المؤمنة كاترين -34 – الفرق بين الوصايا والحكم والمواعظ القرآنية 4

المؤمنة كاترين

المقطع الرابع والثلاثون

الفرق بين الوصايا والحكم والمواعظ القرآنية – 4

وعلى طاولة الفطور في فندق سحر الكويت أعادت ماري الشيك الذي منحته الشركة لها لتجهيز الشقة إلى دي جاردن.

ماري:

لقد عرضت علي صديقتي كاترين شقتها الجاهزة والمرتبة والمفروشة أيضا لأستأجرها من المالك مباشرة بما فيها من ديكور ولم ترض لتأخذ مني المقابل لما صرفت على الشقة. ولذلك فأنا لا أحتاج إلى المبلغ لأنني حصلت على شقة بالمجان.

قدمت  الشيك غير المصروف لدي جاردن.

دي جاردن:

عزيزتي ماري، فعلا أنت أمينة ومخلصة. هذا المبلغ هو لك ولست ملزمة لإعادته إلينا. لو أن صديقتك منحتك شقة بالمجان فأنت أيضا سوف تكافئينه بهدايا ثمينة يوم زواجها. فخذي المبلغ ودعيه في حسابك واعتبريها جزء من حقوقك علينا.

ماري:

شكرا إيمانيويل ولكنني لا أستحق هذا القدر من المال. على كل حال فليس من حقي أن أرد المبلغ ما دمت مصرا على تمليكي إياه.

لا فرانس:

عزيزتي ماري؛ أمامك مصاريف كثيرة في المستقبل فحاولي أن تجمعي بعض المال في حسابك تحسبا لليوم الأسود. واسمحي لي بأن أسألك سؤالا. هل أنت مسلمة والإسلام علمك هذا القدر من الأمانة والإخلاص الذين أراهما فيكِ. أنا فعلا فخور بكِ وأظن بأن دي جاردن لا يخالفني.

دي جاردن:

فعلا أنا أفتخر وأعتز بك ماري وأشعر بالراحة والطمأنينة بأن اختياري لعملك الجديد كان صائبا. أنتِ في قلوبنا فوق كل شيء.

ماري:

شكرا لكما وأنا أفتخر بأنني أخدم تحت إمرة أناس طيبين من أمثال إيمانيويل وماكسيم. أتمنى أن أكون وفية لكما وللشركة وأن أتمكن من جلب رضاكما ورضا وكلائنا في الكويت وكذلك رضا عميلنا الكبير شركة النفط الكويتية. وأما بالنسبة لسؤال ماكسيم فأنا باعتباري درست العربية واطلعت بحكم دراستي على القرآن الكريم شعرت بأن الدين الإسلامي هو عين الديانة التي أتى بها موسى وعين الديانة التي أتى بها المسيح عليهما السلام. فكما أن المسيح أحل بعض ما كان محرما أيام موسى وأتى بكتاب ينطوي على مفاهيم جديدة ومعالم تربوية رائعة تساعد الناس على المزيد من التفاعل مع ربهم فإن محمدا أيضا جاء بكتاب موافق للتوراة والإنجيل ولكنه مهيمن عليهما.

هناك فرق واضح بأن الإنجيل يأمر وقلما يأتي بالسبب وهكذا التوراة ولكن القرآن حريص بأن يقول لك السبب في المنع أو في الأمر. لاحظت بعد المطالعة بأن الله تعالى فعلا أراد أن يختم النبوة بمحمد فلا وحي بعده ولذلك أودع القرآن كلما يحتاج إليه الناس من مفاهيم غيبية في غياب الرسل. فالناس فعلا لا يحتاجون مع وجود القرآن إلى رسول بشري. القرآن هو الرسول الذي يساعدهم ويمدهم بكل ما يحتاجون إليه من غيبيات. شعرت بأن الإسلام دين تكميلي فقط والقرآن يعتبر نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وبقية الأنبياء مسلمين. المقصود هو التسليم لله تعالى وليس أمرا آخر. لكن البشر تطوروا كما نراهم ولا يحتاجون إلى من يفسر لهم أوامر الله تعالى ما داموا يفكرون في القرآن. فأنا من الذين هادوا وأنا من الذين قالوا إنا نصارى وأنا من الذين آمنوا بمحمد وبالقرآن.

