الأصول الإنسانية للمشاركة في الطعام

الأصول الإنسانية للمشاركة في الطعام

الآيات 58 إلى آخر سورة النور تتحدث عن الأصول الحضارية للحياة المشتركة وهكذا تؤدب المؤمنين على احترام رسول الله عليه السلام بينهم. قد نعلم من البحث في مختلف فصول السورة الكريمة بأنها بصدد تنظيف مكة مما لا يليق بها باعتبارها منارة المسلمين ولا سيما بعد رسول الله عليه السلام. فإضافةً إلى ما تنطوي عليه السورة العظمى من مسائل علمية وكونية فإنها من حيث تعاملها مع ساكني مكة وبالطبع تتبعها بقية البلدان فهي تتضمن ثلاث مسائل اجتماعية أساسية.

في بداياتها تفرض على الدولة أن تنظف مكة فقط كما أظن وليس غيرها من دور العاهرات فتختفي مظاهر الفاحشة في المدينة المحرمة. سوف تنتقل الفاحشة بعدها إلى بيوت سرية لا يجوز للنظام أن يدخلها ما دامت لا تعلن الدعارة.

والموضوع الثاني المكمل للأول هو تشجيع الزواج وتشجيع المؤمنين والمؤمنات على اتقاء أسباب العلاقات الجنسية غير المطلوبة بين الإنسان والإنسان ليصير التحجب الطبيعي عادة لدى الجميع. هذه ضرورة للمدينة الأولى للمسلمين ليشعر الإنسان فيها ذكرا وأنثى بالأمان من سيطرة الشهوات فتتلاشى حالات الاغتصاب ولا سيما بعد أن أمر الرسول بالطواف والسعي ذكرانا وإناثا معا وأوقف التفريق بينهم. كان الرجال يطوفون عراة بالنهار والنساء بالليل. وحينما نقول المدينة الأولى للمسلمين فنحن نعنى بأن تصير مكة نموذجا طيبا لبقية الأماكن التي يتجمع فيه المؤمنون والمؤمنات.

وأما الموضوع الثالث والأخير في السورة فهو الآداب الحضارية للحياة البشرية بدون تمييز ديني في الواقع. فمثلا آداب السفرة المشتركة بين الذكور والإناث التي فضلتها السورة على الأكل أشتاتا بمعنى التفريق بين الرجال والنساء وبين الكبار والصغار. فهو سبحانه يفضل أن يأكل الجميع بمختلف طبقاتهم وأجناسهم وأدوارهم الاجتماعية معا على موائد موحدة لتزول كل التفريقات العنصرية والجنسية بينهم ويشعر الجميع بأنهم ليسوا فقط في الصلاة والحج بل في كل حياتهم الاجتماعية موحدون ومشاعرهم مصانة وقيمهم محفوظة.

يريد الله تعالى كما يبدو لي بأن يتعرف الناس على بعضهم البعض فتكون الاختيارات حتى في الزواج اختيارات معقولة ومناسبة. فالآيات الأخيرة في السورة تعكس رغبة الرحمن في الحياة المشتركة التي تتناسب مع مدينةٍ كتب سبحانه لها أن تستقبل الزائرين من أقطار الأرض كما أنه بالطبع أحكام جميلة يُقتدى بها في كل الأقطار. لنتصور الحاج الذي كان يزور مكة قبل ظهور الإمكانات الحديثة فهو كان يشعر بأنه ليس غريبا في بيت الله تعالى. ويشعر بأن الكل إخوان وأخوات مساعدون له ومرحبون به.

وأما إشكال بعض الإخوة الأفاضل بأن الآية 61 لا تنطوي على بيوت الأبناء والبنات وجواب بعض الإخوة والأخوات بأن الابن لا يملك شيئا أمام والديه فهو ليس جوابا مقنعا برأيي المتواضع. الابن يملك ما يكسبه والبنت تملك ما تكسبه دون أن يكون للأبوين سيطرة عليهما عدا سلطة الاحترام وهي مطلوبة بين كل الكبار والصغار دون فرض.

