مفهوم القرآن 6

مفهوم القرآن 6

أنا لا أعرف هل أن الأستاذ الطنطاوي قام بعملية تفسير القرآن كاملة أو قام بتدريس التفسير. وقد قمت بكليهما ولاحظت أن القرآن العظيم تعليمي أكثر منه علميا. ولذلك انتبهت إلى أن كل السور مرتبطة ببعضها البعض ارتباطا وثيقا لا يمكن فصلها ولا يمكن اعادة ترتيبها والحال ذاته يجري على الآيات كذلك. كذلك فقد لاحظت أن قصص الأنبياء في كل سورة مبينة على أساس مناسب لأهداف تلك السورة التي سماها الله تعالى سورة بمعنى انها تحيط بهدف كبير تصب فيه كل الآيات التي تمثل منهجا لإيصال الهدف إلى ذهن المتدبر بآيات القرآن. كما لاحظت خلال التفسير أن الكثير من زملائي بعد حضور سنوات من جلسات التفسير صاروا يسعون للتدبر في آية أو مجموعة من الآيات وهم قد يعجزون احيانا عن الوقوف على المعاني الدقيقة التي تمثل رسالة السورة وذلك لأنهم لم يضعوا هدف السورة في اعتبارهم.

إن بعض السور تبدأ ببعض الأحرف التي اكتفى عامة المفسرين باعتبارها رموزا لا يمكن فكها. ولكني لم أقتنع بذلك وطلبت من ربي أن يعلمنيها ووفقت بالنتيجة في كشف معاني كل هذه الفواتح ولاحظت بأن فهم السورة بعيد المنال بدون فهم فواتحها. ولاحظت أيضا بأن كل مجموعة من السور تهدف إلى بيان موضوع كبير وقد وضعها المؤلف العظيم جل جلاله بجوار بعضها البعض لتشترك في إيصال المعنى. وانتبهت بأن سورتي البقرة وآل عمران اللتين تتصدرهما حروف ألم تعطيان معناها بالنسبة للآخرة وأن المجموعة الأخرى المشابهة من حيث الفواتح وهي العنكبوت والروم ولقمان والسجدة تهتم بنفس المعنى ولكن في الدنيا.

كما وفقني ربي لأعرف السبب في أن كل سورة تبدأ بالحروف الفواتح وبها حرف الراء فإن الفاتحة لا تعتبر آية ولكنها لو خليت من حرف الراء الذي يرمز إلى معنى خاص لا مجال لذكره هنا فإنه سبحانه اعتبرها آية كاملة. وعرفت بسهولة فيما بعد بأن السور السبع التي تبدأ بـ حم تتحدث عن موضوع واحد بأشكال مختلفة وبأن كلا منها جديرة بأن تكون آية وبأن سورة الشورى تتحدث عن نفس المعنى ولكن بالنسبة للأنبياء ومن يريد أن يحذو حذوهم فكان لزاما عليهم أن يهتموا بمعاني عسق وهي فعلا جديرة بأن تكون آية واحدة أيضا. واهتممت بأن أترك كل النسخ القرآنية غير المعروفة وأهتم بأشهرها فصببت أهتمامي على النسخة التي تطبع بالملايين والمعروفة بقراءة حفص عن عاصم ووجدت أنها هي النسخة الحقيقية للقرآن الكريم وكل ما عداها لا يمكن الركون اليه.

وحتى أعطيك مثالا جازما – وقد فعلت في بداية البحث – دعني أتحدث الآن عن بداية القرآن. إن فاتحة الكتاب هي فعلا فاتحة الكتاب وهي ليست السبع المثاني كما اشتهر بين المفسرين. إنها ترمز إلى أهم المسائل القرآنية بكل صراحة ولكن بدون شرح كامل لأنها الفاتحة أو المقدمة فعلا. ثم تأتي كل السور القرآنية لتشرح سورة الفاتحة وتفصلها تفصيلا. بالطبع أن المغضوب عليهم والضالين ليسوا هم اليهود والنصارى كما تراءى للبعض ولو كان كذلك لصرح الله تعالى بذلك.

ثم أتت سورة البقرة لتوضح مسؤوليات القرآن التشريعية التي تعتني بتزكية النفس فتنطوي بصورة طبيعية على ما كتب الله تعالى على نفسه من عناية ورحمة بالكائنات المكلفة لتعلمهم أصول التزكية. وآل عمران مرافق للبقرة لبيان الذين عملوا بهذه التشريعات المفيدة لتهذيب النفس واستفادوا منها. ثم تأتي سورة النساء لتهتم بعد تزكية النفس بتزكية النسل وتطهيره وتأتي بعدها المائدة مستدركة الاهتمام بالنسل لتقول لنا بأن العوائل والقوميات وأفراد البشر في النهاية ليسوا موضوع اهتمام رب العالمين ولكنها عوامل مساعدة للحياة الهنيئة في الدنيا. ولذلك بدأت السورة بالاهتمام بالعقود لتحثنا على العمل بادئين بالتعهدات الطبيعية التي نحملها في كياننا كبشر بغض النظر عن قومياتنا وتعاريفنا الدنيوية. وهلم جرا.

بالطبع لا يمكن معرفة كل هذا دون معرفة معاني الآيات برمتها بالنسبة لكل سورة وملاحظة بدايات السور ونهاياتها ليتكون الاطمئنان الى أن القرآن سلسلة ذهبية مترابطة لا يمكن فصل أية كلمة منها ولا يمكن تقديم سورة أو آية أو تأخيرها عن موقعها. وأنا أفسر القرآن على هذا الأساس وقد نجحت بفضل الله تعالى إلى اليوم منذ ثمان سنوات لأثبت نمطية القرآن وأهمية كل كلمة وحرف فيه.

 إنك تلاحظ هكذا بأن القرآن لا ينطوي على كلمة زائدة ولا كلمة ناقصة ولا قصة ناقصة كما لا يذكر ضمن القصة أي موضوع قليل الأهمية. هكذا سترى ببصيرتك أن القرآن لا يحتاج إلى غيره لفهم معناه وبأن كل الوسائل من اللغة والنحو وهكذا العلوم العربية الأخرى قد تكون عوامل مساعدة ولكنها ليست أصيلة. حتى الكلمات التي انفرد القرآن بذكرها دون غيره مثل الجبت والتفث فإن القرآن بنفسه يشرحها ولا تحتاج معهما إلى اللغة. أرى النحو واللغة فقيرين أمام هذا الخضم الموار من التعريفات والتفصيلات التي اوردها القرآن الكريم والتي تغني المتدبر عن أن يهتم بغيره من الكتب. لكني أرجو من الإخوة والأخوات المهتمين بالقرآن أن يكونوا صادقين في نواياهم حينما يذهبوا إلى القرآن ليتعلموا. أرجو ألا يظننّ أحد بأنه قادر على أن يقوم بتعليم القرآن او فرض قناعاته وقبولياته عليه فإن فعل فإن من المحتم أنه لن يتعلم ولن يطلع على كنوز الكتاب العظيم. أقول ذلك بعد تحقيق وتجربة مستمرة وليس لمجرد التعريف فأنا لست بشاعر بل إنني ضد التنضيد الشعري المجرد. إنني أعتبر الشعر عائقا أمام الفهم والتعمق بأنه ينقل المستمع والمفكر إلى عالم الخيال والخيال ليس صحيحا بالضرورة.

يتبع..

احمد المُهري

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.