دي جاردن:

متى موعد زواج كاترين مع علوي؟ أحب أنا أحضر أنا وماكسيم لو كان موافقا، لنرى زواج المسلمين لنتعرف عليهم أكثر مما نعرفه اليوم. فهل بالإمكان أن يدعوننا أيضا؟

ماري:

سوف يفرحان كثيرا وأنا قائمة بمساعدتهما في إعداد الحفلة.

لا فرانس:

لا تنسي بأن تدعوني أنا أيضا.

ماري:

بالطبع ماكسيم.

وفي فرصة الظهرية صلت ماري بسرعة في غرفتها وأخذت سندويتشة تتغدى عليها وتحركت نحو كاترين بسرعة.

ماري:

كاترين؛ هل يمكن أن ندعو دي جاردن ولا فرانس للعرس؟

كاترين:

بكل تأكيد وعلى الرحب والسعة. سأخبر علوي لأنه سوف يفرح كثيرا. إنه سر بهما يوم أن زارا البنك وقال لي بأنهما لبقان طيبان ويعلمان ما يفعلانه بكل دقة.

ذهبت كاترين وماري إلى غرفة علوي وقالت لها كاترين طلب ماري.

علوي:

يشرفني دعوتهما وأنا شاكر لماري كثيرا.

قدمت كاترين بطاقتي دعوة باسم الضيفين الفرنسيين، وإذا بأبي سحيم يدخل غرفة علوي.

أبو سحيم:

سلام عليكم. ما الخبر يا كاترين. أرى بطاقات عرس متبادلة بينكم.

كاترين:

هل علمت عمي أبا سحيم بأنني وعلوي اتفقنا على الزواج وسنقوم بحفلة بسيطة. لكن ماري صديقتي الفرنسية الجديدة تحب أن ندعو اثنين من مدراء شركة شاتو دي لا لوار الفرنسية الحاضرين في الكويت. لقد تعرفنا وأنا وعلوي عليهما و أعجبنا أخلاقهما ونحب أن يشاركانا الاحتفال.

أبو سحيم:

وأنا وأم سحيم لا نحضر زواج كاترين. يا للمصيبة! كيف أواجه أم سحيم حينما تعلم بالخبر وهي تحب كاترين وتعتبرها مثل ابنتها.

كاترين:

أنت عمنا وأم سحيم أكبر من خالة لنا. نحن نتشرف بكما ولكننا لم نتقدم بالدعوة لأن الحفلة بسيطة دون مستواكما.

أبو سحيم:

نحن نحب كاترين ونحب علوي ولا يهمنا الحفلات الكبيرة المليئة بالترف. الحفلات الصغيرة تحمل حرارة الحب والإيمان ويشعر الحاضرون بأنهم يحبون بعضهم ويتحدثون ببساطة ويسر وبدون تشريفات.

وفي هذه الأثناء استغل علوي فرصة المحاورة بين كاترين وأبي سحيم وأحضر بطاقة دعوة باسم أبي سحيم وأم سحيم وقدمها لأبي سحيم.

علوي:

لنا الشرف أن نستقبلكما في زواجنا. وهكذا كل زملائنا الذين يعملون معنا في دائرة الاعتمادات المستندية سوف يفرحون بأن يروا أم سحيم في الحفلة.

أبو سحيم:

شكرا وسوف تفرح أم سحيم بالدعوة لأنها تحب كاترين كثيرا. كما أنني أحب علوي وكاترين معا.

عاد أبو سحيم إلى المنزل وقدم بطاقة الدعوة لزوجته قائلا:

أبو سحيم:

كاترين سوف تتزوج مع علوي بعد أيام وقد دعوانا لحضور زفافهما.

