نظرية ظهور العلم -29 -شمس الحضارة تشرق على الشرق 2/2

نظرية ظهور العلم -29 -شمس الحضارة تشرق على الشرق 2/2

إذا كانت سومر قد سقطت وتكسرت عجلاتها الحربية أمام جيوش سرجون العظيم فإن أشور كانت قد بدأت في الظهور على الضفة الغربية من دجلة أمام مدينة الموصل الحالية ولم يمضِ وقت طويل قبل أن تصبح فعلاً, وحقًا, وصدقًا, أقوى قوة ضاربة في الشرق الأوسط.  سيطرت آشور سيطرة تامة لمئات السنين على كامل “العالم المتحضر” من جبال زاجروس شرقًا إلى  النوبة والصحراء اللوبية غربا –  وما بينهما. 

شكل الآشوريون أكبر آلة حربية شهدها العالم منذ ظهور البشرية إلى ساعة ظهور آشور.  لم يكتف الآشوريون بتشكيل أكبر قوة عسكرية تتألف بالكامل من رجال لا عمل لهم إلا القتل, بل اخترعوا كذلك السيوف الحديدية, والرماح, والدروع المصفحة.  جابت هذه الجيوش كل نقطة في العالم المتحضر وأخضعتها أو دمرتها.  كان البديل الوحيد لدفع الجزية هو الموت.  جمعت آشور أموالا طائلة أنفقتها في تشييد مدن لم يرَ العالم مثلها.   ضم قصر آشور بانيبال مكتبة احتوت 30,000 رقيم (لوح مكتوب عليه بالكتابة المسمارية) كانت هذه المكتبة هي أكبر مكتبة تم إنشاؤها في تاريخ البشرية. انتقلت هذه الرقيمات إلى “المكتبة البريطانية” في لندن حيث ما زالت إلى الآن موضع دراسة.

لم يكن مقدرًا لآشور, على أية حال, أن تبقى إلى الأبد.    في عام 616 قبل الميلاد تحالفت جميع قوى العالم المتحضر في ذلك الوقت بهدف واحد هو التخلص من آشور نهائيا والى الأبد.  استمرت الحرب من عام 616 إلى عام 605 حين قاتلت الجيوش الإمبراطورية الآشورية لآخر مرة, وخسرت لآخر مرة أيضا.   كان ذلك في موقعة كاركاميش عام 605.  

مرة أخرى, لم يسقط الإمبراطور فقط عندما سقطت الجيوش الإمبراطورية الآشورية, بل سقط كل شيء.  خرج آشور أوباليت من التاريخ وخرجت معه كذلك آشور.  لم يسمع أحد عنه بعدها شيئا على الإطلاق, ولا سمع عن آشور.  كان ما حدث وكأنه “بروفة” لما سيحدث بعد.   لم يخرج محمد الثاني عشر من غرناطة بمفرده عندما سقطت الجيوش الإمبراطورية العربية أمام الجيوش الإمبراطورية القسطلية والأراجونية وإنما خرج معه كل شيء.  صلى الإمبراطور صلاة العصر وخرج من غرناطة ولم يرفع بعدها أذان المغرب أبدا.  عندما يسقط الإمبراطور يسقط كل شيء.   

إن كانت آشور قد سقطت, فإن بابل قد ظهرت.   أتاح سقوط آشور الفرصة لبابل كي تظهر كالقوة الوحيدة الكبرى في بلاد الرافدين.  نشأت بابل كمدينة صغيرة على الفرات بالقرب من مدينة الناصرية الحالية, إلا أنها سرعان ما تحولت إلى دولة مستقلة ثم أقوى إمبراطورية جنوب الرافدين.  حدث ذلك في عهد حامواربي عام 1700 قبل الميلاد تقريبا.  إلا أنها سرعان ما فقدت استقلالها وتم تدميرها, إلا أنها قامت مرة أخرى واستعادت ممتلكاتها.  حدث ذلك قبل أن تفقد استقلالها ويتم تدميرها مرة أخرى.  حقيقة الأمر, تمثل قصة بابل قصة حرب لا تتوقف منذ أول لحظة ارتفعت أسوارها إلى آخر مرة تم فيها هدم تلك الأسوار.

