الثبور والهلاك في حشره الأخير مع بدنه الجديد إذا ما أقيمت المحكمة الملكوتية الكبرى بأمر مالك يوم الدين العظيم سبحانه. إنه لا يحمل إيجابيات تفيده وتصد عنه العذاب. وسوف يكون عذابه بالتصلية بالنار المستعرة الدائمة الاشتعال، كلما خبت زادها الله سعيرا. والتصلية بالنار هي فعلا أشد أنواع التعذيب المستمر بالنار، وسوف نشرحها مستقبلا في الجزء التاسع والعشرين بإذن الله تعالى. هي في الواقع تمثل نار الانتقام والثأر للمؤمنين الذين تعرضوا للسخرية والتحقير من قِبل المتكبرين حينما كانوا يعيشون اختبار الدنيا. كان المستكبرون آنذاك مسرورين بين أهليهم، ويسقون المؤمنين جرعا من المصائب والمحن. كانوا يتفاخرون على المؤمنين حينما كان أطفال المسلمين في حسرة يتمنون الغذاء والكساء والأمان.

كان الكافر مسرورا جذلا بين قومه كافرا بالمعاد ظنا منه بأن الحياة كلها حظوظ فمن ركب قطار الحظ فهو السابق على غيره دون أن يعود إلى الوراء. إن عجلة الزمان في تقدم يستحيل إركاسها. هكذا يتخيل كل الأثرياء والمترفين والملوك والسلطويين وكل الغاصبين والمارقين والمجرمين. إن الشيطان قد أفكهم وخدعهم بأن الله سلطهم على أموال الناس ورقابهم في تقدير ربوبي تبعا لاستحقاقهم وتفوقهم على عامة الناس. إنه يتعذر إخضاعهم فهم على ثرائهم باقون ماضون. والحور معناه الرجوع إلى القهقرى والعلم عند الله تعالى. وإن كان هناك حشر أمام ربهم فهم سوف يستعيدون ما كانوا فيه من عز ومجد ضد الذين عاشوا في سقط الدنيا. إن ربهم الذي أكرمهم في الدنيا هو نفسه الذي يهددهم الرسل به في الآخرة، فهو يحبهم وسيمدهم بخير الآخرة أيضا!

لعل هذه الفكرة تكون صحيحة لو أنهم كانوا يتقون الله فعلا، ولكنهم أناس فاسقون، يُسرون المنكرات ولا حرمة لهم عند الله تعالى. ولذلك قال سبحانه:

بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا 15 يزين اللعين إبليس أعمال المترفين ويخدعهم بفرية المحبوبية لدى الخالق الكريم بدليل ما أكرمهم الله به من الثروة والغنى. فما عليهم لو استمتعوا فيما رزقهم الله من مال؟ ولعل أكبر تضليل شيطاني هو إقناع أتباعه بأنهم أبناء الله والعياذ بالله؛ فكما أنهم لا يهتمون بأخطاء أبناءهم بل يغضون الطرف عنها، فإن الله سيعاملهم نفس التعامل الأبوي. معاذ الله من الجهل والعمى. ولو استحق الفقراء الرزق لما بخل عليهم الله الذي يملك خزائن السماوات والأرض!

ولذلك يشد الله على أنه ربهم وليس هو أباهم وأنه ينظر إلى هناتهم وصغائر أعمالهم كما ينظر إلى كبائرها. إن شأنه سبحانه أن يبصر بكل دقة وعمق. ولعل استعماله تعالى صيغة المفرد هنا بالنسبة لله نفسه ولعبده الآثم هو لبيان عدم تفريط الباري تعالى بأعمال عبيده فردا فردا وبكل دقة ودون تفريط. وإذا انتفت الأبوة بين الخالق والمخلوق، أصبح الناس سواسية أمام الديان العظيم سبحانه وتعالى، لا فرق بين غنيهم وفقيرهم ولا بين عربهم وعجمهم ولا بين أوروبيهم وأفريقيهم ولا بين أمريكيهم وأسيويهم.

