نظرية ظهور العلم 17- شروط ظهور التفكير العلمي 2/2

نظرية ظهور العلم 17- شروط ظهور التفكير العلمي 2/2

تحقيق العدل

هناك كذلك نوعان من المجتمعات.   نوع يسعى إلى تحقيق العدل, وآخر يسعى إلى تحقيق السلام الاجتماعي.  يظهر الفرق بين المجتمعين بوضوح تام في الفرق بين المجتمعات القبلية والمجتمعات المدنية.  في المجتمعات القبلية إذا تم العثور على جثة شخص ما من قبيلة ما في أراضٍ تابعة لقبيلة أخرى فإن “العرف” يلزم أبناء القبيلة التي تم العثور على جثة القتيل في أرضها بأن يقسموا بأنهم لم يقتلوه.  فإذا أقسم خمسون رجل على الأقل من هذه القبيلة بأنهم لم بقتلوه قبلت شهادتهم. وتم إعفاؤهم من تسليم واحد منهم لقتله قصاصا لقتلهم هذا الرجل الذي قتل على أرضهم.   المشكلة أن العرف يرغمهم, على الرغم من ذلك, بدفع “دية القتيل” الذي تم إعفاؤهم من جريمة قتله (أو هكذا يظن المرء).    الفكرة الأساسية هنا هي أن “من المعروف” أنه إذا لم يحصل أهل القتيل على “التعويض” المناسب عن فقدان الفقيد فسوف يقتلون “أي رجل” من القبيلة الأخرى مقابل الرجل الذي فقدوه.   الهدف هنا ليس “تحقيق العدل” وإنما تحقيق “السلام الاجتماعي”. 

لم ينشغل المجتمع المصري قبل ثورة 25 يناير يوما واحدًا بتحقيق “العدل”.  يعود ذلك إلى أن المجتمع المصري كان يعيش “ظلمًا” مستمرًا من يوم أن دخلت الجيوش الإمبراطورية الفارسية مصر عام 525 قبل الميلاد.  كيف يمكن لشعب “محتل” أن يطالب المحتل بالعدل؟  أي عدل؟  يستطيع القاريء المهتم مراجعة التاريخ الاجتماعي للشعب المصري والذي تعرض لظلم “مخجل” لم يترك له مجالا حتى للإعراب عن أن ما حدث كان ظلما.  كان حتما على الشعب المصري أن يتقبل الظلم بل أن “يتعارف” على قبول الظلم.  يفسر هذا التاريخ سبب الخضوع, والخنوع, والرضوخ الذي كان علما على الشخصية المصرية قبل 25 يناير عندما كسر الشعب المصري حاجز الخوف.

يفسر موضوع التعارف على قبول الظلم هذا لماذا لم يطور المجتمع المصري نظاما يحقق العدل.  لم يحدث على الإطلاق أن كانت هناك “مدونة قانونية” تبين أنواع السلوك التي يرى المجتمع المصري أنها تمثل سلوكا لا يمكن قبوله ويتحتم معاقبة من قام به.  لم يحدث أن قسم المجتمع المصري أنواع السلوك السيء إلى سلوك بالغ السوء (القتل العمد, مثلا), وسلوك سيء (قيادة السيارة بتهور في مناطق سكنية, مثلا) وسلوك يميل إلى السوء (كسر إشارة مرور حمراء, مثلا).  لم يحدث أن بين المجتمع المصري ما هو الحد الأعلى لعقوبة قيادة السيارة بتهور في مناطق سكنية, ولا ما هو الحد الأدنى.  لم يهتم المجتمع المصري يوما بـ”طريقة تطبيق القانون”, أي لم يهتم يوما بـ”إجراءات التقاضي” كإعلان المتهم بالتهمة, والتأكد من وصول الإعلان إليه, وضرورة توفير محام للدفاع عنه, وضرورة أن يبين القاضي أسباب الحكم كتابة, إلى آخر ما هنالك من إجراءات يلزم الالتزام بها. 

