نظرية ظهور العلم 7- سنغافورة على شط العرب

نظرية ظهور العلم 7- 

سنغافورة على شط العرب

البصرة على شط العرب

إذا كنا قد انتهينا في الجزء السابق إلى أن جنسية العلم لا يحددها الحمض النووي للعالم ولا اللغة التي تمت كتابة العلم بها, فإن أول سؤال يقابلنا في محاولتنا التعرف على جنسية العلم الذي تم إنتاجه في البصرة في القرن الأول من الهجرة هو السؤال التالي: أين نحن؟  هل نحن في أرض العرب, أم نحن في أرض العجم؟   والإجابة – بمجرد النطق بالسؤال – هي: نحن في أرض العجم.   إذا كان لنا أن نحكم بـ”معيار المكان” فالعلم أعجمي وليس بعربي, فالبصرة لم تكن يوما جزءًا من الجزيرة العربية بل كانت دوما جزءًا من جنوب العراق جغرافيا وجزءًا أساسيا من الإمبراطورية الفارسية.  الأرض, إذن, ليست عربية.  الغريب أننا في اللحظة التي نقول فيها إن الأرض ليست عربية ندرك أننا نتحدث عن الماضي.  ندرك أننا نتحدث عما “كان” عليه الأمر قبل عام 14 هجرية.  قبل عام 14 هجرية لم تكن البصرة موجودة أصلا.  لم تظهر البصرة إلا عام 14 هجرية عندما أسسها عتبة بن غزوان.   يعني ذلك أنها “أصبحت” أرضا عربية, وبالتالي فإن العلم الصادر عنها هو “علم عربي”.  إلا أننا, مرة أخرى, بمجرد أن نتوصل إلى هذا الاستنتاج فإننا ندرك أن في الأمر شيء غير مفهوم.  ما الذي حدث وجعل تلك الجيوش الإمبراطورية تلقي السلاح جانبا وتشتغل بالعلم؟  وإذا لم تكن الجنود التي فتحت هذه الأراضي وبنت هذه المدينة هي التي أنتجت العلم, فمن الذي أنتج هذا العلم؟  وإذا كنا اتفقنا على أن السؤال عن “من” هذا هو سؤال ممنوع حيث إنه يعني اللجوء إلى معيار البصمة الوراثية, وهو معيار – كما رأينا – لا يمكن الثقة به, فما المعيار الذي يمكن أن نستخدمه.  للإجابة على هذه الأسئلة دعنا نلجأ إلى حل بسيط قد يساعدنا في حل هذه المشكلة.  دعنا نتخيل أن ما حدث في البصرة هو نفس ما حدث في الاسكندرية.  وهو سيناريو ليس مستبعدا تماما, حيث إن ما حدث في الاسكندرية يشبه في جوانب منه ما حدث في البصرة.

يشبه ما حدث في الإسكندرية ما حدث في البصرة من ناحية أن في كلتا الحالتين قامت جيوش إمبراطورية بالتحرك من أراضيها والاستيلاء على أراض كانت تتبع إمبراطورية قديمة وأقامت مدينة عظمى عملت على إنتاج العلم.  حدث هذا حين جاء الإسكندر الأكبر إلى مصر وأسس مدينة الإسكندرية.  حدث هذا كذلك حين جاء عتبة بن غزوان إلى العراق وأسس مدينة البصرة.  

يختلف ما حدث في البصرة, على أية حال, عما حدث في الإسكندرية.  حين جاء الإسكندر الأكبر إلى مصر جاء بجيوشه وعلمائه.  وعندما غادر الإسكندرية أخذ معه جيوشه وترك علماءه.  استمر علماؤه في العمل على نفس ما كانوا يعملون عليه في أثينا.  أي استمروا في إنتاج العلم.  عندما جاء عتبة بن غزوان إلى جنوب العراق, جاء بجيوشه ولم يجئ بعلمائه.  لم يكن في الحجاز علماء أصلا حتى يجيء بهم.  يذكر أحمد أمين في كتابه “فجر الإسلام” أن عدد من كانوا يستطيعون القراءة والكتابة في المدينة المنورة خلال حياة الرسول الكريم لم يتعدَّ عشرة أو أحد عشر فردا, على حين لم يختلف الأمر في مكة كثيرا. 

