نظرية ظهور العلم 5- ماذا حدث في البصرة؟ -مات الإمبراطور, يحيا الإمبراطور

نظرية ظهور العلم 5

ماذا حدث في البصرة؟

مات الإمبراطور, يحيا الإمبراطور

انشغل العراقيون بصنع الحضارة على ضفاف الفرات لمدة ثلاثة آلاف عام تحرسهم الجيوش الإمبراطورية العراقية, تماما مثلما انشغل المصريون بصنع الحضارة على ضفاف النيل لمدة ثلاثة آلاف عام كذلك تحرسهم الجيوش الإمبراطورية المصرية.   سقطت الإمبراطورية العراقية عام 546 قبل الميلاد أمام الجيوش الإمبراطورية الفارسية, ولحقتها بعد ذلك مباشرة الإمبراطورية المصرية التي سقطت عام 525 قبل الميلاد أيضا أمام الجيوش الإمبراطورية الفارسية.   إذا كان “صنع الحضارة” قد بدأ مع ظهور الإمبراطورية المصرية في مصر والإمبراطورية العراقية في العراق, فإن “صنع الحضارة” قد توقف في مصر مع سقوط الإمبراطورية المصرية كما توقف في العراق مع سقوط الإمبراطورية العراقية.  الحضارة شيء يُصنع في عواصم الإمبراطوريات فقط.   الحضارة لا تصنع في المستعمرات.   لم يحدث بعد عام 500 قبل الميلاد أن ساهمت مصر أو العراق في إثراء المعرفة البشرية.  سقط الإسهام الحضاري المصري والعراقي مع سقوط الإمبراطورية العراقية ثم المصرية.  مرة أخرى, العلم شيء يُصنع في عواصم الإمبراطوريات فقط.

انتقل صنع الحضارة إلى عواصم الإمبراطوريات الجديدة التي ظهرت في فارس واليونان.  يبدو هذا بمنتهى الوضوح في حالة الاسكندرية.  جاءت الجيوش الإمبراطورية اليونانية إلى مصر عام 332 قبل الميلاد وقام الإسكندر بتأسيس الإسكندرية, وشيئًا فشيئا بدأت الاسكندرية في منافسة أثينا ذاتها في صنع العلم.  من الضروري الانتباه هنا إلى أن الاسكندرية لم تقم بصنع “العلم المصري” وإنما بصنع “العلم اليوناني”.  يظهر ذلك بمنتهى الوضوح في نوع الكتب التي احتوتها مكتبة الاسكندرية.  وصل عدد الكتب التي احتوتها مكتبة الاسكندرية إلى ستمائة ألف كتاب باللغة اليونانية, وثمانية وعشرين كتابا باللغة المصرية القديمة.  ثمانية وعشرون كتابا فقط لا غير باللغة المصرية القديمة بجوار ستمائة ألف كتاب باللغة اليونانية.  اللطيف في صدد ما نحن فيه أن هاته الثمانية وعشرين مخطوطة هي “نسخ” متعددة لنفس الكتاب.  أي ثمانية وعشرون نسخة من نفس الكتاب.  الألطف أنها كتب غير مسموح بقراءتها للأحياء, حيث يلزم أن يكون القاريء “ميتًا”.  يعود ذلك إلى أن كل هذه النسخ هي نسخ من كتاب واحد فقط هو “كتاب الموتى”.  أي من ذلك الكتاب المسموح بقراءته للموتى فقط حيث إنه يخبرهم بأشياء لا تهم غير الموتى. 

من المفيد أيضا بصدد ما نحن فيه التعرف على أن مدينة الإسكندرية لم تكن “مدينة مصرية” وإنما كانت “مدينة يونانية”.  يظهر ذلك بوضوح في أنه كان من غير المسموح به للمصريين الإقامة فيها, فضلا عن أن القانون كان يحتم على “زائريها” من المصريين مغادرتها قبل غروب الشمس حتى يتاح إغلاق أبوابها على أصحابها  اليونانيين.  لم يكن الأمر مختلفا, بهذا الشكل, عما كان عليه الوضع في جوهانسبرج أيام التمييز العنصري.  أيضا, كان من غير المسموح للأفريقيين الإقامة في جوهانسبرج.  تماما مثلما كانت جوهانسبرج مدينة أوربية للأوربيين كانت الاسكندرية مدينة أوروبية للأوربيين.  لم يكن القانون يبيح زواج اليوناني من مصرية أو المصري من يونانية –  تماما مثلما كان يحدث في جنوب أفريقيا.    مرة أخرى, في مثل هذه الظروف تعتبر فكرة “إنتاج العلم” و”صنع الحضارة” فكرة لطيفة.  حقيقة الأمر, فكرة لطيفة للغاية.

