نظرية ظهور العلم 36 -مئتا عام من التحقق

نظرية ظهور العلم 36مئتا عام من التحقق

تعليقًا على مقال “أعطني الدليل على صحة ما تقول فأنا أشتم في يديك رائحة الزيت والسكر”, أرسل إلينا الأخ العزيز الأستاذ عزت هلال رسالة يقول فيها:

“الإضراب عن الاستماع إلا إلى ما يقوم عليه دليل يعني – في الحالة المصرية – الإضراب عن الاستماع”

يبدو أن الحالة المصرية حالة مستعصية لا شفاء منها ومصيرها المحتوم الموت. غريب أمر صديقنا العزيز الدكتور كمال شاهين.

لو أن الإنسان قرر ألا يقرأ إلا ما يقوم عليه دليل لما قرأ حرفا واحدًا مما يكتبه الدكتور كمال شاهين، ولا كان مقبولا صيغة المبالغة التى كتبت بها العبارة السابقة.  الحياة ليست علمًا مطلقا, فليس بالعلم وحده يحيا الإنسان, ولا بالخبز وحده.   المجتمع اليوناني الأثيني قرر ألا يستمع إلا إلى ما يقوم عليه دليل!   هذا ما يقوله الدكتور كمال شاهين.    قول عجيب نضع أمامه الكثير من علامات التعجب, والكثير من علامات الاستفهام.  هل أقام هذا الشعب العبقري الدليل على منظومة الآلهة على جبل الأولمب؟  وهل أقام الدليل على إعدام سقراط بالسم؟ الصديق المهندس يحيى حسين ليس ظاهرة فريدة في المجتمع المصري بل هي فقط ما وصل إلى سمع صديقنا العزيز الدكتور كمال شاهين.   كما أن الحالة اليونانية ليست هي الحالة الفريدة في حياة البشرية.   ولكنه ضيق الأفق الذي يصور ذلك.   يبدو أننى سأقرر ألا أقرأ ما يكتبه أخي العزيز الدكتور كمال شاهين.   إنه يكتب من منظور ضيق للغاية.”   انتهى كلام سيادته

تعليقًا على نفس المقال أرسل إلينا الأستاذ غسان ماهر رسالة يقول فيها:

“أتفق تماماً مع المقال في أن قضية العدل هي المشكلة التي يتوجب أن تكون نصب عين المجتمعات، في أفرادها, وجماعاتها المنظمة, وحكوماتها, ومؤسساتها المدنية, والدينية, والثقافية, وجميع أقسام المجتمع، أي مجتمع.   ذلك لأن العدل هو ما يريد الإنسان – أي إنسان – أن يتحقق له ولأسرته القريبة على الأقل.   فإذا ما خرج من أنانيته فإن الرغبة في العدل تبدأ بالامتداد إلى الخارج، إلى الجيرة, والعائلة الأكبر, والعشيرة, والمدينة, والشركة التي يعمل فيها, والنادي الذي يلعب فيه, وأي من أقسام المجتمع التي ذكرتها والتي لم أذكرها, وصولاً إلى الرغبة في تحقيق العدل على مستوى الأمة – أياً كانت هذه الأمة التي يشعر بالانتماء إليها. وأخيراً على مستوى الإنسانية.

 يريد المولى عز وجل تحقق العدل للإنسان، فردًا ومجموعًا، لذا كانت القافلة المباركة للنبوات تستهدف ذلك لا غير:

*لقد أرسلنا رسلنا بالبينات، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان، ليقوم الناس بالقسط* الحديد: 25  

والنظرة البسيطة المباشرة تبين أن ما يحتاجه العدل ليس هو الكتاب فقط، بل الميزان أيضا وهذا يستبطن الحكمة التي وردت في آيات أخرى، وأيًا من الأمور التي من شأنها أن تزن الأمور بالطريق الصحيح، أي المتوازن، الذي من شأنه تحقيق العدل.   وهذا بالتأكيد يختلف من حالة إلى حالة، في المجتمعات, والأفراد, والمؤسسات، زمانًا, ومكانًا، بحيث إن المهم – كما يفهم من الآية المباركة – هو تحقيق التوازن المرن في شكله الذي هو إطار العدل المنشود.

