يوسف أيها الصديق ح 47 – ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ

تواصلا مع شرح سورة يوسف :

يوسف أيها الصديق ح 47 – ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)

دعنا ننتقل الان إلى القسم الأخير من السورة الذي ينطوي على الحكم والعبر الربانية وسنشرح كلمتي الخر والنزغ أو نزغ الشيطان الواردتين في الآية المكملة للمائة أعلاه.

لعلنا نفسر الخر بأنه الاضطراب الذي وصل إليه صاحب المقاييس ولكن بدون الصوت، ولعله بدون السقوط أيضاً. يكفي أن يصاحب الميلانُ الاضطرابَ ليتحقق الخرّ.

وعلى هذا فسيكون خرير الماء باعتبار اضطراب الماء وتمايله على جوانب تجمعه مما يحدث صوتا بصورة طبيعية.

فالخرير بمعنى صوت الماء ليس أصلا ولكنه مستعار ثم استعير لصوت النمر النائم لشبه بينه وبين صوت خرير الماء أو لاضطراب شعيرات أنفه إن كان في أنفه شعيرات وهلم جرا.

بعد أن فهمنا قليلا عن الخرّ يعترضنا في النص أن الشيطان ينزغ بين يوسف وإخوته ليفسد بينهم فتحمل الأخوة نتيجة هذا الفساد ذلكَ الإثم الذي حملهم على الإصرار على الكذب والظلم مدة طويلة بعد أن قاموا بتنفيذ مؤامرتهم البشعة ضد أخيهم الصغير المحتاج إلى محبتهم ورعايتهم 78.

ولطالما رأينا بعض بني إسرائيل اليوم يسرحون وراء الشياطين حتى يقعوا في الحفر التي بنوها لإخوانهم من البشر. وهل يتورعون عن الفساد والنزغ بين الناس بمساعدة شياطينهم أم يستمرون في غيهم وضلالهم؟ نتمنى لهم أن يتركوا أفكارهم الشيطانية ويعلموا بأنهم بشر مثل بقية الناس فيعيشوا مع الآخرين بسلام وأمان حتى يقضي الله تعالى بينهم.

ماذا بعد ؟

ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴿102﴾.

 يظن الكثيرون بأن رسول الله عليه السلام كان يعلم كل قصص الأنبياء ولذلك فإنهم  ينسبون القصص اليهودية أو يختلقون قصصا جديدة وينسبونها إليه عليه السلام لتكتسب القصة رونقها ويكون الَقصّاص مورد المكرمات الملكية كما يشتري الأثرياء كتبه ومحرراته 79.

الآية الكريمة مقدمة ليعلم الرسول بأن ايمان من يؤمن غير منوط بنشاط الرسول أو حرصه على أن يؤمنوا.

يعقوب نبي كبير مثل نبينا وقد حرص أشد الحرص على أن يؤمن أولاده، ولم نعلم بأن الله تعالى قد تقبلهم في النهاية مؤمنين صالحين أم أنهم من أصحاب النار؟ فقال له سبحانه:

 وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴿103﴾.

فالذي يريد الرحمن أن يهديه يجعل قلبه متقبلا للحقيقة فيستفيد من دعوة الرسول ويتعلم من رسالته ومن لا يريد الله تعالى أن يهديه لعدم استحقاقه فإن الرسول قد يؤذي نفسه دون جدوى. والله تعالى يعلم بأن أكثر الناس لا يؤمنون حقا.

يبتع …..

 (هامش 78: النزغ كما يقول اللغويون: هو الدخول بين شخصين أو في شيء بنية الإفساد. ولقد استعمل القرآن الكريم الكلمة لمنع الناس من أن يظنوا السوء في إخوانهم وليحملوا ما يرونه منهم محملاً طيبا ليرتاحوا نفسيا. قال تعالى في سورة الأعراف:

وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ (202).

فحينما يسمع المرء من أهله وأحبابه ما يسيئه فإن الشيطان ينشط حينئذ ليفسد قلبه ضدهم. وعلاجه أن يترك الناس وساوس الشيطان ويحسنوا إلى أهليهم. قال تعالى في سورة فصلت:

وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36).

