يوسف أيها الصديق ح 37 –تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ

تواصلا مع شرح سورة يوسف :

يوسف أيها الصديق ح 37 –تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ

على هذا الأساس أبدى يوسف اهتمامه الشخصي بهذا الرمز الهام بعد أن ادعى فقدانه من مكتبه بنفس الساعة التي استقبل فيها إخوانه الذين يعرفهم وينكرونه. ولنعد إلى الآية الكريمة. قال سبحانه مشيرا إلى القصة باختصار: فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70).

 تمت العملية بعد أو حين تجهيزهم بجهازهم. بمعنى وقت إعداد الأمتعة ووضعها على رواحل العير إيذانا بإعادتها إلى أصحابها مجهزة كاملة.

والرحل هو ما يوضع على ظهر الجمل ليضم المتاع أو الميرة وبجانبها احتمالا الجيب الخاص بالمسافر من رحله الذي يضع فيه حاجاته الشخصية ككوز الماء والهميان وأي شيء شخصي آخر.

فلو كان الصواع داخل المتاع أو كيس الحبوب لرد الإخوة ادعاء المؤذن بأن عمال يوسف هم الذين جهزوا المتاع وليس لهم يد فيها. ولكنها كانت في الجعبة أو الوعاء الشخصي الخاص بأخي يوسف من رحله.

ولذلك ما تمكن الإخوة من أن يدفعوا التهمة عن أخيهم الصغير. والذي زاد الطين بلة بأن الأخ الصغير لم يسع للدفاع عن نفسه؛ فكأنه تقبل التهمة واستسلم لها.

وبعد أن بدأوا بالرحيل الفعلي وساروا في درب العودة إلى وطنهم نادى منادِ الحكومة من ورائهم بأنهم سارقون.

بالطبع أن هذا النداء لا يعني توجيه تهمة السرقة إليهم جميعا بل يعني بأن هناك شيء مفقود يريدون الكشف عنه. فالنداء لمجرد لفت انتباههم ليقفوا أو يعودوا راجعين إلى المستودعات المركزية.

ولذلك فلم يبد الإخوة أي استياء في المرحلة الأولى بعد استماعهم للنداء المنطوي على تهمة السرقة.

ولعلنا نعرف بأن السرقة في القرآن لا تعني اللصوصية بل تعني السرقة الصغيرة وتُطلق على لصوص المنازل وما في حكمها برأيي. ولذلك:

قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ ﴿71﴾.

فغيروا وجهتهم من إدبار إلى إقبال بكل ثقة لأنهم يعلمون براءتهم جميعا من السرقة. وأما السر في السؤال عمّاذا يفقدون فهو لأنهم يسعون لإثبات أنهم لا يحملون شيئا من ممتلكات المخازن المركزية 58.

قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ ﴿72﴾.

 وواضح من جواب المجموعة اليوسفية بأن هناك أمرا مزعجا حصل لهم وهم مستعدون لمنح جائزة لمن يساعدهم على إزالة ذلك الانزعاج. فخاطبوا الغرباء القادمين من خارج مصر بأنهم يفقدون قطعة ملكية موجودة بيدهم. تلك هي رمز الطاعة والانصياع لديهم. ولذلك أردف القائل بأن هناك جائزة لمن جاء به وهو حمل بعير من الحبوب.

وجاء به بمعنى أنه ساعدهم على الكشف عنه إذ لا يتوقعون من السارق أن يعيد سرقته بهذه السهولة. ولا ضير بأن نعرف بأنهم لو أرادوا إعادته فعلا لقالوا: أتى به. الإتيان هو الإيصال إلى الهدف وليس المجيئ به. 

وهنا وصل يوسف الذي يبدو بأنه هرول من مكتبه ليصل إليهم فيشارك عماله في الكشف عن المسروق. أضاف يوسف على قول موظف المستودعات:

وأنا به زعيم. والزعم من الزعامة وليس من الزعم بمعنى القول الأقرب إلى الكذب. والزعامة تعني الكفالة أو الرئاسة.

