نظرية ظهور العلم ح 23 – السيجارة البني – 1

نظرية ظهور العلم ح 23 – السيجارة البني – 1

وأخيرًا, نأتي إلى المقال الأخير في موضوع الإسهام العربي الحضاري في تقدم المعرفة البشرية في حقل العلوم الطبيعية والإنسانية.  حاول البحث أن يبين أن هذه الفكرة هي فكرة وهمية.  استند البحث في ذلك إلى أن النظر في الكتابات العلمية التي صدرت باللغة العربية في القرون الأولى من الهجرة – وهي الفترة التي ينظر إليها على أنها كانت فترة ازدهار الحضارة العربية – يبين أن مصدر هذه الكتابات لم يكن عربيا بل كان فارسيا. 

بمنتهي الوضوح, لم يكن هناك أحد في القرون الأولى من الهجرة يتحدث اللغة العربية سوى أهلنا في الحجاز ونجد ومواليهم من مزدوجي اللغة في البصرة, والكوفة, وبغداد, وباقي عموم فارس.  قام مزدوجو اللغة في المدن الجديدة (البصرة, والكوفة, وبغداد) والمدن القديمة في فارس بكتابة هذه الكتب.  يجب أن نذكر في هذا الصدد أن أول كتاب صدر باللغة العربية منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها إلى منتصف القرن الثاني الهجري كان كتاب سيبويه كما أن أول كتب صدرت في العلوم الرياضية كانت كتب الخوارزمي.  كان من المستحيل أن يقوم أهلنا من الناطقين باللغة العربية في نجد والحجاز بإنتاج كتب على هذا المستوى.  الأميون لا ينتجون كتبًا تساهم في تقدم المعرفة البشرية في حقل الرياضيات.   الأميون لا ينتجون كتبا في الصرف والنحو.  مائة وخمسون عاما من الاختلاط بصناع العلم لا تكفي لتحول ثقافة رعوية لا تنتج علما إلى ثقافة رعوية تنتج علما.  الثقافات الرعوية لا تنتج علما. 

يجب هنا أن نتذكر أننا هنا في مصر قد بدأنا منذ عام 1805 مشوار الانتقال من مجتمع زراعي لا يصنع علما إلى مجتمع يصنع علما ولم ننجح بعد.  مر أكثر من مئتي عام على تولي محمد علي باشا (رحمه الله رحمة واسعة, وغفر له, وأسكنه فسيح جناته) حكم مصر ولم تصدر مطابع القاهرة بعد كتابًا واحدًا في حقل العلوم الطبيعية والإنسانية فكر إنسان في أي مكان على سطح الكرة الأرضية في ترجمته إلى أي لغة في العالم لأنه رأى فيه “شيئا” يحتاج إليه مجتمعه.  أكثر من مئتي عام ولم تظهر مدرسة مصرية في حقل علم النفس الإدراكي, أو علم اللغة, أو علم الاقتصاد, أو علم الاجتماع, أو علم الأنثروبولوجيا, أو أي علم.  أكثر من مئتي عام بدون أي إسهام في تقدم المعرفة البشرية في حقل الطاقة النووية, أو الكيمياء النووية, أو أي حقل.  أكثر من مئتي عام بدون مجلة علمية واحدة في أي مجال من مجالات العلوم الطبيعية أو الإنسانية ينظر إليها باقي أعضاء المجتمع البشري الذي ننتمي إليه على أنها مجلة “محترمة”.  

 إذا كانت عملية “التحول” من ثقافة لا تنتج علما إلى ثقافة تنتج علما قد “فشلت” حتى الآن في مصر في القرن الحادي والعشرين فكيف لنا أن نتوقع أن “تنجح” في نجد والحجاز في القرن الأول من الهجرة؟  على أي أساس؟  ما هي النظرية العلمية التي يستند إليها من يتوقع من الناطقين بالعربية في القرون الأولى من الهجرة أن يتحولوا من مجتمع رعوي لا ينتج علما إلى مجتمع رعوي ينتج علما في فترة قرنين, أو ثلاثة, أو أربعة, أو حتى خمسة؟  المجتمعات الرعوية لا تنتج علما. 

يجب الانتباه كذلك إلى أن فكرة الإسهام العربي الحضاري في تقدم المعرفة البشرية ليست فكرة “غير علمية” وحسب وإنما هي أيضا فكرة “غير أخلاقية”.  لم تظهر هذه الفكرة في المجتمع العربي لأن “المتخصصين في دراسة تاريخ العلم” في المجتمع العربي قد “أخطأوا” في حساباتهم ولم ينتبهوا إلى الأسماء الفارسية التي تزين الكتابات الصادرة باللغة العربية في حقل العلوم الطبيعية والإنسانية, أو لم ينتبهوا إلى أن هذه الكتابات قد صدرت غالبيتها من مدن تقع في أرض فارس وليس في أرض العرب, أو لم ينتبهوا إلى استحالة صدور علم أصلا عن ثقافة رعوية, وإنما صدرت لأن الفكرة “حلوة”.   من “كمال الجمال” أن يصدر عن الثقافة العربية القديمة في القرون الأولى من الهجرة كتب يقف لها الخلق ينظرون جميعا إلينا كيف نصنع العلم من لا شيء.  ما إن خرجنا من الحجاز ونجد إلى البصرة, والكوفة, وبغداد حتى انفجرت براكين العلم.  لم تأتِ الفكرة عن “خطأ” في الفهم وإنما أتت لرغبة في تعظيم الذات.  لم يكن الأمر أمر “خطأ” وإنما كان أمر “خطيئة”.

الفكرة أيضا “مُضِرّة”.  مضرة لأنها تمنعنا من “الوعي” بحجم المصيبة التي نحن فيها.  مصيبة “غياب التفكير العلمي” من الثقافة المصرية. (وأنا هنا أتحدث عن الثقافة المصرية تحديدًا لأني لا أتحدث إلا عما أعرفه جيدا.  وأيضا, لأنه لو اتضح أني مخطئ فلا مشكلة هناك, ويكفيني أجر واحد.  طبعًا, كنت ومازلت أطمع في أجرين إلا أن أجرًا واحدًا يكفي).

تخيل!  فقط تخيل مدى المصيبة التي يمكن لأمة أن تقع فيها إذا كانت تتخيل أنها “أذكى” أمة على سطح البسيطة في حين أنها “تعاني” من مشاكل حادة في إدراك ما يدور حولها.  وإذا وجدت صعوبة في أن تتخيل فدعني أساعدك.  تخيل ماذا يمكن أن يحدث لأمة – وهو ما حدث فعلا – كانت “تتخيل” أنها أقوى قوة ضاربة في الشرق الأوسط.  تخيل ماذا يمكن أن يحدث لنا إذا كنا ما زلنا نعيش ذلك الوهم.  أقوى قوة ضاربة في الشرق الأوسط؟  ما هذا الخيال؟ 

تخيل ماذا يمكن أن يحدث لأمة “تتخيل” أن مشكلة البحث العلمي فيها تعود إلى نقص الموارد.  وأن مشكلة التعليم فيها تعود إلى نقص الموارد.  وأن مشكلة الإدارة فيها تعود إلى نقص الموارد.  وأن كل هذه المشاكل ستختفي في حالة ظهور البترول, والذهب, والياقوت والمرجان.  تخيل أمة يغيب عن وعيها تماما أنها تعاني من “مشاكل في التفكير العلمي”.  تخيل أمة تعيش في الخدر اللذيذ.  

يتبع … 

كمال شاهين 

#نظرية_ظهور_العلم

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.