الدعاء المستجاب 1

الدعاء المستجاب 1

إخواني وأخواتي المكرمين 

أما بعد السلام والإكرام 

فلعلكم في أيام صيامكم تكونوا الآن مستعدين لتتعرفوا على المزيد من مفاهيم كتابنا السماوي. وقبل أن أسترسل فإني حينما دعوت لسيارة البيوك ما كنت أعرف كيفية الدعاء المستجاب. هذا يعني بأن الله تعالى أكرم من ألّا يقضي حوائج عبيده إلا إذا علموا كيف يدعوه. ولكنه سبحانه بلا شك يحب لعبيده أن يتعلموا كيف يخاطبوه. وما ترونه أدناه يمثل خلاصة عدة محاضرات قمت بها في بيت أخي العزيز الدكتور حازم العبيدي قبل سنوات طويلة وأنا أفسر سورة مريم. وأخي حازم هو من محبي القرآن من قبل أن يتعرف علي. وأتذكر بأن أخي الفاضل الشيخ أحمد الكاتب هو أول من أخذني بسيارته إلى بيت الدكتور حازم حيث كانوا يقيمون جلسة القرآن الكريم من قبل أن نبدأ نحن في جنوب لندن. 

ومن ذكرياتي ذلك اليوم أن أحد الإخوة استشكل على المرحوم الدكتور عبد المجيد عظم الله له أجره في آية قرآنية في البقرة وحصل هناك محاورات عديدة فقلت لهم: اقرؤوا الآية هكذا فسوف يتضح لكم المعنى. فرحوا بذلك ولاحظت أن أكثر الناس فرحا كان هو الأخ حازم نفسه فعرفت بأنه يحب القرآن الكريم. 

ستجدون أدناه بإذنه تعالى شروط الدعاء المستجاب التي علمت السيدة مريم كفيلها النبي زكريا فدعا زكريا واستجيبت دعاؤه في الصلاة كما أظن. سأنشر الموضوع في عدة مقاطع حتى لا تتعبوا وأنتم صائمون صياما مقبولا إن شاء الله تعالى. 

سورة مريم 

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

كهيعص ﴿1﴾ 

هذه السورة المباركة تتحدث عن الدعاء وعن كيفية الدعاء المضمون استجابتها من الرحمن سبحانه ليتعلم الناس كيف يرتبطوا بربهم الكريم ويطلبوا منه قضاء حوائجهم المعقولة مهما كانت مهمة أو غريبة. وبالنظر الممعن إلى ما تُشير إليها هذه الأحرف الخمسة التي فتح الله بها هذه المقطوعة الفنية البديعة من الكتاب الكريم وتطبيقها على القصص التي تفيض بها هذه السورة الكريمة، فإننا سوف نتعرف على سر كبير من أسرار استجابة الدعاء كما نتعرف على مجموعة من الأسرار والخبايا لحكايات الصالحين الذين انطووا في ثنايا الآيات البهية ليكونوا لنا نبراسا مشرقا نتعلم منهم التمسك بحبل الله والتشبث بأذيال رحمته وحده لا شريك له، ولا من يُفيدنا غيرُه سبحانه وتعالى. وكما نعرف بأن الأحرف تشير إلى كلمات تمس المفاهيم المدرجة في خبايا الآيات، وبما أن السورة تبدأ بقصص الصالحين من الأنبياء كما سنعرف، فإن الحروف تشير إلى ما خفي علينا من مفاهيم مقصودة مع القصص الظاهرة. 

ومما لا شك فيه بأن الكثير من المفسرين الذين لم يشتهر عنهم بأنهم فسروا الأحرف الفواتح، فإنهم قد فتشوا عما يتلاءم مع السورة من كلمات وردت داخل السورة نفسها فعجزوا عن الوصول إلى حقيقة المشار إليها في هذه الأحرف. ولعل كاتب هذا التفسير هو أول من يتناول الأحرف بجدية وعزم بإذنه سبحانه وتعالى، ولكن ليس من الممكن لأي إنسان لم يوحَ إليه مثل كاتب هذا الكتاب أن يجزم بمقصود الكتاب الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فما أكتبه تعبير ظنيٌ أتمنى أن يكون قريبا جدا من الواقع وهو منطبق على سور أخرى ذُكر فيها بعض هذه الأحرف كما أوضحها في كل سورة بعينها بإذنه سبحانه. والعرب لا يُشيرون إلى الكلمات بفواتحها الحرفية إلا بعد إعادتها إلى أصولها، فلا يختارون حرف الميم للمضروب والمقتول بل يختارون الضاد والقاف باعتبار أن أصلي الكلمتين هما ضرب وقتل. والقرآن الكريم نازل بلغة العرب ولا يخالف أصول اللغة إلا بالتي هي أحسن أحيانا. ولِما في القرآن من قوة لغوية وبلاغية فإن علماء العربية مسلمين وغير مسلمين لم يبخلوا على المكتبة العربية بتصحيح المفاهيم النحوية والبلاغية على أساس القرآن أو بإضافة المضمون القرآني الجديد إلى اللغة الأم. مثالهما المسجِد بكسر الجيم بدل المسجَد بالفتح وكذلك الفاسق للمستهتر بالدين إضافة إلى خروج التمرة من غلافها وهو المعنى الأصلي للفسق. 

وقبل أن يقرأ الباحث هذا المقطع من السورة فإني أنصحه بأن ينتقل إلى الآية التالية فيقرأ قصة زكريا بالكامل قبل أن يتعرف على تفسيري لفاتحة هذه السورة. فانتقل من هذا المكان إلى الآية الثانية إن شئت أخي وأختي. 