أدخل يوسف نفسه في القضية ليطمئن الإخوة (الغرباء) بأن ليس هناك أية محاولة لإيذائهم ولكنهم فعلا في حالة غير صحية لأنهم يفقدون حكما مهما يؤثر في شرف العمل لديهم. فقال لهم بعد أن أعلن المسؤول الحكومي التابع له جائزة العثور على الضيعة، بأنه يضمن الجائزة من طرفه ليطمئنهم بصحة ادعاء عماله.

والمسروق كما يبدو ليس شيئا مفيدا للعمال الذين قد لا يدخلون غرفة العزيز. وهناك احتمال الفضول لدى بعض الغرباء أن يأخذ كل شيء غريب لديه دون أن يعرف قيمته وتبعاته. فتوجيه التهمة لمثلهم ليس شاذا ولا مهينا لو كانوا فعلا فاقدين لصواع الملك.

يشعر المحقق بأن يوسف وعماله أبدوا حسن النية وبأنهم لا يرغبون في شيء أكثر من استعادة المفقود. بمعنى أنهم طلبوا من المتهمين مساعدتهم ولو مقابل المال.

بالطبع فإن يوسف يعرف بأن إخوانه غير مستعدين لتقبل تهمة السرقة باعتبار أنها تجرح كرامتهم ولذلك فهو بصدد إكمال مؤامرته ومكره من دون معرفة عماله. إنه كما سنعرف يقصد تأديب إخوانه لعله يؤهلهم لحمل الرسالة.

شعر الإخوة بالكثير من الضغط النفسي وبأن العزيز قد أذلهم وسلبهم عزهم حينما اتهمهم بالسرقة ولو بطريقة هادئة.

ومن الواضح أن تعليمات يعقوب قد آتت أكلها فلم يصروا على أنهم غير سارقين بل سعوا لإثبات أنهم لا يمكن أن يكونوا سارقين لما رأى يوسف وأعوانهم منهم من حسن النية والوفاء بالوعد.

رأوا بأن من الخير لهم بأن يدعموا ادعاءهم بالحلف بالله تعالى. كل ذلك إلى جانب اعتقادهم بأن المفقود ليس في أيديهم.

ولولا التغيير الذي أوجده يعقوب بتوفيق من ربه في ضمائرهم لألحوا بأنهم ليسوا سارقين ولم يحلفوا ولم يسعوا لإثبات حسن النية.

إنهم يعرفون بأنهم قد يتعرضون للتفتيش ولكنهم يريدون أن يبقوا طيبين مسالمين في عيون العزيز وأعوانه ولا يريدون استفزازهم ضد أنفسهم. وواضح بأنهم سوف يستسلمون للتفتيش بدون مقاومة مع أنه مهين لهم. فـ

قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ﴿73﴾

 التاء حرف قسم متضمن لمعنى التعجب كما يقول الزمخشري. وقد ذكره ابن هشام دون أن يرد عليه فابن هشام يؤيده أيضا. وأظن بأنهما مصيبان كما أن العديد من أصحاب الصناعة في النحو واللغة يسندونهما. و إضافة معنى التعجب إلى القسم سواء بلغة معلومة بينهم أو بإضافة حركة بدنية تدل على التعجب؛ فأحتمل بأن الله تعالى قد جمع تلك الحالة مع القول اللساني بذكر (تالله) بدلا عن صيغ القسم الأخرى.

مقولة الإخوة تمثل نوعاً من التعامل السلمي الذي يخالف دأب بني إسرائيل.

ولعل من الخطأ أن نظن بأن بني إسرائيل كانوا في تلك الحالة يواجهون قوة قاهرة لا يمكن لهم مقاومتها والتصدي لها وليس لهم إلا ذلك النوع من التجاوب مع التهمة الموجهة إليهم.

كان أسلوب تعامل العزيز الودي معهم حتى تلك اللحظة مثيراً للظن بأن ليس هناك استعمال شديد للقوة. والحقيقة أنهم قد تغيروا كثيرا وأصبحوا يدركون بأن القوة والكرامة ليستا في العائلة بل هما مكتسبتان. بالطبع أن آثار الكرامة العائلية لا زالت شديدة عندهم كما سنعلم بعد قليل.