غياب العدل هذا هو الذي أدى إلى ذهاب الناس في اتجاهات شتى بحثًا عن وسيلة أو فكرة جديدة لتحقيقه، حتى وصل الأمر بالبعض إلى أن يتخذوا من الإلحاد إطارًا كي يخلصهم من الظلم الذي حصل نتيجة تآمر, أو سكوت, أو فشل, المؤسسة الدينية المسيحية بالتفاعل مع الحكومات المستبدة الظالمة في أوروبا، فكانت الشيوعية، ودخلها الناس، من المسيحيين واليهود أولاً، ثم من المسلمين وغيرهم، وهو ينشدون العدالة الاجتماعية.

 إلا أن هذا الاتجاه الأممي الساعي إلى تحقيق العدل، والذي نجده في الأديان العالمية، بالتحديد الإسلام والمسيحية، وفي العقائد اللادينية كالاشتراكية والشيوعية، اصطدم بالاتجاهات التي تجعل العدل متأخراً عن غيره.   وأفضل مثال على ذلك هو الفكر القومي العربي، حيث وجدنا أن الاتجاه الناصري (والذي يشير إليه المقال بشكل غير مباشر) والاتجاه البعثي، والاتجاه القومي عموماً، استهدف تحقيق النهضة من طرق أخرى، بعضها حاول تحقيق العدالة الاجتماعية، ولكن بعضها الآخر كان من ذلك الاتجاه العنصري أو الذي يحاول استنهاض الأمة عن طريق الحديث عن الأمجاد الماضية حتى ولو كان بعضها مفترى وبعضها الآخر ملأه دماء الأبرياء والمظلومين، ومعظمه محاط بالظلم من كل جانب، وعليه فهو والعدل متناقضان لا يمكن أن يجتمعا، فكانت النتيجة أن فشلت هذه الاتجاهات.

  والمؤسف أننا لا نزال نسمع كل يوم الدعاة الذين يستندون في حثهم الناس على النهوض (على فرض حسن نياتهم وعدم ارتباطهم بالمشاريع المعادية للأمة، سواء علموا أم لم يعلموا(  ينادون على طارق بن زياد, وخالد, وصلاح الدين, وغيرهم، ويشجعون الناس على التأسي بأولئك، وحتى أن يكون فهمهم الآن فهم أولئك، من أجل أن تكون الأمة هي القائدة, إلى آخره.   أي, بعبارة أخرى، لإعادة تلك “الأمجاد” المعمّدة بدماء الأبرياء والمظلومين، والذي يعد أكبر دليل على خوائها حقيقة هو أنها لم تصمد كثيراً أمام الأمم الأخرى حتى خرت صريعة ولم تزل، بل وهي الآن في حالة من الفوضى, والتشرذم, والتخلف, لا تكاد تصدق بلحاظ ما عندها من إمكانيات, وقدرات, وثروات هائلة. 

 بدون تغيير هذه العقلية – عقلية الاهتمام بالأمجاد على حساب بناء الإنسان الذي سيقوم هو بتحقيق الأمجاد التي يؤطرها العدل عمومًا، فإن الأمل يبقى ضعيفـًا، بل معدومًا بتحقيق مهمة بعثة الأنبياء (ع)، وهي تحقيق العدل.”   انتهى كلام سيادته 

  قمت بنشر الرسالتين على بريد “مركز تطوير الفقه الاسلامي ” معلقًا, بدوري, أنه على حين يحدثنا الأخ العزيز, والزميل الكريم, الأستاذ عزت هلال مدير دائرة الحوار في رسالته إلينا حديثًا يدور أساسًا حول “العلم”, يحدثنا الأخ العزيز الأستاذ غسان ماهر في تعليقة على نفس الرسالة حديثًا يدور أساسًا حول “العدل”.    والسؤال هو كالتالي :  هل كان المقال مقالا عن العلم أم عن العدل؟  إذا كان مقالا عن العلم فما الذي يحدثنا عنه الأستاذ غسان ماهر؟  وإذا كان مقالا عن العدل فما الذي يحدثنا عنه الأستاذ عزت هلال؟ 

