تصحيح الاخطاء – يوم القيامة 1

تصحيح الاخطاء – يوم القيامة – القسم الاول ح 1 المقدمات

سيم في حلقات مسلسلة اعادة  نشر الاجزاء الخمسة عن يوم القيامة … وهذا المقطع من القسم الاول  … 

تصحيح الاخطاء – يوم القيامة – القسم الاول ح 1 – المقدمات 

يوم القيامة

مقدمات

نحن نشعر بأننا موجودون وأحياء بأبداننا لكننا نشعر بأن حياتنا غير ثابتة لا زمانا ولا مكانا ولا كيفية ولا شدة، فنحن معرضون للموت بالإمكان. وبما أن كل الذين سبقونا قد ماتوا وجدانا فنحن سنموت أيضا لأننا منحدرون عنهم وقد انحدر منا من هم مثلنا، ولا دليل على الشذوذ. هذه الحركة الدولابية تدل بوضوح أن الذي أوجدنا قرر أن نسير سيرا محدودا ثم نخلي المكان لغيرنا. والدليل على وجود الموجد وعلى الهدف من إيجادنا هو ما ذكره الله تعالى في نهاية سورة القيامة: أَيَحْسَبُ الإنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38). وخلاصة تفسيرها بأن كل إنسان يحمل نفسا منفصلة عن نفسي أبويه على أنه منحدر فيزيائيا عنهما ويحمل بدنا يشبه بدنيهما. فلو لم يكن هناك موجد هادف سبحانه، لكان النتاج الجديد يحمل نفسا يشبههما على غرار البدن. وليس الناس هكذا. إنهم نفسيا، أكثر تطورا من آبائهم وأمهاتهم على الأغلب.

وبما أن الله تعالى حكيم وكل فعاله حكيمة فلا بد وأن هناك حكمة للحياة لفترة قصيرة محدودة يعقبها الموت لا محالة. وبما أننا بأنفسنا نملك قسطا من الحكمة والعقل فلا يمكن أن تكون حياتنا غير هادفة تنتهي بموتنا، بل تمتد إلى ما وراء هذه الحياة. وإن كتاب الله يرشدنا إلى أن كل إنسان أو جني يمضي فترة اختبار في هذه النشأة التي تحمل بين طياتها الموت، لينتقل بعدها إلى حياة أبدية تحتوي على كل شيء عدا الموت والإنجاب والتملك وكل المقومات المميِّزة للنشأة الفعلية.

ثم إننا نعرف بأن الله حكيم وغني أيضا وهو يملكنا ويملك كل ما هو في الوجود فلا يمكن بأي حال أن يُعيدنا إلى الوراء. ذلك عيب على المالك القادر وهو سبحانه لا يعمل غير الخير ويأبى كل عيب وتراجع. والدليل على أن القسر عيب هو أن كل تغيير من الحكيم لا بد وأن يكون لحكمة أو مصلحة. فلو كان التغيير باتجاه التقدم فهناك مصلحة صحيحة باعتبار كسب المزيد؛ ولكن لو كان التغيير إلى القهقري فلا مصلحة فيه بل سوف يكِنُّ الخسارةَ التي يأباها كل حكيم.

إذن فهو  سبحانه من جانبه يقودنا إلى الأمام دائما وأبدا وكل تراجع فهو منّا. إنه تعالى لا يبخل علينا بالنصح وقد أهدانا أجمل كتاب ممكن ليعلمنا طرق الخير ولكننا اتخذنا رجال ديننا و أحبارنا ورهباننا مرشدين من دون القرآن فكان من نصيبنا التراجع الاختياري وليس القسري. فحينما نموت فإننا سوف ننفصل بأنفسنا عن البدن، وليس الموتُ إلا وسيلةً للانتقال إلى عالم أوسع وأكبر بكثير مما نحن فيه. مثالنُا مثال الذي يحزم أمتعته الشخصية متخليا عن بيته القديم لينتقل إلى بيت خيرا منه نزلا وأحسن رِئيا. فكيف ومتى يتم هذا الانتقال؟

الحياة:

