نظرية ظهور العلم 37- قصة جان بياجيه وعلم النفس الإدراكي

نظرية ظهور العلم 37-
قصة جان بياجيه وعلم النفس الإدراكي

إذا كنا قد اقتصرنا حتى الآن في دراستنا لـ”ظهور العلم” على دراسة ظهور العلم على المستوى المجتمعي, فقد حان وقت دراستنا لظهور العلم على المستوى الفردي. 

ساعدتنا دراستنا لتاريخ العلم على إدراك أن العلم “منتج ثقافي” مثله في ذلك مثل الكتابة.  لا ينتج المجتمع هذا المنتج (أو أي منتج, في حقيقة الأمر) إلا إذا كان هناك احتياج شديد وملح لهذا المنتج.  هذا هو السبب في أن مجتمعات الصيد والتقاط الثمار لا تنتج حضارة, ولا كتابة, ولا علما.   لا تنتج مجتمعات الصيد والتقاط الثمار, مثلها في ذلك مثل مجتمعات الرعي والزراعة البسيطة, حضارة لأن المخزون الغذائي لديها يكفيها بالكاد ولا يسمح “بتفرغ” بعض من أفراد المجتمع لإدارة شؤونه ومن ثم أخذ الخطوة الأولى نحن الحضارة. حقيقة الأمر, صياغة الوضع بهذا الشكل هي صياغة خاطئة, حيث يتوجب القول إنه على حين لا يوجد مخزون غذائي “من أصله” لدى مجتمعات الصيد والتقاط الثمار, فإن المخزون الغذائي لدى مجتمعات الرعي والزراعة البسيطة لا يسمح إطلاقا بظهور “طبقة” لا تعمل بإنتاج الغذاء.  في مثل هذه الحالات لا يوجد في مثل هذه المجتمعات عمل واحد “يستحيل” أداؤه إلا عن طريق الكتابة أو عن طريق العلم.   وعليه فلا كتابة ولا علم.  يقول المثل العربي “عد غنمك, يا جحا.  قال واحدة نائمة والثانية قائمة”.   واحدة نائمة وواحدة قائمة, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 لا تظهر الكتابة, بهذا الشكل, إلا إذا كان المجتمع مشتبكًا في أعمال لا يمكن القيام بها إلا عن طريق الكتابة, كما لا يظهر العلم إلا إذا كان المجتمع مشتبكًا في أعمال لا يمكن القيام بها إلا عن طريق العلم.  يحتاج ضبط أعداد البط والأوز وأرادب الغلة الداخلة إلى مخزن الرجل العظيم إلى “تسجيل”, كما يحتاج ضبط أعداد البط والأوز الخارجة منه إلى تسجيل.  بدون “تسجيل” لا يمكن ضبط العمل في مخزن الرجل العظيم, وهكذا “يضطر” المجتمع إلى “اختراع” الكتابة.  يحتاج تحقيق العدل إلى ألا يستمع الإنسان إلا إلى ما يقوم عليه دليل, وهكذا “يضطر” المجتمع إلى “اختراع العلم”.   العلم, كما اتفقنا, هو ألا تستمع إلا إلى ما يقوم عليه دليل.  “يستحيل” تحقيق العدل إلا إذا استمعت “فقط” إلى ما يقوم عليه الدليل.  

 هذا هو العدل, وهذا هو العلم:  عدم الاستماع إلا إلى ما يقوم عليه دليل.

 إذا كانت دراستنا “لتاريخ ظهور العلم” قد ساعدتنا على “فهم” متى يظهر العلم على مستوى المجتمع, فإن دراستنا لعلم النفس الإدراكي سوف تساعدنا على “فهم” متى يظهر العلم على مستوى الفرد.  أي سوف تساعدنا على “فهم” العمر الذي يبدأ فيه الفرد في التفكير بطريقة علمية.  أي بعدم الحديث إلا عما يقوم عليه دليل وعدم الاستماع إلا إلى ما يقوم عليه دليل. 

