نظرية ظهور العلم -22 -المهم أن تكون حلوة

نظرية ظهور العلم -22 –المهم أن تكون حلوة

استكمالا لما بدأناه في المقال السابق من أننا – في ختام رحلتنا مع فكرة “الإسهام العربي الحضاري في تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلوم الطبيعية والإنسانية” – يمكننا القول إن بحثنا هذا قد كشف عن عدد من النقاط التي تحتاج إلى بحث مستقل بشكل أعمق.   من ذلك كيف حدث ما حدث؟

على حين أن ليس من الصعب “تفسير” ما حدث, فإن من الضروري الاعتراف بأننا لا نعلم “بالضبط” كيف ومتى حدث ما حدث.   أي كيف حدث أن دخلت في رؤوسنا فكرة أننا أسهمنا في تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلوم الطبيعية والإنسانية.   في حالتنا نحن هنا في مصر, مثلا, فإننا نعلم أنه كان من الطبيعي جدًا, ومن العادي للغاية, أن يقوم فراعنة مصر بـ”كشط” أسماء الفراعنة الذين أنشأوا هذا المعبد أو تلك المقبرة ووضع أسماء جلالتهم عليها, وانتهى الأمر.  في حالتي أنا الشخصية, مثلا, فما زلت أذكر الدهشة التي سيطرت علي وأنا طفل عندما ارتفعت لافتات مكتوب عليها “أنشيء في عهد الثورة” أمام مبانٍ في مصر الجديدة تم إنشاؤها إما في عهد الخديوي عباس حلمي أو – على أقل تقدير – في عهد السلطان حسين كامل.  هذه مبانٍ كانت مبانيَ “قديمة” عندما ولدت أنا, ومع ذلك فلم يمثل ذلك أي مشكلة في ادعاء نسبتها إلى عهد الثورة المجيدة. 

نحن نعلم أيضا من دراستنا لعلم النفس الإدراكي أن الكائن البشري في المرحلة الثانية من مراحل النمو الإدراكي يكون واقعًا تحت سيطرة ما يطلق عليه اسم “مركزية الذات”.  أي أن هذا الطفل الذي تراه سيادتك في المرحلة العمرية من اثنين تقريبا إلى خمس أو ست سنوات (في المجتمعات الحديثة) تسيطر عليه فكرة أن سيادته هو مركز الكون.  بمعنى أنه “يتخيل” أنه إذا كان سعيدًا فالكون أيضا سعيد, أما إذا كان حزينا فالكون أيضا حزين.  كما أنه يتخيل أن ما يراه هو يراه الكون, وما يعرفه هو يعرفه الكون, وطبعا هو أحسن واحد في الكون وأبوه هو أحسن أب في الكون, وكل شيء لديه هو أحسن شيء في الكون.  تتألف المجتعات البدائية من مجموعة من الأفراد الذين “يتخيل” كل واحد منهم أنه أحسن واحد في الكون, وأن أسرته هي أفضل أسرة في الكون, وعشيرته أفضل عشيرة في الكون, وقبيلته أحسن قبيلة في الكون, وبالتالي فمجتمعه هو أفضل مجتمع في الكون.  وحيث إن من “كمال الأمور” أن يكون مجتمع ما قد ساهم في تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلوم الطبيعية والإنسانية, فعليه فإن مجتمعه قد ساهم – بلا أدنى شك –  في تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلوم الطبيعية والإنسانية, وانتهى الأمر.

طبعًا, مسألة من أين أتيت بهذه الفكرة “الحلوة” هي مسألة لا وجود لها أصلا.  يكفي أنها “حلوة”.  في المرحلة الثانية من مراحل نمو الإدراك (حسب مقياس بياجيه) فكرة أن سيادتك مطالب بـ”الدليل” على اتفاق ما تقول مع الواقع هي فكرة مضحكة.  أي واقع؟  الفكرة “حلوة” وانتهى الأمر.  الفكرة لا علاقة لها بالواقع أصلا.  في المرحلة الثانية من مراحل نمو الإدراك صلة الإنسان بالواقع هي صلة “يختلط فيها الواقع بالخيال”.  المعبد معبدنا والمقبرة مقبرتنا.  أنشيء في عهد الثورة.  وانتهى الأمر.