والحقيقة أن الروابط العائلية كلها متقابلة. فلم يقل سبحانه وأولاد إخوانكم وأولاد أخواتكم أيضا ولا ضير أن يأكل العم في بيت ابن أخيه. فحينما يقول سبحانه آبائكم بالنسبة لكم فهو يعني هنا أبنائكم بالنسبة لهم أيضا والعلم عند الله تعالى. لقد فسرت سورة النور بفضل ربي عام 2010 كما أظن وليس كل شيء مكتوبا عندي. سوف أسعى لكتابة تفسير الآية ونشرها قريبا بإذن الرحمن. تحياتي

أحمد المُهري

22/1/2020

قال تعالى في سورة النور

 لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون ﴿61

ولعل التالي يفيد الذين يريدون المزيد من الفهم للآية الكريمة. إنه يمثل مقطعا مما كتبته ردا على محاضر اسمه سيد أحمد القبنجي وهو من أسرة نجفية متدينة ومعمم ولكنه كما يبدو يظن في نفسه العلو على كتاب السماء فيقيم في العراق محاضرات ساذجة لإثبات بشرية القرآن والعياذ بالله. وللعلم فإنه مترجم رسمي لكتب الأستاذ الدكتور عبد الكريم سروش وهو أستاذ إيراني يشار إليه بالبنان كما أنه مناضل. لكنه يعود إلى العرفان لفهم ما يمكنه فهمه من معرفة الله تعالى وهي طريق غير سليم برأيي. فسروش أعلن أفكارا طيبة ولكنه أخطأ كثير حينما ظن بأن القرآن من صنع الرسول محمد عليه السلام. وإليكم ذلك:

منقول من رسالتي للقبنجي:

باء: ثم استشهد القبنجي بآية أخرى من سورة النور لإثبات عدم بلاغة القرآن الكريم والعياذ بالله فأتى بقوله تعالى:

لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون (61).

وقبل أن أرفع الإشكال بإذن الله تعالى أحب أن أنصح الأخ القبنجي وأصدقاءه الذين يستمعون إليه وبقية الناس أن يفكروا قليلا في وجه تسمية القرآن بالقرآن. فليس القرآن مجموعة من المسائل جمعها بشر في كتاب واحد بل هو كله مجموعة واحدة مفيدة. وعلى هذا الأساس سمي قرآنا وليس على أساس التلاوة كما تصوره أغلب المفسرين رضي الله تعالى عنهم وعنا أجمعين. ولعلكم تعلمون بأن المعنى الأول لقرأ هو جمع.

كل السور مرتبطة ببعضها البعض ولا يمكن فهم أيّة سورة دون الرجوع إلى السورة السابقة وكذلك اللاحقة ليعرف الباحث السبب في وضعها بذلك الموضع من القرآن الكريم. ناهيك عن آيات كل سورة فهي مشدودة ببعضها البعض ولا يمكن فصلها إطلاقا، وأنا أفسر القرآن هكذا وأذكر ارتباط كل سورة بما قبلها وما بعدها وأذكر السبب في ذلك بفضل ربي. وأما الذين يأخذون آية دون آية أو يستخرجون جملة من وسط آية ويؤولونها فإن الله تعالى لهم بالمرصاد.

لاحظ مثلا أن سورة النور تتناول مسألة العلاقات الجنسية بين المرأة والرجل وتسعى لتنظيمها لكي تعيش العائلة بسلام وأمان. ولذلك فإنها تبدأ بالتشريع الحدودي ضد الذين يأثمون ويأتون بالفاحشة ولكنه سبحانه يعلق العذاب الذي لا يتجاوز 100 جلدة على أية حال، يعلقها بطرق إثبات لا يسهل تحققها في الواقع العملي، إن لم نقل إنها غير ممكنة.

لا بد لنا أن نقول هنا بأن الرجم وما شابهه من عقوبات لم ترد الإشارة إليها في القرآن الكريم هي في الحقيقة من مفتريات المحدثين والرواة الذين يأتون بهذه الأمور ضد خلق الله تعالى وضد إرادته التشريعية فلينتظروا عذاب ربهم بقدر فهمي.