إنه تعالى ينظر إلى أعمال كل فرد نظرة ربوبية محظة لا محسوبية فيها ولا تمييز. الكل متساوون في العبودية والذل أمام عين الله تعالى والكل بأفرادهم سيُمنحون الفرصة للتسابق إلى الخير كما أنهم سيُمنحون الفرصة للانجراف في تيار الفسوق والكفر والعصيان. ذلك ليميز الله تعالى الخبيث من الطيب. والأحوال والأيام دواري بين الناس تتداولها فئة بعد فئة، تارة لهم وتارة عليهم.

فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ 16  وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ 17  وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ 18  لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ 19 يقسم المولى سبحانه بما يتفق مع طبيعة هذه السورة مخاطبا المغفلين الذين خدعهم الشيطان، بأن الله عادل لا يرحمكم أيها الظالمون. واعلموا أنكم بأمره سوف تركبون مصيبة غب مصيبة وهولا أكبر مما سبقه من أهوال. والطبق يعني الهول الذي يغطي على ما سبقه، لأن الطبق في الأصل معناه الغطاء، والركوب مجاز يُستعمل في ركوب الأهوال والدواهي والتعرض لها. ولذلك فإن معناه: لتركبون بالتأكيد أهوالا يفوق تاليه سابقه حتى يغطي عليه، ثم تتمنون ما قبله من أهوال هي في حد ذاتها مرعبة؛ والعلم عند الله. ولعل ذلك كناية عن أهوال عالم البرزخ التي سنشرحها بإذنه تعالى فيما سوف نمر عليها من سور كريمة إن شاء الله تعالى. النون في لتركبنّ هو نون التأكيد الثقيلة، والخطاب عام لكل المترفين ولا محل لتردد المفسرين الكرام في باء لتركبُنَّ، بأنه مفتوح أو مضموم. غفر الله الوهاب لهم ولنا.

وأما المقسوم به فهو ثلاثة مفاهيم أخروية سوف نشرح الثالث منها بتفصيل في سورة المدثر بإذن العزيز سبحانه وخلاصته أن الله تبارك وتعالى كما يبدو سوف لا يقدر سطوع الشمس المباشر في النشأة الأخيرة وسوف يحيط بالأرض عدة أقمار ينقلون ضوء الشمس بكثافة إلى الأرض فسوف تكون الأرض مشرقة ليل نهار. ولكن لا بد لضوء الشمس أن يتخلل إلى الأرض أحيانا كما لا بد للشروق والغروب أن يتباريا على الظهور بشكل أو بآخر. إن كل وجه من الأرض سوف لا تواجه بصورة طبيعية قرص الشمس حينا من الوقت يكون في مجموعها نصف السنة الأرضية. آنذاك سوف يحل الشفق محل الصباح. والصباح هو ظاهرة النور في العالم الآخر بإذن الله تعالى. والشفق نور رقيق ينتقل إلى الأرض اليوم عن طريق الأوزون ولكنه سوف ينتقل إلى الأرض الجديدة عن طريق الأقمار لتعذر تكون الأوزون في الأرض المستقبلية. إنه نور جميل بديع يساعد على الشعور بالتغير ولكن ليس لظاهرة الليل أن تغشى الأرض إطلاقا. فالشفق هو غاية ما يُغشيه الليل على الوجه المدبر للشمس من الأرض.