فيكون مغزى رد الإخوة هو: نحن نستغرب والله بأنكم توجهون الاتهام إلينا بعد أن أدركتم بأننا أثبتنا صدقنا معكم وأدركتم بأننا أتينا نمير أهلنا مثل بقية الناس وبأننا لا نبغي أي فساد في الأرض.

إن الذي يريد الفساد لا يمكن أن يظهر أمام المسؤولين ويُعرّف نفسه لهم ويأتي إليهم بكل إخوانه. ادعينا بأن لنا أخاً صغيرا فأكرمتمونا بسهمه وطلبتم منا إحضاره ووعدناكم به وأوفينا بوعدنا مع صعوبة إقناع أبينا العجوز. فأين نحن من هذه التهمة الغريبة التي لا تناسب شأننا؟

لكن يوسف يعرف كل شيء وينوي أن ينفذ مهمته الكبرى في تأسيس أسرة قوية هي أسرة بني إسرائيل الموعودة بحمل التوراة العظيم. إنه يدرك مسؤوليته في إصلاح إخوانه قبل كل شيء وقبل أن يرى إخوانه الخير والمال والكرامة في مصر.

لقد مر هو بنفس الحالة حينما تحدث إلى صاحبيه في السجن وها هم إخوانه يُظهرون نفس الكرامة العائلية ناسين بأن الفضل كله لله تعالى وليس للأسر.

وسنرى قريبا بأن يوسف كان محقا في كيده. يريد يوسف أن يحطّ من غرور إخوانه واحداً واحداً لعلهم يهتدون.

هو الآن في مفترق خطير قد يؤدي إلى عدم نجاح مكره حتى النهاية. إنه يحتاج فعلا إلى هداية ربه ليعلمه ماذا يقول فيأخذ أخاه أخذاً موجعاً لقلوبهم فتنكسر شوكتهم أمام أبيهم فيشعرون بالضعف الحقيقي لديهم لعلهم يدركون بأن القوة لله جميعا.

علمه ربه بأن يقول الجملة التالية فليس لهم آنذاك إلا الجواب الذي سمعه منهم. لقد حبذ يوسف ألا يقول بنفسه الجملة التالية بل أشار إلى فتيانه احتمالا فامتثلوا لأمره، و..

قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ ﴿74﴾ قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ﴿75﴾

قلنا بأن تهمة السرقة مشينة للذين يهتمون بعوائلهم بعكس تهمة الغصب والظلم العلني. لقد تألم آباء بني إسرائيل كثيرا حينما احتمل الوزير المصري السرقة فيهم وكانوا على ثقة بأنهم لم ولن يقوموا بمثل هذا العمل المعيب. ولذلك فإنهم وبكل قوة عينوا أكبر وأعتى جزاء ضد السارق كما يريده يوسف.

لم نسمع أبدا بأن يستعبد أحد السارق جزاء على سرقة بسيطة يأتي بها أول مرة، لكنهم أرادوا إثبات براءتهم بكل قوة واطمئنان.

وأظن بأن مفعول الظلم المحتمل لديهم هو أسرتهم النقية وليس الذين سُرق منهم.

لقد تقبلوا أولا بأن وجود المسروق في رحل الشخص دليل على حصول السرقة كما عينوا الجزاء الأكبر له وهو المطلوب لدى يوسف ثانيا. ثم إنهم لا شعوريا تقبلوا التفتيش إذ لا يمكن التيقّن بعدم وجود المسروق في الرحل دونه. أما يوسف فهو لا يريد كشف السرقة ولكنه يريد تأديبهم وكسر كبريائهم الاجوف كما قلت.

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ﴿76﴾

أبى يوسف أن يقوم عماله وفتيانه بتفتيش إخوانه كما يبدو فقام بنفسه بالعمل. بالطبع أن ذلك يعطيهم نوعا من السلوان بأن الوزير قام بالتطلع إلى جيوب الرحال.