وقال في سورة الإسراء 53:

 وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً.

فالشيطان أفسد بين إخوة يوسف كما أفسد بينهم وبين قلوبهم وكان عليهم أن يستعيذوا بالله من اللعين الرجيم ويتركوا الأفكار الشيطانية لئلا يصابوا بالإثم العظيم.           نهاية الهامش 78.)

(هامش 79:   ليس في القرآن أي دليل على أن الله تعالى كان يوحي إلى الرسول قصصا للأنبياء خارج نطاق القرآن الكريم ولا يُعقل ذلك. إن قصص الأنبياء أكثر عبرة للناس عامة من أن تكون عبرة للأنبياء أنفسهم.

إن رسولنا يتحلى بالكثير من صفات يوسف ويعقوب ومن سبقهم ومن لحق بهم من سلسلة النبوة الكريمة، ولكننا نحن العامة فاقدون للكثير من تلك الصفات الطيبة ولا نطمئن بها حتى نسمع قصصهم. فقصص الأنبياء أكثر عبرة لغير الأنبياء. وأما قول البعض بأن الرسول كان يحتاج إلى أن يعلم قصص السلف من إخوانه ليحتج بها على مخالفيه فهو كلام غير منطقي.

إن الله تعالى يرد على كل إشكالات الذين خالفوا رسولنا في القرآن ولم يترك المجال لنبينا أن يرد على إشكالات المخالفين من معلوماته الشخصية. إن الله تعالى هو الذي بنى الدين الجديد والرسول هو الذي استلم المسائل واحدة تلو الأخرى من العليم الحكيم وأبلغها أصحابه.

هناك فرق بين وحي التوراة ووحي القرآن. التوراة عبارة عن مجموعة ألواح تسلمها موسى من ربه دفعة واحدة في التكليم الثاني والأخير من الله تعالى، وأما بقية أعمال موسى فكانت بوحي ليعمل شيئا ما دون أن يصاحب الوحي آيات وجمل مكتوبة كما يظهر من قصص موسى في القرآن.

وليس لرسولنا أي وحي من النوع الثاني بل كل وحيه هو القرآن الكريم.

هناك قصة واحدة تدل على أن الله تعالى نبأ نبينا موضوعا شخصيا يخص حياته مع أزواجه والقرآن لم يهمله كما أن هناك مناما رآه الرسول في إحدى حروبه ولا غيرهما كما أظن. والله تعالى نقل لنا الأمرين لنستيقن بأن الرسول الخاتم كان مأمورا أن يبلغ كل ما يتسلمه من ربه. 

والواقع أن كل ما ينزله الله تعالى من علم على الرسل فهو للناس عامة. قال تعالى في نهاية سورة الجن:

عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28).

وبما أن رسولنا جاء بما هو عام لصحابته ولمن لم يأتوا بعده، ولا نبي بعده فكان من الضروري أن يتولى اللهُ تعالى – الذي يعلم السر والغيب – كلَّ المسائل التشريعية والعلمية والتبشيرية والحكم والعبر بنفسه. وليس بيدنا مدونة ألفها رسول الله عليه السلام أو أحد من صحابته.

في الواقع، إن تراثهم العلمي محصور بالقرآن وهو كتاب الله تعالى لهم ولنا. والآية الكريمة بصدد بيان عدم إمكانية أن يكون بشر مطلعا على ما حصل قبل آلاف السنين ولا سيما أن الكثير من المسائل كانت وراء الجدران المغلقة كما فعله إخوان يوسف وهم يمكرون ضد أسرتهم سواء قبل إقناع أبيهم بأخذ يوسف معهم للرتع أو قبل أن يُجمعوا أمرهم لإنزاله في الجب. كل ذلك غيب لم يعلمه يعقوب الذي كان نبيا عظيما حاضرا فكيف يعلمه نبينا الذي لم يولد بعد.