ويعود السؤال يثور, إذا لم تكن الجيوش الإمبراطورية العربية قد جاءت ومعها علماؤها, وإذا كان لم يكن هناك علماء أصلا في بلاد العرب فمن أين جاء كل هذا العلم؟  من “أين” جاء كل هذا العلم؟  إذا كان نموذج الإسكندرية لا يساعدنا على فهم ما حدث في البصرة, فدعنا نجرب  نموذجا آخر, لعل وعسى.  دعنا نتخيل أن ما حدث في دبي هو نفس ما حدث في البصرة, علنا نفهم ما حدث.

دبي على شط العرب

يشبه ما حدث في دبي ما حدث في البصرة من ناحية أننا نجد في كلتا الحالتين مدينة لم يكن لها وجود أصلاً قام عدد صغير من الرجال بتأسيسها واستطاعوا فيما يقل عن مئتي عام وضعها على خريطة العالم.  قام بنو ياس بتأسيس دبي عام 1833 وبعد أقل من مائة وسبعين عاما أصبحت دبي عاصمة من عواصم العالم يعرفها الناس مثلما يعرفون لندن, أو باريس أو نيو يورك.  قام عتبة بن غزوان بتأسيس البصرة عام 14 هجرية وقبل مضي خمسة وعشرين عاما كانت البصرة تعمل في إنتاج العلم. 

يختلف ما حدث في دبي عما حدث في البصرة من ناحية أن كل ما فعله بنو ياس هو أنهم “مولوا” عملية إنشاء دبي, حيث قاموا باستدعاء أكبر خبراء تطوير المدن في العالم, وأعظم مهندسين معماريين في العالم, وأفضل مهندسي تصميم داخلي في العالم, وأفضل مديري فنادق في العالم, وأفضل طهاة في العالم, وباختصار, أفضل كل خبرات العالم.  وبهذا ظهرت إلى الوجود واحدة من أجمل مدن العالم.  إلا أنهم لم يخترعوا أي شيء في العالم كذلك.  لم يدَّعِ بنو ياس يوما أنهم “أسهموا في تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلم”.  حقيقة الأمر, ولا في قطاع الفن. 

المشكلة فيما حدث في البصرة أن أهلها لم يستعينوا بأي “مكتب خبرة عالمي” لتحقيق ما صنعوه.  لم يستقدم أهل البصرة خبراء في علم اللغة من الهند, مثلا, ولا خبراء في القانون من بيزنطة مثلا, ولا خبراء في علم الكلام من جنديشابور مثلا, وإنما بدأوا من الصفر وفي أقل من 25 عاماً (خمسة وعشرين) كانوا قد بدأوا في إنتاج العلم.  يخبرنا الموروث الثقافي العربي بأن أبا الأسود الدؤلي قد اخترع نقط الإعراب ووضع أسس النحو العربي بتكليف من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في عهد الخليفة الراشد الرابع – أي في حدود عام 40 من الهجرة. 

 موضوع أن العرب قد تحولوا من قوم لا يعرفون القراءة والكتابة إلى علماء لهم إسهامات في تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلم في أقل من 25 عام هو كلام لا يمكن أخذه بأي قدر من الجدية.  حقيقة الأمر, هذا كلام يجب النظر إليه على أنه جزء من نظام التفكير البدائي المستخدم في الثقافة العربية البدائية.  أي نظام التفكير الذي لا يعلم “حدود الممكن”.  في العالم الذي نعيش فيه لا تتحول الثقافات “الأمية” إلى ثقافات “تنتج علما” في أقل من خمسة وعشرين عاما.  

إذا كان نموذج الإسكندرية قد نبهنا إلى أن الجيوش الإمبراطورية العربية لم تجيء إلى البصرة بصحبة علمائها – لم يكن هناك في الحجاز علماء أصلا – وإذا كان نموذج دبي قد نبهنا كذلك إلى أن “أهل البصرة” لم يستعينوا “بخبرات أجنبية” من أجل بناء مدينتهم, فإن ذلك يعني شيئا واحدًا فقط هو أن الإنتاج العلمي الصادر عن البصرة لم يكن إنتاجًا عربيا حيث إنه لم يصدر عن الثقافة العربية,  كما أنه لم يكن إنتاجًا “أجنبيًا” حيث لم يستعِن أهل البصرة بأي “خبراء أجانب”, وإنما كان إنتاجا صادرًا عن أهل البصرة أنفسهم.  أي كان إنتاجا صادرًا عن الثقافة الفارسية, ثقافة أهل البصرة.  يظهر ذلك بوضوح تام في كل مجال من مجالات الإنتاج العلمي الصادر عن البصرة.  يظهر ذلك في حقل الشعر (خلف الأحمر), كما يظهر في حقل النحو (سيبويه), كما يظهر في حقل الفقه (أبو حنيفة), كما يظهر في حقل القراءات القرآنية (أبو عمرو البصري).  لا يعني ذلك, بطبيعة الحال, أن العرب لم يشاركوا على الإطلاق في الإنتاج العلمي الصادر عن البصرة.   إلا أن هذه المشاركة كانت محدودة للغاية, فضلا عن أنها لم تكن مشاركة في إنتاج ثقافي عربي وإنما كانت مشاركة في إنتاج ثقافي فارسي.  يشابه الدور الذي لعبه الخليل بن أحمد في إنتاج العلم, بهذا الشكل, الدور الذي لعبه أحمد زويل في إنتاج العلم.   ساهم كلاهما في إنتاج العلم في ثقافة غير عربية.