 من الضروري التوكيد, في بداية رحلتنا هذه مع “علم النفس الإدراكي”, على نقطتين أساسيتين.  الأولى, أن قصة علم النفس الإدراكي هي, أساسا, قصة رجل واحد اسمه جان بياجيه (إضافة, طبعًا, إلى آلاف الرجال والنساء الذين عملوا – وما زالوا يعملون – على مساعدتنا على فهم كيف نشأ “الإدراك” لدى الإنسان).  الثانية, أن محاولة عرض نظرية بياجيه في خمس أو ست صفحات – أو حتى عشرين – تشبه محاولة إنسان أن يخصص ساعة أو ساعتين من وقته يوم الخميس لدراسة اللغة الفرنسية حتى يستطيع قراءة النصوص الأصلية لكتب علم النفس الإدراكي كما كتبها جان بياجيه يوم السبت, وبذا يتجنب “مشاكل الترجمة”.  ساعتان لا تكفيان لدراسة اللغة الفرنسية حتى تقرأ النصوص الأصلية لجان بياجيه, وعشرون صفحة لا تكفي لعرض نظرية جان بياجيه في نمو الإدراك لدى الإنسان.  يعني ذلك ضرورة النظر إلى الكلام الوارد في الصفحات القادمة على أنه “دردشة” لا على أنه “بحث” في نظرية جان بياجيه في نمو الإدراك.  المسألة, بهذا الشكل, تشبه من يقدم لك “بحثا” في خمس (أو ست) صفحات يتحدث فيها عن “الدراسات الإسلامية في القرون الأولى من الهجرة”.  ماذا يمكنك أن تقول عن الدراسات الإسلامية في القرون الأولى من الهجرة في ست صفحات؟  هذا, بالضبط, ما نحاول أن نفعله هنا.    

 يستطيع القاري المهتم, بالطبع, أن يرجع إلى النصوص الأصلية.  يتوافر على الشبكة أكثر من ثلاثة ملايين موقع تتحدث عن بياجيه.  أيضا تتوافر بالعربية ثلاثة كتب لا مفر من قراءتها لكل من يريد أن “يأخذ فكرة” عن الموضوع.  هذه الكتب هي “اللغة والتفكير عند الطفل” لجان بياجيه, و”الحكم الأخلاقي لدى الطفل” لجان بياجيه أيضا.  يتوافر الكتابان في مكتبة جامعة القاهرة حيث يمكن الحصول على صورة منهما.  الكتابات مترجمان ترجمة دقيقة إلى أقصى حد.  يتوافر كذلك كتاب “نظرية النحو العربي القديم” من تأليف كمال شاهين ونشر دار الفكر العربي.  يحتوي الكتاب على 80 صفحة يقدم المؤلف فيها عرضا وافيا – إلى حد ما – لنظرية جان بياجيه في نمو الإدراك لدى الإنسان. 

ولد جان بياجيه في مدينة نوشاتل السويسرية عام 1896 ونشر أول بحث له في الثالثة عشرة من العمر وحصل على الدكتوراة في البيولوجيا وهو في الحادية والعشرين من العمر.  يمكن القول, بهذا الشكل, إننا نتحدث عن “عالم بيولوجيا” أكثر مما نتحدث عن “عالم نفس”.  حقيقة الأمر, ظل بياجيه معظم حياته تقريبًا “عالم بيولوجيا” أكثر منه “عالم نفس” ولم يتحول إلى عالم نفس إلا في السنين الأخيرة من حياته – هذا إذا كان قد تحول. 

 حقًا, أظهر بياجيه اهتماما مبكرًا بعلم النفس الإدراكي, كما أنه قضى حياته كلها يدرس كيف “يدرك” الإنسان العالم حوله, إضافة إلى أنه هو مؤسس علم النفس الإدراكي, إلا أنه كان دائما “عالم البيولوجيا” المهتم بـ”علم النفس”.  يظهر ذلك بوضوح تام في نظرته إلى الإدراك على أنه “وظيفة بيولوجية” لا تختلف إن كثيرًا أو قليلا عن “وظيفة الهضم”, أو “الإخراج”, أو “الشم”, أو “النظر”, أو أي وظيفة بيولوجية أخرى.  تعمل كل هذه الوظائف على “الحفاظ على حياة الكائن الحي”.  يعني تعطل أي وظيفة نهاية الكائن الحي.  تماما مثلما تنتهي حياة الكائن الحي إذا فقد القدرة على الهضم – أو الإخراج – تنتهي حياة الكائن الحي إذا فقد القدرة على الإدراك.  الإدراك وظيفة بيولوجية.  صبغت هذه النظرة البيولوجية إلى الإدراك عمل بياجيه في حقل علم النفس الإدراكي من أول لحظة عمل فيها في هذا الحقل إلى آخر لحظة تقريبا.

تعود البدايات الأولى لاهتمام جان بياجيه بـ”وظيفة الإدراك” إلى الفترة التي انضم فيها إلى فريق من علماء النفس الفرنسيين كانت وزارة التعليم الفرنسية قد كونته في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين للنظر في المشاكل التي يواجهها نظام التعليم الفرنسي.   كانت فرنسا قد أدخلت في أواخر القرن التاسع عشر نظام التعليم الإلزامي الذي يلتحق فيه جميع الأطفال الفرنسيين بالتعليم المدرسي.  كان هذا عملا رائعًا, بالطبع, إلا أن المفاجأة التي كانت تنتظر وزارة التعليم الفرنسية هي في الفشل المزري لهذه الوزارة في تعليم هؤلاء الأطفال كما بينت ذلك نتائج الاختبارات السنوية, سنة وراء سنة, وراء سنة.  

