يوسف أيها الصديق ح 38 – فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ

تواصلا مع شرح سورة يوسف :

يوسف أيها الصديق ح 38 – فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ

لنعد إلى إخوان يوسف لنقرأ ما كان يدور في خَلَدهم في تلك اللحظات الحرجة.

أرجو من القارئ الفاضل حينما يقرأ هذه السورة المجيدة أن لا ينسى الحقيقة الأسرية لبني إسرائيل. إنهم يسعون لتقوية الأسرة وإظهارها فوق بقية الأسر ليستظلوا بها وينعموا بالانتساب إليها عالمين بأن ليس لأحد غيرهم أن يدخل في هذا الحصن المتين والمحصور فيهم. فالدفاع عن الأسرة لديهم هو أولى الأولويات.

هؤلاء هم آباء بني إسرائيل الذين رأوا بأن كرامة إسرائيل قد خُدشت وعليهم الدفاع عنها قبل أي شيء آخر. بنو إسرائيل يسرقون! هذا شيء لا يُطاق.

لو قيل بأنهم قتلوا لما تأثروا كثيرا فهم المتهمون بقتل أخيهم في قرارة نفوس الأسرة الكريمة دون يعقوب ويوسف الذين يعرفان القصة بل يصنعانها. 

وقد اتهمهم يعقوب نفسه بفعل أمر مُعيب، أثار الشعور بأنهم قتلوه لدى بقية أفراد الأسرة، ولم يتمكنوا من رده ردا قويا مقنعا، ولكن تهمة القتل دون تهمة السرقة لديهم. على أن قيام مجموعة كبيرة بقتل أخ صغير لديهم مشين فعلا.

أسرع الإخوة في إثبات طهارة إسرائيل من أن ينجب أولادا سارقين ليسوا في مستوى الأسرة الرفيعة الكريمة ونسبوا الضعف المزري إلى زوجة أبيهم التي تشاركه في إنجاب يوسف وأخيه. ولإثبات هذا الحكم الأحمق…

قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ ﴿77﴾.

قلنا في بدايات السورة في وصف عودة الإخوة من الصيد إلى أبيهم بدم كذب على قميص يوسف بأن القميص كان لأخيه.

كان يوسف وباتفاق مع أبيه قد احتفظ بقميصه في هميانه للمستقبل ولبس قميص أخيه من أمه حينما خرج مع إخوانه. وكان الإخوة مهتمين بمؤامرتهم فلم ينتبهوا إلى أن أخاهم كان يرتدي قميص أخيه وهو ما أشار يعقوب إليه وعلى اساسه اتهمهم بالكذب في حكاية الذئب وأن أنفسهم سولت لهم أمرا.

هناك انقلب السحر عليهم فبدلا من أن يخلو لهم وجه أبيهم فإنه ازداد اهتماما بأبنائه من غير أم الإخوة المتآمرين. فقصة سرقة يوسف لقميص أخيه كانت تمثل جرحا كبيرا في قلوبهم وكانت لا تفارقهم أبدا. فهي إلى جانب فضيحتهم أمام إسرائيل كانت تمثل سرقة معيبة حصلت في بيتهم ولم يتمكنوا من الإصرار عليها لإقناع الأب بأنهم أفضل ممن أنجبته زوجة أبيهم.

ويبدو بأنهم كانوا يتداولون قصة السرقة هذه فيما بينهم دون بقية الأسرة وكانوا يتألمون منها.

من ناحية أخرى فإنهم أبدوا اهتماما بسمعة أسرتهم وكرامتها أمام المصريين وأمام العزيز بالذات. فكان توجيه التهمة إليهم بسرقة شيء من غرفة من ساعدهم أمرا قاسيا جدا على قلوبهم ولا يعرفون كيف يواجهونه خاصة بعد ثبوت السرقة وسكوت أخيهم المتهم. فكانت أول مسألة هو أن يبرئوا ساحتهم من التهمة المشينة ولذلك نسبوا أسباب السرقة إلى الأم حماية لكرامة الأب العظيم إسرائيل الذي يمثل كل الكرامة والشرف لهم ولكل بني إسرائيل 61.

تألم يوسف كثيرا من جهل إخوانه الذين يظنون بأن ليعقوب سرا في شرف الأسرة أكثر من تألمه في نيل الإخوة الجاهلين والناكرين طبعا لوالدته الفاضلة.

ومما لا شك فيه أن أخاه الصغير كان يشاركه في الألم ولكنه ساكت -كما وعد أخاه- وناظر إلى الأمور فقط. ليس ليوسف أي بد إلا أن يستمر في الحفاظ على السر كاملا في قلبه الشريف الذي ضاق عليه كثيرا من مقولة إخوانه. وقوله في آخر الآية لا يمثل كلاما مسموعا صدر منه بل كان محصورا في همساته القلبية برأيي 62.