كل النباتات تملك الحياة بدليل نموها وكل مجموعة نباتية تملك حياة لشخصها أيضا. فيمكن قطع أغصان بعض الأشجار الحية وزرعها في الأرض فتتفاعل مع مكونات النبات من ماء وطاقة وعناصر أرضية وتنمو وتتحول إلى شجرة تشبه الشجرة الأم. وهكذا الحيوانات بما فيها البشر. فكل خلية تتحلى بنوع من الحياة الخاصة بها بل بالشخصية الخاصة بها وكل عضو كذلك. ومجموع الخلايا أو مجموع الأعضاء تملك نوعا خاصا من الحياة هي غير الحياة الفردية للخلايا والأعضاء.  والخلايا والأعضاء على أنها تموت عند تعرض النفس للموت أو الانتقال إلى عالم آخر وانقطاعِ الارتباط بالبدن ولكنها تحمل حياة خاصة وتبقى فترة بعد الموت العام ويمكن إنقاذها وإبقاؤها حية لأغراض طبية وما شابه ذلك. ومما لا شك فيه أن كل أنواع الحياة مستمدة من الحي القيوم جل جلاله ووسيلة الحياة لدينا هي الطاقة التي أتتنا منه سبحانه، إما عن طريق أبينا آدم وهي تلك الحياة المسيطرة على كل الأحياء التي تمثل كياننا المادي مثل الأنسجة والخلايا والأعضاء (organs)، أو حياة المقاطع الصغيرة لوحدها. لكن هذه الحياة لا تمثل حياة الله تعالى وإلا لم يكن تَعَرُّضُنا للموت ممكنا باعتبار عدم إمكانية موت الجبار جل جلاله.

هذه الحياة بمختلف أشكالها تتقوى بالطاقة التي نكتسبها عن طريق الأغذية ولكن طاقة الله تعالى لن تتقوى بشيء. كما أن طاقة الملائكة أيضا لن تتأثر بالتغذية ولن تتقلص بالعمل لقوله تعالى في سورة الأنبياء: وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ (20). فالملائكة الذين هم عند الله تعالى باعتبار تجردهم لا يفترون عن التسبيح ويلزم ذلك عدم حاجتهم إلى التزود بالوقود أو التخلص من الفضلات فهم لا يحتاجون إلى الغذاء كما هو الحال عندنا. والنفس الإنسانية المجردة من البدن، فهي  مثل الملائكة باعتبار تجردها وحينما تتخلص من البدن فسوف نعرف بأننا لا نحتاج إلى نوم، والواقع أننا آنذاك لا يمكن أن ننام لعدم وجود مقومات وأعضاء النوم لدينا. والقرآن الكريم لا يشير إلى تعرض الإنسان للنوم الدنيوي بعد الممات. نعم سوف نرقد أو يرقد بعضنا بعد الدمار الكوني الشامل فنفيق من ذلك الرقود أو يفيق ذلك البعض فيقولون: من بعثنا من مرقدنا؟ كما سنعرف بإذن الله تعالى في هذا البحث.

 والسبب في عدم وجود الموت في الدار الآخرة  هو أن الإنسان ينتقل بنفسه إلى عالم البرزخ ولا يمكن للنفس أن تنام لعدم وجود مقومات النوم لديها والنوم أخ الموت، فإذا انتقل الإنسان إلى البدن الجديد وتعرض للنوم بعد أن تخلص منه في  البرزخ فسيكون ذلك عودا إلى الوراء وهو عيب على الله تعالى. ولذلك لا يمكن أن نتعرض للموت. وأما الدليل على أن النوم هو أخ الموت، فهو ما ذكره سبحانه في سورة الزمر: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42).فالذي ينام يتعرض للوفاة المؤقتة في الواقع ويجب بحث المعنى بدقة في التفسير بإذن الله تعالى. وقد أكد الله تعالى بأن الآخرة هي الحيوان وهو يعني بأنها خالية من معاني الموت وذلك في سورة العنكبوت: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64).

