تصحيح الاخطاء – مفهوم القرآن
معنى كلمة القرآن
نشر الأخ الفاضل المرحوم نهرو طنطاوي قبل عشر سنوات مقالة حول معنى القرآن. أطلعني أخي أحمد الكاتب على المقالة فقمت بالرد عليه ولا أدري أين نشرته. لكن تاريخ الرد كان 21/12/2009. أرى بأن الموضوع غير الصحيح الذي تناول الأخ الذي انضم أخيرا إلى القرآنيين المعروفين في أمريكا لا زال في أذهان البعض. ولذلك أنشر الرد مرة أخرى لعله يزيد من يريد علما بخطأِ المرحوم نهرو طنطاوي. والمرحوم طنطاوي كان أزهريا ولكنه انتقل كالطيور من جذع إلى جذع إلى قمة شجرة مرات لا أعرف عددها في حياته الدينية.
أحمد المُهري
25/11/2019
الأخ الفاضل الأستاذ نهرو طنطاوي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أطلعني الأستاذ أحمد الكاتب رسالتكم القيمة حول جمع الله للقرآن ولقد قرأتها بالكامل نظرا لعدم توافقها مع رأيي لعلي أجد فيها منطقا أكثر واقعيا فأتبعه ولكني للأسف لاحظت أن الدقة التي بذلتموها لم تكن آخذة المسار الصحيح والمناسب لمثل المسائل القرآنية. أعتقد أن إشكالكم الأكبر هو أن السورة الكريمة (سورة القيامة) بآياتها الأربعين لا تتحدث عن القرآن بل عن القيامة فقط فتوسط ثلاث آيات عن كتاب الله تعالى وعودة السورة إلى القيامة مسألة فجة لا تناسب القرآن العظيم. وقبل أن أقدم ملاحظاتي على ما تفضلتم به فإني أورد ادناه سورة أخرى أكثر من القيامة تنقلا بين المسائل المختلفة وهي سورة الدخان فلنلاحظها معاً:
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إنه القرآن دون شك فكل ا لسور السبعة المتتالية التي تبدأ بـ حم تتحدث عن القرآن.
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فيكون الإنزال خاصا بالقرآن الذي بين أيدينا. ولكن القرآن نزل خلال 23 سنة ولم يكن لينزل في ليلة واحدة. والقول بأنه نزل دفعة واحدة يخالف المنطق السليم لأن القرآن تحدث عن الكثير من المسائل التي حصلت للمسلمين طيلة زمان النزول فلو أنزل الله القرآن دفعة واحدة فهذا يعني بأن الحوادث المذكورة قد سبقها علم الله تعالى فأصبحت واجبة الحصول وانعدم معها الاختيار. فالمرأة التي جادلت رسول الله في زوجها كانت مخطئة لأن زوجها كان مجبورا لعمل ما يكرهها أو أنها كانت تمثل ولم تكن جادّة… الى آخر ذلك من الاحتمالات المخالفة للمنطق السليم. وقول الله تعالى في سورة الإسراء غير موافق مع المنزل أعلاه: وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (106). ومن الواضح أن المنزل في الآية الأولى هو غير القرآن والقرآن معطوف عليه.
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) بالطبع أن “فيها” تعني “في تلك الليلة المباركة”. فكيف يفرق الله كل أمر حكيم في تلك الليلة وما ارتباطها بالقرآن الكريم المنزل على دفعات؟
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ (7) لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) القرآن كتاب منزل على بشر هذا الكوكب فما ارتباطه بذكر الله تعالى ربوبيته للسماوات والأرض في هذا المكان ثم ينتقل فجأة إلى إحدى علامات يوم القيامة:
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) يستمر في الحديث عن الناس وهم في حالة نفسية مجردة بعد الموت وحين دمار النظام الشمسي وتحول الشمس إلى كرة ضخمة تبعث بالدخان الذي يشعر به الناس وهم أنفس بالطبع فيخشون بأن القيامة قد قامت ولم تقم القيامة بعد.
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14) عاد القرآن إلى ذكر الرسول الأمين في الدنيا وقبل موت الدنيا وموتنا جميعا وبأن المشركين من صحابته تولوا عنه واتهموه بالجنون وباتباعه للجن احتمالا.
إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) عادت السورة إلى يوم دمار النظام الشمسي.
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ (16) انتقل القرآن إلى يوم الدمار الكوني وهو بالتأكيد يأتي بعد فترة طويلة من يوم الدمار الشمسي. فترة لا يعلمها إلا الله تعالى.
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لاّ تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ الْمُسْرِفِينَ (31) انتقل القرآن إلى قصة قديمة حدثت قبل حوالي 2000 سنة من ظهور القرآن ونبينا الأمين عليه السلام.
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) عاد القرآن إلى ما قبل موسى عليه السلام حينما اختار بني إسرائيل.
وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاء مُّبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلاء لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاّ مَوْتَتُنَا الأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (36) عاد القرآن إلى اختباراته على بني إسرائيل أيام فرعون.
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) انتقل القرآن إلى من سبقهم من قوم تبع والذين من قبلهم.
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) عاد القرآن بلاييين السنين إلى الوراء يوم خلق السماوات والأرض ليقول بأنه سبحانه لم يكن لاعبا آنذاك.
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ (41) إِلاّ مَن رَّحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) انتقل إلى المستقبل البعيد جدا وهو يوم الفصل يتلوه إدخال الناس في الجنة أو في النار.
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ (59) عاد إلى القرآن المنزل عليه ليقول له بأنه سبحانه يسر القرآن بالعربية لتسهيل التذكير على من يريد أن يتذكر.
فهل تعتبر أخي المؤمن كل هذه الانتقالات البعيدة وغير المناسبة في ظاهرها انتقالات فجة بين المواضيع المتباعدة زمانا ومكانا ومعنى؟!
وهناك الكثير من أمثال ذلك في القرآن الكريم. واعلم بأني لست صوفيا ولا أؤمن بتفاسيرهم ولست من الذين اشتهروا بالقرآنيين ولهم مراكز في أمريكا. بالطبع أنا أشترك معهم في رفض الاعتماد على الحديث جملة وتفصيلا كما أرفض الاعتماد على التاريخ أيضا. فأنا لا أعتمد على أي منهما في عقيدتي وفهمي للكتاب المنزل. وأعرف بأن القرآن فعلا تبيان لكل شيء مما فيه من مواضيع طبعا.