أم سحيم:

خبر طيب ومفرح وأنا مسرورة بأن أشاركهما أجمل ليلة في حياتهما راجية لهما كل الخير من ربنا عز اسمه. ولكن دعني أسألك: أليست كاترين مسيحية وعلوي مسلم ملتزم جدا فكيف اتفقا وهما على دينين مختلفين؟

أبو سحيم:

هناك أخبار وراء الستار وما انتبهت لأسألهما عنها. منذ أيام أرى كاترين تلبس الحجاب فلعلها أصبحت مسلمة.

أم سحيم:

سوف نعرف ذلك ليلة الحفلة. وأنت تعرف مدى حبي لهذه الفتاة التي أعتبرها ابنتي وأتمنى لها التوفيق من كل قلبي. سوف أقدم لها هدية مناسبة فهل تساعدني في ذلك.

أبو سحيم:

يا أم سحيم، أظن بأن أفضل هدية نقدمها لهما هو المال. إنهما في مقتبل العمر ويحتاجان إلى كثير من المصاريف التي لا نعلم عنها الكثير. أظن بأنك تزورها غدا وتقدم لها شيكا بمبلغ ثلاثة آلاف دينارا هدية منك للزواج. هكذا نساعدها في مصاريف الزواج أيضا.

أم سحيم:

ولما ذا لا أذهب الآن فلعلي أساعدها على إعداداتها للحفلة. إنها عزيزة علي وأحب أن أراها على أجمل حال.

أبوسحيم كتب الشيك بخمسة آلاف باسم كاترين وقدمها لزوجته.

أبو سحيم:

إن الهدايا على مقدار مهديها. الخمسة خير من الثلاثة.

أم سحيم:

شكرا أبو سحيم.

خرجت أم سحيم قاصدة البنك ودخلت على كاترين.

أم سحيم:

سلام عزيزتي كاترين. مبروك الزواج وشكرا على الدعوة. هذا مبلغ بسيط هدية مني إليك لعلها تساعدك قليلا على مصاريف الزواج. سوف نحضر الحفلة بكل سرور فأن أحب أن أراك في ملابس الزفاف.

كاترين:

شكرا أم سحيم. وشكرا على الهدية وهي كبيرة. إن حضورك وحضور العم أبو سحيم شرف لنا فأنتِ أكبر من خالة لي. أشعر في أعماقي بالحب لك وبالاحترام والإكرام. ولولا أنني أشعر بأنك تحبيني لما قبلت هديتك لأنها أكبر من هدية زواج.

أم سحيم:

أهلك في الجزائر ونحن أهلك في الكويت ونفرح أنا وأبو سحيم بأن نكون عونا لك ولعلوي. أنت مثل واحدة من بناتي. أكون مسرورة لو تقولي لي كل ما تحتاجينه متى ما شعرت بالحاجة إلى شيء دون خجل أو وجل.

ثم ذهبتا معا إلى غرفة علوي لتبارك له أم سحيم بالزواج.

أم سحيم:

مبروك علوي. كاترين ابنتي وأنا فرحانة جدا بزواجكما فأنت جدير بأن تحبها وتساعدها وهي جديرة بأن تكون عونا لك ووفية للحياة المشتركة. أدعو الله تعالى لكما بالخير والسعادة.

شعر علوي بالخجل الكبير وبدأ العرق يتصبب من جبينه.

علوي:

شكرا أم سحيم. وقد بارك لنا العم أبو سحيم قبل قليل فأنا أشعر بأنكما أهلنا وعون لنا.

كاترين:

والخالة أم سحيم قدمت لي هدية الزواج وهي خمسة آلاف دينار كويتي. قبلت الهدية لأنها من أم سحيم فهي كبيرة في عيوننا وهي في قلبنا وأتشرف بأن تتقبل دعوتي لهما لحضور حفلة الزفاف مع العم أبي سحيم.

علوي:

لا أعرف كيف أقدم الشكر لك أم سحيم. إن حضورك ومباركتك لي ولكاترين أكبر من الوصف وأنا أجهل تقديم الشكر المناسب. أنا معتز جدا بالعم أبي سحيم وبك خالتنا الكبرى.

