يوم القيامة القسم الرابع ح 2- معنى رؤية النفس للملائكة الكرام:


يوم القيامة القسم الرابع ح 2 -معنى رؤية النفس للملائكة الكرام:

وهاهنا مسألة مهمة يجب توضيحها دفعا للشك. فالله تعالى ليس موجودا فيزيائيا يمكن أن يُرى بالعين المجردة إطلاقا، كما لا يمكن رؤيته كشكل أو هيولا بالنفس. إنه سبحانه يُري نفسه لعبيده بأن يقوي مقدار الطاقة التي يمد بها سبحانه كل شيء فعلا، بأن يقويها لتتحول تلك الطاقة الخطيرة إلى نار أو ضياء أو غيمة كما يشاء سبحانه. إن شواهد تلك التحولات موجودة في القرآن الكريم مثل النار التي رآها موسى في طور سيناء فهي كانت نور الله تعالى التي تجلت له بشكل نار. وكذلك الضوء الذي رآه رسولنا واقترب من شخصه فكان ذلك الضوء أو النور المهيب قاب قوسين أو أدنى من الرسول حتى لا يحترق نبينا.

فالمحكمة ليست على شكل محاكمنا كاملة. نحن هنا نقف في غرفة ويجلس القاضي أو القضاة أمامنا على كراسي وجها لوجه. لو فعل الله سبحانه شيئا مثل ذلك لما تحقق القسط. إن الله تعالى لو أرى نوره وطاقته الأصلية لموجود فإن ذلك الموجود سوف ينال اللهَ تعالى أكثر من الشخص البعيد عن ذلك النور فهو غير عادل حينئذ. ولذلك فإن الله تعالى سوف يُرسل نوره على شكل غمام على رؤوس الناس جميعا لينال كل شخص حظا متساويا مع خصمه في محكمة ربهم. وبما أن المحكمة لا تستعمل اللغة فلا مجال للوجوه الفيزيائية إطلاقا بل التعامل مع النفوس التي لا تملك وجها ولا معنى للجهات هناك. سوف يكون الناس والجن واقفين لأنهم في أبدان ولكن التعامل مع النفوس وليس مع الأبدان. دعنا نتصورهم في غفوة من النوم، ليسهل علينا فهم المشهد المهيب.

ولكن الملائكة وهي كلها موجودات طاقوية مصنوعة من الطاقة ولا تملك وجها ولا بدنا ولكنها طاقة متحولة إلى موجود مدرك. هي شبيهة بالجن في الدنيا من حيث أنها نوع متطور من الطاقة وهي النار وقد تطورت بدورها ليتحول إلى موجود مدرك أيضا. وهما كلاهما يشبهان الإنس من حيث أننا أيضا تراب وماء تفاعلت بطريقة تطورية خاصة لنتحول إلى بدن نام وحساس ثم منحنا ربنا الإدراك أيضا. ونحن بنفوسنا أكثر شبها بالملائكة من حيث التجرد عن المادة وعدم الحاجة للتوجه الفيزيائي. فنحن في يوم الحساب بنفوسنا سوف نشاهد الملائكة إلى حد كبير. سوف نشاهدهم مشاهدة نفسية وليست بالعين الفيزيائي. ولكننا لا يمكن أن نرى الله تعالى بنفس الطريقة التي نرى بها الملائكة. ذلك لأن الملائكة موجودات ثنائية محدودة ممكنة وبما أنها محدودة فهي بحاجة إلى الزمان والمكان وذلك ثابت قرآنيا. والموجودات الممكنة يمكن تحسسها ولكن بالآلة والوسيلة المناسبة لها. وآلة تحسس الملائكة هي ماهية النفس بالنسبة لنا. هذه الآلة لا يمكن لها بأي شكل أن يتحسس الله تعالى بماهيته لأنه غير محدود وغير مستقر في مكان أو زمان فهو كان قبل أن يكون الزمان والمكان وقد خلقهما، وهو ليس ثنائيا مثلنا ومثل الجن والملائكة بل هو الأحد جل جلاله.