كذلك وددت ان انبهكم الى ثلاث قضايا مهمة يبدو انكم غفلتم عنها و هن كما يلي:
1. يقولون بأن الله تعالى وضع فواتح السور قبل بعض السور وهو الذي يعرف معناها فمن الذي يعرف أين يضع هذه الأحرف غيره سبحانه؟ إذ ليس بأيدينا أية مدونة من الصحابة أو التابعين أو من بعدهم تشير الى أنهم كانوا يعرفون معاني هذه الأحرف ولو أن السورة لم تأت كاملة بل مقطعة فكيف نزلت هذه الأحرف؟ هل يمكن أن نتصور الروح القدس يأتي إلى الرسول وينزل عليه مثلا ” ألم” وما سيكون موقف الرسول والمشركين من هذه الأحرف حينها؟ ثم كيف لك ان تتخيل بان جبريل يأتي ثانية وينزل على الرسول بنفس الأحرف من جديد؟ فلنتدبر موقف الرسول والمؤمنين من هذه الأحرف التي لا معنى لها إلا أن تأتي مع سورة كاملة.
2. نرى ونعلم بأن البشر لا يقوم بأي تأليف إلا ويغيره هو أو خلَفه. فلو كان جمع القرآن مجهوداً بشرياً فلماذا لا نرى روايات مختلفة بعضها تقول أن الحمد مثلا في نهاية القرآن وبعضها الآخر تذكر آل عمران قبل البقرة؟
3- لم يرد في القرآن الكريم اية آية تشير الى حث الصحابة على جمع القرآن وترتيبه وانما وردت العديد من الآيات التي تتعامل مع القرآن على انه وحدة خاصة وكيان مستقل له مواصفاته المميزة.
والآن دعنا نتحدث عن تفسيركم الكريم للآيات الكريمة ونبدأ بالقرء:
قلتم بأن قرآنه من القرء ومعناه:
قوله: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ)، والقرء لا يعني التلاوة (ترديد الكلمات) للقرآن أو غيره، فمحض ترديد كلمات القرءان أو غيره من الكتب تعني التلاوة لا القرء ولا القراءة كما يجري على ألسنة الناس خطئاً، أما القرء فهو أمر وراء ذلك، فالقرء هو علامات تخرج من شيء غير متاح الولوج إليه لتُظْهِر وتُبِين حقيقة ما بداخله، ويدل على ذلك خروج دم الحيض من رحم الأنثى، ففي خروج دم الحيض من رحم الأنثى قرء للرحم يُظْهِر ويُبِين خلو الرحم من الحمل، (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ) (228_ البقرة)، والقرء يكون لشيء واحد، والقروء تكون لعدد من الأشياء، أما القرآن فيكون قرء لكل شيء، لذلك أسمى الله كتابه بالقرءان لأنه قرءان لكل شيء، فالقرء بهذا المفهوم هو ما تكفل الله به ليوم القيامة، فأخبر الله رسوله أنه هو من تكفل بالجمع ليوم القيامة وتكفل بقرءانه أي إخراج ما به من علامات تُظْهِر وتُبِين اقتراب ذلك اليوم، فإذا قرءه الله فعلى رسوله وعلى كل إنسان أن يتبع قرآنه، وقد ذكر القرآن الكريم بعض هذه العلامات، فعلى سبيل المثال لا الحصر قول الحق:
(إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (24_ يونس). انتهى النقل
فكيف تسنى لكم القول بأن القرآن من القرء وليس من قرأ بمعنى جمع ثم من أين أتيتم بمعنى القرء على أنه علامات تخرج من شيئ غير متاح الولوج فيه لتظهر وتبين حقيقة ما بداخله؟ لقد راجعت أهم القواميس المعروفة فلم أجد أحدا من مؤلفيها يقول ذلك وهي: مفردات ألفاظ القرآن للراغب الإصفهاني، لسان العرب، العباب الزاخر، الصحاح في اللغة، القاموس المحيط. اكتفيت بها من قواميس ولم أر في مقالتكم استدلالا علميا على هذا المعنى أو على هذا التصريف الغريب.
ولقد قرأت تعبيرك التالي مرتين دون أن أعرف مقصودك:
أما القرآن فيكون قرء لكل شيء، لذلك أسمى الله كتابه بالقرءان لأنه قرءان لكل شيء، فالقرء بهذا المفهوم هو ما تكفل الله به ليوم القيامة، فأخبر الله رسوله أنه هو من تكفل بالجمع ليوم القيامة وتكفل بقرءانه أي إخراج ما به من علامات تُظْهِر وتُبِين اقتراب ذلك اليوم، فإذا قرءه الله فعلى رسوله وعلى كل إنسان أن يتبع قرآنه. انتهى النقل
فحسب تفسيرك يكون القرآن قرءً لكل شيء، وهو يعني: (علامات تخرج من شيء غير متاح الولوج فيه لتظهر وتبين حقيقة ما بداخله). فلو كان القرآن غير متاح الولوج فيه فليس من حق الصحابة أن يجمعوه حسب رأيهم لأنه ولوج غير متاح في سور القرآن بالنسبة للآيات الكريمة أو في مجموع القرآن بالنسبة للسور. أرجوك أخي أن تقرأ تفسيرك للجذر الذي اشتقت منه لفظة القرء ثم تطبقه على قولك بأن الصحابة جمعوا آياته وسوره.
واسمح لي أن أكرر جملتك مرة أخرى:
أما القرآن فيكون قرء لكل شيء، لذلك أسمى الله كتابه بالقرءان لأنه قرءان لكل شيء، فالقرء بهذا المفهوم هو ما تكفل الله به ليوم القيامة.