لم يحدث أن اهتم المجتمع المصري يوما بوضع “المدونة القانونية الإسلامية” التي تحكم كل جزء من حياتنا, والتي نحلم نحن هنا في مركز تطوير الفقه الاسلامي  بتطويرها.  مدونة قانونية إسلامية مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله الكريم تبين ما يتوجب علينا فعله وما يلزم علينا تجنبه في كل جانب من جوانب حياتنا –  من زواج, وطلاق, وحضانة, ونفقة, طبعًا, ولكن أيضا من نظام حكم, وقانون انتخابات, وأحكام عسكرية, وقوانين شركات, وقوانين أعالي البحار, وقوانين نقابات عمال, وقوانين نشر, وقوانين جامعات, وأحكام تأجير المساكن, وتأمين السيارات, وأحكام صناعة الدواء, وممارسة الطب, والصيدلة, والتعليم, وعمل الشرطة, وقوانين الملكية الفكرية, وحماية الخصوصية الفردية, وحقوق الإنسان, وكل ما يخطر على بالنا في كل مجال.  لم يحدث أن اهتم المجتمع المصري بتطوير “المدونة القانونية الإسلامية” لتحقيق العدل لأنه لم “يحلم” يوما بإمكانية تحقيق العدل.  لا بد أن تكون “مسطولا” لكي تحلم بتحقيق العدل وأنت تحت حكم “قراقوش”. 

هذا هو السبب في أننا عشنا بدون مدونة قانونية إسلامية تبين ما لنا وما علينا.   تبين أعلى حد لعقوبتنا إذا أخطأنا, وأدنى حد.   عشنا مع قضاة مالكية, وشافعية, وحنفية, وحنبلية يحكم كل واحد منهم حسب ما يتراءى له بحيث يستحيل على الإنسان المسلم أن يعلم ما هي أقصى عقوبة وما هي أدني عقوبة ولا ما السبب في هذا الحكم (حيثيات الحكم), كما يستحيل عليه الاعتراض على الحكم والذهاب إلى درجة أعلى.    مع قضاة مالكية, وشافعية, وحنفية, وحنبلية, يستحيل أن تعرف ما سيحدث لك.  حقيقة الأمر, يمكنك أن تطمئن (في حالة ما إذا كنت قد دسست السم في القهوة لوالدك, مثلا, ومات) أن تتوقع حكما بالإعدام أو بالبراءة, وما بينهما.   كل شيء ممكن. 

لم يحدث على الإطلاق أن تساءل المجتمع المصري عن السبب في اختلاف هذه المذاهب وأي منها على حق.   لم ينتبه المجتمع المصري إلى استحالة أن يكون الحكم بالإعدام على من قتل أباه بالسم عدلا وأن الحكم بالبراءة على من قتل أباه بالسم عدلا أيضا.  المسألة في منتهى الوضوح.  يستحيل أن يصدر حكم بالإعدام من محكمة السيدة زينب على جريمة ما ثم يصدر حكم آخر بالبراءة على نفس الجريمة من محكمة سيدنا الحسين ويكون الحكم الأول عادلا والحكم الثاني عادلا أيضا.  هذا ليس عدلا.  يستحيل أن يصدر حكم في الصباح بحق المطلقة طلاقًا بائنا في النفقة, ويصدر حكم بعد صلاة الظهر بأن المطلقة طلاقًا بائنا لا حق لها في النفقة.  هذا ليس عدلا. 

لم ينتبه المجتمع المصري إلى أن هذا ليس عدلا لأن المجتمع المصري لم يهتم يوما بتحقيق العدل وإنما كان مهتما دوما بتحقيق السلام الاجتماعي.  وتحقيق السلام الاجتماعي يقتضي, دوما, قبول الظلم.  وحيث إن الجميع يعلم أن الاحتجاج على الظلم معناه أنك فقدت حياتك بإذن الله فإن من الغباء المطلق عدم قبول الظلم.  وعليه, فلم يحتج أحد. 