والطاقة الإلهية التي تخلق الحياة للنبات والحيوان وأبدان البشر هي في الواقع نفسها التي تخلق النفس والملائكة وغيرها ولكن تلك الطاقة دارت في مختلف المسارات المادية بأمر الله تعالى وتقديره فوصلت إلى نبات الأرض بعد تحول جوهري متكرر في حاملات الطاقة فهي الآن ليست نفس الطاقة التي تدور بين نفوسنا كبشر من كل الحيثيات. مثاله مثال الطاقة الهوائية التي تتحول إلى طاقة كهربائية فهي ليست الطاقة الهوائية ولا يمكن تركها للفضاء فتتحرك مثل حركة الطاقة الأم بل تحتاج إلى مراحل تحولية وتطورية لإعادتها إلى حالتها الأولى. لكن الطاقة الكهربائية نفسها لو سارت داخل المسار الصحيح لها دون أن تتغير فهي تبقى نفس الطاقة الأولية ولذلك فإننا ننقل الطاقة إلى جهاز التلفزيون فتسير في مكوناتها الإلكترونية كما تسير في مكوناتها الميكانيكية والضوئية وتقوم بمختلف الأعمال. لكننا لا يمكن أن نأخذ الطاقة التي تحولت إلى شكل آخر مناسب مع شاشة العرض لإدارة الأدوات الميكانيكية مباشرة. ولا ننس بأن الطاقة الربوبية أتت إلى الأرض عن طريق الشمس احتمالا وبعد تحويل الهيدروجين إلى هليوم والمرور على 20 مليون درجة مئوية. هي هكذا غير مؤهلة لمنح الحياة الأبدية بأمر الخالق جل جلاله أيضا.

أما الطاقة التي تتداولها نفوسنا عن طريق ما نسميها بالروح الإنسانية فهي نفس الطاقة التي أتى بها الروح القدس إلى خلية أبينا آدم ولم تتحول إلى طاقة أخرى بل تداولتها النفوس البشرية. وبما أنها طاقة رب العالمين فهي لا تنقص ولا تتغير إلا بأمره سبحانه، باعتباره مسيطرا على كل شيء ومحتفظا بهيمنته على كل خلقه، جل جلاله. هي في الواقع طاقة الحياة المميزة عن طاقة الحياة النباتية والحيوانية في الأرض حتى التي تتحلى بها أبداننا، وهي خاصة بنفوسنا. ولذلك نرى بأن أجهزتنا المادية تبقى فعالة بعض الوقت بعدما نسميه بموت الإنسان أو موت  النفس الإنسانية. ذلك دليل واضح على اختلاف بين روح البدن وروح النفس. والروح  يعني الطاقة الممدة للحياة، وهو غير النفس بلا شك. والمكان المناسب لشرح الروح بالتفصيل هو سورة الإسراء بإذن الله تعالى.

الموت:

الموت عبارة عن توقف الأجهزة البدنية عن الارتباط ببعضها البعض، فحينما يتم ذلك تحت أية دوافع سواء التعرض لقطع الرأس أو التصوب بالرصاص القاتل أو توقف النفـَس أو انجماد الدم أو توقف الأجهزة الرئيسية عن العمل أو توقف  المخ عن إعطاء الأوامر أو انعدام التغذية أو ما شابه ذلك، حينما يتم ذلك فإن الإنسان يموت حسب مفهوم الذين يبقون بعده. فالموت يعني أن يفقد البدن القدرة على التفاعل مع أجهزته، وحينذاك يتقدم ملك الموت وهو أحد الملائكة  التسع الموكلين بكل شخص منا، يتقدم ذلك الملك الكريم لإنقاذ النفس وفصلها عن البدن. إنه يسمى ملك الموت باعتبار قيامه بعمله حين الموت وليس بأنه يقتل الإنسان. إن الإنسان يموت تحت ظروف الطبيعة وليس بعمل الملائكة كما أظن. حتى الملائكة الذين يحملون مأمورية القتل أحيانا فإنهم يحركون الطبيعة أو الحيوانات لإجراء العملية وليس في كتاب الله ما يُشير بأنهم هم الذين يمارسون القتل فعلا. هذا الملك يقوم بعمله بسرعة أكبر من سرعة كل الماديات التي ألفناها مثل الضوء والانفجار، فهو أسرع تحركا من الضوء دون شك. ولذلك فإن النفس لن تموت مع البدن تحت أية ملابسات بما في ذلك التعرض للقنابل الهيدروجينية. وللاستدراك فهناك قصة واحدة قي الكتاب الكريم حول قيام عبد من عبيد الله بقتل غلام بأمر الله تعالى ويحتمل أن يكون ذلك الشخص ملَكاً لكننا لا نعرف هل قتله مباشرة أم عن طريق كائن آخر.