كيف جمعت بين جملتين سببيتين بدون أي دليل وهما قرء لكل شيء لأنه قرآن لكل شيء؟
ثم دعنا ننتقل معاً إلى الجملة التالية لتلك وهي:
فأخبر الله رسوله أنه هو من تكفل بالجمع ليوم القيامة وتكفل بقرءانه أي إخراج ما به من علامات تُظْهِر وتُبِين اقتراب ذلك اليوم، فإذا قرءه الله فعلى رسوله وعلى كل إنسان أن يتبع قرآنه. انتهى النقل
ما عرفت معنى القرآن الأخير الذي أمر الله تعالى نبيه أن يتبعه؟ هل هو يوم القيامة حيث يجمع فيه العلامات كما تفضلتم فكيف يتبع النبي الدنيوي تلك العلامات التي تظهر في يوم القيامة؟ أم أنك تقصد بأنه عليه السلام يتبعها يوم القيامة فيكون الأمر أمرا غير تشريعي إذ لا تشريع يوم القيامة ولا معنى ولا فائدة في الاتباع آنذاك؟
أم أنك تقصد بأنه سبحانه يجمع علامات يوم القيامة في القرآن فسوف أسألك ما معنى أن يأمر نبيه باتباع تلك العلامات في الدنيا؟ هل تلك العلامات تمثل تشريعات يتبعها النبي أو النبي وأصحابه أو والناس جميعا فوضح لنا رجاء تشريعية علامات القيامة حتى نتبعها. وعلِّمنا كيف نتبع تلك العلامات. وإن كنت مخطئا فأرجو أن تتفضل ببيان كلامك حتى أعيد النظر فيه.
دعنا نكمل المسيرة مع فضيلتكم. لقد أكملتم قولكم هكذا:
وقد ذكر القرآن الكريم بعض هذه العلامات، فعلى سبيل المثال لا الحصر قول الحق: (إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (24_ يونس). انتهى النقل
ما الذي نتبعه من الآية التي ذكرتموها من سورة يونس؟ لقد ضرب الله تعالى مثلا لنتعلم منه أمرا ونأخذ منه العبرة لا لنتبعه.
لقد أسعدني كثيرا رغبتكم في التحقيق في بعض الآيات وهو عمل أكثر من جميل أكبركم عليه ولكني فعلا احترت في معرفة مقصودكم، وأعتقد أن الكثيرين ممن لم يدرسوا في المدارس الدينية من أمثالي سوف يحتارون مثلي فنحتاج إلى مزيد من البيان.
دعنا نطرح سؤالا آخر حول سورة القدر:
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5).
ليس هناك أي ذكر قبل الآية الأولى للقرآن أو لأي شيء يمكن الإضمار إليه سوى البسملة. فهل أنزل الله البسملة في ليلة القدر، أو أنزل اللهُ اللهَ في ليلة القدر؟ معاذ الله. ودعنا نمعن بطريقة شيخنا الطنطاوي الكريم في السورة القرآنية. لو كان المضمر هو القرآن فما هو ارتباط ما يحصل في ليلة القدر بالقرآن؟ لو كان الاهتمام في السورة مصبوبا على القرآن فقد أشير إليه في البداية ثم تُرك كأن لم يكن واستمرت السورة في بيان بعض حوادث ليلة القدر. لو كان المشار إليه غير القرآن كما أظنه أنا، فما هو ذلك الشيء وأين نرى ذكره في السورة الكريمة؟ بالطبع لا فرق من هذه الحيثية بين الآيات الخمسة والآيات الأربعين فالقرآن يسمي أيا من كلتا المجموعتين بالسورة.
وحتى نختصر الطريق فإني أقسم لك السورة الكريمة هكذا فلعلك تقتنع بأن المقصود هو القرآن فعلا. بالطبع لا مجال لتفسير السورة هنا ولكني أختصر بعض المسائل لإثبات معنى الآيات الثلاث فقط.
مقدمة:
أمر الله تعالى نبيه في سورة المدثر السابقة لها بأن يترك الانعزال عن الناس (المدثر) في سبيل الاختلاء بربه والانفراد بعبادته مستزيدا من متعة الخطاب مع ملك السماوات والأرض ومستنقصا (ولا تمنن) من حق الناس في تعليمهم القرآن وإبلاغهم رسالة السماء. ثم استخلص سبحانه في السورة بأن الجميع ينتظرون صحفا منشرة تنزل عليهم فرادى ليؤمنوا وهم يكذبون. فقال بأن هذا القرآن ليس مفخرة للرسول فهو من الله تعالى ليذكر الرسول به عبيد ربه بمن فيهم نفسه ليتذكروا. فمن شاء منهم أن يذكر ربه ذكره. فصار لزاما أن يرد على المشركين الذين اشكلوا على رسول الله حول يوم القيامة تبعا لذلك الشخص العالم الذي فكر فقال إن القرآن سحر من قول البشر حيث أن الرسول كان ينذرهم بيوم القيامة في القرآن. في هذه السورة الكريمة استدلالات علمية كثيرة في حقيقة قيام الناس لرب العالمين بأن الكائنات الفعلية من بشر وكواكب غازية وصلبة كلها محكومة بالفناء وبأن يدك بعضها بعضا لأن لها أعمارا طبيعية تنتهي وتموت بعدها. لكن النفس الإنسانية لا تموت كاملة إلا أنها تفقد إمكاناتها الجسمية وسوف ترى عودة كل شيء إلى الله تعالى. ذلك في الآيات الخمسة عشر الأولى.
ثم يعزي نبيه الذي كان يستعجل بأن تكون جميع الدلائل بيده حينما يمارس المشركون العلم الاستدلالي ضده. فيقول الله تعالى بأنه لا يحتاج إلى الاستدلال ليهديهم فهم يعلمون ما يقولون ولكن نفوسهم ترفض الحقائق. إنما بيدهم من القرآن كاف ليتذكر من يمكن أن يتذكر ولو يعود الإنسان إلى نفسه فيعلم بأنه غير نظيف وغير مستعد لقبول الحقيقة وهو السبب في رفضهم للدعوة فلا يحتاج النبي إلى القرآن دفعة واحدة.
يقول سبحانه ما يشابه ذلك في مكان آخر أيضا من سورة الحديد: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (16). ولذلك يستدرك سبحانه ما يجول بخاطر الرسول الذي يرى يديه ليستا مليئتين بكل ما يحتاج إليه من مفاهيم وحقائق للآخرين وليس لنفسه. فهو آنذاك كان قد استيقن بالقرآن وعلم بعد الآيات والسور المتكررة بأن ما ينطبع في قلبه هو من الله تعالى ولو كان من عند غير الله لأتى أعداؤه باختلاف فيه. يقول له الله سبحانه بلسان الإيجاب بأنه عاجز عن تجميع المسائل الضرورية بعلمه وبأن الله تعالى هو الذي يجمعه بالكيفية التي يراها مناسبة له ولمن بعده. ذلك يعني بأن الإسلام لم يتكامل بعد ولكن الدلائل الموجودة كافية للهدى. فالعلم قادم وسوف يرى الرسول القرآن بمجموعه فيكون في معرض اتباع القرآن. وهو بمثابة بشارة كريمة للنبي الأمين.
