نظرية ظهور العلم 32-طريقة عمل كيكة البلاك فورست

نظرية ظهور العلم 32-طريقة عمل كيكة البلاك فورست

ما إن نشرت مقال “آباء الحضارة” على بريد “مركز تطوير الفقه الاسلامي ” حتى جاءني التعليق عليه من الأخ العزيز الأستاذ عزت هلال على بريد “دائرة حوار الفقه الاسلامي”.  يقول الأستاذ عزت هلال:

“المستعمرات لا تصنع حضارة

بهذه العبارة الموجزة أجاب الأستاذ الدكتور كمال شاهين على أهم سؤال في حياتنا: “لماذا توقف إسهام المصريين في العلم بعد عام 525 قبل الميلاد وإلى يومنا هذا؟”   نعم, المستعمرات لا تصنع حضارة, والحضارة هى التى تنتج علما, أو العلم ينتج حضارة.   فهل لدى أستاذنا إجابة عن: هل العلم يسبق الحضارة, أم الحضارة تسبق العلم؟   وما هي الحضارة؟ وهل لفظ الحضارة مرادف للفظ الثقافة؟  

نحن نتفق على أن حرية الإرادة هي المنطلق لبناء الحضارة, ولن نبنى حضارة قبل أن نتحرر من الإستعمار الأمريكي الصهيوني.   وهذا التحرر يبدأ من الداخل, برفض الهزيمة, وثقافة الهزيمة, والتمسك بالمقاومة.   وتبدأ حركة التحرر بالتمسك باللغة العربية – لغتنا في مصر – التطور الطبيعي للغات منطقة الهلال الخصيب.

لا أستطيع أن أغادر منتدى الأستاذ الدكتور كمال شاهين دون التعليق على عبارته “لم يستولِ  الأوربيون على أراضي الفلسطينيين من أجل مساعدة الفلسطينيين على الترقي  في مدارج الحضارة … لم يستولِ المصريون هم الآخرون على النوبة من أجل نشر الحضارة, وقطعا لم يذهبوا إلى الشام من أجل العمل على مساعدة الشوام على الترقي في مدارج الحضارة.   المسألة سرقة.”   ربما يحتاج الدكتور كمال شاهين, ونحتاج نحن معه, إلى البحث في الثقافات, والتنوع, والاندماج الثقافي, أو التنافر الثقافي.   لقد حكم الكوشيون مصر كلها, وكذلك الليبيون, وانتقلت حكمة المصريين ولغتهم من خلال سيناء إلى الشام والعراق.   ربما نحتاج لدراسة ما أسماه الدكتور شاهين “منطقة الهلال الخصيب”.   “نحن فقط آباء الحضارة”. وأضاف  “و”نحن” هنا تشير إلى كل من عاش ويعيش في منطقة الهلال الخصيب”.   نحن هذه التى يطلقها أستاذنا الدكتور كمال شاهين لا تتفق مع قوله باستعمار مصر للنوبة أو الشام.

تحياتي وتقديري.”   انتهى كلام سيادته.

خالص الشكر, والتحية, والتقدير لسيادة الأستاذ عزت هلال على كريم رسالته.  تأتي رسائل سيادته دوما وهي تحمل أسئلة تحتاج الإجابة على الواحد منها إلى رسالة مستقلة إن لم يكن كتابا.  ما أن أكتب رسالة تعالج “نقطة واحدة” حتى يرسل سيادته رسالة تثير عشر نقاط.  وعليه, وكالعادة مرة أخرى, لن أتناول سوى سؤال واحد فقط من الأسئلة التي طرحها سيادته.  وهو السؤال المتعلق بما إذا كان العلم يسبق الحضارة, أم أن الحضارة هي التي تسبق العلم.  وما هو العلم, وما هي الحضارة, وهل لفظ الحضارة مرادف للفظ الثقافة.  وهي, للحق, مجموعة أسئلة, وليس سؤالا واحدًا.  دعنا نبدأ بالسؤال الأخير أولا.  دعنا نرى ما إذا كان مصطلح الحضارة مرادفا لمصطلح الثقافة.  دعني, أولا كذلك أبين, أن ما سأعبر عنه هنا هو “فهمي أنا” لموضوع يوجد فيه ألف تعريف وتعريف للحضارة وألف تعريف وتعريف وتعريف للثقافة.     وعليه,