يزخر التاريخ بالعديد من الممارسات المشابهة التي ينسب الناس فيها إلى أنفسهم فضائل لا علاقة لهم بها.  يساعدنا علم النفس الإدراكي على فهم أن هذه “ظاهرة طبيعية إلى أقصى حد”.  هذا ما يفعله أطفالنا إلى اليوم – حتى في أحدث وأرقى المجتمعات.  حقيقة الأمر, هذا ما تفعله كل مجتمعات العالم الثالث إلى يوم الله هذا.  يعود ذلك إلى أن إدراك أي مجتمع لحقيقة موقعِه على خريطة المجتمعات البشرية يحتاج – بداية – إلى معرفة خريطة المجتمعات البشرية.  مجتمعات العالم الثالث – التي يعد العالم العربي عضوًا أصيلا بها – لا تمتلك هذه الخريطة, وعليه فهي تعيش في عالم “الخيال”, عالم الأفكار “الحلوة”.  

يبقى أننا لا نعرف متى بدأت الثقافة العربية في الادعاء بأنها ساهمت في تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلوم الطبيعية والإنسانية وإلى أي مدى أصبحت جزءًا من “المعرفة المكتوبة” في الثقافة العربية.  أي ما إذا كانت الثقافة العربية قد اكتفت “بترديد” هذا الكلام, أم أنها قررته في المدارس الابتدائية فقط, أم أيضا في المدارس الإعدادية, والثانوية.  أم أنه أصبح جزءًا من مقرر “تاريخ العلم” في الجامعات العربية وأصبح بذلك جزءًا من الموقف الرسمي للثقافة العربية.  يحتاج هذا الأمر, بدون أي شك, إلى بحث مستقل.

من الضروري, في هذا السياق, أن أذكر تجربتين لي مع اثنين من أساتذة تاريخ العلم في العالم العربي.  كانت الأولى في إحدى البلاد العربية والثانية في مصر.  في التجربة الأولى, دعاني تليفزيون ذاك البلد إلى الحديث عما دار في الأندلس أيام كانت الأندلس دولة عربية, كما دعا معي أستاذا أمريكيا من المتخصصين في تاريخ الأندلس وممن ينطقون بالإسبانية كأحد أبنائها.  حقيقة الأمر, كان الرجل مزدوج اللغة إذ كان أبوه أمريكيا من أصول بريطانية, وأمه مكسيكية من أصول أسبانية.   كما دعا معنا أستاذ التاريخ الأندلسي بجامعة ذاك البلد. 

ذهبنا إلى مبنى التليفزيون في ذاك البلد, وبدأ الحديث (باللغة الإنجليزية طبعا حيث لم يكن الأستاذ الأمريكي يعرف العربية) وتحدثت أنا لمدة خمس دقائق, ثم تحدث الأستاذ الأمريكي لمدة خمس دقائق كذلك, ثم تولى أستاذ التاريخ الأندلسي من أبناء ذلك البلد الحديث إلى أن انتهي البرنامج.   لم يسمح لنا بأن نقول كلمة واحدة, كما لم يكن باستطاعتنا نحن أن نقول كلمة واحدة حيث عارض كل ما قلناه ونقضه بأدلة لم نسمع عنها من قبل.  وانتهى البرنامج. 

ثار صديقي الأمريكي على مقدمة البرنامج التي سمحت بهذه المهزلة ولم تعطِنا فرصة حتى للاحتجاج بينما كنت أنا مذهولا مما سمعت من “أستاذ التاريخ الأندلسي” الذي حدثنا بما لا نعرف.  اقتربت منه بهدوء متسائلا عما إذا كان لديه وقت لتبادل الحديث معنا مع فنجان قهوة في فندق لطيف قريب من مبنى التلفزيون.  رحب الرجل بطلبي هذا وذهبنا إلى الفندق لتناول القهوة والحديث عن الأندلس.

قلت لأستاذ التاريخ الأندلسي إني قمت عبر الشهر الماضي بمراجعة معلوماتي عن النقطة التي تحدثنا عنها في مراجع عربية, وأسبانية, وإنجليزية وأني لم أصادف أبدًا أي إشارة لما أخبرنا به سيادته.  أخبرته أني سأكون شاكرًا إلى أقصى حد إذا قام سيادته بإطلاعي على المصدر الذي استقى منه المعلومات التي حدثنا عنها.  كان الرجل متواضعا إلى أقصى حد وصريحا إلى أقصى حد.  قال إنه أتى بهذه المعلومات من دماغة لأنه ليس “مجنونا” لكي يوافقنا على ما كنا نتحدث عنه.  قال لي إنك مصري والأستاذ الآخر أمريكي وأقصى ما يمكن أن يحدث لنا هو الطرد من البلد, وهذا قد يكون أمرًا مزعجا إلا أنه لن يدمر حياتنا, أما في حالته هو فلا مجال للطرد فهو من أهل البلد وما سيحدث له لو تكلم بكلامنا فلن يقل عن تدمير حياته وحياة أسرته. 