من هنا نعرف بأن ملك الموت هو الذي يُنقذ الإنسان عند الموت وليس هو الذي يقتله. وما ذكره المحدثون عن ملك اسمه عزرائيل وهو الذي يحضر لقبض الأرواح فإنها معلومات غير قرآنية وغير صحيحة ومأخوذة من الكتب المحرفة لليهود والمسيحيين. وما يقولونه غير مقبول عقليا فلطالما حصل حالة قتل عامة في الشرق في حين حصول ما يشابه ذلك في غرب الكرة الأرضية فكيف يُمكن لملك واحد أن يتجاوب معهما وهو ليس مثل الله تعالى وتقدس، بالتأكيد. لكن المسيحيين يعتقدون بأن الملائكة أرواح وبأن الله تعالى أيضا روح مثلهم والعياذ بالله.

دعنا ننتبه إلى ما نقوله فنحن نقول: إن فلانا قد مات والله تعالى يقول: الله يتوفى الأنفس حين موتها. ولم يقل: الله يقتل الأنفس حين موتها. والتوفي معناه استيفاء الحق أو استرجاع الأمانة، ليس إلا. إن الله تعالى يوضح ما نقوله بأنه انتقال إلى عالم نفقد فيه الإرادة وليس موتا كاملا. والناس لا شعوريا يهتمون باحترام جثث موتاهم حتى غير المؤمنين بالله فهم يشعرون في أعماق قلوبهم بأن صاحبهم لم يمت فعلا بل غاب عنهم. فمحصل كلامنا و أفعالنا تجاه الميت وما يقوله الكتاب الكريم هو أن الموجود العاقل الذي يحمل نفسا مدركة فهو يعود إلى الله تعالى. ومن لوازم العودة إلى الله فقدان الإرادة. فهل يُعقل أن يحمل الحاضرون أمام الله سبحانه، القدرةَ على إرادة شيء وهم يشعرون بحضرة الجبار العظيم سوى الخضوع والذل. الناس يفقدون الإرادة أمام الحكام والملوك الأرضيين فكيف يمكن لهم أن يُريدوا شيئا أمام الذي أخضع الكون الذي خلقه بكامله لنفسه والسماواتُ ستأتي مطويّات بيمينه ذو الجلال والإكرام.

الإرادة بالتحقيق هي الأمانة التي بيدنا لغرض الاختبار وسوف نفقدها إلى الأبد حين الموت إما عنوة أو باختيارنا. فأما فقدان الإرادة بالاختيار فليس في القرآن أكثر من مثال واحد عليه وهو أبونا إبراهيم لقوله تعالى في سورة النجم: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37). وأما بالاستيفاء فهو يشمل كل من هو غير إبراهيم في كرتنا الأرضية هذه كما يبدو. فكل الأنبياء عدا إبراهيم يُتوفون كما هو عليه كل الناس والجن. والذي يشبه إبراهيم في العودة باختياره إلى الله تعالى، هم الملائكة لقوله تعالى: تَعرُجُ الملائكة والروح إليه، وهو وقت موتهم، ولم يقل سبحانه: تُعرَج مثلا، والعلم عند الله تعالى.