عموما فإن الله تعالى يعلّم المؤمنين في هذه السورة طرق الوقاية من الزنا. ومن هناك يبين لنا بأنه نور السماوات والأرض وليس غيره. ذلك ليقول للذين يتشبثون بالشرف والكبرياء بأن الذي يأتي بهذه الفاحشة المعيبة فهو لا يعبأ بشرف ربه الذي هو المالك الحقيقي أكثر من إهماله لشرفكم أنتم الذين تملكون حقوقا بسيطة تجاه أقرب الناس إليكم. فلو أن الله تعالى المالك، أمر أن يتحاشى المسلمون مسهم بأذى فمن الأولى ألا ينتظروا من ربهم حكما لعقابهم بسهولة. ويشعر الإنسان بأن الاهتمام في السورة مصبوب على شرف الناس أكثر من اهتمامها بالزنا نفسه. فيمنع الفاحشة مثلا ويعاقب الذي يرمي أحدا بكل جدية ولكنه سبحانه يحول بقانون صارم للإثبات دون المساس بالزاني والزانية الذين أتيا بالفاحشة.

ثم تدلف السورة إلى بيان الآداب التي تحول دون الوقوع كثيرا في طريق الفاحشة. ذلك لأن الضرورة تقتضي أن يعيش الناس مع بعضهم إخوانا نساء ورجالا دون التفريق بينهم. فلو راعوا الآداب فإن الخجل والحياء يساعدانهم على تجنب النظرات المريبة ثم ارتكاب الفاحشة لما سيشعران به من أنها عمل غير حضاري ومخالف للآداب، ومن أهم الآداب التي تعلم الإنسان الحذر والحيطة هي آداب المائدة. فيبدأ سبحانه بذكر الأشخاص المرفوع عنهم الحرج وينزل شيئا فشيئا للمواقع التي يزداد فيها الحرج مراعيا كل الحقوق في الواقع. فالأعمى لا يرى شيئا ولا يمكن أن نتوقع منه أي أدب باعتبار أن الحياء في العين التي يفقدها ذلك المعوق المغلوب على أمره. يأتي بعده الأعرج باعتبار أنه يفقد وسيلة مهمة لمراعاة الآداب وهو حرية الحركة. فالآداب بعبارة أخرى عمل يحتاج المرء معه إلى المزيد من الحركة من قيام احترام ومشي على الأقدام لتقديم الطعام وأدواته للغير. ويأتي المريض في المرحلة الثالثة فهو قادر بصورة طبيعية على رعاية الآداب ولكنه مبتلى بمرض يقعد به بصورة مؤقتة فعلى الآخرين مراعاته وعدم توقع رعايته لكل الآداب. وجدير بالذكر ما تفطن به أخي قصي الموسوي بأن الأعرج يدل على المعوق عامة وليس على من يعرج في الرجل. إنه كلام جميل وأظن بأنه مصيب في تحقيقاته اللغوية حول الأعرج.

ولو أكل الإنسان في بيته وحيدا فهو يتعامل مع الأكل ومع نفسه تعاملا حرا ولكن لا يتجاوز الآداب البسيطة التي نتوقعها من أصحاب العاهات والأمراض الثلاثة المذكورين في بداية الآية. ذلك ليحافظ على سننه وآدابه بصورة جزئية مع نفسه لئلا يفقد الحرمات حينما يشارك الآخرين. ثم يسمح له ربه بأن يأكل من بيت أبيه ولكن عليه بأن يكون حذرا قليلا أكثر من رعايته في بيته. ذلك لأنه قد فارق بيته السابق وتكَوَّن لأبيه التزاماتٌ أخرى قد يكون يجهل بعضها كما أنه لا يعرف بعد الخروج من منبته الشيء الكثير عن قدرات أبيه. فعليه بأن يراعي الآداب أكثر من مراعاتها مع نفسه.

والمرحلة التالية والتي تزداد الرعاية الأدبية فيها شدة هي بيوت الأمهات اللاتي يعشن بعيدات عن الآباء كما في حالات الطلاق أو الترمل وسواء كن متزوجات مع الغير أم وحيدات. ذلك لأن الأمهات عادة ما يكنّ أقل مالا من الآباء أو يكنّ في عهدة رجل آخر فعلى المرء أن يراعي الآداب في بيوت الأمهات أكثر من رعايتها في بيوت الآباء.

ثم يأتي دور بيوت الإخوان الذين يكونون ملتزمين بمراعاة زوجاتهم وأهل نسائهم فتكون المعلومات عنهم أقل عند المرء مما يعرفه عن بيت أمه. هناك الكثير من المسائل التي تحدث بين أخيك وزوجته أو أهل زوجته مما يحرجه أمامهم لو أنك أخذت حريتك كاملة في بيته فعليك بمراعاة أحواله.