وقوله تعالى: ذلك، إشارة إلى بداية السورة الكريمة وتوصيفه قصة يوسف بأحسن القصص. فاعتبرها سبحانه نبأ باعتبار أهميتها. قال الراغب في المفردات: النبأ: خبر ذو فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن، ولا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يتضمن هذه الأشياء الثلاثة، وحق الخبر الذي يقال فيه نبأ أن يتعرى عن الكذب، كالتواتر، وخبر الله تعالى، وخبر النبي عليه الصلاة والسلام، ولتضمن النبإ معنى الخبر يقال: أنبأته بكذا كقولك: أخبرته بكذا، ولتضمنه معنى العلم قيل: أنبأته كذا، كقولك: أعلمته كذا. انتهى كلام الراغب.

وقد أضاف الله تعالى هذا النبأ الهام بالغيب وأثبت ذلك بأنه يتضمن مسائل لا يمكن لأحد غير عالم الغيب سبحانه أن يطلع عليها.

وقد عرفنا بان القصة ليست قصة مسلية فحسب بل هي مجموعة من العبر وهي قصة بناء أسرة مهمة في الأرض لحمل أول كتاب سماوي للجن والإنس وكيف مهد الله تعالى للهجرة الإسرائيلية إلى أرض مصر ليتعلموا ويتفقهوا ويستفيدوا من الحضارات الكبرى للبشرية قبل أن يتصدوا لحمل الرسالة. وحتى نطلع على أهميتهم نقرأ هذه الآية من سورة الأنبياء:

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73).

ونشفعها بالآية التالية من سورة السجدة:

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25).

ولعلنا نعرف الآن بأن السر في ذكر الله تعالى نبأ مكر أبناء يعقوب، وهو فعل شائن بعيد عن روح النبوة والهدى وإمامة الناس، هو أن الله تعالى لا ينظر إلى عاجل فعل الإنسان كما ينظر إلى الإمكانات التي ينطوي عليها المرء فينميها ويساعد صاحبها على تجاوز أخطائه ليتغير ويتطور ويأخذ طريق الخير ويترك سبل الشر والمكر. هؤلاء الماكرون هم آباء الأنبياء الذين جعلهم الله تعالى أئمة يهدون بأمر ربهم.

ولعل القارئ يعلم بأن المكر نفسه دليل على قوة العقل، ولكن صاحبه لم يوجه عقله التوجيه الصحيح فصار يستعمل تلك القوة المفيدة في طريق الباطل.

والله تعالى لم يواجه بني اسرائيل مواجهة قاسية، بل ساعدهم وساعد نسلهم ليعملوا الخير فخلفوا بشرا قادرين على حمل وحي السماء. فعلينا ألا نحكم على الأفراد بمجرد أن نرى منهم خطأ بل نساعدهم ليتجاوزوا ذلك ونسعى لاستكشاف مشاكلهم فنعينهم على حلها لينقلبوا بشرا مفيدين بعد أن كانوا أناسا غير صالحين.

لقد انتبهت بعض الحكومات والمؤسسات الإنسانية منذ الثورة الصناعية في أوروبا لهذه الحقيقة فاستفادوا من إمكاناتهم البشرية. ولكن بعض الشعوب ومنها بعض العرب وبعض الشعوب الإسلامية لا زالوا يتبعون الشهوات ويتخلون عن عقولهم وشبابهم المفكر. ألا ينظر هؤلاء بأن الكثير من ذوي الألباب من بينهم قد تخلوا عن أوطانهم وصاروا يخدمون الشعوب الأخرى؟ ألم يكن حريا بهم أن يصونوا أبناءهم الذين قدر الله تعالى لهم أن ينجبوهم ليعيشوا بينهم فيساعدوهم على مواصلة الركب الحاضر الذي ابتعدوا عنه بشائن تصرفاتهم المخزية مع بالغ الأسف؟ ألا ينظر بنو جلدتي إلى تقدم الشرق والغرب من شمال الأرض وجنوبها وبقاء أمتنا على ذكر الأمجاد البالية واتباع الأساطير الكاذبة؟ إلى الله المشتكى.   نهاية الهامش 79.)

أحمد المُهري

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence

ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :

islamjurisdev@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.