يوسف أيها الصديق ح 40 – وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ

تواصلا مع شرح سورة يوسف :

يوسف أيها الصديق ح 40 – وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ

عاد إخوان يوسف إلى أبيهم خائبين وقد فقدوا أخاهم الصغير ولم يصاحبهم أخوهم الكبير. يبدو بأنهم نفذوا تعليمات الأخ الكبير كما هي ولكنهم جميعا نسوا بأنهم أمام عبقريين فذين هما أبوهم إسرائيل وأخوهم يوسف.

كانوا يجهلون بأنهم بريد ينقل الرسائل بين الأب والابن وأن يعقوب سوف يكشف شيئا آخر حينما يخاطبونه حسبما نصحهم كبيرهم.

استمع يعقوب إلى أولاده وقال احتمالا: لو كانت القضية كما قلتم فلماذا بقي أخوكم الكبير؟.

أنتم لم تذنبوا وقد أحيط بكم فعلا فلم تنقضوا ميثاقكم ولم تكن بأيديكم حيلة. كان على أخيكم الكبير أن يصاحبكم في رحلة العودة فما الذي حدا به أن يبقى بعيدا عنا في مصر؟ إذن هناك أمر آخر تخفونه عني ولا تريدون الإفصاح به.

ثم كرر يعقوب نفس الجملة التي قالها لهم حينما أتوه بدم كذب لإثبات زعمهم بمقتل يوسف بأنياب الذئب:

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴿83﴾ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴿84﴾.

استلم إسرائيل رسالة يوسف من إخوانه الذين لا يعلمون ما يفعلون.

يوسف يقول لأبيه: لا زال إخواني متمسكين بالكذب ولا زالوا يخفون قصتهم معي. هؤلاء ليسوا أهلا لأن يكونوا آباء بني إسرائيل قبل أن يكتمل إصلاحهم. عليك بأن تمارس عليهم المزيد من الضغط لعلهم يهتدوا ويعودوا عن غيّهم.

احتفظت بأخي الصغير عندي لتعلم بأنني ابنك يوسف وبأنني مكرم في مصر. أتمنى أن يكون في عودتهم خائبين بدون أخيهم هذه المرة، دافعا لهم للعودة إلى الله تعالى والتمسك بالصدق معك ليغفر لهم ربهم وليساعدهم على مهمتهم الكبرى في تربية آباء بني إسرائيل الموعودين باستلام الوحي.

عرف يعقوب بأنهم تحدثوا عن أمر مريب مما حفز يوسف ليبقى في تنكره معهم لعلهم يهتدون.

شعر يعقوب بأنهم قد تغيروا قليلا ولذلك بقي أخوهم ولم يحضر خجلا. وعرف أيضا بأن الأخ الأكبر لم يشاركهم في المؤامرة الكبرى ضد أخيهم يوسف ولذلك بعثهم وحدهم ليواجهوا مصيرهم معه.

ولذلك كرر قولته لهم هذه المرة بدون أخيهم الكبير ليعلمهم بأنه يعرف بأنهم كانوا في مؤامرة ضد يوسف وبأن الذين سولت لهم أنفسهم هم هؤلاء بدون أخيهم الكبير.

قال لهم بأنكم متآمرون منذ قضية يوسف ولا زلتم. وليس لي إلا الصبر الجميل. والصبر الجميل هنا هو الصبر المصاحب للرجاء من الله تعالى أن يعيد له أبناءه الثلاثة. لقد تقبل يعقوب الآن بأن الأخ الأكبر أقل ذنبا من بقية الإخوة وبأن الله تعالى يريد بعلمه أن يهدي أبناءه فيصيبهم بالبلاء وتمنى من ربه أن يعالج مرض أبنائه بحكمته فأبوهم أعجز من أن يقدم لهم علاجا حقيقيا.

لقد أبلغ أولاده بأنه يعتقد بأن يوسف في مصر وهو حي، أبلغهم وهم يسعون لإثبات أن يوسف ميت وليس حيا.

ضاقت الدنيا عليهم مرة أخرى ولم يعرفوا كيف يقنعوا أباهم بأن يوسف ميت حتى لا يتهمهم بالتآمر أولا وحتى يبلغوا هدفهم الأساسي القديم في أن يخلو لهم وجه أبيهم ثانيا.

ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت لأنه الآن يتهمهم بأنهم لا زالوا متآمرين ويعزو غياب أخويهم الآخرين إلى تمسكهم بأسلوبهم القديم في الكذب.

هذه صفة موجودة لدى بعض الناس ومنهم الكثير من اليهود أنهم يبنون قصورا من الأكاذيب ويسعون لتثبيتها بكل إمكاناتهم وذكائهم ولا يمكن مواجهتهم إلا بالكشف عن المؤامرة و إفضاحهم.

إنه أمر صعب ولكن لا يمكن أن تواجه بني إسرائيل بدون أن تستعمل عقلك ودهاءك إلى أبعد الحدود.