ثم يأتي دور الأخوات. إنهن مثل الإخوان في كل شيء إضافة إلى أن مسئولي التمويل في بيوتهن هم أزواجهن فتكون الأخت محرجة أكثر أمام أخيها وعلى الأخ رعاية حالها أدبيا أكثر من رعايته لأخيه.

وأما الأعمام فإنهم أصلا يرتبطون بابن الأخ أو ابنة الأخ بواسطتين هما الجد ثم الأب. كانت علاقة القرابة بين الأخ بواسطة واحدة وهي الأب أو الأم أو كليهما ولكنها ازدادت بالنسبة للعم. فعلى الإنسان أن يكون أكثر أدبا في بيت العم من بيت الأخت.

ثم يأتي دور العمات اللاتي قد يكن في حرج مع أزواجهن كما كانت عليه الأخوات. وأما الأخوال فهنّ أبعد من الأعمام باعتبار أن علاقتك معهم تكون عن طريق الأمهات اللاتي تحملن نفس الحرج الذي ذكرناه للأخوات في مقابل الإخوان. فدرجة الحرج تزداد وعلى المرء أن يكون أكثر رعاية لهن وأما الخالات فإن درجة المالكية لديهن أقل من كل من ذُكر بالنسبة لك فعليك بأن تشد حيازيمك لاحترام أكثر للآداب في بيوت الخالات. هذه هي الآداب بالنسبة للأقارب. ولا ننس بأن كل الحالات المذكورة متقابلة بين الذي يراعي والذي يراعى فما قيل للآباء يصدق على الأبناء أيضا بحيث يجب على الأب أن يقوم برعاية نفس الآداب مع ابنه وهلم جرا.

ثم يأتي دور الآداب التي يجب مراعاتها لمن يحمل مفتاح بيت. ذلك مثل العامل الذي يحمل مفتاح بيت من يعمل لديه ليقوم بعمل هناك مقابل أجر. يحق للعامل أن يأكل من ذلك البيت بدون أن يطلب إذنا من صاحب البيت ولكن بحذر شديد. فقد يكون صاحب البيت قد أعد طعاما في بيته بانتظار ضيوف يأتونه والعامل لا يمكن أن يعلم بذلك عادة فسيخجل صاحب البيت حينما يعود ومعه ضيفه ويمنعه الحياء من التعرض للعامل. فعلى العامل بنفسه أن يراعي كل شيء فلا يأكل من ذلك البيت إلا إن جاع فعلا ومما لا يظن بأن صاحب البيت قد يكون أحوج منه إليه.

وأما الصديق فلعله يكون مبتليا بكل ما ذكرناه في الحالة السابقة إضافة إلى مزيد من الخجل أمام صديقه ولذلك على الصديق ألا يستعمل حقه في الأكل بلا إذن إلا عند الضرورة القصوى خوفا من أن يمسّ طعاما يكون صديقه أحوج إليه ولكن الصداقة تمنعه من أن يصارحه بعدم المس حياء وخجلا. وكما قيل بأن المأخوذ حياء كالمأخوذ غصبا.

ثم وضح سبحانه بأن الأكل جمعا مباح لهم ولكن عليهم الانتباه بأن الأكل منفردا أو في مجموعات صغيرة من مجموعات كبيرة أكثر حاجة لرعاية الآداب. ذلك لأن حضور الجميع على السفرة يعطي الإنسان نوعا من العلم بعدم وجود أشخاص آخرين بانتظار هذا الأكل فيرى المقدار ويرى الحاضرين جميعا ويمكنه بسهولة تقدير سهمه الحقيقي من ذلك الأكل. ولكن لو أنهم قدموا أكلا لمجموعة دون مجموعة أخرى فلعل مقدار الأكل يكون محدودا لديهم ولكنهم خجلا قدموه لمن هو أكثر غربة ثم إنهم سيقدمون ما لديهم للأكثر قربا منهم. هناك على المرء أن يحافظ بكياسته على حدود الآداب مراعيا أحوال أصحاب البيت.