 انضم جان بياجيه إلى هذا الفريق الضخم من الخبراء الذين يدرسون كل جوانب العملية التعليمية, من مناهج تعليمية, إلى معلمين, إلى أطفال, إلى اختبارات, إلى كل شيء.  في حالة الأطفال, مثلا, كانت هناك مجموعة تدرس “حجم ونوع المعلومات التي خرج بها الأطفال من دراسة منهج الوزارة”.  كانت هناك مجموعة أخرى تدرس “قدرة هؤلاء الأطفال على التعلم أصلا, بغض النظر تماما عن منهج الوزارة”.  كانت هناك مجموعة ثالثة تدرس “طريقة عمل حواس هذه الأطفال بغض النظر عن التعلم أصلا”. 

 كان عمل بياجيه يقتضي منه النظر في نتائج الاختبارات والتعرف على نوع الأسئلة التي أخطأ الأطفال في الإجابة عليها.  لم يمضِ وقت طويل, على أية حال, حتى بدأ بياجيه يفقد اهتمامه بموضوع أين أخطأ الأطفال هذا ويهتم بموضوع آخر هو : لماذا أخطأ الأطفال؟   لماذا يجيب كل الأطفال في الخامسة من العمر (تقريبا) إذا سألتهم عن معنى “إن غاب القط العب يا فأر” بأن هذه الجملة تعني أن القط لا يحب اللعب مع الفأر وأن الفأر يلعب لوحده؟  ولماذا يجيب كل الأطفال في الخامسة عشرة من العمر (تقريبا) على نفس السؤال بأن هذه الجملة تعني بأنه عندما يغيب “المسؤول” تنفرط الأمور ويفعل كل فرد ما يحلو له؟  لماذا إذا سألت أي طفل في الخامسة من العمر (تقريبا) ما إذا كان من الصواب القول بأن القاعدة العامة فيما يتعلق بالمصريين هي أنهم يتحدثون باللهجة المصرية فيأتيك الرد دائما (تقريبا) بأن هذا الكلام غير صحيح حيث إن صديقه أحمد ابن طنط منى يتكلم كويتي؟ وأن أحمد مصري.   كيف تفسر العجز الدائم, والمستمر, والأبدي عن إدراك أننا نتحدث عن قاعدة عامة وأن موضوع أن صديقه أحمد ابن طنط منى يتكلم كويتي لا يعني أن المصريين “كقاعدة عامة” لا يتحدثون باللهجة المصرية؟   في سن الخامسة عشرة يأتيك الرد دائما بأن هذه الجملة صحيحة, وأن المصريين فعلا يتحدثون – بشكل عام – باللهجة المصرية.  لماذا إذا أمسكت بكوب ضخم من الزجاج الشفاف به بعض الماء, ثم سكبت الماء في إناء ضيق طويل من الزجاج الشفاف كذلك بحيث يمتليء تماما, ثم سألت طفلا في الخامسة من العمر عما إذا كان الماء قد زاد أم نقص جاءتك الإجابة دائما وأبدا بأنه زاد, ثم إذا سكبت الماء مرة أخرى في الكوب الضخم ثم سألت الطفل نفس السؤال جاءتك الإجابة, أبدًا ودائما, بأنه نقص؟  لماذا تأتي الإجابة دائما بكل هذه الثقة, وكل هذه الجدية, وكل هذا الاعتزاز بالنفس؟  ولماذا ينظر الأطفال في الخامسة عشرة (أو حتى الحادية عشرة أحيانا) إليك إذا سألتهم نفس السؤال بعيون مليئة بالدهشة؟  ما معنى أن يسأل إنسان “عاقل” هذا السؤال الغبي؟  كيف يمكن للماء أن يزيد أو ينقص لمجرد أنه انتقل من كوب إلى كوب؟  أي عالم هذا الذي نعيش فيه الذي تزيد فيه كمية الماء عند نقلها من إناء إلى إناء, وتنقص مرة أخرى عند نقلها من إناء إلى إناء؟   نحن نعلم ذلك, والأطفال في الثالثة عشرة من العمر تعلم ذلك, فلما لا يعلم الأطفال في الخامسة من العمر ذلك؟  كانت هذه الأسئلة, ومئات من الأسئلة غيرها (حقيقة الأمر, آلاف الأسئلة) هي التي جعلت جان بياجيه يهب حياته “بالكامل” للإجابة عليها.  وهي الأسئلة والأجوبة التي أنتجت لنا في النهاية “علم النفس الإدراكي”.

يتبع… 

كمال شاهين

#نظرية_ظهور_العلم

#تطوير_الفقه_الاسلامي

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.