والغمام التي نراها هي ليست الله تعالى بالتأكيد ولكنها تمثل طاقة ربوبية مكثفة في الواقع وهي وسيلة التقديس في الحقيقة. ولذلك ذكر الله تعالى في الآيات السابقة من سورة الفرقان وفي الآية 21 منها بأن الذين لا يرجون لقاء الله تعالى فإنهم يرجون رؤية الذات القدسية، ولكنه سبحانه وفي الآية 22 ذكر رؤيتهم للملائكة ولم يذكر سبحانه شيئا عن رؤيتهم الله تعالى. ذلك لنعلم بأن رؤية الملائكة ممكنة خارج نطاق العين المجردة ومختلفة عن رؤية الله تعالى التي لا يمكن تحقُّقها خارجَ الإدراكِ الفكري والنفسي. فرؤية الملائكة تعني تحسس النفس شيئا طاقويا وهي غير رؤية الله تعالى. ولو ذكر من يعلم رؤية الله تعالى، فإنه يقصد المزيد من العلم به سبحانه وليس رؤية شبيهة برؤية الملائكة. وليكن واضحا بأن الملائكة الذين يعبر الله تعالى عنهم بــ مَن عنده، فهُم أيضا لا يمكنهم رؤيةَ اللهِ تعالى. وبتعبير آخر فإن كل الممكنات تتأثر بالذات القدسية فتشعر به سبحانه ولكنها لا تؤثر فيه تعالى فلا يمكن التعبير عن رؤية الله تعالى بالنسبة للمكنات جميعا عدا المعرفة القلبية والمزيد من اليقين بوجود السبوح القدوس جل جلاله. وببيان علمي أكثر دقة فإننا كمواد مركبة نرى الموجود المادي حين تسليط الضوء عليه وليس في عالم المادة ضوء يمكن تسليطه على الذات القدسية جل جلاله. 

وأما الذين رأوا الملائكة في الدنيا وهم محدودون جدا، إنهم إبراهيم ولوط وبعض قوم لوط الذين استقبلوا الملائكة بشكل الضيوف، إضافة إلى مريم التي رأت مثالا بشريا للروح القدس؛ فهم جميعا رأوا تماثيل بشرية للملائكة ولم يروا الملائكة بالعين المجردة. والروح القدس لم يتمثل لأي شخص آخر على وجه الأرض كما يبدو. وما يذكره المؤرخون من ظهور الملائكة أمام نبينا أو نزول الروح عليه لابسا ملابس سوداء أو على السامري على فرس أو نزول الملائكة بخيولهم على المؤمنين ليساعدوهم في القتال، كل ذلك أوهام غير حقيقية ولا تدل إلا على عدم دقة أولئك الإخوة في آيات الله تعالى ليعرفوا المعنى. وقد ذكر سبحانه في موارد كثير بأن نزول الملائكة يعني قيام القيامة. قال سبحانه في سورة الأنعام: وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ (8). وهناك بعض البسطاء يظنون بأن الملائكة سيخدمون أهل الجنة أو بأنهم خدم للنبي وهناك بعض الشعراء الجاهلين سردوا أشعارا في أن جبريل كان خادما لأبي فاطمة رضي الله عنها. معاذ الله من هذا الجهل المعيب.

وهكذا نفهم بأن المقصود من رؤية الملائكة هو رؤيتهم بالنفوس أو رؤية تماثيل لهم لهدف آخر وأما رؤية الله تعالى فسوف لن تتأتى لأحد أبدا ولكننا يمكن أن نتحدث عن رؤيتنا لله تعالى ونقصد بها رؤيته سبحانه معرفيا وعلميا أو رؤية النفس بوجودها لله تعالى وليس بماهيتها. والفرق بين الرؤيتين هو أن رؤية النفس بماهيتها تعني تشكُّل الذي يُرى في حوزة النفس. فالملائكة باعتبارها وجودات طاقوية فهي تتحرك وتستقر وتحتاج إلى الزمان بالطبع ولذلك يمكن رؤيتها بالوسائل. وأما الله تعالى فهو ليس وجودا طاقويا، لأن الموجود الطاقوي هو الموجود الذي يحمل الطاقة وقد خُلق بتطور الطاقة وتحوُّلِها إلى شكل وحالة أخرى. فالملائكة محدودة الطاقة ومحتاجة لها في وجودها وحادثةٌ غير قديمةٍ ومتطورةٌ غيرُ ثابتةٍ. ولكن الله تعالى هو القوةُ بنفسها وهو نور كل الوجود وهو غير متطور وغير متحول وغير حادث وغير مستقر في مكان أو زمان فهو وراء كل شيء غير ذاته القدسية، وهو يمد كل شيء بالوجود وبالبقاء والحياة ويغني كل شيء عن الحاجة إلى أي شيء غيره سبحانه، ذو الجلال والإكرام. ولذلك فنحن نرى الله تعالى بوجود نفسنا وليس بماهيتها. هذا يعني بأن النفس لا غيرها قادرة على أن يُدرك الله تعالى فوجود النفس يساعد المرء على معرفة الله تعالى ولكن النفس بحيثياتها التكوينية وبتركيبة ماهيتها غير قادرة على تصوير شكل للقادر المتعالي. كل الأشكال التي يتصورها الخيال فهي محض خيال وهي ليست الله تعالى رب العالمين.

يتبع…. 

أحمد المُهري

#يوم_القيامة

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.