فانظر أخي أولا بأن رعاية هذه الآداب تساعدك كثيرا على عدم التعدي عن حدود الأكل إلى النظر إلى النساء والبنات والتورط فيما لا يرضي الله تعالى ولا يرضي الذين تأكل في بيتهم. وهي تساعدك ثانيا على الشعور بأنواع الحرج وأنواع الرعاية النسَبية والمالية والأخوية لكل العلاقات. وأخيرا فهل يملك الأخ القبنجي سبيلا لإيجاز هذا الموضوع الهام والحيوي في بيان يعطينا نفس المعاني ويشير الى كلّ هذه الامور؟ أليس ذكر الموارد كلها أكثر إيجازا من بيان الحالات؟ انتهى النقل

والخلاصة أن سورة النور سورة تهتم بتأديب المسلمين ليكونوا أعضاء نشطين طيبين في المجتمع الإنساني بحيث يشعر الذي يتعامل معهم بأنهم يراعون المسائل الإنسانية أكثر من أي أمر آخر. إنهم بشر قبل كل شيء ثم هم مسلمون؛ وإنهم أناسي قبل كل شيء ثم هم رجال ونساء وأطفال وشباب وعجائز. إنهم يحتاجون ليتعلموا الآداب من غيرهم ثم هم مؤدبون يؤدون دور العامل بالآداب كما يؤدون دور المعلم لمن دونهم وهم لا يتكبرون على من يعلمهم عمليا بل ينظرون إلى حركات الآخرين فيصححون أخطاءهم ويصححون آدابهم إلى الأحسن والأفضل بصورة مستمرة.

ويمكن تقسيم سورة النور إلى ثلاث أساسيات للتعايش مع بعض. إنها تبدأ بالمنع من المساس بما لا يليق بالإنسان كبشر وبما يمكن أن يعيق شعور الأفراد بكل ما لغيرهم من روابط أسرية فيشعر كل إنسان بأن له أبا وأما ظاهرين معروفين كما أن السورة تهتم بسمعة الأفراد والأسر أكثر من اهتمامها بمعاقبة الخارجين على قانون السماء. من الخير دائما أن يتركوا أمر العصاة إلى ربهم ولا سيما في المسائل الجنسية فربهم سبحانه أرحم بعبيده وهو من فضله يراعي ضعف عبيده ويؤدبهم بطرقه السليمة المفيدة.

والأساس الثاني هو تسهيل التزاوج بين الناس ليكون الزواج مرحلة مهمة في حياة كل إنسان ويتنعم بها كل فرد بقدر حاجته ووسعه وما يفرضه عليه وعلى غيره الأعراف العائلية والوطنية والإنسانية. وعلى المجتمع أن يلتزم بمساعدة من يحتاج إلى المساعدة ليتنعم الجميع بمتعة الحياة الزوجية دون استثناء.

والأساس الثالث هو آداب التعايش السلمي بين البشر ومراعاة الضعف الطبيعي لدى كل طبقة من الناس ومن الأنسباء والأقارب. وتهتم السورة الكريمة بآداب الأكل لأن الطعام ضرورة لا يستهان بها في صيانة الإنسان وصيانة العلاقات الإنسانية المهمة في حياة البشر عموما بحيث لا يظلم أحد غيره جهلا أو نسيانا أو إثر عدم الانتباه لأصول التعايش العام بين أبناء الأسرة البشرية الواحدة. فالإنسان بعكس بقية الكائنات المدركة منحدر من أبوين معلومين فهم في الواقع إخوان وأخوات ولو ابتعدوا نسبيا باعتبار طول الزمان من ظهور أول بشرين على الأرض حتى تكاثر الناس إلى البلايين كما نراهم اليوم. لكن الجن فهم أنواع مختلفة منهم الشياطين ومنهم المعروفون بأسماء الحيوانات في القرآن مثل الهدهد والنمل. وأما الملائكة فأنواعهم قد يكون أكثر من الجن ويمكننا معرفة بعض الأنواع حينما نمعن في القرآن الكريم الذي ذكر عدة أنواع للملائكة ومنهم الأرواح القدسية مثل جبريل وميكال. هذا لو أردنا معرفة الغيبيات الساحقة في القدم من الواحد الأحد وبالذات من كتابه الكريم جل جلاله تاركين كل ما قاله البشر في كتبهم وزبرهم.

ولو نراعي الآداب المشروحة في سورة النور بدون إضافة ما ذكره المحدثون من مفتريات فسوف نصل بسهولة إلى بعض الخصائص الاجتماعية المفيدة جدا في حياتنا العامة. تحياتي للجميع

أحمد المُهري

28/1/2009

#تطوير_الفقه_الاسلامي

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.