يمكننا الآن أن نجيب على السؤال الصعب الذي أشرت إليه في بداية هذا البحث, وهو السؤال المتعلق بما حدث في البصرة.   السؤال الذي يقول: إذا كان صحيحًا ما تذهب إليه من أن الثقافة العربية – في عمومها – هي ثقافة من ثقافات المرحلة الثانية (أي أن نظام الإدراك المستخدم فيها هو نفس نظام الإدراك المستخدم لدى الأطفال تحت سن ست سنوات في المجتمعات الحديثة) فكيف تفسر الإسهام العربي الواضح وضوح الشمس في إثراء المعرفة البشرية؟   كيف تفسر الإسهامات التي لا يمكن إنكارها التي قام بها علماؤنا في الحضارة العربية الإسلامية في مجال الفلك, والطب, والرياضيات, والكيمياء, والبصريات؟ 

تحتاج الإجابة على هذا السؤال إلى تحديد واضح تماما لـ”زمان” هذا الإنتاج و”مكان” هذا الإنتاج.  وعليه,

يمكن القول فيما يتعلق بـ”الزمان” أن ظهور العلم والكتابات العلمية في الثقافة العربية قد تزامن مع سقوط الإمبراطورية الأموية في عام 135 هجرية وظهور الإمبراطورية العباسية خلفا لها.   يمكن القول كذلك فيما يتعلق بالزمان بأن العلم قد ظهر في المجتمع العربي أول ما ظهر في تلك المدينة التي تقع عند نقطة التقاء الفرات بالخليج الفارسي: البصرة.

تحتاج الإجابة على هذا السؤال كذلك إلى تحديد واضح تماما لما نقصده بـ “الإسهام العربي في المعرفة البشرية”.   وهنا, حقيقة الأمر, يلزم أولا تحديد المقصود بـ “الإسهام في صنع المعرفة البشرية”.  وعليه, واختصارًا للوقت, فإن المقصود بالإسهام في صنع المعرفة البشرية لا بد وأن يكون صنع معرفة لم يسبق أن كانت متاحة للجنس البشري من قبل.  بمعنى أنه لا يصلح أن أذهب إلى لوس أنجليس وأتعرف على ما يقومون به هناك ثم أعود به إلى الكونغو ثم أطلق على ذلك اسم “الإسهام الحضاري المصري في المعرفة البشرية”.  فأنا, في نهاية الأمر, لم آتِ بجديد.  قد أكون رجلا عالما, قد أكون مجتهدًا في عملي, قد أكون رجلا طيبا, إلا أنني “لم أضف جديدًا إلى المعرفة البشرية”.  ما فعلته هو أنني نقلت معرفة من مكان إلى مكان.  وهذا ليس هو المقصود بـ “الإسهام في المعرفة البشرية”.

تتبقى نقطة أخرى هامة جدًا هي الأخرى, وتحتاج إلى بعض الإطالة, وبعض الأمثلة المبالغ فيها تماما من أجل توضيح الفكرة.  عندما نتحدث عن الإسهام العربي في صنع المعرفة البشرية في قطاع العلوم, ما الذي نقصده “بالضبط” بمصطلح “الإسهام العربي”؟  هل نقصد, مثلا, الإسهام الذي قامت به مجموعة من الرجال الذين أنجبهم رجال ينتمون إلى “الجنس العربي”؟ هل نقصد الإسهام الذي قامت به مجموعة من الرجال الذين لا ينتمون إلى الجنس العربي إلا أنهم قدموا إلى بلاد العرب وقدموا للعرب المعارف التي يملكونها؟  أم نقصد الإنتاج الذي قامت به مجموعة من الرجال الذين لا ينتمون إلى الجنس العربي, ولم يأتوا إلى بلاد العرب, وإنما أنتجوا العلم في بلادهم باللغة العربية؟  أم نقصد العلم الذي قام مجموعة من الرجال الذين لا ينتمون إلى الجنس العربي بنقله إلى اللغة العربية من لغات أخرى؟  أم نقصد إنتاج العلم الذي قام العرب “أنفسهم” بـ”إنتاجه” وكانوا هم “أول” من أنتجه؟  أم نقصد العلم الذي قام مجتمع عربي بإنتاجه لأول مرة في تاريخ البشرية يشاركه في ذلك من شاء من العلماء من شتى أركان الأرض؟  ما الذي نقصده بمصطلح “الإسهام العربي في المعرفة البشرية بالضبط”؟   سوف أترك هذه النقطة الآن حيث إننا سنعود إليها مرات.  تكفي الإشارة إلى ضرورة تحديد ما نقصده “بالضبط” بمصطلح “الإسهام العربي في المعرفة البشرية”, هذا إذا أردنا, حقًا, أن نتحدث علما.