والقرآن يعني المجموعة المفيدة ولذلك لم يسمه الله تعالى المجموعة بل أراد أن يفسر بفضله ولطفه علي وعليك بأن المقصود من القرآن هو المجموعة وليس التلاوة كما يتراءى للكثيرين. ذلك لأن التجميع يتحقق بمجرد أن نضع شيئا بجوار شيء بغض النظر عن التناسب والنسق. ولكن القرآن يعني التجميع المفيد والمنظم ولذلك سمى الله الكتاب الكريم قرآنا. وقرأ في أصل معناها تعني جمع والقرآن مصدر من مصادر قرأ والعرب يسمون الكلام الصحيح قراءة باعتبار هذا المعنى ولكنهم لم يقولوا لما يصدر من الطفل الجاهل من كلمات غير منظمة قراءة.
ثم تنتقل السورة إلى الحديث عما يدور في نفوس الصحابة من المشركين والعصاة من غير المشركين احتمالا من حب للعاجل من الخير. فيمثل لهم الآخرة بأنها ليست فقط جنات وحبور بل هي معاينة حقيقية لملك الله تعالى وذلك أجمل شيء في الآخرة حيث ينتهي حكم الإنسان على الإنسان ويستمتع المؤمن بحكم الله تعالى الغني المتعالي عليه والذي يفتخر العاقل بالعبودية له جل شأنه. ويستلزم ذلك أن يتعرف الإنسان على حقيقة مغادرته لكل ما بيده من مال وأعضاء بدنية ثم يذكره ربه بأن هناك نعم أنعم الله تعالى بها على الإنسان فأعطاه القدرة الخاصة على الإدراك. فيذكر سبحانه أربعة من نعمه عليه ليصير إنسانا بعد أن يذكر له بأنه أولى له ثم أولى.. وأولى يعني أنعم. يقول له بأن التفكر في هذه النعم الأربعة يعطي العاقل القناعة بأن الذي خلقه قادر على أن يعيد خلق بدن لنفسه فيما بعد. وبعد هذه السورة يأتي الدور ليتحدث الرحمن عن الموضوع الذي ذكره قبل بيان نعمه الأربعة وهو أن الإنسان بهذه الكيفية لا يمكن أن يخلق سدى. فتنضم سورة الإنسان لبيان هذا الموضوع الهام.
أتصور أن هذا القدر من البيان كاف لتوضيح الموضوع فقط وأكرر بأن هذا ليس تفسيرا للسورة فلقد فسرتها بنعمة الله تعالى قبل عدة سنوات في ثلاث محاضرات تزيد على أربع ساعات من الحديث للإخوة والأخوات الذين يعرفون أوليات هذا النوع من التفسير الدقيق فلا يمكن اختصارها هنا.
ولو أردتم جنابكم أو من يطلع على هذا أن يخوض الموضوع بتفصيل أكبر فإليكم هذا البحث:
الحروف الهجائية هي أصل كل الكلمات وكل الكتب ولعلها أصل لكثير من اللغات المختلفة. وكل واضع للغة فهو يجمع هذه الأحرف بطريقة خاصة ليعطي معنى مقصوداً. وقد قام المرحوم أحمد بن فارس الرازي ببيان معاني للحروف واعتقد بأن الكلمات تركيبة من معاني الحروف ونجح إلى حد كبير في استقطاب الملمين باللغة العربية. كما يقوم أحد زملائي وهو الأستاذ قصي الموسوي ببيان أدق ممن سبقه لأصوات الحروف ويسعى لفهم الكلمات القرآنية على أساسها وسيكون كتابه مصدرا لا يستهان به في المستقبل إن وفقه الله تعالى لإكماله. وأنا أعود إلى بن فارس الذي أكمل عمله ونشره في قديم الزمان لنراه كيف يفصل معنى ق ر ى.
(قري) القاف والراء والحرف المعتل أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على جمعٍ واجتماعٍ. من ذلك القَرْية، سمِّيت قريةً لاجتماع النَّاس فيها. ويقولون: قَرَيت الماء في المِقْراةِ: جمعتُه، وذلك الماءُ المجموع قَرِيٌّ. وجمع القَرية قُرىً، جاءت على كُسْوةٍ وكُسىً. والمِقْراة: الجفْنة، سمِّيت لاجتماع الضَّيف عليها، أو لما جُمع فيها من طعام.
إلى أن يقول:
قالوا: ومنه القُرآن، كأنَّه سمِّي بذلك لجَمعِه ما فيه من الأحكام والقِصَص وغيرِ ذلك. فأمَّا أقْرأَتِ المرأةُ فيقال إنَّها من هذا أيضاً. وذكروا أنَّها تكون كذا في حال طُهرها، كأنَّها قد جَمَعَتْ دمها في جوفها فلم تُرْخِه. وناسٌ يقولون: إنما إقراؤها: خروجُها من طُهرٍ إلى حيض، أو حيضٍ إلى طُهْر. قالوا: والقُرْء: وقْتٌ، يكونُ للطُّهر مرَّةً وللحيض مرة.
انتهى ما قاله ابن فارس.
