يوسف أيها الصديق ح 45 – ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ

تواصلا مع شرح سورة يوسف :

يوسف أيها الصديق ح 45 – ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ

لكن يوسف بقي في مصر ولم يهاجر ولم ينزل العذاب على أهل مصر. أنا لا أعرف السبب. فهل كان المصريون مسالمين أيام يوسف ولم يعارضوا دعوة رسولهم بل تقبلوه فاستحقوا الرضوان والغفران من ربهم؟ لو كان كذلك، فما بالهم يرفضون دعوة موسى التي فاقت كل الأعراف الرسالية بقوتها فلم يؤمن لموسى إلا السحرة وزوجة الملك ومؤمن آل فرعون وقليل من قوم فرعون.

تحتاج هذه المسألة إلى دراسة علمية عميقة لنتعرف بها على نفسيات إخواننا المصريين آنذاك وأنا لست في صدد ذلك الآن ولعلي لا أملك ما يؤهلني لهذا الأمر، رغم انه جدير بالبحث، كما لا أحب بأن أعزو ترحيبهم بيوسف لأنه نجاهم من الجوع لأنني أحب مصر وأحب أهل مصر.

وصلت قافلة النبوة إلى مصر وفتح يوسف أبوابه أمامها. أعني أبواب مصر بإذن من الله تعالى فهم مجموعة كبيرة قد يتوزعون في مختلف أرجاء بلاد النيل قريبا. وقد شرح الله تعالى الموقف بكل اختصار هكذا:

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ ﴿99﴾

إنني أجهل السبب في أن القرآن الكريم لم يذكر إلا إيواء يوسف لأبويه. فهل لم يحتضن يوسف أولاد إخوانه وبقية الأسرة التي قد تنطوي على بعض الأخوات أيضا إن كانت ليعقوب بعض البنات كما ذكر البعض.

على أي حال فإن دعوة يوسف إلى دخول مصر بسلام وأمان تشمل كل الأسرة المقبلة صغارا وكباراً، نساء ورجالاً.

والإنسان العاقل مثل يوسف يستعمل لفظة: إن شاء الله، حينما يكون الأمان محققا فعلا ولكنه يعزوه إلى مشيئة ربه صيانة له باعتبار أن الأمان الحقيقي بيد الله تعالى وكل ما نفعله نحن قد يكون أسبابا لزوال الأمن لولا مشيئة الرحمن عز اسمه.

لقد أبلغ يوسف الملك وهو ينتظر وصول هذه القافلة الكريمة ويستعد لاستقبال أبوي وزيره المحبوب يوسف وإخوانه.

قال لهم يوسف بأن الملك بانتظارهم وعليهم أن يستعدوا لدخول القصر الفرعوني في أقرب موعد. إن يوسف وزير يدخل على فرعون دون تشريفات ولكن على أسرته أن تمر بكل المراحل التي تسبق تشريفات المثول أمام ملك مصر الكبير.

لقد أضحى القصر الملكي على علم بأن إخوان يوسف عادوا إلى مصر مع أبويه وسوف يحظون باللقاء مع رب القصر الملكي فرعون مصر.

وحينما نتصور الموقف نرى بأن الوزراء عادة ما يسبقون الضيوف في أيام الاستقبال الملكية لاتخاذ أماكنهم الرسمية في الحضرة الفرعونية لتتكامل هيبة الحكم في عيون الآخرين.

حان موعد الزيارة وسبق يوسف أهله لاتخاذ مكانه بين الوزراء. ومما لا ريب فيه أنه أبلغ مسؤولي التشريفات بأن أهله سيزورون الملك في الساعة المعينة أو في الزمان المعين حيث أن الساعات الفعلية لم تكن متوفرة آنذاك.

هناك بروتوكولات رسمية وإعدادات تشريفية للضيوف قبل أن يرفعوهم إلى عرش الملك العظيم. فيوسف الآن في الحضرة الفرعونية جالس في مكانه المخصص له بين الوزراء وأسرته سوف يتحركون في الوقت المحدد باتجاه القصر.

هناك تسهيلات لإيصالهم إلى القصر دون شك. وحينما وصلت الأسرة إلى المدخل الأول من ساحة القصر الفرعوني كان في استقبالهم مأمورو التشريفات الفرعونية ليعلموهم البروتوكول.