ووسق الليل يعني جمع الليل والسر فيه أن الليل في المنظومة الشمسية لا يمثل الظلام الكامل الذي هو حالة اللا نور واللا ضياء. إنه حالة سلبية تلازم الفضاء إذا ما تصورناها خالية تماما من تأثير الكواكب التي تشكلت في بطنها. إنها ظلام كامل لا نور فيها ولا ضوء وهي الحالة البدائية المطلقة. فكان الفضاء يوما ما مظلما تماما قبل بداية الخلق أو قبل بداية تشكل الكواكب الفعالة المليئة بالطاقة والضياء والممدة لهما. أما الظلام الموجود في النظام الشمسي فهو ظلام مشوب بالطاقة الشمسية ولكن في الأشكال غير الضوئية منها. فهو ليس سلبا محضا بل هو سلب من الضياء الكامل فحسب. هذه السلبية جزئية لا تسحب جنسية الإيجاب من الظلام؛ ولذلك يمكن بكل تأكيد الإشارة إليها والقسم بها. إنها ظلام إيجابي تتشكل على شكل قطع تتجمع في الوقت الذي نسميه الليل فتحجب عنا الرؤية. وآمل أن يوفقني الله لشرحها حينما نصل إلى شرح ولوج الليل في النهار بإذنه جل وعلا.

فالليل الأخروي لا يمكنه أن يتظافر على النهار أو الصباح الأخروي لعدم تمكنه من تجميع قطع ممتدة من الظلام كافية لتغطية الضياء بالكامل، نظرا لوجود الأجسام القمرية الكبيرة العاكسة لضوء الشمس ولو من بعيد. فهذا الليل موجَب أقسم به الله سبحانه وبما يجمعه من قطع تتهاوى أمام القمر إذا اتسق بدوره. ذلك لأن القمر جسم كثيف ذا وزن ثقيل في مقابل الظلام المتشكل من قطع مؤلفة من الذرات الصغيرة التي تحمل النور دون أن تتحول المجموعة النورية البسيطة إلى ضياء. ولعل السر في هذا القسم هو أن يجعلنا نفكر في المقسوم به كظاهرة غير معروفة في أرضنا التي نعيش فيها اليوم ولكنها تستحق صرف الوقت وتستحق التأمل والتعمق. فالمفاهيم الثلاثة المقسوم بها هي:

1)- الشفق وهو حالة الضياء في الليالي الأخروية فهي لا حالة ضياء شمسي ولا ظلام ليلي.

2)- الليل وما جمعه من ظلام لا يكفي لإخفاق الشفق.

3)- القمر وهو اسم جنس للأقمار المتعددة إذا تجمعت واتسقت حول الأرض الأخروية لتمنع من تشكل الليل وحلول الظلام بجانب منعها من السطوع المباشر للشمس وما يتبعها من مشاكل إشعاعية لا تتناسب مع النعيم المقيم الخالد.

وأما مناسبة المقسومات بهن الثلاثة مع هذه السورة المباركة هي أنها تلقي الضوء على الأبدية والحياة الباقية التي لا فناء فيها بمشيئة الحي القيوم لا من تلقاء نفسها. وبما أن كل الموجودات الممكنة مؤهلة طبيعيا للفناء، إلا أنها سوف تبقى حية بأمر الله تعالى إلى الأبد؛ فإن مظاهر الموت سوف تختفي ولو أن الموجودات اقتربت من الموت فإنها سوف تتحول عنه بسرعة وتميل ثانية إلى الحياة الطاغية على الموت في الآخرة. ذلك لأن الممكنات مهما بقيت فإنها لا تفقد خواصها الطبيعية، ولكن الله سبحانه قادر على منع إحدى خواصها وهي الفناء من الظهور الكامل إلى ما لا نهاية. كما أن الكفار – بتصريح القرآن الكريم – يأتيهم الموت من كل مكان وما هم بميتين بفرض إرادة الكبير المتعالي. والعلم عنده وحده.

فالقسم بالشفق وهو حالة التراخي بين الشدة والضعف سواء من حيث الضياء أو من حيث الظلام مناسب جدا مع حال الناس وخاصة الكافرين منهم. فهم في حالة موت دون أن يموتوا من شدة العذاب وفي حالة حياة دون أن يشعروا بلذة الحياة. وهكذا الليل وما وسق وكذلك القمر إذا اتسق والعلم عند المولى.

فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ 20 وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ 21  بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ 22  وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ 23 لقد وضح الله سبحانه في كتابه المنزل الذي عجز الكافرون عن الإتيان بمثله، فساد مزاعم الكفار وبدد أحلامهم وظنونهم الحمقاء، وأشفع كل مقولات القرآن بالبراهين والدلائل العقلية الداحضة لحجج المنكرين. لم يبق لدى المستكبرين حجة يتمسكون بها ضد كلام الجبار بعد أن مسخ القرآن كل ادعاءاتهم وبلغها رسول الله عليه السلام. هناك ثبت لكل العقلاء أن القرآن منزّل من عند خالق السماوات والأرضين وأن القيامة ستقوم دون أدنى شك؛ فما لهم لا يؤمنون؟ سوف يوضح الرحمان الرحيم بنفسه مرضهم الذي يحول دون إيمانهم ويكشف عن سريرتهم بعد قليل. هذا القرآن بما وعاه من حقائق تفوق العقل العام في القرن السادس الميلادي، فهو بقوته ومنطقه القويم مدعاة للخضوع ولتنكيس الرأس أمام سيد الموجودات والكائنات جل جلاله. فلماذا لا يخضع الكفار للحقائق ولماذا لا يسجدون لمن أنزل القرآن سبحانه وتعالى؟

ليس الأمر كما بدا لمن حولهم، بل إنهم يعلمون صحة القرآن ويدركون خطر الكتاب العظيم وقد استيقنت أنفسهم بأن المنزل هو رب العالمين، ولكنهم يكذِّبون القرآن خبثا وتكبرا! والتكذيب هو سلاح المجرم الواعي أمام القضاة والحكام الإنسيين. فالمجرم الواعي يفند كل التهم الموجهة إليه ويصر على براءته ولطالما يفوز بمأربه نظرا لصعوبة تجميع الشواهد الكافية ضد من لا يعترف بالجريمة من تلقاء نفسه. وأما ما نراه من الاعترافات في الدول المنتمية للإسلام اليوم فهي مرفوضة عقلا وشرعا لأنها مأخوذة تحت طائلة التعذيب مع الأسف! ولكن الأمر مختلف تماما في محكمة يوم الدين. إن القاضي هناك هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. إنه سبحانه على علم كامل بما يخفيه ويوعيه الكفار في صدورهم فلا جدوى للتفنيد أمام قضائه المقدس. إن المجرم الكافر يُكَذِّب اليوم ليقول أمام الله بأنه لم يتقين بصحة ادعاء الرسول فلعله يبرئ نفسه. والله تعالى يُذكره هنا بأن ربه على علم كامل بما في صدره وسوف يضيف هذا العلم إلى إضبارة الدعوى ضده في يوم القيامة.

وعى يعني جمع أو حفظ، وأوعى يعطي نفس المعنى ولكنه من باب الإفعال فينبغي أن يعني الجمع أو الحفظ في ظرف أو ذهن. وما يناسب المقام هنا هو ما يخفيه ويحفظه الكفار في نفوسهم من خبث ومكر بعد علمهم بصحة الرسالة السماوية. فلا مبرر لأن تسعهم رحمة الله يومَ القسط الأكبر، ولذلك يأمر العزيز سبحانه رسوله الأمين بقوله جل وعلا:

فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ 24 البشارة مشتقة من ثلاثي “بَشَر”. إنها تعني في صلب معناها الاقتراب البدني أو الزمني. وهذه الكلمة من الكلمات التي تختص بالإنسان باعتباره الموجود الذي يتفاعل مع التقارب والأنس والمباشرة بشكل كبير. ولو أن بعض العرب استعملها في الحيوان فهو من النادر غير المعتد به. فالبشارة تعني إعلام خبر قريب الوقوع لمن سيحل عليه موضوع الخبر. وقد اعتاد العرب استعماله في الأخبار السارة مكتفين باستعمال الإنذار عند الإخبار بما يكره المخاطب. ذلك لأن المرء ينجذب ويتفاعل مع الخبر السار ويحتفل به أو ينتظر حصوله. فلو كان الخبر مما مضى فلا جدوى للإخبار بما حصل من خير لشخص ما قبل عشر سنوات فهو لما يحتفل به. كما أن الإنسان بما ينطوي عليه من ضعف لا يقدر أن يخبر المخاطب بما سيحصل عليه من خير بعد عشر سنوات، فمن يضمن حصول ذلك؟

