نموذجية الرسل وصحابتهم لغيرهم

تصحيح أخطائنا التراثية

نموذجية الرسل وصحابتهم لغيرهم

قال تعالى في سورة النساء: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ﴿159

إن أهم مسألة في قتل الرسل هو أنهم يحملون رسالة السماء؛ والرسالة يجب أن تأخذ مداها ومجراها الطبيعي الكافي ليهتدي من كان حاضرا للرسالة من بدايتها على الأقل إن كان يستحق الهدى من ربه. لو نفكر قليلا في العذاب العظيم والأجر العظيم لنرى الله تعالى يهدد ويبشر بهما أصحاب رسولنا الحبيب وحدهم دون غيرهم تقريبا. ذلك لأنهم كانوا في قمة التطور التي نعيشها نحن اليوم مع الفارق الكبير بيننا وبينهم من حيث حضور الرسالة السماوية الحية. أضف إلى ذلك وجود رسول الله بينهم وتعامله مع رسالته تعامل العامل الصادق الأمين. فهو يعمل بنفسه بالرسالة ليثبت عمليا للحاضرين قابلية الرسالة للتنفيذ، بمعنى أن التشريعات المنزلة ليست أجنبية عن إمكانات الذين أنزلت إليهم. كانوا قادرين تماما على العمل بها بدليل أخيهم الرسول الذي يعمل بها جهارا. وحينما يعمل الرسول بالرسالة فسيكون نموذجا يمكن الاقتداء به لمن يريد أن يتقبل رسالة ربه وهذا معنى كونه شهيدا عليهم. فكل رسول شهيد على قومه بمعنى نموذجيته العملية لرسالته. هذه النموذجية ضرورية يوم القيامة لمحاسبة الذين لم يحضروا الرسالات السماوية وهم الغالبية العظمى من أهل الأرض.

إن كل من لم يحضر الرسالة سوف يطبق على أحد الصحابة ليلاحَظ استعداده لقبول الرسالة والعمل بها والتضحية في سبيل ربه لو كان حاضرا أيام الرسول. وصحابة الرسل أو صحابة رسولنا ليسوا سواء. فمنهم المؤمنون ومنهم الفاسقون. إن كل من حضر رسالة الرسول فهو صحابي كائنا من كان. قال تعالى في سورة التكوير مخاطبا المشركين: وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (22).

وقد وضح الله تعالى مسألة النموذجية في القرآن تحت تعبير “الشهادة” وأذكر منها ما قاله سبحانه في ختام سورة الحج:

وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78).

كل ذلك لأن الخالق العزيز لا يريد أن يعذب عبيده بل يريد أن يرحمهم وهو الأنسب لشأن القدوس جل جلاله. قال تعالى في سورة هود: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119).

كما أن الإخوة المفسرين اختلفوا في تفسير آيات الشهادة تبعا لعدم انتباههم لمسألة الشهادة من الرسول ومن الصحابة. لقد تظنن الغلاة بأن الرسول يرى أعمال الناس بالغيب ففسروا الشهادة بها. لو صح ما قالوا فإن كل الصحابة يعلمون الغيب لأنهم هم أيضا شهداء على الناس. والواقع أن الصحابة حسب تفسيرهم يجب أن يكونوا أحياء اليوم ليشهدوا أعمالنا لأننا نحن الناس وهم شهداء علينا! هذه نتيجة عدم السعي لتدبر آيات ربهم والتشبث بما نُقل إليهم من السلف كالببغاوات مع الأسف. رضي الله عنهم وعنا وغفر لهم ولنا ولكنهم أخطأوا. لقد نجح الشيطان في توجيه المسلمين نحو التراث البشري كما نجح في توجيه اليهود والنصارى ولَيِّهم عن التوراة والإنجيل السماويين. إن مصيبتنا بعد غياب الرسول الأمين هو أن مدارس الحديث صارت تدريجيا أهم وأعظم من مدارس القرآن في البلدان الإسلامية. وفي بعض البلدان فتحوا كليات المعقول وكليات المنقول. لكننا نرى كليات المنقول تطغى على كليات المعقول مع الأسف. هذه هي الضعف العلمي والجبن الحقيقي في الاكتفاء بكتاب السماء الذي يطابق العقل ولا يخالفه أبدا تماما بعكس الحديث. لقد ملأ صنيعُ البشر عيونَ البشر حتى نسوا ذكر ربهم وهو الحق والصدق والعدل، مع بالغ الأسف. فكان من نتائج أعمالهم غير الصحيحة أن يأتوا بعشرات وأحيانا مئات التفسيرات والتأويلات لبعض الآيات الكريمة. والحال أن القرآن لو تُرك وحده لكانوا مثلنا يعرفون وينشرون معنى واحدا لكل آية ولكانت الآيات مترابطة وغير متقطعة.