إذا كانت الإجابة على السؤال الخاص بتفسير الإسهام العربي في المعرفة البشرية تحتاج إلى تحديد زمان هذا الإنتاج, ومكانه, فضلا عن تحديد المقصود بمصطلح “الإسهام في صنع المعرفة البشرية” على عمومه, ثم تحديد المقصود بمصطلح “الإسهام العربي” تحديدًا, وإذا كنا لم نحدد من هذه المصطلحات الأربعة سوى ذلك الجزء الخاص بالزمان, فلا أقل من أن نحدد ذلك الجزء الخاص بالمكان.  أي أن السؤال الآن هو كالتالي: أين قامت الثقافة العربية بهذا الإنتاج العلمي “المذهل” الذي أسهمت به في “صنع” المعرفة البشرية.  دعنا نفعل ذلك بهدوء ولنبدأ بأفريقيا.

أي من هذه البلاد قام بإنتاج “الإسهام العربي في المعرفة البشرية” والذي “انفجر” في منتصف القرن الأول الهجري؟   موريتانيا, المغرب, الجزائر, تونس, ليبيا, مصر, السودان, إريتريا, جيبوتي, الصومال, جزر القُمُر؟  لا يحتاج الأمر إلى أن تكون خبيرًا في “تاريخ العلم” لتعرف أن لا بلد من هذه البلدان ساهم في صنع هذا الإنتاج العلمي العربي المذهل وذلك لسبب بسيط للغاية هو أن لا بلد من هذه البلدان كان يتحدث اللغة العربية أصلا.   في الحالة المصرية, نحن نعرف أن مسجد عمرو بن العاص ظل هو المسجد الوحيد في مصر طيلة القرن الأول الهجري وحتى منتصف القرن الثاني الهجري.  نحن نعرف كذلك أن صعيد مصر كان يتحدث القبطية إلى بدايات القرن السادس عشر الميلادي.  أي منذ خمسمائة عام فقط.  أي إلى بدايات – أو أواخر – القرن العاشر الهجري.  نحن نعرف أيضًا أن الحديث في مصر باللغة العربية لم يبدأ بصورة جدية إلا بعد عدد من القرارات التي اتخذتها الخلافة الفاطمية تمنع الحديث بالقبطية.  لم تكن اللغة العربية حتى القرن الخامس لغة عموم الناس في بر مصر.

دعنا نغادر أفريقيا إلى آسيا.  ودعنا نتساءل عن أي من بلدان آسيا ساهم في إنتاج هذا الإسهام العربي “المذهل” في تقدم المعرفة البشرية في قطاع العلوم؟  أكانت فلسطين, أم لبنان, أم سوريا؟  مرة أخرى ما صدر كتاب واحد عن فلسطين, ولا لبنان, ولا سوريا باللغة العربية لا في العلم ولا في الفن.  لم تكن فلسطين ولا لبنان, ولا سوريا تتحدث اللغة العربية أصلا حتى تنتج كتبا باللغة العربية.  

لا يتبقى, بهذا الشكل, سوى جزيرة العرب.   لا يتبقى سوى أهلنا في الحجاز, ونجد, وعسير, وتهامة, واليمن, ومسقط, وعمان, والربع الخالي, وساحل الخليج.   إلا أن الذي نعرفه, ويعرفه أهلنا في كل هذه البلدان, أن لا أحد منا كتب سطرًا واحدًا في “العلم” ودعك من موضوع “الإسهام في صنع المعرفة البشرية في قطاع العلوم”. 

لا يتبقى, بهذا الشكل, سوى بلد واحد فقط يمكنه صنع هذه المعرفة.  هذا البلد هو العراق.  لم يكن العراق يختلف من ناحية اللغة عن غيره من البلدان “العربية” فالناس هناك كانوا أيضا لا يتحدثون العربية.  وإنما كان يختلف عن كل البلدان الأخرى في أنه كان جزءًا من “الإمبراطورية الفارسية” التي كانت مشتبكة بالفعل في “صنع المعرفة البشرية”.  كانت مصانع الحضارة آنذاك قد توقفت في مصر منذ ما يزيد على الألف عام, على حين كان مصنع العلم في أثينا قد أغلق أبوابه بعد سقوط أثينا تحت عجلات الجيوش الإمبراطورية الرومانية.  لم يكن هناك في العالم كله سوى مصنع بيزنطة ومصنع جنديسابور.  في عام 14 من الهجرة سقطت الإمبراطورية الفارسية أمام الجيوش الإمبراطورية العربية بقيادة عتبة بن غزوان.  وفي عام 14 من الهجرة أسس عتبة بن غزوان مدينة البصرة لتكون معسكرًا للجيوش الإمبراطورية العربية.  في عام 14 هجرية, بهذا الشكل, سقطت الإمبراطورية الفارسية, وأقفل مصنع جنديسابور أبوابه, وظهرت البصرة تحرسها الجيوش الإمبراطورية العربية.  نفس القصة.  عندما يسقط الإمبراطور يفر العلماء, وعندما يجيء الإمبراطور يجيء العلماء.  وهذا هو ما حدث في البصرة.

كمال شاهين

#نظرية_ظهور_العلم

#تطوير_الفقه_الاسلامي

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.