الكلمات الخمسة المقصودة بهذه الأحرف برأيي المتواضع هي: 

الكتمان أو التكتم عن غير الله سبحانه؛ 

والهمس بالقلب دون الجهر بالقول عند الطلب من رب العالمين؛ 

واليقين بأنه سبحانه يسمع الطلب قطعا ويرد الجواب قطعا دون شك؛ 

والاعتزال عن الناس ليتم به الانفراد بالله العزيز الحكيم؛ 

والصبر بفيض ضد الشروط الزمانية والمكانية. 

ولبيان ذلك نقول:

أولا) – الكتمان:

أما الكتمان فلأنه عامل أساسي لقضاء الحوائج وهو معروف في الأوساط البشرية وقد اشتهرت الجملة الحكيمة التي تكاد تكون حديثا نبويا: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان. والكتمان من شروط الطلب المتعارف بين الناس فعلا، إذ ليس من شأن المهمة أن تقع على ألسن السامعين. الحاجة هي مقصودة نسبيا لكل شخص بعينه ولو أنها قد تصيب الآخرين أيضا. فالذي يطلب يد فتاة أو التي تتعلق نفسها بفتى فإنه يطلب ذلك إرضاء لنفسه لا للطرف المقابل الذي قد يكون غاضبا من هذا الطلب. 

وقضاء الحاجة تتطلب مقدمة أخرى للتوفيق بين رأيي المطلوب والطالب قبل السعي لتحقق الحاجة. هذه الحقيقة تتنافى مع الجهر الذي قد يبطل مفعول السعي قبل بلوغ الغاية أو يخلق لدى الطرف المقابل شعورا بالمواجهة مع الطلب الذي لا ترتضيه نفسه بداية. 

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الطلب المقدم لشخص ثالث لتحقيقه قد لا يتناسب مع بقية شؤون الشخص الثالث الذي لا يُريد قضاء نفس الحاجة لشخص آخر. فما بالك بالطلب من رب العباد جميعا الذي لا يتخصص سبحانه بشخص دون شخص، بل هو ربهم جميعا دون تصور أي فرق في هذا الارتباط بين أي إنسان وربه مع إنسان آخر وربه مهما عظـُم أو صغُر شأن ذلك الموجود البشري. إنه سبحانه رب كل شيء بشخصه دون تصوره مع موجود آخر فهو رب الإنسان ألف بغض النظر عن كونه إبنا للإنسان باء أو أبا للإنسان جيم. ثم إن الكتمان دليل واضح على التعلق الشديد من المحتاج بالغني والاعتراف منه بالحقارة أمام الغني المتعالي وهو ما يتناسب مع شأن رب الكون العظيم مع عبد حقير لا أهمية في وجوده بالنسبة للغني القهار جل جلاله. 

ثم إن محض وجود الإنسان الضعيف على أي حال وشدة حاجاته سببٌ لاستدرار الرحمة والرأفة من الرب الغني الكريم سبحانه، فالعطايا تنهال على كل شخص دعا ربه أو لم يدع، آمن أم لم يؤمن بالحقيقة المطلقة جل جلاله، استغفر أم لم يستغفر، وأخيرا استرضى ربه أم لم يسترضه سبحانه. هذا الموجود لو أراد المزيد من الرحمة التي تنزل لحظة بلحظة كالمطر لتقع في متناول يد الجميع، فإنما عليه بأن يتشبث بشكل خاص مُرضٍ لله تعالى؛ وما أجمل من أن يتشبث بحالة الذي يرى كل الأبواب موصدة أمامه إلا باب الله سبحانه أو يرفض التوسل بأي موجود غير الله تعالى فسيكون الكتمان دليلا على رفضه فضلَ كل محسن عدا ربه الكريم. ولمزيد من التأكيد بأنه لا يريد شيئا من أحد فإنه لا يُخبر أحدا بحاجته إطلاقا مهما كان الشخص قريبا منه أو قريبا من قلبه ورأيه عدا الغني الكريم سبحانه. 

والذي يكتم أمره، فإنما هو الذي لا يقوم بأية حركة إعلامية ضد الله تعالى. ذلك لأن الذي يذكر حاجته وفقره لغير الله تعالى فإنما يقوم بدعاية مضادة للسيد المالك الذي هو ملتزم بسد حاجات عبيده مهما كبُرت رحمةً منه سبحانه وفضلاً. ونقلُ الحاجة إلى الغير ولو على سبيل السؤال بأن يدعو الله له مثلا، دليل على أن المالك غير مهتم بمملوكه أو غيرُ عالمٍ بحاجته والعياذ بالله. فالكتمان شاهد قوي على اهتمام العبد بإظهار كرم ربه الكريم فعلا وبأنه لا حاجة له حتى يلتمس من أحد أية مساعدة. إن الفقير الذي يُري الناس الغنى فإنه يقول لهم بأن الله تعالى كاف عبده وبأنه في استغنائه عن غير الله يُخبر الناس بأن ربه قد أفاض عليه ما يستحقه من الرحمة فمن يشعر بغير ذلك فإنه غافل عن الكريم الفياض جل جلاله وليس الله غافلا عنه أو مهملا له، حاش لله من ذلك. 

تم المقطع الأول ويتلوه المقطع الثاني وأوله: ثانيا) – الهمس:. 

أحمد المُهري 

4/5/2021

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

#الدعاء_المستجاب 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.