فالآية هنا تبدأ بواو العطف ليضيف دليلا قويا على عدم إمكانية قتل الرسل فلا يمكن أن يتصور أحد قتلا فعليا لأي رسول بشري. وهذا معنى “بغير حق” أي بغير تحقق فعلي. وإلا فلن يكون قتل رسول الله حقا أبدا فهو أمر بديهي لا يحتاج إلى ذكره في القرآن.

ونقصد بعدم الإمكان أن الله تعالى لا يمكن أن يسمح بذلك وليس الإمكان العقلي. لكن الله تعالى في نفس الوقت يريد أن يختبر مدى شراسة عبيده التي تطوع لهم نفوسَهم ليقتلوا أخلص عباد الله تعالى لهم وأرحمهم بهم وأعطفهم عليهم. كان المسيح نموذجا للرحمة والرأفة والتعاطف مع قومه كما كان موسى وإبراهيم ونوح والرسل من قبله. ولعل المسيح كان أكثر منهم ظهورا للرحمة على من حضره. وكان رسولنا كذلك أيضا. قال تعالى بشأن رسولنا في نهاية التوبة: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128).

وحتى نستنبط المعنى الدقيق للآية الكريمة يجدر بنا أن نتلوها في مجموعة من الآيات التي سبقتها وتلتها.

فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا (160)

الآيات الكريمة من سورة النساء تتحدث عن بني إسرائيل قبل الآية 159 وبعدها. إن الآية الكريمة مرتبطة بما قبلها التي تبين أفعال بني إسرائيل. فالآية بصدد الرد على ادعائهم بأنهم قتلوا المسيح (إنا قتلنا المسيح). كما أننا نحتاج هنا إلى أن نتعرف على مسألتين قرآنيتين في غاية الأهمية. إنهما تساعداننا على اكتشاف مجموعة من أخطاء سلفنا من مفسري القرآن رحمهم الله تعالى جميعا وإيانا.

1.

رسول الله البشري إنسان يرسله ربه بعد إعداده ليقوم بنشر بعض الحقائق الغيبية بين الناس. ويبدأ الرسول عادة من أصحاب القدرات مثل الملوك والزعماء. وبالنسبة لنبينا عليه السلام الذي بدأ بعشيرته فإنهم كانوا في مقدمة الأمة وكانوا في غاية القوة والمكنة وهو عليه السلام لم ينس الزعماء من غير عشيرته كما نقرأ في سورة عبس كما نظن. فهل يصح بأن يترك الله تعالى رسوله عرضة للتعذيب والقتل من قِبل المخالفين الأقوياء والمتكبرين بطبيعة الشعور بالاستغناء عندهم؟ هل رأيتم ملكا أو رئيس جمهورية لا يدافع عن سفرائه بكل قوة؟ كلا، بل يجيش الجيوش أحيانا لحمايتهم. وقد صرح سبحانه بذلك في نهاية سورة الصافات: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182).

وما ينقله المحدثون عن الأذى الكبير لبعض الرسل أو قتل البعض الآخر بصورة بشعة كما يقولون بشأن النبي الأمين يحيى بن زكريا؛ فهو هراء لا أساس له. ليس هناك رسول قُتل. هناك بعض الأذى وكان الله تعالى دائما يساعد رسله وأحيانا ينزل العذاب على أعدائهم أو يميتهم شر ميتة. فالله تعالى صادق طبعا في قوله الكريم: وسلام على المرسلين.

2.

إن الله تعالى هو الذي يقدر الموت لرسله ولكن بعد أن تتكامل الدعوة عندهم. تلك الدعوات الطيبة ليست فقط وسائل لجذب المجموعات البشرية حول الديانات السماوية بل هناك غرض مهم آخر وراء تلك الدعوات وهي تكامل تلك الدعوة بحيث يتواجد حول الرسول مجموعة متكاملة من كل أصناف البشر مؤمنين وفاسقين ومذبذبين ليكونوا في النهاية نماذج كافية لتطبيق بقية البشر عليهم.