ولنكمل المسيرة لنرى كيف توفق يوسف لكسر غرور إخوانه بالكامل. كل ذلك بالتعاون مع أبيهم إسرائيل وبتوفيق وتأييد من الجبار العظيم جل جلاله.

أعرض عنهم أبوهم يعقوب ليقول لهم بأنه غير مقتنع وغير مرتاح لما يقولون. أعرض عنهم ليقول لهم: إنكم تخفون عني أمرا ولا يمكن أن أقبل بأقل من أن تفصحوا عن الحقيقة بالكامل قبل فوات الأوان وقبل أن يفضحكم الله تعالى.

ولذلك قال وهو يعرض عنهم بوجهه: يا أسفى على يوسف. ويعني بقوله أن تخاذلهم في الاعتراف بالحقيقة سوف يزيد من آلام يوسف وشقائه في معالجة إخوانه كما يزيد من آلامه هو في فراق يوسف.

ولا سيما وهو يعلم الآن مكان يوسف ويعلم بأن اللقاء به منوط بانتهاء اختبار أولاده الذين جنوا على أهلهم. ولا أستبعد بأنه عليه السلام أراد بذكر كلمة يوسف أن يؤكد لهم علمه بكذبهم لعله يساعدهم على العودة إلى أنفسهم وترك الكذب والمراوغة استدرارا لرحمة الله تعالى على كل الأسرة العظيمة شأنا.

وما أن تذكر يوسف مرة أخرى حتى اسودت الدنيا في وجهه فهو يرى يوسف بعقله ولا يبصره بعينه والسبب هم أولاده وليس الغرباء أو الأعداء.

توالت الأحزان على يعقوب الذي يصبر على ظلم أولاده لأولاده ولا يرى مخرجا لهذه المصيبة إلا بأن يعودوا إلى رشدهم قبل أن تظهر الحقائق أمامهم ويروا زيف الكذبة الكبرى التي حاكوها وما زالوا يصرون عليها.

ولولا صبره وصبر يوسف حتى يحكم الله تعالى لخسرت الأسرة الكريمة وعد ربها بأنهم لم يستوفوا شروط الاصطفاء 65.

استمر يعقوب في الصبر والكظم فابيضت عيناه من الحزن.

إنه لا يبكي ولا يذرف الدموع ولكن قلبه الشريف يقطر دما بدل الدموع فتتأثر جوارحه الأخرى بسبب شدة صبره على الأذى.

وابيضاض العينين هنا ليس ابيضاضا فيزيائيا كما تراءى لكل من قرأت عنه من مشاهير التفسير66.

يبتع …..

(هامش 65: ولنعرف بأن كل اصطفاءات الله تعالى في الدنيا مرهونة باستيفاء الشروط. ألا ترون بأنه سبحانه اصطفى موسى ليكون نبيا فهل صار نبيا قبل أن يؤدي اختباراته وينجح فيها ولولاها لم تتم له النبوة قطعا؟ ومثله عيسى.

ألم نقرأ عن آدم بأن الله تعالى اصطفاه وعهد إليه ولكنه نسي فلم يجد الله له عزما ولم يفز بالنبوة؟

الله تعالى يصطفي المدركين على أساس القوة التي لديهم ولكن تكميل النعمة منوط بتجاوبهم الصحيح مع دعوة ربهم وتسليمهم الكامل لأوامره ومواعظه الكريمة. إن الله تعالى عادل لا يظلم أحدا فلا يُعطي من لا يستحق أيضا حتى لا يكون ظالما لغيره.       نهاية الهامش 65.)

(هامش 66:   إن الضغط العصبي على العين الناتج من تأثر النفس بالأحزان لا يمكن أن يحول لون العينين إلى الأبيض كما هو معلوم لمتخصصي العيون. وأما الماء الأبيض (Cataract) فإنه يؤدي إلى العمى الفعلي، و واضح أن يعقوب لم يفقد بصره. وأما ظن البعض بأن إرسال يوسف قميصه أعاد إليه بصره فهو خاطئ برأيي. سأشرح الموضوع في مكانه بإذن الله تعالى. إذن فما هو معنى ابيضت عيناه؟

دعنا نتعرف على معنى الأبيض في اللغة العربية بداية. الأبيض هو السمح في الواقع كما يقول أبو طالب في وصف ابن أخيه رسول الله عليه السلام:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه      ثمال اليتامى عصمة للأرامل

وحينما يستعملون الكلمة في مقابل الأسود فقد تعني الأبيض كما تستعمل اليوم وقد تعني وهو الغالب، ما يقابل الداكن.

وقوله تعالى في موسى النبي أن يخرج يده من جيبه فتنقلب بيضاء فهو لا يعني البياض المعروف بيننا اليوم قطعا. أراد موسى بذلك ان يُري فرعون بأن ما يراه من حركة غريبة في العصا فهي من موسى وليس من العصا.

فرأى فرعون يد موسى مشعة. ذلك لأن موسى حمل الطاقة الإلهية في طور سيناء ليتمكن من القيام بالمعجزات التي ظهرت منه عليه السلام. ولم يقم بذلك العمل يوم المباراة. ذلك لأن الثعبان قام بالتهام كل ما جاء بها السحرة فلم يحتج لإثبات الوجود النوري أو الطاقوي في كيانه الشخصي، والعلم عند الله تعالى.

