مفهوم القرآن 5

مفهوم القرآن 5

…. 

ثم تنتقل السورة إلى الحديث عما يدور في نفوس الصحابة من المشركين والعصاة من غير المشركين احتمالا من حب للعاجل من الخير. فيمثل لهم الآخرة بأنها ليست فقط جنات وحبور بل هي معاينة حقيقية لملك الله تعالى وذلك أجمل شيء في الآخرة حيث ينتهي حكم الإنسان على الإنسان ويستمتع المؤمن بحكم الله تعالى الغني المتعالي عليه والذي يفتخر العاقل بالعبودية له جل شأنه. ويستلزم ذلك أن يتعرف الإنسان على حقيقة مغادرته لكل ما بيده من مال وأعضاء بدنية ثم يذكره ربه بأن هناك نعم أنعم الله تعالى بها على الإنسان فأعطاه القدرة الخاصة على الإدراك. فيذكر سبحانه أربعة من نعمه عليه ليصير إنسانا بعد أن يذكر له بأنه أولى له ثم أولى.. وأولى يعني أنعم. يقول له بأن التفكر في هذه النعم الأربعة يعطي العاقل القناعة بأن الذي خلقه قادر على أن يعيد خلق بدن لنفسه فيما بعد. وبعد هذه السورة يأتي الدور ليتحدث الرحمن عن الموضوع الذي ذكره قبل بيان نعمه الأربعة وهو أن الإنسان بهذه الكيفية لا يمكن أن يخلق سدى. فتنضم سورة الإنسان لبيان هذا الموضوع الهام.

أتصور أن هذا القدر من البيان كاف لتوضيح الموضوع فقط وأكرر بأن هذا ليس تفسيرا للسورة فلقد فسرتها بنعمة الله تعالى قبل عدة سنوات في ثلاث محاضرات تزيد على أربع ساعات من الحديث للإخوة والأخوات الذين يعرفون أوليات هذا النوع من التفسير الدقيق فلا يمكن اختصارها هنا.

 ولو أردتم جنابكم أو من يطلع على هذا أن يخوض الموضوع بتفصيل أكبر فإليكم هذا البحث:

الحروف الهجائية هي أصل كل الكلمات وكل الكتب ولعلها أصل لكثير من اللغات المختلفة. وكل واضع للغة فهو يجمع هذه الأحرف بطريقة خاصة ليعطي معنى مقصوداً. وقد قام المرحوم أحمد بن فارس الرازي ببيان معاني للحروف واعتقد بأن الكلمات تركيبة من معاني الحروف ونجح إلى حد كبير في استقطاب الملمين باللغة العربية. كما يقوم أحد زملائي وهو الأستاذ قصي الموسوي ببيان أدق ممن سبقه لأصوات الحروف ويسعى لفهم الكلمات القرآنية على أساسها وسيكون كتابه مصدرا لا يستهان به في المستقبل إن وفقه الله تعالى لإكماله. وأنا أعود إلى بن فارس الذي أكمل عمله ونشره في قديم الزمان لنراه كيف يفصل معنى ق ر ى.

(قري) القاف والراء والحرف المعتل أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على جمعٍ واجتماعٍ. من ذلك القَرْية، سمِّيت قريةً لاجتماع النَّاس فيها. ويقولون: قَرَيت الماء في المِقْراةِ: جمعتُه، وذلك الماءُ المجموع قَرِيٌّ. وجمع القَرية قُرىً، جاءت على كُسْوةٍ وكُسىً. والمِقْراة: الجفْنة، سمِّيت لاجتماع الضَّيف عليها، أو لما جُمع فيها من طعام.

إلى أن يقول:

قالوا: ومنه القُرآن، كأنَّه سمِّي بذلك لجَمعِه ما فيه من الأحكام والقِصَص وغيرِ ذلك. فأمَّا أقْرأَتِ المرأةُ فيقال إنَّها من هذا أيضاً. وذكروا أنَّها تكون كذا في حال طُهرها، كأنَّها قد جَمَعَتْ دمها في جوفها فلم تُرْخِه. وناسٌ يقولون: إنما إقراؤها: خروجُها من طُهرٍ إلى حيض، أو حيضٍ إلى طُهْر. قالوا: والقُرْء: وقْتٌ، يكونُ للطُّهر مرَّةً وللحيض مرة.

انتهى ما قاله ابن فارس.

 وأما الجملة فهي تجميع مترابط للكلمات بحيث يوضح المقصود الذي أراده ملقي الجملة على السامع. وحينما نصل للموضوع ثم للكتاب نشعر بأهمية التجميع والترتيب والتنضيد التي تعطي الكتاب قيمته وأهميته. إنك لن تجد مؤلِّفاً يرضى بأن يكتب الجمل أو المواضيع ثم يسلمها لشخص آخر كي يجمعها له ويصنفها كما يرى. ذلك لأن أهم عمل في التأليف هو عملية التجميع وعرض الفكرة كاملة ولذلك سموه تأليفا ولم يسموه مختارات أو ما في معناه مثلا. ولعل السر في ذلك هو أن كل مؤلف جدير فهو يحمل في قرارة نفسه رسالة يريد أن يوصلها لقارئه بالكيفية المناسبة التي تزرع المعاني في ذهن القارئ المتلقي حتى يطمئن من نقل الرسالة على أكمل وجه لمن يريد أن يبلغه مقصوده. فلو جمعه له أي شخص آخر فقد يعجز عن التعرف الكامل على رسالة المؤلف حتى يقوم بترتيب الكتاب ومن ثم التعريف برسالة المؤلف. ثم إن المؤلف المتقن والمخلص في الواقع يحمل في أعماق قلبه رسالة العلم ورسالة التعليم معا. ذلك لأن التعليم في الحقيقة هو المكلف بإيصال الرسالة إلى المتعلم وليس العلم نفسه. إنه يرتب كتابه على أصل تعليمي أكثر منه علميا لأنه حريص على إيصال الموضوع الأساسي إلى أذهان مختلف القراء وليس حريصا على إثبات أنه يعلم أو أنه غزير في العلم.

يتبع..

احمد المُهري

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.