ولذلك اعتدنا على تقديم البشائر لما حصل قريبا أو لما بدت تباشيره وسيحصل عما قريب. فتقول لشخص ينتظر وصول أهله: أبشرك بأن عمك في الطيارة مثلا فانتظره غدا. هذا خبر معقول واحتمال عدم حصوله لعارض خارج عن الإرادة البشرية، قليل جدا. على هذا نستعمل لفظة مشتقة من بشر الذي يعني التفاعل القريب. وأما الإنذار فمعناه التفاعل البعيد لأن الشخص بطبيعته يكره ما يؤذيه فلا يحتفل به ويرجو ما يحول دون وقوعه. فلا يقول أحد: أبشرك بأن غدا سوف تدخل السجن، بل يقول أنذرك بذلك. ليس من يقبل بأنه سوف يدخل السجن غدا ولا من ينتظر هذا الخبر المؤلم. فالإنذار المشتق من نذر بمعنى التعهد وهو الفعل غير القريب، يستعمل عادة للإنشاء المشؤوم ولا يستعمل للماضي فهو خارج عن معنى العهد.

أما رب العالمين فإن ما يعده فسوف يحل ويحصل قطعيا ولذلك فهو يستعمل التبشير أحيانا للإخبار بحصول العذاب والألم ضد أحد، إذ أن الزمان لا يحول دون وقوع وعده. إن عذابه قريب دائما وأبدا لعدم وجود ما يحول دونه عدا إرادته المقدسة بالتأخير لأسبابه الربوبية فقط.

والعذاب هو ما يمنع المرء من التمتع. كما أنه في صيغة أخرى وهي صيغة العذب يستعمل لما يمنع العطش. فالعذاب في عمق معناه يعني المنع. وبما أن المرء لا يحب شيئا أكثر من حبه للحياة فإن كلما يعيق تمتعه بالحياة يُعتبر عذابا. وما يواجهه الكفار في حياتهم الباقية الأبدية هو ما يمنع تمتعهم بالحياة الباقية إلى الأبد. ذلك هو العذاب فعلا، فلا أمل لهم بالتنحي عنه ولا أمل لهم حتى في الموت. معاذ الله من عذاب النار. والتبشير بهذا العذاب هو إبلاغ من يشملهم العذاب بعذاب يقاربهم ولا يفارقهم أبدا. والعلم عند الله. ولم يكتف الجبار بذلك بل أعقب أخطر إنذار له بأن العذاب سيكون أليما.

فلو قيل لشخص بأنك سوف تبقى عطشانا ممنوعا من شرب الماء طيلة حياتك الباقية فإنه يعلم بأنه سيُمنع من الماء وسوف يتعلم على العطش بعد فترة. إنه عذاب لمِا سيُمنع من أطيب وألذ ما يستسيغه البدن ويتهافت عليه القلب، ومؤلم ولكنه ليس أليما. إن الأليم وهو صيغة مبالغة تعني العذاب الذي يبقى مؤلما ما بقي صاحبه يعني بأن التعذيب سوف يكون بشكل لا يمنعه الاعتياد عليه. وسوف نشرحه بتفصيل أكبر حينما نصل إلى سورة التغابن بإذن الله تعالى. فالألم لمّا يفارق أصحاب النار وسوف لن يتعودوا عليها ما داموا فيها وسوف يبقوا فيها ما دامت السماوات والأرض. معاذ الله.

إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ 25 إلا في هذه الآية حرف عطف بمعنى الواو، ولكنه – والعلم عند الله – يفيد حصر الأجر على الذين آمنوا والفصل بينهم وبين الذين كفروا باعتبار شموله على خاصية الاستثناء. والممنون معناه المنقوص أو المقطوع. وبما أن السورة الكريمة تحكي قصة الأبدية للممكنات فإن الأجر غير مقطوع. إن الأجر عادة ما يكون محدودا بحدود العمل. ليس هناك أجر يُدفع للعامل بصورة دائمة حتى بعد انتهاء العمل وليس هناك أجر يفوق العمل مرات ومرات ويستمر إلى الأبدية. لكن أجر الآخرة أجر مستمر أبدي على غرار العقاب المستمر الأبدي. ذلك لأن التعويض ليس في مقابل الأعمال بل في مقابل النفوس.

لكن الأعمال تبرز حقيقة النفوس بماهياتها وبما تتركها من آثار غير زائلة على النفس. فالنفس السعيدة كانت تعمل الأعمال الصالحة ولو عاشت الأبدية كما أن النفس الشقية كانت تأبى عمل الخير ولو كانت باقية غير فانية. ولذلك ذكر الله تعالى أعمال الإنسان بصيغة الماضي لأنها سوف لن تتكرر. ليس هناك اختبار في الحياة الأبدية، بل هناك الحكم الفاصل النهائي بدوام التمتع أو بعدم انقطاع العذاب. والأجر ليس متشابها فلكل نوع من الأنفس السعيدة أجر متناسب مع ما تحمله من آثار السعادة والتسليم لرب العالمين، ولذلك ذكر الله الأجر غير معرف وغير محدد. ونحناج إلى معرفة درجات الآخرة التي هي أكبر بكثير من درجات الدنيا تبعا لنظام العدالة التي سوف يطبقها الله تعالى بالدقة الممكنة في يوم الحساب.

ثم هو ليس في الواقع أجرا بل رحمة واسعة كبرى تمثل كرم الجبار العظيم بسعته كما تمثل كرمه أيضا بأنه يسميه أجرا. وحياة المؤمنين في الدنيا وقصر مدتها تمثل كرما أيضا حتى لا يسأم المؤمنون من الشدائد. كل ذلك دليل واضح أنه سبحانه جميل كريم ويحب أن يرحم ولا يحب أن يعاقب ويجازي. إلا أن العدالة تفرض نفسها على إرادة العادل العظيم ليخص الثواب لمن استحق ثم يعاقب العاصي لألا يكون ظالما يساوي بين الظالمين والمؤمنين فحسب، والعلم عنده سبحانه وتعالى.

الخلاصة: وقد ذكرت في البداية أن السورة الكريمة تتحدث عن الفناء المؤقت الذي يسبق البقاء الأبدي للموجودات بأمر الله وليس بطبيعتها. كما أنه يستحيل تغيير طبيعة الممكن إلى الواجب، فلا يمكن فعلا إعطاء صفة الأبدية الطبيعية لأي موجود غير الذات الواجبة سبحانه وتعالى. السماء المحيط بالكون والأرض وكلاهما من الأجسام الصلبة، إضافة إلى الإنسان، سوف تموت لتتحول إلى كائنات أكثر قابلية للبقاء الأبدي. سوف تتغير طبيعة الأرض الجديدة كما تتبدل الظواهر الطبيعية مثل الليل والنهار. أما الإنسان فسوف يموت ببدنه ليتحول إلى كائن جديد بعيد عن الموت حتى ولو حكم عليه بالعذاب. إنما المؤمنون سوف يعيشون حياة أبدية غير مقطوعة بإذن الله تعالى.

وقد استعملت الكلمات التي تدل على الفناء والتبعثر جنبا إلى جنب مع الكلمات التي تدل على العودة والتجمع. انشقت، ألقت ما فيها، تخلت، ثبور، منقوص؛ مع ملاقيه، يحور، وسق، اتسق، يوعون. كما تحدثت السورة جليا عن تفعل الإذن الرباني في كل ظواهر الطبيعة، في موتها وفنائها ناهيك عن بقائها واستمراريتها. والعلم عند الله تعالى.

أحمد المُهري

مقتبس من تفسير التنزيل لأحمد المُهري

13/7/2021

#تطوير_الفقه_الاسلامي

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.