والخيط الأبيض إشارة إلى الفتحة في عرض الأفق المتأثرة قبل بقية الأفق بانعكاس نور الشمس الآتي من طبقة الأوزون، فهو ليس بالبياض المعروف بيننا بل هو بياض الضوء القليل. وقد قالوا للشمس بيضاء باعتبار إشعاعاتها. والليالي الثلاث المقمرة في منتصف الشهر تسمى بالليالي البيض باعتبار الظهور الجلي لنور القمر وليس باعتبار اللون المعروف بيننا.

ومن الصعب أن نجد في القرآن الكريم كلمة الأبيض بمعنى الأبيض المعروف بيننا. حتى آية سورة فاطر التي تتحدث عن ألوان الجبال فهي لا تقصد اللون الأبيض كما أظن.

الموضوع الأساسي في تلك الآية والتي بعدها، هي بيان أهمية الألوان في الطبيعة ومعانيها. هناك يعبر الله تعالى عن علماء الألوان بالعلماء وهم الفيزيائيون بظني وليس الذين عرّفوا أنفسهم برجال الدين أو بالعلماء. فهم دون شك أقل علما من الفيزيائيين. والذي عرف أهمية الألوان فقد عرف جانبا من قِدَم الله تعالى وليس الذين يكررون لنا كلمات السلف الذين هم أقل منا علما.

فالأبيض هناك في مقابل الأحمر وهما معا في مقابل الأسود. حتى الأسود هناك ورد تفسيراً للغربيب وليس الأسود المعروف بينننا إن دققنا في الموضوع؛ والعلم عند الجبار جل جلاله.

ونرى بأن قدماء العرب كانوا يتحاشون تسمية الوجوه البيضاء للجواري فعلا بالبيضاء ويعوضون عنها بالحمراء. لقد ظن الكثيرون بأن الأحمر يعني الأبيض، ولعله غير صحيح فأحتمل أنهم قصدوا نفي السماحة عن تلك الوجوه فاستعملوا لونا يحبذونه لبيان بياض تلك الوجوه والعلم ليس عندي لأنني لست ضليعا باللغة ولكنني أسعى.

واستعملوا الأبيض للحنطة وهي ليست بيضاء بتعبيرنا الحديث وكذلك قالوا البيضاء للبرص. يروي رواة الاحاديث أن قال علي بن أبي طالب لأنس بن مالك: إِنْ كُنْتَ كَاذِباً فَضَرَبَكَ اللَّهُ بِهَا بَيْضَاءَ لَامِعَةً لَا تُوَارِيهَا الْعِمَامَةُ. فدعا على رسوله إلى طلحة والزبير بالبرص إن كان كاذبا.

بالطبع أنني شخصيا أرفض تلك القصة المشار إليها في نهج البلاغة لأنها تنطوي على الإخبار بالغيب ولكن العرب كانوا يستعملون الأبيض بمعنى الأبرص بدليل أن الشريف الرضي لم يرفضه لهذا السبب في نهج البلاغة وهو عالم من أساطين الأدب العربي دون شك.

وقد يكون السبب في هذا الاستعمال هو أن البرص يُبقي أثرا أحمرا على الجلد. هذا يعني بأن استعمال الأحمر بمعنى ما نعنيه اليوم بالأبيض وكذلك العكس كان شائعا بين سلفنا.

فلو أن المفسرين الكرام فسروا الآية الكريمة بأن بياض لون العين تحول إلى احمرار لكان أصح. وأنا أظن بأن المعنى أبعد من هذا أيضا.

إن حقيقة معنى الأبيض لدى العربي فيما مضى كانت الخلو من الشوائب والألوان وقد استعملوها في مقابل الأسود باعتبار أن الأسود تعني الإضافة غير المرغوبة ولو نسبيا.

فالوجه الأسود يعني الوجه الذي سوده صاحبه بما هو غير مرغوب فيه لدى غيره أو لدى العامة أو لدى الله تعالى. وبيَّضه يعني أزال عنه تلك الإضافة غير المطلوبة. وليس المقصود من الأسود اللون الأسود كما عليه الأبيض أيضا. وقد استعملوهما في الألوان بالطبع باعتبار خلو اللغة من كلمة أخرى.

ولا ننس بأن اللون أو الصبغ الأبيض جديد وليس قديما فأنا أحتمل أن الأصل ليس للألوان. وقد تكون الإضافة مرغوبة مثل الأرض المزروعة التي تسود حين الزراعة، فإذا أزيل أو ذبل الزرع قيل بأنها ابيضت. باعتبار أنها قد خسرت إضافة مرغوبة لغيرها. إنها كأرض قد تخلصت ولكن ذلك غير مطلوب لنا نحن البشر وللحيوانات التي تستفيد من النبات.      نهاية الهامش 66. )

أحمد المُهري

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :

islamjurisdev@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.