وحتى يوضح لنا ربنا بأن مسألة اختفاء المسيح الفعلي يوم ادعائهم مقتله لم تكن مفاجئة بل تكاملت الدعوة بحيث أن كل من يمكن أن يؤمن به قد آمن به وكل من رفض حتى قست قلبه قد أخذ حقه من سماع الحق على لسان رسول صادق أمين أرسله الله تعالى إليه؛ أنزل إلينا الآية الكريمة. وإليكم تفسيرا مختصرا للكلمات مبينا مراجع الضمائر:

وإن من أهل الكتاب:

الواو ليست بيانية بل هي عاطفة عطفت الجملة على الآية السابقة: بل رفعه الله إليه… وإن نافية بمعنى وليس من الذين أنزل عليهم التوراة والإنجيل إلا…

إلا ليومنن به قبل موته:

إلا ليؤمنن بالمسيح قبل موت المسيح. لقد ظنوا بأن الهاء في موته تعود إلى الميت وهو الذي ضيع عليهم فهم المعنى الدقيق للآية الكريمة. فالهاءان تعودان إلى المسيح نفسه وليس إلى صحابته وحاضري رسالته. والسبب في أنه تعالى لم يستعمل الفعل الماضي (إلا قد آمن به مثلا) هو أنه سبحانه يريد بيان الحقائق الغيبية في القرآن وليس مهتما بذكر حكاية واحدة. هذه هي حقيقة كل الرسالات السماوية أن يبقى رسولهم بينهم حتى تتكامل دعوته للذين يريد الله تعالى أن يتخذهم شهداء على غيرهم. وتعلمون بأننا نستعمل الفعل المضارع لبيان الحقائق لأن المضارع مشابه للاسم.

ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا:

الضمير المستتر في يكون يعود إلى المسيح عليه السلام. سيكون المسيح شهيدا على حاضري رسالته يوم القيامة. هذه الجملة مشابهة تماما لحقيقة شهادة نبينا على صحابته كما قرأنا في نهاية سورة الحج أعلاه (ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس). ولا ننس المعنى بأن الشهيد في هذه الآيات تعني النموذج الذي يتم الحكم على أساسه يوم القيامة.

بالطبع أن موضوع الشهادة هذه بالنسبة لي يُعتبر أهم موضوع قرآني كتبته خلال ربع القرن الماضي. ولو لم ننتبه إلى هذا الموضوع الهام الذي اختصرته هنا فسوف لا نعرف مصير آباء المؤمنين من الصحابة الكرام مثلا. غالبية الصحابة كانوا مشركين منحدرين من مشركين. لقد كانوا أناسا طيبين لم يرفضوا الحقيقة حينما سمعوها فلو كانت الدعوة النبوية منزلة قبل نصف قرن مثلا فإن آباءهم وجدودهم كانوا يؤمنون بها أيضا. لكن الحظ ما ساعدهم فماتوا مشركين قبل أن تصلهم الدعوة الرسالية الحقة. فما ذنبهم ليدخلوا النار باعتبار الشرك؟ إنهم لن يدخلوا النار وسوف يدخلوا الجنة دون ريب لأن عدالة السماء لا يمكن أن تتعامل مع عبيد الله تعالى على أساس الحظوظ. إن كل إنسان قبل وبعد الرسول لو كان طيبا صالحا يتقبل الحقيقة فهو مؤمن بطبيعته سواء عرف الحقيقة أم لم يعرفها. ما ذنب جاري المسيحي الطيب الذي يساعد الأمة ويخضع لما يظن بأنه الدين السماوي الصحيح وهو لم ينحدر من أصول مسلمة مثلي ولم يسمع عن الإسلام اليوم إلا القتل والتعذيب والاغتيالات وكل ما يخالف المنطق والحق؟ نعم لو تأتى لجاري أن يستمع إلى حقيقة الإسلام وبأنه فعلا دين الله تعالى وبأن المسلمين لا يمثلون الإسلام بل يمثلون نفوسهم التي قد تكون طيبة وقد تكون شرسة؛ ثم لم يؤمن بالإسلام فهو مذنب وإلا فلا.

الموضوع صعب على الفهم ولكنه برأيي حقيقة نحتاج إلى نصرف الوقت عليه لنفهمه ونرتاح نفسيا من أن ديننا دين واقعي عدل ومن أن ربنا عز اسمه هو الحق والعدل ولا يتعامل مع الحظوظ إطلاقا.

تحياتي للجميع ومعذرة من الإطالة.

أحمد المُهري

22/12/2019

#تطوير_الفقه_الاسلامي

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.