يمكن القول, بصفة عامة, إن هناك اتفاقًا عاما على أن الإنسان عند ظهوره لأول مرة على ظهر الأرض لم يظهر لوحده وإنما ظهر ومعه ثقافته.  يعود ذلك إلى أن من المستحيل أن يبقى الإنسان على ظهر الأرض لمدة ساعة إلا إذا كان على بينة بما يدور حوله.  أي إلا إذا كان على بينة بما يؤكل, وما لا يؤكل, وما هو خطر وما هو غير خطر.  لاحظ أن هذه الأشياء ليست جزءًا من بيولوجيا الإنسان.   الدليل على ذلك أنك إذا قمت بتجربة “خيالية” تصورت فيها أنك أتيت بإنسان وربيته في مكان معزول تماما لا يرى فيه أحدًا على الإطلاق, ولا يصل فيه إليه إلا الطعام, وبعد أن أمضى عشرين عاما أطلقته ليواجه العالم في غابات أفريقيا الوسطى أو أمريكا الجنوبية فلن تجد ما يمكن أن تطلقه.  لن تجد إلا “جثة” إذا ألقيتها في غابة فأنت تلقيها إلى الوحوش لتأكلها.    عندما ظهر الإنسان لأول مرة على ظهر الأرض, ظهر وثقافته معه. 

جرى العرف على إطلاق كلمة “الثقافة” على هذا النوع من المعارف التي لا يمكن للإنسان أن يعيش لحظات بدونها, والاحتفاظ بكلمة “الحضارة” لأنواع المعارف التي لا يمكن النظر إليها على أنها معارف ضرورية لا يمكن للإنسان أن يعيش بدونها.  الصيد والتقاط الثمار, بهذا الشكل, “ثقافة”, والزراعة حضارة.  يمكن للإنسان أن يعيش بدون زراعة.  حقيقة الأمر, عاش الإنسان 90% من الوقت الذي مر عليه من لحظة ظهوره على ظهر الأرض إلى يوم الله هذا بدون زراعة.  لم يمثل ذلك أي مشكلة على الإطلاق.  كان الإنسان الأول صيادًا ماهرًا من لحظة ظهوره على أرض الله وكانت زوجته أستاذة في التقاط الثمار, والحبوب, والخنافس.  يعني ذلك أن الإنسان ظهر على سطح البسيطة وثقافته معه, وبعد ذلك بتسعين ألف سنة قام بـ”صنع الحضارة”.  أو فلنقل وضع “البذرة الأولى” لصنع الحضارة.

جرى العرف كذلك على قصر كلمة “الحضارة” على “الثقافات المكتوبة”.  هذا هو السبب في أننا عندما نتحدث عن ثقافة “الإسكيمو” أو “الهنود الحمر” نتحدث دائما عن “ثقافة الإسكيمو” أو ” ثقافة الهنود الحمر”.  لا أحد يتحدث عن “حضارة الهنود الحمر”.  لا أحد يتحدث عن “حضارة البوبو” أو “الموشي”.  ولا أحد يتحدث عن “حضارة الكيتشي واوا”.  لا أحد على الإطلاق.

هناك حالات, بالطبع, يكون فيها من الصعب النظر إلى ثقافة غير مكتوبة على أنها “مجرد ثقافة”.  يحدث ذلك عندما نجد أنفسنا أمام “ثقافة” لها أسلوب مميز في العمارة, وطعام ذو طعم مستحب, وملابس جميلة, ومساكن أجمل, وأواني طهي, وأدوات طعام, وتنظيم اجتماعي معقد, وطبقة حاكمة, وكهنة, وزراع, وصناع, وتجار, ومحاربون.  أي نجد أنفسنا أمام مجتمع يتوفر لديه كل ما هو متوفر لدى أي مجتمع “متحضر” إلا أنه ينقصه “الكتابة”.  حدث ذلك في حالة الآزتك والمايا.  هذا هو السبب في أننا عندما نتحدث عن الآزتك والمايا فإننا نتحدث عن “حضارة الآزتك” و”حضارة المايا”.  هذا عن “الثقافة” و”الحضارة”.   وبذا يبقى “العلم”.  وعليه,

إذا كانت “الحضارة” هي العمارة, والطهي, وصنع الملابس, والمساكن, والزراعة, والتجارة, وأداوت القتال, و”تدوين” القوانين, وتأليف المعاجم, وكتب الصرف والنحو, وكتابة التاريخ, فإن “العلم” هو الوعي بطرق الطهي, وطرق صنع الملابس, والأسس التي يقوم عليها وصف النظام الصرفي للغة, أو النظام القانوني, ومن ثم النظر في سلامة هذه الأسس.  