هذا هو السبب في أن المجتمع المصري لم يطور يوما المدونة القانونية الإسلامية لتحقيق العدل.  هذا هو السبب كذلك لاستيرادنا في القرن التاسع عشر المدونة القانونية الفرنسية لتحقيق العدل.  هل تساءل أحد منا لما استوردت مصر الإسلامية المدونة القانونية الفرنسية؟  الإجابة, ببساطة, هي أننا لم تكن لدينا “مدونة قانونية” أصلا –  لا إسلامية, ولا فرنسية.  الإجابة هي أن التجار الأوربيين الذي جاءوا بتجارتهم إلى مصر رفضوا الخضوع لحكم “اللا قانون”.  كيف تتعامل مع شعب لا يحكمه قانون؟  كيف تتعامل مع قضاة لا تعرف ما هو السبب في إصدارهم الأحكام التي أصدروها؟  كيف تتعامل مع نظام قضائي لا تعرف ما هي إجراءات التقاضي فيه.  حقيقة الأمر القصة طويلة جدًا, ويمكن الرجوع إلى تفاصيلها في كتب المستشار محمد سعيد العشماوي التي تغطي الموضوع تغطية كافية.   المهم أن المجتمع المصري لا يوجد لديه حتى الآن “المدونة القانونية الإسلامية” لتحقيق العدل.  يعود السبب في ذلك إلى أن المجتمع المصري قبل 25 يناير لم يعمل يوما على تحقيق العدل. 

لم يشتبك المجتمع المصري يوما في “السيطرة على البيئة التي يعيش فيها”, كما لم يعمل يوما على تحقيق العدل.  لم يشترك المجتمع المصري, بهذا الشكل, في النشاطين الوحيدين اللذين “يستحيل” القيام بهما بدون استخدام “التفكير العلمي”, أي بدون استخدام العمليات العقلية العليا الخاصة بالمرحلة الرابعة.  وعليه, لم يظهر “التفكير العلمي” في الثقافة المصرية.  لمَ يطور المجتمع المصري نظام تفكير شديد التعقيد.  لما يطور المجتمع المصري نظام تفكير بالغ الانضباط والصرامة من أجل حل مشاكل لا يحتاج حلها إلا لتذكر ما قاله لك أبوك الحاج عبد العاطي لاشين أو أبوك الحاج عبد المعطي شاهين؟ 

رجاء ملاحظة أن الجرأة الظاهرة في كتابة هذا المقال تعود إلى التغيرات التي طرأت على المجتمع المصري بعد ثورة 25 يناير.  كان من المستحيل أن أخط حرفًا واحدًا من هذا الكلام في عهد “جهاز أمن الدولة” المرعب.  نحن الآن نستطيع أن نتكلم بهذا الشكل لأننا وضعنا اللواء حسن عبد الرحمن مدير أمن الدولة في السجن في تبادل رائع للأدوار.  أيضًا نحن نستطيع أن نتحدث بهذا الشكل لأننا لم يعد لدينا شيء نخفيه.  لم نعد نخجل من أنفسنا.   عندما تكون فريسة ظلم فادح لا أمل في الخلاص منه, فإنك تسعى قدر ما تستطيع إلى تخيل أن ما يحدث لك ليس ظلما.  أن هذه هي سنة الحياة.  أنك لست الوحيد المظلوم.  لا يحتاج الأمر إلى أكثر من مراجعة أي كتاب في العلاج النفسي والبحث عن “متلازمة ستوكهولم” وسوف ترى إلى أي مدى يمكن أن يذهب الإنسان في إنكار الظلم من أجل أن يبقى على قيد الحياة.  اظلمني ما شئت, فقط اتركني أعيش.  إحنا عايزين نعيش, يا باشا.  حيا الله كل من ضحوا بحياتهم من أجل إعطائنا الشجاعة على أن نكتب ما نؤمن به.

يعتبر كتاب “علم النفس الثقافي, ماضيه ومستقبله” تأليف مايكل كول, وترجمة كمال شاهين وعادل مصطفي خير مدخل لدراسة هذه النقطة.  كذلك يعتبر الجزء الخاص بنظرية بياجيه في كتاب “نظرية النحو العربي القديم” تأليف كمال شاهين من أفضل المداخل المتوافرة باللغة العربية لدراسة نظرية جان بياجيه – الكتاب من منشورات دار الفكر العربي بالقاهرة.  وأخيرًا, بالنسبة لمن يجيد الإنجليزية فلا يوجد كتاب أفضل من كتاب بيتر تلفست بعنوان “التفكير باستخدام اللغة”  “Verbal Thinking” by Peter Tulviste.

يتبع …

كمال شاهين

#نظرية_ظهور_العلم

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.