أم سحيم:

شكرا ونراكما بالخير والسرور في الموعد.

ودعتهما أم سحيم وهي فرحانة بما سمعت منهما من إظهار للحب والود.

كاترين متحدثة مع علوي بحضور ماري التي شهدت كل شيء:

انظر علوي. بالأمس رفضت شيك ماري التي قدمتها لي قيمة ديكور شقتي التي ستستأجرها من المالك. أنا فرحانة بأن ما صرفته على الشقة استفدت منه وسيبقى للعزيزة ماري. كان شيك ماري خمسة آلا ف دينارا. وها هو خمسة آلاف أخرى أرسلها الله تعالى لنا من شخص لا يمكننا رده. أتمنى أن تكون ماري فرحانة الآن. لقد دفع الله عنها أضعاف قيمة الديكور. سنرى ماري سنتين أخريين وسندخل شقتنا السابقة كثيرا لأنها ستضيف الجلسة أحيانا. أرادت أن أكسب مبلغا وها أنا ذا كسبت المبلغ وهي لم تخسر شيئا. هكذا يعوض الله تعالى عبيده المخلصين.

ماري:

نعم الرب ربنا يا كاترين ويا علوي. أتمنى أن نستحق رحمة ربنا. إنه كريم فهل نحن أيضا كرماء؟ هل تعلمنا منه أن نكرم عبيد الرحمن كما أكرمنا الرحمن عز اسمه؟ أشعر بالحب الشديد لربي ولا أدري كيف أقدم له الشكر الخاضع. كل ما يأتيني منه جميل وممتع وأشعر بأنني مغمور برحمة لا أستحقها لكنه كريم سبحانه وتعالى.

كما أنني أشعر بالسعادة لأراكما سعيدين. كنت أحب أن أقدم لك مالا يساعدك يا كاترين ولكن الله تعالى بعث لك المال من مكان لا يمكنك رده. ولعلمك فلقد حاولت أن أرد الشيك على الشركة ولكنها رفضت وقال لي دي جاردن بأنه لي وسأحتاج إليه مستقبلا وبأن الشركة لن تسترجع المال. أعتبر أن ربي بعث لي مبلغا كبيرا وبعث لك مبلغا مشابها دون أن نطلب منه غير رضاه علينا. كيف لا نحب ربنا وهو يغمرنا بكرمه؟

كاترين:

فعلا وبالنسبة لي ولعلوي فأنت يا ماري نعمة أرسلها الله تعالى إلينا لتساعدنا. فأنا ممنونة لك وأشعر بالغبطة حينما تزوريني. فلا تبخلي علي.

ماري:

شكرا لكما وقد انتهى وقتي وعلي العودة إلى الفندق للعمل مع إيمانيويل وماكسيم. إلى اللقاء.

كاترين وعلوي:

إلى أن نلتقي.

قدمت ماري بطاقتي الدعوة لإيمانيويل وماكسيم وشكراها على سرعة الاستجابة لطلبهما.

وفي الموعد المحدد حضر الجميع إلى بيت كاترين للاستماع إلى العم محمود لإكمال الجلسات السابقة.

محمود:

نتحدث اليوم عن الحكم الموجودة في سورة الإسراء والتي أشار إليها علوي. تحدثنا فيما مضى عن الوصايا السماوية. الوصية تعني ما يقوله شخص لقريبه أو صديقه أو من يعمل لديه ليقوم بعمل في غيابه أو يراعي بعض المسائل في مختلف سلوكياته. فالأب مثلا يوصي ابنه لئلا يسرع كثيرا عند قيادته للسيارة ليطمئن على تمكنه من السيطرة الكاملة على الجسم المتحرك في مكان مفتوح ويأمن إيذاء شخص أو مال أو إيذاء نفسه وما شابه ذلك. فإذا جلس الأب وتحدث مع ابنه عن جزئيات مخاطر السرعة ووضح له بدقة السبب في توصياته فتلك حكمة تفوق الوصية بأنها تُعرِّف للموصى إليه بعض الحقائق التي أدت إلى تقديمه وصايا إليه باعتباره إبنه الذي يقل عنه تجربة وتحسبا للمستجدات.