وأما الجملة فهي تجميع مترابط للكلمات بحيث يوضح المقصود الذي أراده ملقي الجملة على السامع. وحينما نصل للموضوع ثم للكتاب نشعر بأهمية التجميع والترتيب والتنضيد التي تعطي الكتاب قيمته وأهميته. إنك لن تجد مؤلِّفاً يرضى بأن يكتب الجمل أو المواضيع ثم يسلمها لشخص آخر كي يجمعها له ويصنفها كما يرى. ذلك لأن أهم عمل في التأليف هو عملية التجميع وعرض الفكرة كاملة ولذلك سموه تأليفا ولم يسموه مختارات أو ما في معناه مثلا. ولعل السر في ذلك هو أن كل مؤلف جدير فهو يحمل في قرارة نفسه رسالة يريد أن يوصلها لقارئه بالكيفية المناسبة التي تزرع المعاني في ذهن القارئ المتلقي حتى يطمئن من نقل الرسالة على أكمل وجه لمن يريد أن يبلغه مقصوده. فلو جمعه له أي شخص آخر فقد يعجز عن التعرف الكامل على رسالة المؤلف حتى يقوم بترتيب الكتاب ومن ثم التعريف برسالة المؤلف. ثم إن المؤلف المتقن والمخلص في الواقع يحمل في أعماق قلبه رسالة العلم ورسالة التعليم معا. ذلك لأن التعليم في الحقيقة هو المكلف بإيصال الرسالة إلى المتعلم وليس العلم نفسه. إنه يرتب كتابه على أصل تعليمي أكثر منه علميا لأنه حريص على إيصال الموضوع الأساسي إلى أذهان مختلف القراء وليس حريصا على إثبات أنه يعلم أو أنه غزير في العلم.
أنا لا أعرف هل أن الأستاذ الطنطاوي قام بعملية تفسير القرآن كاملة أو قام بتدريس التفسير. وقد قمت بكليهما ولاحظت أن القرآن العظيم تعليمي أكثر منه علميا. ولذلك انتبهت إلى أن كل السور مرتبطة ببعضها البعض ارتباطا وثيقا لا يمكن فصلها ولا يمكن اعادة ترتيبها والحال ذاته يجري على الآيات كذلك. كذلك فقد لاحظت أن قصص الأنبياء في كل سورة مبينة على أساس مناسب لأهداف تلك السورة التي سماها الله تعالى سورة بمعنى انها تحيط بهدف كبير تصب فيه كل الآيات التي تمثل منهجا لإيصال الهدف إلى ذهن المتدبر بآيات القرآن. كما لاحظت خلال التفسير أن الكثير من زملائي بعد حضور سنوات من جلسات التفسير صاروا يسعون للتدبر في آية أو مجموعة من الآيات وهم قد يعجزون احيانا عن الوقوف على المعاني الدقيقة التي تمثل رسالة السورة وذلك لأنهم لم يضعوا هدف السورة في اعتبارهم.
إن بعض السور تبدأ ببعض الأحرف التي اكتفى عامة المفسرين باعتبارها رموزا لا يمكن فكها. ولكني لم أقتنع بذلك وطلبت من ربي أن يعلمنيها ووفقت بالنتيجة في كشف معاني كل هذه الفواتح ولاحظت بأن فهم السورة بعيد المنال بدون فهم فواتحها. ولاحظت أيضا بأن كل مجموعة من السور تهدف إلى بيان موضوع كبير وقد وضعها المؤلف العظيم جل جلاله بجوار بعضها البعض لتشترك في إيصال المعنى. وانتبهت بأن سورتي البقرة وآل عمران اللتين تتصدرهما حروف ألم تعطيان معناها بالنسبة للآخرة وأن المجموعة الأخرى المشابهة من حيث الفواتح وهي العنكبوت والروم ولقمان والسجدة تهتم بنفس المعنى ولكن في الدنيا.
كما وفقني ربي لأعرف السبب في أن كل سورة تبدأ بالحروف الفواتح وبها حرف الراء فإن الفاتحة لا تعتبر آية ولكنها لو خليت من حرف الراء الذي يرمز إلى معنى خاص لا مجال لذكره هنا فإنه سبحانه اعتبرها آية كاملة. وعرفت بسهولة فيما بعد بأن السور السبع التي تبدأ بـ حم تتحدث عن موضوع واحد بأشكال مختلفة وبأن كلا منها جديرة بأن تكون آية وبأن سورة الشورى تتحدث عن نفس المعنى ولكن بالنسبة للأنبياء ومن يريد أن يحذو حذوهم فكان لزاما عليهم أن يهتموا بمعاني عسق وهي فعلا جديرة بأن تكون آية واحدة أيضا. واهتممت بأن أترك كل النسخ القرآنية غير المعروفة وأهتم بأشهرها فصببت أهتمامي على النسخة التي تطبع بالملايين والمعروفة بقراءة حفص عن عاصم ووجدت أنها هي النسخة الحقيقية للقرآن الكريم وكل ما عداها لا يمكن الركون اليه.
وحتى أعطيك مثالا جازما – وقد فعلت في بداية البحث – دعني أتحدث الآن عن بداية القرآن. إن فاتحة الكتاب هي فعلا فاتحة الكتاب وهي ليست السبع المثاني كما اشتهر بين المفسرين. إنها ترمز إلى أهم المسائل القرآنية بكل صراحة ولكن بدون شرح كامل لأنها الفاتحة أو المقدمة فعلا. ثم تأتي كل السور القرآنية لتشرح سورة الفاتحة وتفصلها تفصيلا. بالطبع أن المغضوب عليهم والضالين ليسوا هم اليهود والنصارى كما تراءى للبعض ولو كان كذلك لصرح الله تعالى بذلك.
ثم أتت سورة البقرة لتوضح مسؤوليات القرآن التشريعية التي تعتني بتزكية النفس فتنطوي بصورة طبيعية على ما كتب الله تعالى على نفسه من عناية ورحمة بالكائنات المكلفة لتعلمهم أصول التزكية. وآل عمران مرافق للبقرة لبيان الذين عملوا بهذه التشريعات المفيدة لتهذيب النفس واستفادوا منها. ثم تأتي سورة النساء لتهتم بعد تزكية النفس بتزكية النسل وتطهيره وتأتي بعدها المائدة مستدركة الاهتمام بالنسل لتقول لنا بأن العوائل والقوميات وأفراد البشر في النهاية ليسوا موضوع اهتمام رب العالمين ولكنها عوامل مساعدة للحياة الهنيئة في الدنيا. ولذلك بدأت السورة بالاهتمام بالعقود لتحثنا على العمل بادئين بالتعهدات الطبيعية التي نحملها في كياننا كبشر بغض النظر عن قومياتنا وتعاريفنا الدنيوية. وهلم جرا.