قال لي “عليك أن تدري يا دكتور أننا لا نعيش في جزيرة بمفردنا يعيش فيها أهل العلم.  نحن نعيش في مجتمع لديه أفكار يعيش بها ولا يوجد لديه أي استعداد لوضعها موضع النقاش, وإذا تجرأ أحد على ذلك فالعقاب جاهز.   مثل لي ذلك الكلام “صدمة”.  كنت وقتها شابًا غرّا يتصور أن الحقيقة قيمة عليا يسعى الجميع نحوها.  احتاج الأمر إلى عشرين عامًا من بعد هذه التجربة لتظهر الصورة بوضوح.  في الثقافة العربية, إذا لم تكن الحقيقة “حلوة” فهناك دومًا صفيحة الزبالة.  ليس المهم أن تكون الفكرة فكرة حقيقية, المهم أن تكون “حلوة”.

في التجربة الثانية أتاحت لي الظروف التعرف على أحد الأساتذة النابهين والنشطين للغاية في إحدى الجامعات المصرية.  رجل تمتد قائمة مؤلفاته في “تاريخ العلم” من ميدان روكسي إلى ميدان الجامع.  جلسنا أيضا نتحدث عن تاريخ العلم في الثقافة العربية.  كان الرجل متحدثا جيدا للغاية, ومستمعا جيدًا أيضا للغاية.  كان الحوار استكشافيا أحاول أنا فيه أن أتعرف على وجهة نظره, ويحاول هو أن يتعرف على وجهة نظري – وهو ما نجحنا فيه كلانا.  قرب نهاية الحديث سألني الرجل سؤالا مباشرًا: “هل تقول سيادتك بأنه لم يحدث على الإطلاق أن ظهرت في مصر “مدارس علمية” ساهمت في تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلوم الطبيعية والإنسانية, أي أن مصر لم تقدم أبدًا “بيئة آمنة” لنمو العلم وبذا لم تظهر بها “مدارس علمية” وإنما ظهر ذات يوم عالم هنا, كما ظهر ذات يوم آخر عالم هناك, وأن ظهور هؤلاء العلماء يمثل ظاهرة تستحق الدراسة إذ أنه أمر لا يستقيم “على الإطلاق” مع القاعة العامة؟  هل هذا ما تقصده سيادتك؟  كان السؤال صريحًا يتطلب إجابة صريحة.  وعليه, أجبته بأن نعم.  جاءتني الإجابة أكثر من صريحة: “هذا أمر يعرفه كل من يعمل في حقل تاريخ العلم في مصر, إلا أننا “نطنش”.   كيف يمكنك أن تنسى مثل هذه الكلمة.  نحن نعرف إلا أننا “نطنش”.

يعني ذلك أننا إذا أردنا معرفة ما جرى فعلا فيما يتعلق بموضوع الإسهام الحضاري العربي في تقدم المعرفة البشرية في حقل العلوم الطبيعية والإنسانية فإن علينا أن نجري نحن “البحث” بأيدينا.  المعلومات المتوفرة عن هذا الموضوع في الثقافة العربية معلومات “خيالية” لا علاقة لها بالواقع.  علينا أن نتذكر أن قبول الفكرة لا يعتمد على درجة توافقها مع الواقع وإنما يعتمد على درجة حلاوتها.  ليس المهم أن تكون الفكرة فكرة حقيقية, المهم أن تكون حلوة.

لا يحتاج الأمر إلى التوكيد – أو قد يحتاج – على أن مهمة الباحث في القرن الحادي والعشرين قد أصبحت سهلة بصورة مذهلة.  كل ما تحتاج إليه هو الدخول على الشبكة وشراء اشتراك في Questia  تدخل به على أي شيء تمت كتابته منذ أن اخترع قدماء العراقيين/المصريين الكتابة إلى يوم الله هذا.  المسألة في منتهى السهولة.  حتى لو كنت لا تعرف سوى اللغة العربية, فلن تجد صعوبة في الوصول إلى الحقيقة.  طالما كنت على دراية بأنه فيما يتعلق بالثقافة العربية فليس المهم أن تكون الفكرة حقيقية إنما المهم أن تكون حلوة. 

يتبع …

كمال شاهين 

#تطوير_الفقه_الاسلامي

#نظرية_ظهور_العلم 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.