فالإنسان الآن – ونقصد به بعد الموت –  فاقد للإرادة عاجز عن أن يُريد أو يعمل شيئا بمحض إرادته. ذلك لأن الإرادة في الواقع خاصة الله سبحانه وتعالى ولكنه استخلفنا إياها في حياتنا الدنيوية لغرض خاص ويمكن بحث هذا الموضوع وتحليله بصورة مطولة خارجة عن هذا المختصر. يفقد الإنسان مع موته كل ألقابه الدنيوية من الحكم والملك والمالكية والنبوة والنسب. فلا أب ولا أم ولا ابن ولا بنت ولا إمام ولا مأموم في الحياة الجديدة. كل ما يقوله المحدثون في هذا المجال محض خيال يخلو منه كتابنا السماوي الكريم. تلك أمانيّهم وما عند الله ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب. وموت النفس لا يعني فناءها بل يعني أن النفس تفقد مقومات التحرك والتمتع لديها وتفقد مملكتها التي كانت تتمثل في بدنها الذي عاش معها طيلة الفترة التي خلقت في بدايتها حتى لحظة تركها للبدن العزيز والمحبوب. هو موت جزئي باعتبار فقدان القدرة على الحركة الفيزيائية بالكامل وفقدان الإرادة كاملة معها. هذا الموت هو ليس أمرا عدميا ولذلك قال تعالى في سورة الملك: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2). فلو كان هذا الموت فناء حقيقيا لكان أمرا عدميا غير قابل لأن يُخلق. لكنه بنص القرآن موت وجودي ينسبه الله تعالى إلى نفسه بالإيجاب ويرادفه بالحياة التي هي مليئة بالوجود بطبيعتها.

وإذا كان الله تعالى هو الذي يخلق الموت لغرض وهدف الامتحان وهو المهيمن على كل أفعاله بالطبع لأنه غالب على أمره، فهو يريد أمرا آخر بعد الموت. لولا ذلك لكانت عملية الموت وإعادة الحياة عبثية غير ملائمة للذات القدسية جل جلاله. ومما لا ريب فيه أن الاختيارات الدنيوية سواء تحت رداء النبوة والرسالة أو رداء الملك والمال فهي كلها أَردية دنيوية محضة لا دخل لها في الحياة الأخروية. لو كان ذلك صحيحا لكان ملوك الأرض ملوكا في يوم الحساب. والواقع، أنه لا حاجة للأنبياء والرسل ولا للملوك والأمراء ولا للإداريين والمدراء في يوم الحساب وفي عالم الأبدية بالكامل. بالطبع أن الخبرات الفنية من الصناعات والهندسة والكيمياء وكل ما هو داخل ضمن إطار المهن والحرف سوف تبقى وتكون مفيدة احتمالا، ولكن ليس للحساب. إنها تفيد الحياة الإنسانية سواء في الجنة أو في النار. فأهل الجنة بالطبع يحتاجون إلى الطائرات وتوابعها والسيارات وما في نطاقها والقوارب وما يمخر في المياه ومعاصر الخمور ومعدات الألبان وكثير من الصناعات الغذائية وكذلك الصناعات الزجاجية والمعدنية ومصانع العطور وكل ما يحتاجه الإنسان الفردوسي ليهنأ بطيب العيش ورغد الحياة الناعمة المترفة.

عودة كل شيء إلى الله تعالى وحده:

 والله تعالى بنفسه الذي سوف يتولى كل الأمر وقد سمى المحكمة من الآن ونسبها إلى نفسه و أمر رسله بإبلاغ ذلك لأقوامهم وللبشرية جمعاء كما أوعز ذلك إلى الجن أيضا. وأتمنى أن ننتبه بأن هذا الموضوع صعب الفهم وليس أمرا عاديا وبأن غالبية الأقطاب الدينية في الأرض لا تدرك مغزى عودة كل شيء إلى الله تعالى وحده. فلو نمد الطرف إلى المجموعات  العشر من الآيات الحكيمة التالية ونعكف عليها مفكرين فلعلها تساعدنا على فهم هذه الحقيقة وإدراك حقيقة عودة كل شيء إلى الله تعالى وحده دون أن يتأثر بأي مؤثر غير الله تعالى:

1. الأنعام           : قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) والمخاطب هنا وفي الآية التالية هو نبينا عليه السلام.

2. الأنعام           : قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)

3. سورة الأنعام: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94)  

4. يونس: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (49) فلا يستأخرون الموت ساعة ولا يستقدمون عملا، والعلم عند الله تعالى.