إذا كانت دراستنا لنموذج الإسكندرية قد نبهتنا إلى أن البصرة لم تكن الإسكندرية,  وإذا كانت دراستنا لنموذج دبي قد نبهتنا كذلك إلى أن البصرة لم تكن دبي, فأي مدينة كانت البصرة إذن؟ دعنا ننظر إلى سنغافورة.

سنغافورة على شط العرب

في عام 1818 وصل سير ستامفورد رافلز إلى بنكولين للعمل كحاكم عام لتلك المستعمرة البريطانية متناهية الصغر في جزيرة سومطرة.  بمجرد وصوله إلى هذه المستعمرة بدأ البحث عن مكان يصلح لإقامة ميناء تستطيع السفن التجارية البريطانية أن تستخدمه بدلا من الموانيء الخاضعة لسيطرة الإمبراطورية الهولندية والتي كانت تفرض رسوما باهظة على السفن التجارية البريطانية في محاولة منها لإبعادها عن المستعمرات الهولندية في المنطقة. 

لم يمض طويل وقت حتى وقع اختياره على موقع مثالي في جنوب شبه جزيرة الملايو يصلح لأن يكون الميناء الذي يريد إنشاءه.  كانت سنغافورة آنذاك جزءًا من سلطنة جوهور الخاضعة لسلطة السلطان تنكو عبد الرحمن, إلا أن السلطنة كانت تعاني من صراعات بين السلطان تنكو عبد الرحمن وأخيه الأكبر تنكو حسين.  هنا تدخل سير رافلز وعمل على مساعدة تنكو حسين على الهروب إلى سنغافورة حيث اعترف به سلطانا لجوهور وأعطاه مبلغا جيدًا من المال مقابل توقيعة على اتفاقية تصبح سنغافورة بمقتضاها جزءًا من ممتلكات الإمبراطورية البريطانية.   تم توقيع هذه الاتفاقية في 6 فبراير 1819.  كان هذا هو تاريخ ميلاد سنغافورة.

لم يكن عدد سكان سنغافورة في ذلك الوقت يتجاوز الألف نسمة, كلهم من الملايو باستثناء بضع عشرات من العمال الصينيين.  لم تمر خمسون عامًا إلا وكان عدد السكان قد تضاعف مائة مرة ووصل إلى مائة ألف معظمهم من الصينين والهنود الذين وصلوا إلى سنغافورة للعمل في مزارع المطاط ومناجم الصفيح.    حقيقة الأمر, لم تمر مائة عام أخرى إلا وكان عدد السكان قد وصل إلى خمسة ملايين.  وفي 31 أغسطس 1963 حصلت سنغافورة على استقلالها من بريطانيا العظمى وبدأت في البحث عن مكان لها على خريطة العالم.

لم يأخذ الأمر طويل وقت حتى استطاع هؤلاء العمال من فقراء الصين, والهند, والملايو تحويل هذه المستعمرة الصغيرة في أقصى جنوب شبه جزيرة الملايو إلى واحدة من أغنى دول العالم.  يعد ميناء سنغافورة خامس ميناء في العالم من حيث حجم نشاطه كما تعد سنغافورة رابع مركز مالي في العالم.  