والوعاء برأيي هو جيب مضاف إلى الرحل ليضع المسافر فيه أمتعته الشخصية التي يحتاجها في السفر.

لم ينج أحد منهم من التفتيش فتعرضوا جميعا للإذلال.

لم ينبس الأخ الاصغر بكلمة دفاع  واحدة ما أثار كوامنهم كثيرا وأصبحوا لا يطيقونه ويتوقعون أمرا يريحهم من طيلة بال الأخ الذي تقبل التهمة بكل سهولة.

ولعلهم ظنوا بأنه قد سرق فعلا ولكنهم انزعجوا منه كثيرا لأنه سبب الخذلان لأسرة يعقوب.

كان الكيد فعلا قويا ولم يكن ببال يوسف لولا مشيئة الله تعالى. وأظن بأن الله تعالى نسب الكيد إلى مشيئته باعتبار أنه سبحانه لم يخالف قوانين الدولة التي لا تسمح أبدا بأن يأخذوا أحدا مقابل سرقة بسيطة ولكن الإخوة قد حكموا عليه وتقبل هو الحكم دون جدال.

فالقضية سارت ضمن النظام العام باعتبار أن يوسف عاملهم بما كتبوه على أنفسهم وليس باعتبار القوانين الحكومية في مثل هذه القضايا 59.

لقد قرر إخوته العقاب الأليم لأخيهم الذي ثبتت عليه التهمة ولم يدافع عن نفسه، فأضحى من حق يوسف أن يحتفظ به عنده.

وأما المقطع الأخير من الآية فأظن بأن العليم المذكور بصيغة النكرة (فوق كل ذي علم عليم) هو الله تعالى باعتبار أنه سبحانه يمكنه التجاوب مع كل عبيده بالقدر الذي ينطوون عليه من علم ومعرفة وذكاء. فهو ليس كعلماء البشر الذين تنحصر قدراتهم التعليمية بل العلمية في مستويات محدودة فنرى أستاذ الجامعة عاجزا عن تدريس أطفال الحضانة لوجود الفاصل الكبير بين أسلوبي التفكير لدى الطفل و لدى المتعلم الذي يحظى بقدر كبير من المعرفة.

لكن الله تعالى يساعد كل ذي شأن بقدر شأنه فهو لا يهتم بعلمه هو سبحانه و لكنه ينزل إلى درجة المتعلم ليعطيه الحكمة بما ينسجم معه تماما. فهو عليم بكل حال وبكل شأن  (جل جلاله).

والذين ظنوا بأن المقصود هم العلماء غير الله تعالى فأظن بأنهم لم يصيبوا. ذلك لأن الله تعالى هو ذو علم وليس فوقه عليم 60.

يتبع …..

(هامش 58: هذا هو معنى السرقة فعلا في منطقهم. هو بأن يفقد أحد شيئا فيظن بأنه مع الذي كان متواجدا عنده. هي فعلا ليست اللصوصية ولا السرقة المبرمجة المعروفة حتى آية السارق والسارقة تخص السرقات البسيطة المنزلية ولا تعني السرقات الكبرى والعلم عند الله تعالى. هناك مسألة يجب الانتباه إليها وهو أن السرقة عند أصحاب الشأن عيب كبير باعتبار دلالتها على الضعف والسعي للعمل في الخفاء. لكن أصحاب النفوذ وأبناء الأسر الكبيرة فإنهم يغتصبون دون خوف أو وجل ولا يقومون بالسرقة التي تعني جلب شيء في الخفاء. فمثلا زعماء دولة العصابات الصهيونية والعنصرية الفعلية في إسرائيل يغتصبون مدنا وقرى للغير بالقوة ويعلنون عنها ولا يعتبرونها عيبا، لكنك لو تتهم أيا منهم بأنه سرق حذاءك مثلا فسوف يقيم الدنيا ويقعدها عليك لأنك اتهمته بالسرقة المعيبة. نهاية الهامش 58.)

(هامش 59: وأما ما نقرأه في آخر الآية من أنه سبحانه يرفع درجات من يشاء، فهو باعتبار أن يوسف استعمل ذكاءه و عبقريته ولم يستلم وحيا ولكنه استحق العناية فعلمه ربه. قال تعالى في سورة البقرة:

اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257).