ردًا على هذا التساؤل أرسل الأستاذ غسان ماهر الرسالة التالية.  يقول سيادته:

“الأعزاء,

عندما علقت على جانب “العدل” فلأن التعليق على جانب من المقال، أي مقال، جائز – أليس كذلك؟  كما أن “العدل” إذا غاب عن أي شيء فإنه يسيء إليه، لهذا فإن الفتوحات العلمية الهائلة التي حققها الإنسان جاءت جميعها بالشر كما جاءت بالخير وما ذلك إلا لغياب العدل. نفس الكهرباء التي أضاء أديسن بها الدنيا استخدمت في الشر كما استخدمت في الخير. وهكذا غيرها.

 إن “العلم” من المستحيل أن يتأتى لجميع البشر، دع عنك باقي المخلوقات، لأن بعضها لا عقل له، حتى في فصيلة الإنسان، فإن المجنون, والنائم, وفاقد الوعي, والطفل غير المميز, والإنسان قليل الذكاء إلى درجة البلادة، كل هؤلاء يمتنع تحقق “العلم” عندهم، ولكن “العدل” يجب تحقيقه لهم أسوة بغيرهم.   لهذا فإن مسيرة النبوات كانت من أجل تحقيق “العدل” لا تحقيق “العلم”، كما أشرت إليه عندما ذكرت الآية الكريمة من سورة الحديد.   وبذا، أفلا يستحق جانب “العدل” في المقال التعليق عليه وحده؟”   انتهى كلام سيادته

 لا يوجد لدي أدنى شك في صواب ما يذهب إليه الأستاذ عزت هلال من أن “الحياة ليست علمًا مطلقا, فليس بالعلم وحده يحيا الإنسان.”  لا يوجد لدي أدنى شك كذلك في صواب ما يذهب إليه الأستاذ غسان ماهر من أن “العدل هو ما يريد الإنسان تحقيقه”.   بل لا يوجد لدي أدنى شك في أن العدل هو ما “يريد المولى عز وجل تحققه للإنسان، فردًا ومجموعًا، لذا كانت القافلة المباركة للنبوات تستهدف ذلك لا غير.”   لا يوجد لدي أدنى شك, أيضا, في أن من المستحيل تحقيق “العدل” بدون “العلم”.  إذا كان العلم هو ألا نتحدث إلا بما يقوم عليه دليل, وألا نستمع إلا إلى ما يقوم عليه دليل, فمن الواضح وضوح الشمس في منتصف النهار أن من المستحيل تحقيق العدل إلا عن طريق العلم.  كيف يمكنك أن تحقق العدل إذا أخذت بما لا يقوم عليه دليل.  كيف يمكنك أن تطالب بالعدل إذا تحدثت بما لا يقوم عليه دليل.  العلم والعدل وجهان لعملة واحدة.

 تفسر هذه العلاقة الوثيقة بين العلم والعدل “ظهور العلم” في اليونان في أوائل القرن السادس قبل الميلاد.   لم يظهر العلم في اليونان لأن أهل اليونان “يحبون” العلم, ولا لأنهم “عباقرة”, ولا حتى لأنهم “فضوليون”.   وقطعًا لم يظهر لأنهم وضعوا أيديهم في أيدي بعض من أجل “رفعة اليونان”, ولا لأنهم جعلوا قلوبهم على قلب رجل واحد, وإنما لأن اليونانيين كانوا يعملون على “تحقيق العدل”.    وهو ما يعني ضرورة التوصل إلى “تعريف” للعدل, وإصدار “قوانين” لتحقيق هذا العدل, و”التحقق” من تحقيق هذه القوانين للهدف منها, وهو ما يستدعي الأخذ بالقرائن, والتثبت من صحة الأدلة, والتحقق من سلامة الاستدلال.  أي يستدعي, أولا, وأخيرًا, وما بينهما, عدم الأخذ إلا بما يقوم عليه دليل.  هذا هو العدل, وهذا, أيضا, هو العلم.