جاءت الإمبراطورية البريطانية إلى هذا الجزء من العالم, وتملكت هذه البقعة من العالم, تماما مثلما فعلت الإمبراطورية العربية عام 14 من الهجرة.   أسست الإمبراطورية البريطانية مدينة تحولت في أقل من مئتي عام إلى واحدة من أغنى مدن العالم, وأجمل مدن العالم, تماما مثلما حدث في البصرة عندما أسست الإمبراطورية العربية مدينة أصبحت واحدة من أهم مدن العالم.  تدفق الصينيون, والهنود, والملايو للعمل على خدمة أبناء الإمبراطورية البريطانية في سنغافورة من أجل لقمة العيش, تماما مثلما تدفق الفرس, والهنود, والأفريقيون للعمل على خدمة أبناء الإمبراطورية العربية في البصرة من أجل لقمة العيش أيضا.  نطق الصينيون بالإنجليزية, وأطلقوا على أنفسهم أسماء إنجليزية, بل إن منهم من تحول إلى المسيحية, تماما مثلما فعل الفرس في البصرة عندما نطقوا بالعربية, وأطلقوا على أنفسهم أسماء عربية, ودخلوا في دين الله.    في كلتا الحالتين, على أية حال, لم يتحول الصينيون إلى إنجليز ولا الفرس إلى عرب, على الرغم من نطق هؤلاء بالإنجليزية ونطق هؤلاء بالعربية, وعلى الرغم من أسماء هؤلاء الإنجليزية وأسماء هؤلاء العربية.  الأهم من ذلك, فيما نحن بصدده, أن الصينيين لم يتخلوا عن “ثقافتهم” الصينية, مثلما لم يتخلَّ الفرس عن ثقافتهم الفارسية.  برع الفرس فيما برع فيه الفرس: صناعة العلم, وبرع الصينيون فيما برع فيه الصينيون: صناعة المال.  لم ينتج الصينيون في سنغافورة علما على الرغم من “تملكهم” اللغة الإنجليزية,  وأنتج الفرس في البصرة علما على الرغم من تملكهم اللغة العربية.  تملك الصينيون في سنغافورة اللغة الإنجليزية إلا أنهم لم يتملكوا “بعد” الثقافة الإنجليزية.  تملك الفرس في البصرة اللغة العربية إلا أنهم لم يتملكوا أبدًا الثقافة العربية.  يمكن لمجتمع “أمي” أن يتحول إلى مجتمع “قاريء”,  يستحيل على مجتمع “قاريء” أن يتحول إلى مجتمع “أمي”.  هل يعني ذلك أن البصرة كانت سنغافورة على شط العرب؟

يحتاج الأمر هنا إلى الإشارة إلى أن فهم ما أكتبه هنا يحتاج إلى التفرقة بين ما يطلق عليه بالإنجليزية اسم “العلم الصلب” وبين ما يطلق عليه اسم “العلم اللدن”.   يقصد بالعلم الصلب تلك المقالات العلمية التي تلتزم التزاما صارما بالمنهج العلمي : من تصريح بالإطار النظري الذي يدور البحث في إطاره, وتحديد مشكلة البحث, والتصريح بفرضية البحث, واستعراض مستفيض للأعمال العلمية التي عرضت من قبل لهذه المشكلة, مع سلسلة طويلة من المراجع من يوم أن اكتشف الإنسان الكتابة إلى آخر دقيقة قبل تسليم المقال للنشر.    يقصد بالعلم اللدن ذلك النوع من “التفكير العلمي” الذي يتحدث عن مشاكل لم يسبق تناولها في إطار العلم الصلب.   يهدف هذا النوع من العلم إلى “إثارة التساؤل حول موضوع البحث” بحيث يتم إدخاله بالتالي في إطار “العلم الصلب”.  يعني ذلك أني لا أقدم “مقالا علميا” وإنما أدعو إلى دراسة الموضوع قيد البحث دراسة علمية.  نحن نحتاج إلى “مقالات علمية” في موضوع الإسهام العربي في تقدم المعرفة البشرية في حقل العلم.

في حالتنا هذه فالسؤال الذي يحتاج إلى إجابة هو كالتالي: هل كان بإمكان الثقافة العربية البدائية الأمية أن تنتج علمًا بمجرد وصول القبائل العربية إلى البصرة بعد خروجها من الحجاز ونجد؟  هل هذا ممكن؟  هل نحن نعيش في عالم يمكن فيه لقبائل بابوا وغينيا الجديدة أن تساهم في تقدم المعرفة البشرية بمجرد عبورها البحر إلى سيدني أو ملبورن؟  هل هذا ممكن؟  هذا هو السؤال.  وبالمناسبة هذا سؤال لم يسبق أن تم طرحه في الثقافة العربية لأن الثقافة العربية تفضل العيش في الخيال عن مواجهة الواقع.

يبتع…

كمال شاهين

#نظرية_ظهور_العلم

#تطوير_الفقه_الاسلامي 

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.