شعروا بأنه ممتعض من مقولتهم ولعلهم ظنوا بأنه يُكذِّبهم ويرى بأن الإخوة يسعون لدرء شبهة السرقة عن المجموعة باختلاق قضايا قديمة وبأن ينسبوا أسباب السرقة إلى كون أخيهم من أم أخرى.

يتبع …..

(هامش 61: إذا أردنا أن نتعرف على بني إسرائيل بدقة فعلينا الانتباه إلى أنهم في حين اهتمامهم الكبير بالمال والثروة، فإنهم كانوا أكثر تمسكا باسم إسرائيل. والقرآن الكريم يهدينا إلى هذه الحقيقة في عدة موارد منها:

1.      أن الذي أسس كيانهم هو يوسف ولكنهم لا يهتمون كثيرا به بل يتشرفون بالانتساب إلى يعقوب. ونجد اهتمامهم بداود وسليمان أكثر من يوسف. ولعلهما لم ينحدرا من يوسف بل من الإخوة العصبة.

2.      تركوا لحم الجمل وحرموه على أنفسهم لأن يعقوب كان يكره الجمل. قال تعالى في سورة آل عمران:

كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94).

فالجمل لم يكن محرما في التوراة الأصلية التي أنزلت فيما بعد وبقيت بين أيديهم آلاف السنين حتى ضاعت فعلا اليوم. لكنهم إكراما لأبيهم إسرائيل غيروا تشريعهم وكذبوا على الله تعالى.

3.      كان يعقوب خائفا عليهم من أن يتركوا عبادة الله تعالى ويعبدوه كما هو عليه كل الأمم التي عاشت بصحبة الرسل الكرام تقريبا. قال تعالى في سورة البقرة:

أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133).

ولو نقرأ الآيات التي تلتها فسنعرف بأن الله تعالى ورسله المكرمون يدعوننا للاهتمام بما أنزل على الرسل وليس بالرسل.

4.      قال سبحانه في سورة الإسراء:

وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3). فتشبثهم بالسامية مردود عند الله تعالى باعتبار أن نوحا بنفسه كان عبدا لله شاكرا له وحده فكيف يشكرون العبد ويتركون الرب؟ وقد نبههم ربهم ألا يتخذوا غير الله تعالى وكيلا ويتركوا التمسك بالأسرة والعائلة إلا في حدود المتعارف المسموح.

5.      قال تعالى في سورة طه:

قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94).

ومنها نعرف بأن هارون وهو عمود من أعمدة بني إسرائيل وعلى الرغم من نبوته فقد كان مهتما بتماسك الأسرة الإسرائيلية، هي مع الأسف عادة إسرائيلية تحولت إلى ما يشبه الطبع الذي لا يفارقهم حتى بعد استلام الوحي. سلام الله على هارون فليس لي إلا أن أذكره بالخير ولكنه كان يُظهر حقائق قومه وليس حقيقة نفسه الطيبة التي أخلصها الله تعالى لينقل رسالته دون أدنى ريب. فالتفريق بين بني إسرائيل يمثل كارثة للقوم وليس لأنبيائهم الكرام.

6.      وقال موسى لفرعون بعد أن ذكر له نعمته عليه في تربيته وليدا كما نجد الحكاية في سورة الشعراء:

فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22).

فكان النبي الإسرائيلي العظيم موسى عليه السلام متألما من إذلال فرعون لبني إسرائيل. وأرجو الانتباه بأنه عليه السلام لم يقل قومي وأهلي بل قال بني إسرائيل. وهذا يدل على ما لإسرائيل من احترام كبير لدى سلالته حتى المرسلين منهم. بالطبع أن اهتمام الرسول الأمين موسى عليه السلام لم يتجاوز حدود التعارف ولكنه احترام قلبي متأصل في كل بني إسرائيل لما ليعقوب من احترام لدى الذرية بكاملها.