على الرغم من ذلك, استطاعت بابل أن تقدم الكثير.  أقام البابليون مدنا صبغوا جدرانها بأزهى ألوان, بل وغطوها بالخزف بل وبالذهب.   كان في كل مدينة وكل معبد مكتبة.  لم تكن الكتابة مقصورة على الكهنة وحسب وإنما كانت متاحة كذلك لكل الرجال والنساء.  كان هناك مثل سومري يردده البابليون.   يقول المثل “على من يريد أن يتفوق في المدرسة أن يستيقظ مع طيور الصباح”.   ترجم البابليون الأدب السومري.  استدعى ذلك تأليف المعاجم, وكتب النحو, وإضافة الشروح والحواشي على النصوص السومرية الأصلية.  قام سين ليقي أونيني (الذي تدين له البشرية جمعاء لترجمته التي قدمت لنا النص البابلي للملحمة السومرية)  بترجمة “ملحمة جلجاميش” من السومرية إلى البابلية.    كذلك أقام البابليون حدائق بابل المعلقة رمز القوة والغطرسة.  حقيقة الأمر, يخبرنا العهد القديم بأنه بلغت غطرسة القوة بالبابليين إلى درجة أنهم فكروا في صناعة برج يصلون به إلى السماء مما جلب عليهم غضب الله فـ” بلبل” ألسنتهم.  هنا على ضفاف الفرات شيد البابليون حدائق بابل المعلقة كما شيدوا برجا يصعدون به إلى السماء.  إلى هذه الدرجة بلغت بهم غطرسة التحضر.

لا تقتصر إسهامات البابليين في “صنع الحضارة” على فن العمارة, والدراسات اللغوية, وصناعة المجوهرات, والأدب وحسب, وإنما تمتد إلى قطاعات الطب, والفلك, والرياضيات, بل والفلسفة.    تبين دراسة “كتاب التشخيص” الذي وضعه الطبيب البابلي حزاقيل كين أبلي مدى التأثير الذي تركه الطب البابلي على الطب اليوناني.  بالتحديد, تبين دراسة المقالات الأولى في “كتاب أبوقراط” مدى تأثر أبوقراط بالطب البابلي سواء على مستوى الشكل أو على مستوى المحتوى.   

تبين دراسة الأعمال التي قام بها البابليون في حقول الفلك والرياضيات تحديدًا مدى عظمة الحضارة البابلية.  يظهر ذلك – بوضوح تام – في الأثر العميق الذي تركته “المعارف البابلية” على “العلم اليوناني” في حقول الطب, والفلك, والرياضيات.  للحصول على فكرة عن ذلك سوف أكتفي بإيراد جزء من مقال الويكيبيديا عن “الإمبراطورية البابلية”.  يكفي ما جاء في آخر أربعة أسطر من آخر فقرة من أن طاليس “أبا العلم”, وأول عالم في تاريخ البشرية, جاء إلى بابل وتعلم لغتها, ودرس علومها, وعاد إلى اليونان ليتحدث عن العلم.  يعلم كل من يعلم أي شيء عن تاريخ العلم أن طاليس كان أول من صرح (في الغرب) بأن الماء هو أصل الحياة.  يعلم كل من يعلم أي شيء عن تاريخ الشرق الأوسط القديم أن الحضارة السومرية, مثلها في ذلك مثل الحضارة الفرعونية, هي حضارة “تقدس” الماء.  في وسط كل هذه الصحارى, وكل هذا الجفاف, لم يكن غريبا على الإطلاق أن يدرك السومريون, والبابليون, والمصريون, أن الماء أصل الحياة.  مرة أخرى, كما يعلم كل من درس الحضارة السومرية, ألم يكن “إنكي” هو معبود “إريدو”؟   وألم تكن إريدو هي أول مدينة على أرض الله؟  وأولم يكن “إيا” معبود بابل هو نفسه “إنكي” معبود إريدو؟  وأولم تكن “إيا” مشتقة من جذر آرامي يشير إلى “الحيا” في نفس الوقت الذي يشير فيه إلى الحياة؟  وأليس هذا هو الحال إلى يوم الله هذا حيث يشير الجذر “حي” إلى الماء كما في “الحيا” وإلى “الحياة” كما في “حياة”؟  تماما كما تشير كلمة “العيش” في العامية المصرية إلى “الخبز” وإلى “الحياة”.  إذا كان “الخبز” هو “الحياة” بالنسبة لسكان الوادي, فإن “الحيا” هو الحياة بالنسبة لسكان الصحراء.  لم يكن طاليس, عندما عاد إلى شوارع أثينا, يردد أكثر مما يعرفه كل من يسكن الصحراء.  الحيا هو الحياة.   

يتبع….

#نظرية_ظهور_العلم

كمال شاهين 

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.