أبلغوهم بأن الوزير يوسف سوف يكون قريبا في استقبالهم ليصاحبهم إلى عرش فرعون مصر. هناك بروتوكول لاستقبال وزير فرعون خاصة وهو في قصر الملك وفي الملابس الرسمية في مثل هذه المناسبات. فحينما يصل الوزير إلى الضيوف فإن المأمورين عادة ما يبلغون الضيوف بوصوله بصوت عال للانتباه.

وحين وصول الوزير على الضيوف أن ينحنوا له احتراما لمصر وملكه الذي يتشرف هو بالوزارة لديه. لا يمكن لمسؤولي التشريفات أن يميزوا بين أب الوزير وغيره لأن الاحترام هو احترام لمصر وليس لشخص الوزير.

هذا هو معنى التشريفات الرسمية. تعلَّمت الأسرةُ كيفيةَ استقبال الوزير المصري كغيرهم من الناس. إن مصر هو أعظم بلد في الأرض وليس لأية مجموعة أي فخر على مصر آنذاك.

وصل الوزير يوسف بملابسه الرسمية أمام أبويه وإخوانه ليرافقهم إلى العرش الملكي فانحنى الجميع طبقا لتعليمات البروتوكول.

انتبه يوسف فورا لرؤياه التي تحققت بأمر الله تعالى في تلك الساعة. نسي يوسف بأنه وزير فرعوني في ملابسه الرسمية الآن ولم يتمالك نفسه ألا يقول لأبيه: يا أبت وهو في مركز الحكم.

انهدمت التشريفات الفرعونية لحظات تأملية ليوسف وأبيه ومن بعدهم إخوان يوسف الذين يرون بعض ما كان يدور بين يعقوب ويوسف من قديم الزمان من أسرار لم يعلموا عنها شيئا.

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴿100﴾

انتهت مهمة هذه السورة الكريمة بتحقق الرؤيا وبقيت الحِكَم التي سنعرفها من الآيات التالية بعد هذا المقطع.

لم يكن يوسف ولا يعقوب ليعرفوا قبل ذلك اليوم السر في تلك الرؤيا الغريبة بأن يرى يوسف أبويه وإخوانه يخرون له سجدا.

ومعنى الخر سجدا هو أن ينحنوا برؤوسهم احتراما للشخص الواجب احترامه ثم يستقيموا مرة أخرى ولا شيء غيره كما سنعرف.

والسجود يعني الانكماش ولو قليلا وبالنسبة للإنسان فإن غاية السجود هو السقوط على الأرض كما نفعله أمام ربنا في الصلاة ولا يجوز لنا أن نفعل ذلك باختيارنا لغير الله تعالى.

كما لا يجوز لنا أن نخضع خضوعا كاملا لمن دونه سبحانه وتعالى فهو الذي يستحق كل خضوع وهي العبادة بعينها. حتى الخضوع في الشكر والخضوع في الطاعة لا يجوز لغير الله تعالى لأنها عبادة حقا.

فالخر سجودا يعني الحركة المضطربة للرأس باتجاه الأسفل للاحترام.

فيعقوب وزوجته أم يوسف لم يسجدا لولدهما كما يظن البعض بل انحنيا احتراما للوزير باعتبار بروتوكول القصر الفرعوني وهو لا ينطوي على الخضوع للفرد أو للولد.

بالطبع أن هذا الاحترام سبق حضورهم أمام الملك والذي لا نعلم عنه شيئا ولم يذكر لنا القرآن تفصيلا له لعدم أهمية ذلك المجلس بالنسبة لأهداف حكاية صنع بني إسرائيل.

المهم أنهم جميعا زاروا القصر الملكي دون ريب لقوله تعالى: ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا.

هناك احتمال أن تكون زيارة الملك خاصا بأبويه باعتبار بداية الآية ولكني أظن ظنا قويا بأن الملك رآهم جميعا إلا أن المقصود هو رفع يوسف لأبويه على العرش الفرعوني إكراما لهما.

ولكن الإخوة جميعا كانوا مدعوين بمعيتهما. تلك هي ضربة أخرى على أنوف إخوانه من غير أمه لعلهم يتورعون عن النيل من شرف يوسف وأخيه وأمهما كما فعلوا من قبل.

ثم بدأ يوسف ببيان إيجابيات الحكاية الطويلة متجاهلا السلبيات أو مارا عليها مرور الكرام. إنه مؤمن طيب لا يتحدث إلا بنعمة ربه ويأبى أن ينشر ما أصابه من أذى في طريقه الى العلياء.