ولذلك فإني أقدم نصحي الخالص للذين يتعاملون مع الإسرائيليين أن يتركوا الحديث عن بني إسرائيل وظلم بني إسرائيل وهو ليس صحيحا في الواقع. إن الذي يظلم الفلسطينيين كعرب هم أفراد وجماعات من بني إسرائيل وليست الأسرة الكبيرة بكاملها. دعنا نضع اللوم على أفرادهم وليس على إسرائيل. نحن نجهل مع الأسف سبل المواجهة وقد استفز العرب كل يهود الأرض ضدهم وهو لصالح إسرائيل وليس لصالحهم. لقد خسروا كثيرا وظُلموا كثيرا والألم يعتصر قلب كل عربي وكل مسلم وكل إنسان أن يرى أطفالا ونساءا ورجالا يُداسون تحت أقدام شرذمة طاغية من اليهود. أنا كبشر وكمسلم وكعربي لا أحتمل أن أسمع صراخ أطفال فلسطين وهم مظلومون لأننا لا نعرف كيف نحميهم وندافع عنهم. فافتحوا عيونكم إخواني واقرأوا كتاب الله تعالى ولا تتجاوزوا حدودكم ليرحمكم ويرحمنا ربنا الغفور ذو الرحمة.

ولا ننس العودة إلى حكاية يوسف وموقفه مع إخوانه في تلك اللحظة القاسية عليهم جميعا. يوسف يعرف إخوانه تماما وقد مر هو بنفس المسار النفسي. إنه هو أيضا مهتم بأبيه يعقوب ولكنه رسول علمه الله تعالى أن ينظر إلى أبيه كأب لا أكثر ويُعيد الفضل والمجد والشرف كله إلى الله تعالى.

وسنرى يوسف في حقيقته الطيبة الشريفة والنظيفة حينما نسعى لوصف حالته مع ربه بعد أن جمع سبحانه بينه وبين أهله جميعا في مصر وبعد أن أكمل يوسف رسالته الكبرى في تأسيس بني إسرائيل.     نهاية الهامش 61.)

(هامش 62: أود أن أحلل مغزى كلام يوسف داخل نفسه: أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون.

كان يوسف على علم بأن سرقته لقميص أخيه لا يمثل جريمة بل هو سعي لإكمال الرسالة على أحسن وجه ولإخبار الأب بسلامته وانتصاره حينما يقدر الله تعالى ذلك. فهي سرقة لكنها ليست سرقة محرمة. ولعل الأب هو المالك الحقيقي للقميص وقد سمح ليوسف بذلك. ثم إن حصول مثل هذه القضايا في البيوت ليس عيبا ولا يعتبر سرقة بل هو لصالح الأسرة أحيانا كما في تلك القصة.

لكنه يريد أن يَصُفَّ مع إخوانه فيقول دعنا نفترض بأنني سرقت قميص أخي ولكني سرقته لأتقي شركم أنتم الذين أردتم قتلي و إبعادي عن منزلي وأهلي ووطني. فأنا سرقت قميص أخي مضطرا وأنتم تآمرتم علي لمجرد الكبرياء والأنفة ودون أن يحق لكم ذلك. ما ذنبي أنا الطفل الصغير لو أحبني أبي؟ حتى مع وصفكم فأنتم شر مكانا والله يعلم بأنكم تعلمون سلامة أخيكم يوسف ولكنكم تسرون ضده العداء لخبث باطنكم وليس لحق لكم أو قصور مني. فالمكان هنا يعني الظرف الموصوف كائنا ما كان ولا يعني المنزلة والمقام. والله العالم.

ثم إن يوسف بعبقريته قرأ ما حصل بعده من مقولة إخوانه. عرف بأنهم فعلا لطخوا قميصه بدم كذب ثم ذهبوا إلى أبيهم به متذرعين بمقتله بأنياب الذئب، كما احتمله أبوهم حينما قال لهم: إني أخاف أن يأكله الذئب. وعرف بأن تغيير القميص كان مفيدا وبأنهم لم ينتبهوا وها هو يقرأ ما في ضمائرهم من كلامهم.

ونعرف من هذا بأن الأسرة أخفت القصة عن الأخ الصغير رأفة به، وإلا لكان هو القائل ليوسف حينما اختلى به في مكتبه. يوسف الآن يلعب دور المعلم الكبير فهو يخفي كل شيء عنهم كما يُخفيه عن أخيه احتمالاً.

هذه قدرة غريبة أن يكشف أخ بعد عقود سرا قديما لدى إخوانه بصورة مفاجئة ويتمكن من الاحتفاظ به في قلبه. فلأهمية القصة التي تؤكد على لياقة يوسف للمهمة الكبرى ذكرها الله تعالى لنا بأن يوسف كان قويا بحيث يتمكن من السيطرة على نفسه في أحرج المناسبات. فالعظماء يختارهم الله تعالى للمسائل الكبرى.

بالتأكيد أن نظرة يوسف إلى إخوانه قد أوحت إليهم بعض الشيء عن استيائه مما بدا منهم ولكنهم لم يتمكنوا أبدا من قراءة خَلَد أخيهم الذي لم يتعرفوا عليه بعد.    نهاية الهامش 62.  )

أحمد المُهري

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :

islamjurisdev@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.