إنه عز اسمه يساعد المؤمنين المخلصين جميعا ويعينهم على نيل أهدافهم الإيجابية النبيلة. فلقد تعلم يوسف شيئا جديدا وهو أن لا يتشبث دائما بالقوانين بل يسعى لأن يؤاخذ الناس بما تعهدوا به فهو أكثر قبولا لديهم وأقل ثقلا على قلوبهم، على ما أظن.     نهاية الهامش 59.)

(هامش 60: لعل القارئ الكريم يتساءل لماذا تغيرت الإشارة إلى الله تعالى عدة مرات في جملة واحدة.

 مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.

 فالمشيئة الأولى منسوبة إلى الله تعالى باعتبار أن تعليم العلم يدخل ضمن نظام المشيئة وهي تمثل أهم قانون يحكم كل الكائنات الممكنة في الكون ولا يمكن تحاشيه أبدا باعتبار تأثيره في كل شيء.

ذلك لأن العلم يمثل انطباع الكلي في الذهن بحيث تتقبله النفس وتعتبره حقيقة توصلت إليها بعد جهد وإلا لا يمكن تصور القبول لدى النفس العاقلة. ولن يتأتى ذلك بالإرادة، فلا يمكن أن نتصور بأن الله تعالى وبلمحة عين علَّم يوسف علما جديدا. وليس ذلك لضعف في القدوس عز اسمه ولكن الضعف فينا نحن البشر الذين نعيش مع الضعف دائما وأبدا حتى في جنات النعيم؛ رزقنا الله تعالى دخولها.

ولذلك فإنه سبحانه وضح لنا بأن المفهوم العلمي ليس من نوع العلم الابتكاري ولكنه تطوير للعلم الموجود لدى يوسف، فقال عز سمه: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء.

وأما المشيئة الثانية فهي لأن رفع الدرجات لا يتم إلا بوجود استعداد كامل للمنعَم عليه ليتقبل ويتطبع بها وإلا لم تتم العملية لعدم تكامل العلة المفعولية.

وأما الانتقال من ضمير الغائب الذي يُشار به عادة إلى نظام الألوهية إلى ضمير المتكلم مع الغير في الجملة المذكورة فهو لأن الله تعالى وحينما يريد إحداث أمر قبل أوانه لضرورة فإنه يستعمل هذا الضمير لإثبات أن أسباب النعمة كانت متوفرة ولكنها لم تتكامل فمنَّ الله تعالى على المنعم عليه لسبب من الأسباب بإحداث التغيير وعدم الانتظار لحين تكامل حيثيات المشيئة أو الإرادة.

ولو ننظر إلى بداية سورة الفتح مثلا سنجد نفس التعليل باعتبار أن حيثيات الفتح لم تتكامل ولكن هناك ضرورة أخرى ولعلها قرب وفاة الرسول باعتبارات أخرى لا يمكن تأجيلها، هذه الحيثيات أكملها الله تعالى بلطف خاص منه فسوف يقوم نظام الألولهية بالمغفرة الضرورية للرسول وإكمال أسباب الفتح ودوافعه.

وأما العليم الذي يتضمن ضمير الغائب الذي يُستعمل عادة لبيان النظام الألوهي فهو باعتبار أن الشأن شأن ألوهي لتبقى الكائنات كلها خاضعة خضوعا حقيقيا لله تعالى. وهو ليس شأنا ربوبيا باعتبار أن التحديث ليس للتعليم والتطوير فحسب ولكنه لقبول الألوهية أو الخضوع المتكافئ مع النظام وليس الخضوع القسري كما نراه في الترتيبات الدنيوية، والعلم عند الله تعالى.   نهاية الهامش 60.)

أحمد المُهري

تابع مركز #تطوير_الفقه_الاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

ان كان لديكم الرغبة في الانضمام لمجموعة النقاش في المركز برجاء ارسال بريد الى :

islamjurisdev@gmail.com

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.