والله تعالى باعتباره رؤوفا رحيما وربا مهتما بمصالح عبيده فإنه أيضا يوصي الذين خلقهم بيده ليتوقوا المصائب والمخاطر ويستعدوا لعمل الصالحات وكسب الحسنات والاجتناب عن السيئات والنجاة من عذاب يوم القيامة. وهو سبحانه حينما يرى بأن عبيده تقدموا في الإدراك إنْ في الحركة التطورية العامة أو في تطورهم العمري والعلمي، فإنه تعالى يعرفهم على حكم وحقائق الأحكام بقدر إمكاناتهم العقلية والإدراكية. لاحظوا هذا المقطع الكريم من الآية 151 من سورة الأنعام: وبالوالدين إحسانا. حينما كان الحديث عن الوصايا. إن ربكم يوصيكم بأن تحسنوا إلى والديكم. لم يحدد كيفية الإحسان ولا أسباب الحكم ولا ينطوي على إقناع للناس. لكن نفس الوصية أتت في سورة الإسراء على النحو التالي:

وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24). تلك وصية وهذه حكمة وبيان حقائق وتحديد أزمنة الإحسان وكيفياته في مختلف المراحل العمرية للوالدين. فالوصايا القرآنية مفيدة لكل فرد بلا استثناء ويسهل فهمها واستيعابها بكل يسر. لكنك بحاجة إلى التعمق والتفكر في الحكم بل قد تحتاج إلى طلب العلم لفهم الحكم السماوية. ولنبدأ ببيان الآيات والجمل الكريمة:

1.

قال تعالى في سورة الإسراء: لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً (22) على المرء أن يتعلم السر في أمر ربنا إيانا بأن لا نجعل مع الله إلها آخر. حينما نجعل مع الله تعالى إلها غيره يحمل قدرات مشابهة لقدرات ربنا ويمكنه أن يساعدنا في الغيب ويحمينا ويشفينا من الأمراض والعاهات؛ فنحن إذ ذاك قد أشركنا بربنا وخضعنا لإله صنعناه لأنفسنا غير الله تعالى. والنتيجة أن يقعد الإنسان أي يترك أمراً كما يراد له، فهو إذ ذاك مذموم أي ناقض للعهد. والقعود عن أمر مضاد للقيام بأمر، فالمقصود من القيام والقعود هنا ليس دائما القيام والقعود الفيزيائي بل يشمل الإقدام على أمر أو تركه أيضا. ولعدم وجود متعلق للقعود في الآية الكريمة فالمقصود إذن أن يسقط الإنسان عن القدرة على القيام فيتقهقر.

والذمة المعروفة على أساس أن الإنسان يلتزم به ومادام ملتزما فهو ممدوح ولو نقض فهو مذموم. فالذمة هي ما يذم بها المرء إذا نقضها ولم يلتزم بها. والخذلان تعني أن يحرمك من كنت تظن بأنه سوف ينصرك أو يساعدك أو يفيدك بأية فائدة أخرى. فمعنى الآية أن الذي يشرك بالله فهو الذي سوف يعتبره الله تعالى ناقضا للعهود ولا سيما العهد الإنساني الطبيعي بين الخالق وخلقه كما أنه سوف لا يستفيد من مساعدة ربه إياه فيخسر ربه.

ساترين:

يا عم، نحن نرى بأن الكثير من المستهترين الذين لا يتورعون عن إشراك ما يريدونه ومن يحبونه بالله تعالى، لكنهم يعيشون حياة رغيدة طيبة. فلم لا نراهم مخذولين مذمومين بالدنيا بل نراهم في خير؟

محمود:

بالطبع أن الله تعالى يمهل كثيرا أحيانا ولا يعني ذلك بأنه راض عن الشخص. قال تعالى في سورة آل عمران: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِلأنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (178).