5. مريم : إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)

6. سورة المؤمنون: حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ (101) ولعل كلمة ارجعون، باعتبار تعدد الآلهة لدى الإنسان المجرم والعلم عنده سبحانه. وأما الأنساب فتسقط حقيقة حين الموت باعتبار تفتت الخلايا وموتها التدريجي. والخلايا بالطبع هي عامل النسب بين الناس. هذه الأنساب لا يمكن إعادتها بأي حال من الأحوال بعد النفخة الأولى حيث تتفتت كل مكونات السماوات والأرض لتعود إلى عناصرها الأولية التي لا تختلف عن بعضها البعض حتى يُفعِّلَ الله تعالى فيها ما يشاء من تغييرات جوهرية تعطيها القدرة على البقاء الأبدي بإذنه المستمر جل جلاله.

7. سورة يس: إِن كَانَتْ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (54)

8. سورة الزمرإِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)والخطاب موجه لرسولنا عليه السلام.

9. سورة النجم والخطاب للمصطفى أيضا كما أنه له عليه السلام في آية الغاشية التالية أيضا: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاّ مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى (42) والهاء في ويجزاه يعود إلى السعي وهو مفعول ثان وليس بدلا، ومعناها: ثم يجزي الله الإنسانَ سعيَه.

10. سورة الغاشية :فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)

الحشر الفردي الأول:

وبعد أن يفقد الإنسان كل مستمسك دنيوي ظن أنه باق معه إلى الأبد فإنه يغمض عينيه ليفتح قلبه على ما حمله فعلا من علم وعمل ليواجه بهما ربه ويستوفي منه تعالى وحده جزاء أعماله ومكاسبه النفسية، إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا. والمقصود من حمل العلم والعمل هو آثارهما على النفس والتي تدل دلالة واضحة على حقيقة الإنسان مؤمنا كان أو مجرما.

وإن شئت سميت هذا الحشر بالحشر الفردي الأول. فهو حشر لأننا نشترك فيه جميعا وهو فردي لأننا سوف نلقى الله تعالى ربنا أفرادا غير متلبسين بأي نسب دنيوي حتى الانتساب إلى البدن الذي نفقده كشرط للقاء الله تعالى. وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ .. (الأنعام 93). وخلقنا أول مرة ليست إشارة إلى خلق البدن الذي يسبق خلق النفس عادة بل هو إشارة إلى خلق النفس التي تلقى ربها سبحانه دون شك. ولا ضير أن نعرف بأن الله سبحانه يخلق البدن أو مكونات البدن وهو الخلية الأولى المتشكلة من اختلاط جينات الأبوين ثم يسوي الله تعالى النفس لقوله تعالى في سورة الشمس: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7). فيعقب تلك العمليةَ، التكوينُ الجنسي للإنسان ذكرا أو أنثى لقوله تعالى في سورة القيامة: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى (39). وسوف يتضح معنى التسوية في التفسير بإذنه تعالى ولكن باختصار فهي تعني خلقَ نفس تُمثِّل وتتلاءم مع المادة الجديدة تماما. فالنفس نفس بشرية وليست نفسا جنية أو ملَكية أو حيوانية محضة وأما بقية الخصوصيات فسوف تتشكل بعد تشكل النفس عن طريق تركيب جينات الأبوين. وإلى هذا يُشير سبحانه في سورة الانفطار:  يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8) وأظن والعلم عند الله سبحانه بأن العمليات الثلاثة (الخلق المادي ثم تكون النفس ثم التكوين الجنسي) تتم خلال لحظات وفي الخلية الأولى وقد ذكر الله سبحانه تعاقب العمليات لنقف على حقيقة الموجود الذي سوف يُحشر للحساب، وبأنه غير متصف بالجنس.

معنى اللقاء مع الله تعالى:

وهي باختصار تمثل العودة إلى الله تعالى. و يمكن مراجعة تفسير  اللام في ألم من سورة البقرة: والعودة إلى الله تعالى معناها التخلص من المواد المؤقتة التي كانت تفرض نوعا من الهيمنة على النفس الإنسانية والعودة إلى التجرد. والتجرد يمثل عالما أقرب إلى الله تعالى من عالم المادة باعتبار سعتها ونفوذها في المادة. وعالم المجردات متدرج ولا يقف عند حد واحد، فالملائكة الذين هم أكثر تجردا من نفوسنا نحن البشر، فهم سوف يتجردون مرة أخرى في نهاية هذه النشأة.

يتبع … 

أحمد المُهري

#تطوير_الفقه_الاسلامي  

https://facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.