بدأ كما رأينا ببيان تحقق منامه الغريب وانكشاف اللغز الكبير.

كان هو ويعقوب على علم بالمنام ولكنهما لم يعرفا الكيفية التي ستتحقق فيها الرؤيا دون المساس بمعتقداتهما الدينية.

ثم ذكر إحسان الله تعالى إليه في إخراجه من السجن. نعرف من هذا بأن السجن الذي مر به لم يكن أمرا هينا ولم يكن خروجه منه عاديا ولو أنه كان سجنا خاصا.

وعلى الرغم من أن الله تعالى ذكر لنا نوايا العزيز وزوجته ومن معهما على أن يسجنا يوسف لفترة محدودة.

ولقد رأينا بأن الفترة طالت ولم تظهر أية بادرة منهما لإخراجه من السجن. بقي يوسف سجينا لا يدري متى الخلاص حتى جاء وعد الله تعالى.

ولعل يوسف كان فرحا بأن الذي أدخله السجن هو العزيز وزوجته ولكن الذي أخرجه هو ربه. كل المؤمنين يحبون أن يروا الخير من ربهم لا من غير ربهم.

ثم ذكر المكرمة الربانية الثالثة أن جاء بإخوانه من البدو وهي البادية كما يقول علماء اللغة.

لا يمكن الجزم بأن إخوانه كانوا يزورونه لو علموا بأنه يوسف. كان ضروريا ألا يعرفوه كما كان لازما أن يعرفهم يوسف.

لقد نفذ يوسف فيهم بوادر مهمته الكبرى في إنشاء أمة إسرائيل العظمى وإعدادها لاستلام أول وحي سماوي لكل أهل الأرض. هذا التقدير الجميل والحكيم هو من ربه الحكيم العليم سبحانه.

ولا ينسى يوسف أن ينسب السلبيات إلى الشيطان الرجيم إذا ما اضطر إلى ذكرها. لكن هذه السلبية التي أراد منها الشيطان أن يخمد نور النبوة في أولاد يعقوب قد تحولت إلى مدخل ليتبوأ يوسف من الأرض المصرية الخصبة والغنية حيث يشاء وليصل إلى منصب مرموق في قمة المناصب الحكومية.

فهي نية شيطانية بائسة غزاها تقدير رباني حكيم ومفيد نعتبره رابع التقديرات الحكيمة.

بالطبع أن الله تعالى قام بعمله أيضا حيث بلور حقائق قلوب الإخوة وكشف عن مكنونات الضمائر بكل وضوح ولكل أهل يعقوب شيخ بني إسرائيل الحصيف.

فتبينت حقيقة يعقوب العبقرية إضافة إلى حلمه وقوة إيمانه بربه مقابل ضعف نفوس أولاده.

ولا نحتاج إلى أن نكتب المزيد عن جمال التقديرات الربوبية فهو سبحانه كما قال عبده يوسف: لطيف لما يشاء. لطيف في ربوبيته وعنايته لعبيده المخلَصين.

ذلك لأنه جل جلاله محيط بالكائنات بعلمه وقوي في حكمته التي يُحكم بها كل تقديراته فلا يمكن أن نرى فيها أي مجال للفساد والخراب أو عدم التجاوب والطاعة فتقديراته لطيفة حكيمة تأخذ طريقها نحو التنفيذ بكل قوة وسلاسة، جل جلاله.

ويستمر يوسف الصديق في بيان نعم ربه الكريم فيقول:

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴿101﴾.

 يبدأ يوسف ببيان النعمة الخامسة والسادسة ، الأهم فالأهم لا الأقدم فالأقدم. فقد وصل للملك بعد أن تعلم تأويل الأحاديث ولكن نعمة الملك أقل حصولا من نعمة العلم. فالله تعالى أوصله إلى الملك دون أن يسعى له وهذا هو المقصود من الإيتاء.

آتاه الله الملك من منطلق الربوبية هدفا ومنهجا. فربوبية المتعالي اقتضت أن يصل يوسف إلى مرحلة فعالة من القدرة السياسية المعبر عنها بالملك كما أن ربوبيته سارت مع يوسف خطوة خطوة ليصل إلى هدف السماء دون أن يفكر فيه ودون أن يعلم مصيره.