ثم إن حديث آيات الإسراء ليست عن الدنيا فقط. فلو نقرأ آيات  قبلها سنرى بأن الاهتمام فيها بمجموع الحياة الإنسانية. ذلك لأن القائل هو الله تعالى وهو يرى كامل مراحل الحياة ويعرف مكان كل إنسان في المستقبل. قال تعالى قبلها: انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21). ثم إنه سبحانه سبقها ببيان أن نظامه العادل لن ينسى الناس جميعا. فمن أراد الدنيا منحه إياها ومن أراد الآخرة ساعيا فسوف يعوض الله تعالى سعيه بكل كرم، فقال عز من قائل كمقدمة لآيات الحكم: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19) كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا (20).

ساترين:

شكرا يا عم على كل هذه التوضيحات المبيِّنة والمقنعة.

ماري:

وأنا أشكر العم على بيان ما كان خافيا علي كما أشكر ساترين على إثارتها لهذه الملاحظة الجيدة والمفيدة.

توم:

شكرا لكم جميعا ويبدو لي أننا نحتاج أن نتعرف على العهد الطبيعي الذي استفسرت عنه في الجلسة الماضية. فأرجو أن لا تصرفوا كامل وقت جلستنا على مسائل أخرى لأن ذلك العهد برأيي موضوع مفصلي يساعدنا كثيرا على فهم واجباتنا الطبيعية التي تساعدنا على مسايرة الفطرة التي فطر الله الناس عليها.

محمود:

شكرا لكم جميعا. ويبدو لي بأن تخوُّف توم في محله. أظن بأننا محتاجون لنستأذن منه فرصة أخرى حتى الجلسة التالية ولعل التي بعدها لنتمكن من بيان العهد الطبيعي بين الخالق والمخلوق البشري. واسمحوا لي بأن أكمل بيان الآيتين الأوليين وسأتلوهما مرة أخرى خوفا من الضياع بين الآيات المختلفة:

2.

وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24). القضاء قضاء تشريعي لاختبارنا وهو على أساس الطبيعة التي نسير تحت ظلالها. والعبادة والخضوع خاصة بالله تعالى دون غيره باعتباره ربا حقيقيا رعانا ولازال يرعانا بلطفه وكرمه. ولازمة ذلك أن نمتنع عن تقديم الطاعة الخاضعة لغيره بما فيهم الوالدان. نحن مأمورون بالإحسان إليهما ولسنا مكلفين بل لسنا مأذونين لأن نطيعهما. ولعلكم تعلمون بأن الناس لو يطيعوا آباءهم فسوف لن يتطوروا ولن يسايروا الركب الحضاري ولو اشترك البشر جميعا في تلك الطاعة الحمقاء بل لعل التطور الحضاري يتوقف أو يتباطأ في العالم.

ولنعم ما قال الإمام علي عليه السلام كما رواه البعض: لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم (أو على آدابكم) فإنهم مولودون لزمان غير زمانكم. وسواء القائل هو الإمام أو أي حكيم آخر قبله أو بعده فإن الجملة بكلتا عبارتيها صحيحة برأيي. ومعناها أن نترك الطفل يتخلق بالخلق التي يراه مناسبا لشأنه ولشأن مجتمعه. سواء كان الأبوان ملهِمين أو لا. وهذا معنى عدم الطاعة لهما بل في المقابل نتعلم منهما فقط.

ثم إنه سبحانه علل أمره بالإحسان بأنهما يسيران باتجاه الضعف والحاجة فعلى أولادهما أن يساعدوهما ويرحموهما ويطلبوا من ربهم أن يرحمهما كما ربياهم صغارا. وحينما يكبران في السن مستتبعا الضعف طبعا فيجب مراعاتهما بعدم التأفف لما يطلبانهما من أولادهما وألا يزجروهما بل يطيبون خاطر الأبوين بالقول الناعم الكريم الممتع. وليظهر الأبناء والبنات ذل الرحمة أمام الوالدين إذا كبرا في السن ويطلبون لهما من ربهما الرحمة والعناية الخاصة جزاء خير لهما على مساعدتهما إياهم ليكبروا تحت رحمة الحب والتضحية منهما.