بالطبع لا يمكن معرفة كل هذا دون معرفة معاني الآيات برمتها بالنسبة لكل سورة وملاحظة بدايات السور ونهاياتها ليتكون الاطمئنان الى أن القرآن سلسلة ذهبية مترابطة لا يمكن فصل أية كلمة منها ولا يمكن تقديم سورة أو آية أو تأخيرها عن موقعها. وأنا أفسر القرآن على هذا الأساس وقد نجحت بفضل الله تعالى إلى اليوم منذ ثمان سنوات لأثبت نمطية القرآن وأهمية كل كلمة وحرف فيه.
إنك تلاحظ هكذا بأن القرآن لا ينطوي على كلمة زائدة ولا كلمة ناقصة ولا قصة ناقصة كما لا يذكر ضمن القصة أي موضوع قليل الأهمية. هكذا سترى ببصيرتك أن القرآن لا يحتاج إلى غيره لفهم معناه وبأن كل الوسائل من اللغة والنحو وهكذا العلوم العربية الأخرى قد تكون عوامل مساعدة ولكنها ليست أصيلة. حتى الكلمات التي انفرد القرآن بذكرها دون غيره مثل الجبت والتفث فإن القرآن بنفسه يشرحها ولا تحتاج معهما إلى اللغة. أرى النحو واللغة فقيرين أمام هذا الخضم الموار من التعريفات والتفصيلات التي اوردها القرآن الكريم والتي تغني المتدبر عن أن يهتم بغيره من الكتب. لكني أرجو من الإخوة والأخوات المهتمين بالقرآن أن يكونوا صادقين في نواياهم حينما يذهبوا إلى القرآن ليتعلموا. أرجو ألا يظننّ أحد بأنه قادر على أن يقوم بتعليم القرآن او فرض قناعاته وقبولياته عليه فإن فعل فإن من المحتم أنه لن يتعلم ولن يطلع على كنوز الكتاب العظيم. أقول ذلك بعد تحقيق وتجربة مستمرة وليس لمجرد التعريف فأنا لست بشاعر بل إنني ضد التنضيد الشعري المجرد. إنني أعتبر الشعر عائقا أمام الفهم والتعمق بأنه ينقل المستمع والمفكر إلى عالم الخيال والخيال ليس صحيحا بالضرورة.
بحث قرآني في موضوع التجميع:
دعنا نعود إلى الكتاب نفسه لنرى كيف يشهد القرآن على نفسه أنه مجموعة مفيدة.
أولا: نبدأ بسورة العلق.
1. أمر تعالى نبيه بقوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1). نفسرها أولا كما أقوله وهو: قم بالتجميع أو اجمع باسم ربك الذي خلق. بالطبع أن الرسول كان أميا وكان لا يعرف القراءة والكتابة وغير معقول أن يأمره الله تعالى بأن يقرأ بهذا المعنى ولكن من المعقول أن يأمره بأن يجمع ما أنزل عليه من القرآن ليستخلص المعاني الجديدة. ولا يخفى بأن إخواننا المفسرين لم يتمكنوا من معرفة أن هذه السورة لا يمكن أن تكون أول سورة.
2. ثم أعطاه الله تعالى مثالا عما فعله هو بنفسه سبحانه وتعالى، فأنتج موجودا جديدا بقوله الكريم: خَلَقَ الإنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2). يعني بأنه سبحانه خلق الإنسان من تعلق خلية الذكر بالأنثى و تداخل الجينات المكونة لكل خلية بحيث تتنشط الجينات القوية من كل خلية وتتعالى على مشابهاتها في الخلية المقابلة (وهذا هو معنى المخلقة وغير المخلقة برأيي، وأنا أؤكد بأني أفسر القرآن برأيي ولا أهتم بالمفتريات لعلمكم). وهكذا نرى بأن الموجود الجديد أقوى من كل من الموجودين المكونين له وعلى أساسه يتطور الإنسان ويزداد علما وفكرا.
3. ثم تنتقل السورة إلى ذكر فائدة التجميع لرسول الله عليه السلام ليعلم بأنه هو الطريق الصحيح لاستيحاء العلم من ربنا فتقول: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5). فربك أكرم بك حينما يعلمك منه حينما يعطيك أي شيء غير العلم. ويؤكد سبحانه بأن هذا خاص بالبشر دون الجن ودون الملائكة طبعا لأنهم لا يتعلمون الأسماء كالبشر. والأسماء تعني الكودات حسب تعاريفنا الحديثة. فهو سبحانه يُعلِّم الإنسان ما لم يعلم لولا أنه كان متطورا بالطريقة التي قالها سبحانه في الآية الثانية. وهكذا فالنبي وصحابته كانوا أكثر قدرة على التعلم من الأمم السابقة كما أننا نحن اليوم أكثر تفوقا على الذين سبقونا من حيث القدرة على التعلم. ولذلك لا نحتاج إلى الأنبياء ويمكنننا أن نكتفي بما أعطانا الله تعالى من عقول.
تصور لو أننا نعتبر القرء كما تتفضلون أصلا لهذه الكلمة فأين يصل بنا المطاف؟!
ثانيا:
قال تعالى في سورة الإسراء: وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (106) قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا (107). فالقرآن مجموعة علمية مقصودة تنطوي على ما يريد الله تعالى أن يعلمه لعبيده عن طريق الوحي الخاص، فرقها الله تعالى ليقرأه الرسول على الناس على مكث. فالله تعالى جمع القرآن عنده ثم فرقها للرسول في الإرسال ليتمكن الرسول من تجميع معانيها للناس على مكث. إنه يحتاج أن يتسلم القرآن العظيم شيئا فشيئا حتى لا يخطئ في تجميع معانيه. والله تعالى يرسل القرآن له بنسق يمكن له أن يجمعها دون أن يخطئ. ولو كان معناه أمرا خافيا في الأعماق فلا معنى للتفريق حينئذ أو أن معنى التفريق ينسجم مع الجمع أكثر من انسجامها مع تفسيركم.