ليس متوقعا أن يصل أحد للسلطة في بلد غريب بعلمه. إنهم عادة ما يتخذون علماء القوميات والمناطق الأخرى كمستشارين فحسب.

ويوسف ليس من بلدهم ولا من قوميتهم وعرقهم ولا من دينهم ويحمل عرقا يبوح به فخرا كما رأيناه أمام صاحبيه في السجن. وكان من ضرورات تسنم ذلك المنصب أن يتعلم تأويل الأحاديث.

إنه ليس مصريا ولا يعرف أسرار اللغة وآداب المجتمع وخبايا المفاهيم والتعابير التي توضح هدف القائل للسامع بما لا يدع له حاجة للاستفسار.

فتأويل الأحاديث ضرورة ملحة لمن يريد أن يرتبط بالأمة. تلك هي اسباب طبيعية للهدف الأسمى الذي من أجله فطر الله تعالى السماوات والأرض ليأتي الإنس والجن ويحيوا في أراضي الكون الوسيع حياة طيبة يؤدون فيها اختبارهم.

وبعد الانتهاء من بيان نعم ربه يختم يوسف حمده لربه بالدعاء لنفسه. خاطب ربه بفاطر السماوات والأرض 75.

أراد يوسف أن يطلب من ربه الدار الآخرة ولكن عليه ألا يستهين بهذه الدار. وإنه على علم بأن ليس هناك من هو أقرب إليه من الله تعالى نفسه ولا أقوى منه ولا أرحم ولا من هو خير منه، سبوح متعالي.

ولذلك خاطب ربه أمام أقرب الناس إليه قائلا: أنت وليي في الدنيا والآخرة. والولي تعني القريب الذي يفيد المرء، فكأنه يقول لوالديه وإخوانه: أحبكم ولكني أفضل أن لا أطلب من غير ربي شيئا. إنه خير لي منكم جميعا.

تلك هي صفة حميدة في رأي يعقوب ولكنها ضربة أخرى في وجه إخوانه الذين يؤمنون كثيرا بالحياة الدنيا ويهتمون بها وبزخرفها.

وقد لاحظ الإخوة بأن الذي ساعد يوسف هو الله تعالى وليس أبواه واعترفوا أمامه من قبل بأن الله قد آثره عليهم وبأنهم هم الذين أرادوا له الضر والشر. وأنا أضيف على قولهم بأنهم سعوا ضده وضد أخيه حتى آخر لحظة وآخر حول وقوة. هكذا يتعامل بنو إسرائيل عادة مع غيرهم ولا يمكن أن ينصاعوا للحق ولا يفيدهم إلا القوة ولكن لا يفيد استعمال القوة ضدهم بل من الواضح أنهم يخافون، فيكفي إدخال الرعب في قلوبهم إن تمردوا، أو استمالتهم بالأمل  إن أحسنوا. إنهم ليسوا لؤماء ولكنهم يحملون صفات غير محمودة.

ويعلم يوسف أيضا بأن الاختبار مصاحب للمرء مادام يعيش الحياة الدنيا فهو دائما في خطر أن يخسر حالة التسليم للجبار ولذلك طلب من ربه أن يتوفاه مسلما.

ومن البديهي أن آخر اختبار هو المعيار الأساسي للحكم على نفسية الإنسان. إن المرء في صباه قد يسهو ويخطئ ويأتي بالموبقات تحت مختلف الضغوط ولكنه وكلما يزداد  أشهراً وسنين من العمر فإنه يزداد بلوغا لأشده المعرفي والعقلي وتزداد معه حقيقة ماهيته في الظهور. فالخير والحظ السعيد لمن يسعد في أواخر عمره حتى الذي أخطأ في مقتبل العمر.

والتوفي يعني استرجاع أمانة الإرادة الممنوحة لنا لغرض الاختبار في الدنيا. فالذي يتوفاه الله مسلما هو الذي يسلم أمره إلى الله تعالى في حياته الدنيا ولو كان مستمرا في العيش 76.

يبتع …..

 (هامش 75: ذلك لأنه يريد أن يحمد ربه ويدعوه دعاء يصل إلى النشأة الثانية غير مكتف بهذه الدنيا وقصر مدتها وانعدام الأمان والسلام الحقيقي فيها. لكنه يعلم بأن نصيبه كإنسان أتى به ربه هنا للاختبار هو قليل من خيرات الدنيا.