فالنظام القرآني يفرض على الأسر والعوائل ألا يُخرجوا العجائز من الأسرة بل يحتفظوا بهم ويساعدوهم ويخفضوا لهم جناح الذل من الرحمة. ومعنى الجملة بأن يتخلوا عما أوتوا من قوة ومهابة أمامهما ليُشعروهما بأنهم رحماء تجاههما وبأنهم معترفون بحقوقهما عليهم.

ماري:

يالها من قوانين رحيمة وصالحة لإشعار الجميع كبارا وصغارا بجمال الحياة وبالتعاون المشترك بين كل أفراد الأسرة. نحن في فرنسا قليلا ما نرى الأسر متماسكة هكذا ولدينا الكثير من مباني العجائز حيث يتركونهم وشأنهم تحت رحمة موظفي الدولة أو ممرضي الشركات التجارية التي تعمل في مجال الصحة. كلما رأيت أسرة فرنسية تحتضن العجائز كلما شعرت بالراحة النفسية ودعوت لجميع المواطنين الفرنسيين أن يتأسوا بهم. لكن المسلمين الذين يقرؤون القرآن الكريم فإنهم يشعرون بالواجب تجاه الوالدين وخاصة حينما يكبران ويعجزان عن مساعدة أنفسهما ويحتاجان إلى المزيد من الحماية. نعم الأخلاق ما يأمرنا به الرحمن في القرآن.

محمود:

وأما مفاد الآية التالية بعد بيان حقوق الوالدين وهي: رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا (25). لا نريد تفسير الآية لأنه خارج عن نطاق جلستنا. ولكن الآية تلهمنا بأن الله تعالى ينتظر منا أن نقدم للوالدين الرحمة والمساعدة نابعة من قلوبنا وليس تظاهرا أو انتظارا لمصلحة أو مديح منهما أو ناظرا إلى ميراث أو غير ذلك. إن المغفرة وعودة الله تعالى إلينا خير لنا من كل نعيم ومن كل ما نلمسه من مديح وإكرام من غير ربنا. فمساعدة الوالدين هي بأمر ربنا ويجب أن نقوم بها بكل إخلاص وبكل حب لأن الله تعالى يرى قلوبنا ويريد أن يكافئنا على ما نخفيه في أعماق نفوسنا من نوايا حسنة أو يعاقبنا على ما يناقض تلك النوايا. على الأولاد أن لا يعبأوا بما يرونه من والديهما من سوء خلق أحيانا فهما في الكبر يضعفان ويسري الضعف في كل تصرفاتهما ويقل تحملهما ولا سيما حينما يريان بأن أولادهما لا يسيرون تماما في طريق الوالدين. هو أمر طبيعي وضروري لمراعاة التطور ولكنهما قليلا التحمل.

3.

وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27). قد يأخذ فهم الآيتين وقتا لأنهما تنطويان على مسائل مترابطة يجب بيانها، فهم أنتم على استعداد؟

علوي:

بالطبع نحن على استعداد ولكني لا أريد أن أرى الذين يساعدوني غدا في إعداد الاعتمادات المستندية وهم قليلوا النشاط تبعا لقلة النوم. كما أن ماري باقية بيننا والحمد لله والعم محمود أيضا يحتاج إلى الراحة فيا حبذا لو نأتي غدا أو بعد غد ولتأخذ الجلسات حقها من الوقت لنتمكن من استيعاب المواضيع بدقة.

محمود:

إذن نوافق على اقتراح علوي لو توافقون ونجتمع غدا أو بعد غد.

ماري:

بعد غد معقول جدا. وبعده موعدنا مع حفلة الزواج حيث نعطل الجلسة أياما ليتم انتقال كاترين إلى بيت علوي ويتم الإعدادات للجلسات المستقبلية بإذن الرحمن عز اسمه.

وافق الجمع على جلسة أخرى بعد غد وعادوا إلى بيوتهم.

أحمد المُهري

21/10/2019

#تطوير_الفقه_الاسلامي

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.