ثالثا:
قال تعالى في سورة الأعراف: وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204). فكان الحديث للرسول أن يجتبي الآيات ولكنه عليه السلام يقول لهم بأنه يتبع الوحي ولا يمكن له أن يجتبي أو يختار ما يشاء. فالحديث هنا عن التجميع وليس عن كتابة القرآن. ولذلك أعقبه سبحانه بالأمر للناس أن يتبعوا تجميع القرآن وينصتوا للتجميع لعلهم يُرحمون. وظاهر بأن الحديث ليس عن القراءة العادية أو الترتيل كما يتراءى لقليلي العلم. فالقراءة العادية لا يزيد الإنسان علما حتى يصير في معرض الرحمة. والرحمة هنا هو المزيد من العلم والمعرفة والإنسان يزداد خوفا من الله تعالى بالمزيد من العلم به سبحانه ولذلك أعقبها العزيز الرحيم بقوله: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206). هكذا يتعلم المرء المزيد عن الله تعالى فيزداد خشوعا له وخوفا كالملائكة الذين يعبر عنهم القرآن بمن عند الله باعتبارهم أكثر معرفة من غيرهم بالله تعالى. ولا يفوتني أن أقول بأن الملائكة لا يستكبرون عن عبادة الله تعالى ولكنهم لا يعبدونه لأن العبادة هو الخضوع الاختياري لله تعالى ولا اختيار للملائكة.
رابعا:
قال تعالى في سورة يونس: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17). فالقرآن هو الذي يبين آيات الله وليس للنبي أن يبينه من تلقاء نفسه ولا يدري عنه شيئا ويخاف إن مس القرآن بأي مساس من أن يعذبه الله تعالى يوم القيامة. أتظن أخي الطنطاوي الكريم بأن النبي وصحابته يجرؤون بعد هذا التهديد أن يؤلفوا كتاب الله تعالى؟ حاشاهم من ذلك.
خامسا:
قال تعالى في نفس سورة يونس: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38). ولو تلاحظ بأن التعجيز في السور وليس في الآيات؛ والسور هي مجموعة الآيات فأنى للنبي والصحابة أن يضعوا آية مكان آية؟ لو كان كذلك لكان القرآن من تأليفهم أو من تأليف الله وإياهم. كلاهما شرك أخي فلنعرف ما ذا نقول.
سادسا:
بدأ الله تعالى سورة الحجر هكذا: الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ (1). فكيف يمكن أن يكون القرآن خفيا لا يمكن الوصول إلى أعماقه –كما تفضلتم- ويكون مُبِينا. والواقع أن الاهتمام في هذه الآية الكريمة بقرآنية الآيات وليس بكونها آيات. فهي جمعا قرآن مبين وليس بمفرداتها.
سابعا:
قال تعالى في نفس سورة الحجر: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94). فهل السبع المثاني غير القرآن أم هو من القرآن وإذن فما معنى القرآن غير أن يكون القرآن تجميعا للسبع المثاني. هذا بغض النظر عن أنها كما أظن مجموعة كبيرة من الآيات أو كما تظننه المفسرون بأنها تمثل سورة الحمد فقط. ثم كيف يقتسم الفاسقون القرآن ويجعلونه أعضاء لو لم تكن مجموعة؟ ولو كان القرآن لا يعني التجميع فلا يعني جعله عضين أيضا.
ثامنا:
ولننظر قليلا إلى الآية التي كان لكم ذكر لها من سورة طه: وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114). فالله تعالى أنزله قرآنا عربيا مفهوما لهم وليس مكنونا خافيا عليهم. والرسول لا يستعجل بتجميعه كله قبل أن يقضى إليه وحي التجميع ويدعو ربه ليزيده علما بتجميع القرآن كما أمره في سورة العلق. وتجميع الرسول يعني تجميع آياته حسب الموضوعات لمعرفة معانيها وليس بطريقة تجميع القرآن نفسه الذي نظمه الله تعالى للعلم وللتعلم العام بالنسبة لكل القرآن. فهو يطلب من الله تعالى المزيد من العلم بهذا التجميع. فيجمع شتات المسائل من القرآن في ذهنه ليعرف المزيد من المعاني. هذا شأن كل كتاب ولكن القرآن أكبر شأنا من غيره باعتبار احتوائه على الحقائق الصحيحة. وعملية تجميع الشتات يقوم به الإنسان في ذهنه أيضا والقرآن مساعد كبير للذهن الإنساني في الواقع. ولكن تجميع الآيات بالطريقة التعليمية والعلمية فهو في شأن المؤلف العظيم وحده. ولننظر معا إلى الآية التالية من سورة الفرقان:
تاسعا:
قال سبحانه فيها: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً (32). وأنت لا ترى في القرآن الكريم أية إشارة أو دعوة أو أمر للنبي وقومه أن يقوموا بتأليف القرآن وترتيب آياته وسوره كما تراءى لكم. وترى في المقابل أن الرسول الأمين يأتي يوم القيام شاكيا من قومه بأنهم اتخذوا هذا القرآن مهجورا. ودعني أقول لك بأن بعض قوم النبي فعلا اتخذوا القرآن مهجورا باللعب في تركيباته فاستحدثوا أمورا تؤثر في معاني القرآن مثل شأن النزول وأسبابه، والناسخ والمنسوخ، والمكي والمدني وغير ذلك من المفتريات الكاذبة التي تجعل من المتعذر على المسلمين فهم القرآن بنفسه بل تحوجهم إلى الذين يدَّعون علم القرآن ليتبعوهم بدلا من أن يتبعوا القرآن الكريم نفسه. فهل تريد منا أن نتبع الذين اتخذوا القرآن مهجورا؟ والحديث فعلا عن ترتيب القرآن وتنسيقه فالله تعالى ينسب الترتيل إلى نفسه والترتيل تعني الترتيب والتنسيق كما يقوله علماء اللغة:
قال الراغب الإصفهاني في المفردات:
الرتل: اتساق الشيء وانتظامه على استقامة، يقال: رجل رتل الأسنان،
(لسان العرب)
الرَّتَلُ: حُسْن تَناسُق الشيء.