يظهر الفرق بين الثقافة والحضارة بشكل واضح في “طريقة أكل الحبوب”.  يمكن للإنسان أن يلتقط الحبوب من الأرض ويضعها في فمه وانتهى الأمر.  يمكن أيضًا أن يدقها بحجر لتحويلها إلى “طحين” ومن ثم يضعها في فمه.  يمكنه كذلك أن يضعها في الماء ويتركها حتى “تتفتح” ثم يضعها في فمه.  أو أن يطحنها ثم يضيف إليها بعض الماء أي يصنع منها عجينة ثم يضعها في فمه.  أو يضع العجينة على قطعة حجر ساخن ويخبزها ثم يضعها في فمه.  أو يضيف إلى العجينة “خميرة” ويخمرها ثم يخبزها ثم يضعها في فمه.  أو يضيف إليها زبدًا وعسلا ويخبزها ثم يضعها في فمه.  أو يضيف إليها بيكنج باودر, ثم يضعها في الفرن ليخبزها, ثم يخرجها من الفرن ويتركها “ترتاح” لمدة يوم على الأقل, ثم يقطعها بالسكين ليصنع منها ثلاث طبقات, ثم يغطي كل طبقة بالمربى أولا ثم بالقشدة المخفوقة ثانيا, ثم الطبقة الأخرى, ثم الأخرى بنفس الطريقة, ثم يغطي “الكيكة” بالكامل بالقشدة المخفوقة, ثم يغطي سطح الكيكة وجوانبها بالقشدة المخفوقة, وبعد ذلك يغطي سطحها بالشوكولاته وجوانبها باللوز المحمص في الزبد, ثم يصنع من القشدة المخفوقة نجوما يضعها على سطح الكيكة ويضع في منتصف كل نجمة منها قطعة من الكريز المطبوخ بالسكر.  وأخيرًا, يقطع منها قطعة بالسكين, ويضعها في طبق ويضع الطبق على صينية مع شوكة وسكين, ويقدمها.  غالبًا ما يكون ذلك مع قدح من الكابوتشينو. 

تمثل هذه القصة, باختصار, “رحلة الحبوب” من “ثقافة الإنسان الأول” إلى “حضارة القرن العشرين”.    مازالت هناك مجتمعات تعيش كل منها في مرحلة من مراحل الرحلة التي قطعتها “الحبوب” في رحلتها من السنبلة إلى فم الإنسان من عصر ظهور الإنسان إلى العصر الحاضر.    المثير في الأمر, أننا لم نتحدث طوال هذه الرحلة عن “العلم” وإنما تحدثنا عن مراحل الانتقال من ثقافة الإنسان الأول إلى حضارة القرن العشرين (أو التاسع عشر, حيث إني لست متأكدًا تماما من تاريخ اختراع كيكة البلاك فورست).

يبدأ الحديث عن العلم في رحلة “أكل الحبوب” عندما يحدثنا “المختصون” عن طريقة صنع البلاك فورست, والمحتويات التي نحتاج إليها, ومقادير هذه المحتويات, ودرجة حرارة الفرن, ودرجة حرارة إناء خفق القشدة (حقيقة وليست مبالغة) ونوع السكر المضاف إلى القشدة المخفوقة ومعدل تدفقه في إناء الخفق, ودرجة الخفق, إلى آخر هذه القصة الطويلة.  تزداد القصة تعقيدا عندما يبدأ الإنتاج الصناعي لكيكة البلاك فورست, إذ يبدأ البحث عن أنواع الدقيق, والقشدة التي تحتمل “التبريد العالي” بدون أن يتغير طعمها, كما يبدأ البحث عن طرق إنتاج بتكلفة أقل, بل يبدأ السعي في إمكانية “تخليق” قشدة صناعية يمكن أن تبقى “على الرف” لفترات طويلة بدون أن يتغير شكلها أو طعمها.  وهنا يبدأ البحث عما إذا كانت هذه القشدة “المخلقة” لها “آثار جانبية ضارة” على صحة “المستهلك”, إلى آخر هذه القصة الطويلة.

“الحضارة”, بهذا الشكل, هي إنتاج كيكة البلاك فورست.  “العلم” هو الوعي بطريقة إنتاج كيكة البلاك فورست, وخصائص محتويات كيكة البلاك فورست, والسعي المتواصل لتحسين طريقة إنتاج كيكة البلاك فورست, وتاريخ ظهورها لأول مرة, والمراحل التي مرت بها من ساعة ظهورها إلى يوم الله هذا, ومعدل توافرها في المجتمعات المختلفة, والأكلات والمشروبات المرتبطة بها, ومواعيد تناولها, وما إذا كانت مرتبطة بمناسبات معينة, وأخيرًا, التحقق من سلامة كل هذه المعلومات, إضافة إلى التحقق من سلامة أدوات التحقق ذاتها.

يمكنك دوما, بهذا الشكل, الحصول على “شيف حلويات” درجة أولى.  حقًا, لا يتوافر منهم كثيرون لدينا هنا في مصر إلا أنك يمكنك, في نهاية الأمر, أن تجد واحدًا (أو اثنين).  أما في حالة “علماء” البلاك فورست فأنا على ثقة بأن سيادتك تعلم أن العثور على علماء في الطاقة النووية أيسر بكثير.  حقيقة الأمر, كلي ثقة في أن سيادتك لست في حاجة إلى أي منهم.  شيف حلواني يكفي وزيادة.  لا أحد في مصر يحتاج “علماء” في طرق صنع الحلويات.  القاهرة ليست لندن.  ولا حتى باريس.

يبتع

كمال شاهين

#نظرية_ظهور_العلم

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.