يريد يوسف أن يعترف بأن النشأة التي خلقها الله تعالى والتي نحن ننعم في ظلالها اليوم ليست صغيرة أو قصيرة. ولذلك وليكمل حمد ربه فلا يستهين بخلقه، سماه فاطر السماوات والأرض.

هذا التعبير يشير إلى الانفطار الأول الذي بدأ الله تعالى بها الخلق قبل أن يكون هناك شيء غيره في الوجود. كان ذلك دون شك تفجيرا نوريا أو طاقويا مهيبا لا يمكن لنا إدراك جزئياته إذ لا وجود لخلق مدرك آنذاك ولا وجود لمكان ولا زمان.

ذلك الانفطار العظيم الذي خلق الله تعالى به بحارا عظيمة من المواد الكيماوية التي توسعت بسرعة خيالية لتصنع لنا الفضاء كما يبدو. هذه أهم مسألة في الخلق ويشير إليها سبحانه في سورة ق هكذا:

أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15).

ويشير إليها سبحانه في سورة الروم:

الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27).

 فالخلق الأول باعتبار انعدام المادة والفضاء هو أهم من إعادة الخلق لإنشاء الكون الأبدي بعد انهدام هذا الكون الفعلي. نهاية الهامش75. )

(هامش76:   هكذا اعتبر الله تعالى الذين قتلوا في سبيل الله أحياء لأنهم سلموا إرادتهم إلى ربهم قبل أن يخوضوا المعركة مع أعداء الله تعالى. هذه حالة خاصة بهم ولا يشاركهم فيها أحد حتى الأنبياء الكرام. لكن الله تعالى علم أنبياءه ومن يريد أن يعيش حياتهم بأن يوكلوا أمرهم إلى الله تعالى. قال سبحانه في سورة المزمل:

وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9).

وقال في بداية الأحزاب وأمره الكريم هناك يفيد الجميع برأيي:

وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3).

إن اتباع القرآن بالنسبة لنا نحن المسلمون وترك غيره من الأحكام هو الدليل الواضح على توكلنا على الله تعالى وعلى أحكامه التي أنزلها بعلمه وهو أسهل السبل لأن يتوفانا مسلمين له وحده دون غيره.

أما التشبث بأي كائن غير الله تعالى فهو لعب بالنار واتكاء على الظنون والأوهام التي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان.

لكن الاهتمام بغير القرآن دليل واضح على عدم قناعة المرء بتنزيل السماء وكأنه يظن بأن الله تعالى أهمل أو نسي بعض الضروريات التشريعية. حاشاه سبحانه فنحن لا نحتاج إلى أكثر من هذا الكتاب وبعض السنن التي ورثناها من أعمال آبائنا مثل الصلوات والحج وهم تعلموها من الصحابة والرسول ومن مواريث إبراهيم العملية.

وما زاد على ذلك من مستجدات الأحكام فمرجعها الحقيقي الى برلماناتنا ومجامعنا الوطنية والمحلية وليس كتب التراث البائدة التي لا قيمة لها في ميزان التطور العلمي الذي نلمسه بفضل من الله تعالى.

وجدير بأن نعلم أن نتيجة التسليم إلى الله تعالى هو أن يعيش المسلم بوجهه مع الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء الذين يلحقهم الله تعالى جميعا بالصالحين في يوم القيامة. قال سبحانه موضحا حال إبراهيم شيخ الأنبياء الذين أتوا من بعده كما في سورة النحل:

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا ِلأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123).

وقال تعالى في سورة البقرة:

وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133).

وقال سبحانه في سورة العنكبوت:

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27).

فنعرف من تلك الآيات أهمية دعاء يوسف ونعرف بأن الالتحاق بالصالحين ليس أمرا سهلا كما يتراءى للسذج من الناس.

إن منية المرسلين ومنية نبينا أن يجعلهم الله تعالى من الصالحين يوم القيامة فنعرف من كل ذلك أيضا بأن ما يظنه البعض من كرامات ووساطات لبعض الأنبياء أو غيرهم يوم القيامة لهو وهْم لا أساس له من الواقع. فنبينا يسعى ليتبع ملة إبراهيم حتى يكون بنفسه من الصالحين يوم القيامة. هذا هو الحق من ربنا وماذا بعد الحق إلا الضلال المبين.                نهاية الهامش 76.)

أحمد المُهري

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/groups/Islamijurisprudence/

ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :

islamjurisdev@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.