(القاموس المحيط)
الرَّتَلُ، محرَّكةً: حُسْنُ تَناسُقِ الشيءِ،
وقد نسب الله تعالى الترتيل إلى نفسه وأما قوله الكريم في سورة المزمل: أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلاً (6). فالنبي يرتل التي أنزلت عليه في أنصاف الليالي ليتعلم ويفهم المعنى. ولذلك يعقب الله تعالى عليه بأن ناشئة الليل وهي كما قالت السيدة عائشة أن تنام الليل ثم تقوم، بأنها أشد تذليلا للوقت حتى يستفيد منه كما أنها أكثر الأوقات تقويما للقيل ومعناها الجملة الصحيحة أو الكلام المنظم. والقيل هنا ليست بمعنى القائلة التي تعني النوم في منتصف النهار بل هي نفس القول كما يقوله الراغب وغيره. فالرسول في بدايات الدعوة يقوم قبل الفجر ليفكر في القرآن ويرتل المعاني في ذهنه حتى يتعلم القرآن. ذلك لأن الله تعالى سوف يلقي عليه قولا ثقيلا وهو الذي حصل له كما هو موضح في سورة النجم. فكان لزاما أن يستعد النبي له بالاستزادة من معرفة الله تعالى، والعلم عنده سبحانه. والمؤكد أن السورة نزلت عليه في البدايات وليست في النهايات حتى يكون أمرا بترتيب القرآن. كان عليه ذلك النوع من الترتيب والترتيل حتى يستعد لاستقبال الوحي العظيم المباشر من الله تعالى.
عاشرا:
يقول سبحانه في سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ (159). فالله تعالى ينسب الكتاب بكامله إلى نفسه وبأنه سبحانه بين ووضح الآيات في الكتاب. فهل يمكن أن يكون الكتاب من صنع الصحابة فيما بعد ويكتب فيه الله تعالى في ما قبل؟ ويقول الله تعالى نفس المعنى في سورة النساء: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا (105). والله تعالى يسمي القرآن كتابا هنا وفي أماكن كثيرة من القرآن كما يسميه ذكرا مثل سورة الأنبياء حيث يقول سبحانه: وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (50). فالمقصود بهذا هو القرآن وليست الآيات ولا السور وإلا لأتت الاشارة الى ذلك بالتأنيث لا بالتذكير.
ولننظر إلى أهمية القرآن لغير البشر: فنبدأ بالجن لنرى ما الذي قالوه بحق القرآن. قال تعالى عن لسانهم في سورة الجن: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2). دعنا نفكر في سر تعجب الحن ونسعى لفهم الجواب من القرآن نفسه. لو فرضنا بأن الجن قد تعجبوا من مجموعة القرآن ومن تنسيقه وتنضيده فقالوا بأن هذا تجميع غريب بمجموعه يدعو إلى الرشد. كان هذا هو دليلهم على أن القرآن كتاب منزل من الله تعالى فآمنوا به وقالوا: لن نشرك بربنا أحدا. ذلك لعلمهم بعدم إمكانية تجميعه بهذا النسق الذي يرشد ويهدي ويدل على تماسك غريب في آياته حيث يزيد المفكر يقينا بأنه من وحي الله تعالى. ولكن لو فرضنا ما تفضلتم به من تفسير غريب للقرآن فسوف نواجه العجب من تفسيركم وليس من القرآن طبعا.
ثم لننظر إلى تأثر الكائنات الأخرى بالقرآن. قال سبحانه في سورة الحشر: لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21). الإشارة إلى هذا القرآن وليس إلى قرآن الصحابة أو قرآن غير الصحابة. فكان هذا الذي بين يدينا قرآنا موجودا حين نزول هذه السورة الكريمة. بالطبع أن تأثر الجبل باعتبار نزوله من الله تعالى والله تعالى لم ينزله على الرسول مباشرة بل عن طريق الروح القدس لئلا يتأثر بدن النبي بوهج نور رب العالمين. هذا الإشعاع النفاذ والمدمر الذي يدمر الجبل حينما يتجلى كما حصل فعلا أمام الرسول موسى. ولكن الله تعالى لم يقل أنزلنا آيات. ذلك لأن الرسول بنفسه تمكن بعد رياضة نفسية أن يستلم بعض الآيات مباشرة من الله تعالى. كما حصل لموسى مثلها أيضا. إن إنزال القرآن كله يتطلب قبسا نوريا شديد الإشعاع ليحمل كل القرآن وآنذاك يتصدع الجبل مهما كان قويا وضخما. وهذا مثال باعتبار أن الله تعالى لن ينزل الكلام على الجبل ولكن المثال القرآني صحيح دائما ويشير إلى حقائق ممكنة.
أظن بأن احتمال أن يشترك أحد في تنظيم القرآن لهو ابتعاد شديد عن هدف القرآن الكريم ولو صح فهو يعني بأن الصحابة الكرام أو النبي كانوا محيطين بالقرآن وعالمين بكل ما فيه في حين أنهم جميعا كانوا تلاميذ القرآن والقرآن يعلمهم ويهديهم إلى صراط مستقيم. ألا تظن بأن رسول الله عليه السلام كان يدعو ربه كل يوم عدة مرات بهذا الدعاء القويم: إهدنا الصراط المستقيم. كان هو عليه السلام وصحابته ونحن نتبعهم إلى اليوم جادين في سؤالنا من ربنا ولم يكن هو ولا نحن على علم بكتاب الله تعالى وندعوه الهدى. قال تعالى في سورة الأعراف: المص (1) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (3). فالكتاب برمته منزل من الله تعالى والرسول يخاف منه ويشعر بالحرج من رهبة القرآن فكيف يجمعه وهكذا الصحابة؟ أليس هو الرسول الذي يقول مع بقية أولي الألباب من صحابته بأنه يؤمن به باعتباره منزلا من الله تعالى كما قال سبحانه في آل عمران: هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ (7). فلا يعلم تأويله إلا الله فأين الرسول والصحابة من أن يعرفوا كل القرآن حتى يتمكنوا من تنضيد أبوابه وآياته؟ نحن جميعا والذين يأتون بعدنا نفسر القرآن بما يتراءى لنا بمساعدة التطور العلمي والعقلي ولا نعرف أعماق القرآن. أقول دائما لزملائي بأن الذين يأتون بعدي فلعلهم يسخرون من فهمي المتواضع للقرآن.
وأخيرا فإن القرآن الذي يؤلفه البشر لا يمكن أن يخلو من الاختلاف. قال تعالى في سورة النساء: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا (82).
أعتذر من الإطالة وأرجو أن أكون قد وفقت في الإشارة إلى موضع الخلل فيما عرضتموه والله من وراء القصد، والحمد لله رب العالمين.
أخوكم
احمد المهري
21/12/2009
#تطوير_الفقه_الاسلامي
🙂