 كان “ظهور العلم”, بهذا الشكل, هو “النتيجة الطبيعية” و”الاستجابة الحتمية” لاحتياجات المجتمع.  لم يظهر العلم من أجل إنتاج “مجموعة أعمال أبوقراط”, ولا من أجل إنتاج “كتاب العناصر” لإقليدس, وإنما ظهر استجابة لاحتياجات عملية للغاية تتعلق جميعها بكيفية تحقيق العدل, والنظر في القضايا, وكتابة القوانين.  بدون العلم كان من “المستحيل” ضبط حركة المجتمع.  وكما نعرف جميعا, فالحاجة أم الاختراع.

لا يختلف “ظهور العلم”, بهذا الشكل, عن “ظهور الكتابة”.  كما سبق أن أشرنا:

“كان “ظهور الكتابة”, بهذا الشكل, هو “النتيجة الطبيعية” و”الاستجابة الحتمية” لاحتياجات المجتمع.    لم “تظهر الكتابة” من أجل كتابة “المعلقات العشر”, ولا من أجل تسجيل “حكاية الفلاح الفصيح”, وإنما ظهرت استجابة لاحتياجات عملية للغاية تتعلق بعدد البط والأوز الوارد إلى مخزن الرجل العظيم, وعدد البط والأوز الذي حصل عليه كل رجل من “رجال الأمن” مقابل عمله.  بدون الكتابة كان من “المستحيل” ضبط أعمال الرجل العظيم.  وكما نعرف جميعا, فالحاجة أم الاختراع.”

 تمامًا مثلما كان “تدوين” القوانين, والأساطير, والتواريخ “منتجًا ثانويا” من منتجات “اختراع الكتابة” كان العلم “منتجًا ثانويا” من منتجات “تحقيق العدل”.  لم يكن ليخطر على بال من اخترعوا “الكتابة” أصلاً أن يأتي أناس ليستخدموا هذا الاختراع في “كتابة” الروايات والقصص.  هذا اختراع من أجل تسجيل أعداد البط والأوز الداخلة إلى مخزن الرجل العظيم – والخارجة منه.    لم يكن ليخطر على بال من صمم على ألا يستمع إلا إلى ما يقوم عليه دليل أن يأتي أناس ليستخدموا هذا الاختراع (وهو اختراع) في دراسة حركة النجوم.  هذا اختراع من أجل تحقيق العدل لا من أجل دراسة حركة النجوم, أو جسم الإنسان, أو علم النفس الإدراكي. هذا اختراع من أجل تحقيق العدل.  

 احتاجت البشرية إلى مئة ألف عام من لحظة ظهورها إلى لحظة اختراع “الزراعة”.  احتاجت البشرية كذلك إلى عشرة آلاف عام (أو سبعة) من لحظة اختراع الزراعة/الحضارة إلى لحظة اختراع “الكتابة”.  كما تبين الرقائم السومرية لم تفكر البشرية في استخدام هذا الاختراع الجديد في “تسجيل” أي شيء خلاف “ما اختُرِع له”.  أي خلاف تسجيل عدد البط والأوز الوارد إلى مخزن الرجل العظيم والخارج منه.  استمر ذلك لأكثر من ألف عام إلى أن حدث “الانفجار التدويني العظيم” عام 2500 قبل الميلاد “تقريبا” حين قام السومريون “بتدوين” كل شيء تقريبا, من قوانين, إلى فلك, إلى رياضيات, إلى قصص, إلى أساطير.  ترك لنا السومريون عشرات الآلاف من الرقائم التي تحكي لنا كل شيء “تقريبًا” عن حياتهم. 

 احتاج اليونانيون إلى مئتي عام تقريبًا منذ أن “كتب” دراكو أول “مدونة” قانونية في تاريخ اليونان – بل أول مدونة قانونية في تاريخ البشرية يقوم “بشر عاديون” بكتابتها من أولها إلى آخرها – إلى أن كتب أبوقراط أول “مدونة طبية” في تاريخ اليونان.  كانت مئتي عام من عدم الاستماع إلا إلى ما يقوم عليه دليل كفيلة بانفجار “براكين العلم اليونانية”.  فقط مئتا عام من التحقق, والتثبت, والتأكد, والتبين.  مئتا عام فقط من التحقق.    وهل يمكن تحقيق العدل بدون تحقق؟

يتبع… 

كمال شاهين

#نظرية_ظهور_العلم

#تطوير_الفقه_الاسلامي

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.