نظرية ظهور العلم 3- لماذا لم تنتج الثقافة العربية علما؟

نظرية ظهور العلم 3-

لماذا لم تنتج الثقافة العربية علما؟

نظرية عاصمة الإمبراطورية

لكي نستطيع الإجابة على هذا السؤال لا بد, بداية, من تغييره إلى سؤال أوسع بكثير هو “لماذا تنتج أي ثقافة علما؟”  ساعتها سنكتشف أننا أمام سؤال لا نستطيع الإجابة عليه.  لماذا أنتجت انجلترا علما ولم تنتج ويلز علما.  لا أعرف عالما واحدًا ولد, وعاش, ومات في ويلز وترك لنا علما.  لا يعني ذلك طبعا أي شيء سوى أن ويلز لم تنتج علما.  لماذا أنتجت فرنسا علما ولم تنتج بلغاريا علما؟  لماذا أنتجت إيطاليا علما ولم تنتج مونتينجرو علما؟  كل هذه بلاد أوربية بعضها أنتج علما والبعض لا علم لديه بمسألة إنتاج العلم هذه.  عليه, دعنا نغير السؤال مرة أخرى إلى سؤال آخر نستطيع الإجابة عليه.  ما هي المجتمعات التي أنتجت علما؟  فجأة يصبح السؤال سؤالا يمكن الإجابة عليه.  والإجابة, بمنتهى الاختصار, وبمنتهى الوضوح, هي المجتمعات الإمبراطورية.  فقط المجتمعات الإمبراطورية التي ظهرت بدءًا من عام 500 تقريبا قبل الميلاد هي التي أنتجت علما.  الإمبراطورية الفارسية, تزامنا مع الإمبراطورية اليونانية, يلي ذلك الإمبراطورية  الرومانية الغربية, يلي ذلك الإمبراطورية الرومانية الشرقية, يلي ذلك الإمبراطوريات الأوربية الكبرى: من فرنسية, إلى بريطانية, إلى أسبانية, إلى برتغالية, وأخيرًا الإمبراطورية الأمريكية. 

يحدث ذلك لأن العلم وإنتاج العلم هو شيء مرتفع الثمن.  منتج المجتمعات التي حصلت على كل شيء, ولا تحتاج إلى أي شيء سوى المزيد من الأشياء “الطيبة”.    المجتمعات التي لديها وفرة من الأموال تكفي للإنفاق على هؤلاء الرجال الذين تفرغوا للتفكير في أمور التطوير والتغيير.  يستحيل على مجتمع على باب الله أن يفكر فيما إذا كانت الشمس تدور حول الأرض أم أن الأرض تدور حول الشمس.   في مجتمعات تعيش على صيد الفئران, السؤال خيالي, وعبيط, وأبله, ولا يمكن أن يصدر عن رجل “عاقل”.   هذا هو السبب في أنه لم يحدث أن قام مجتمع يعيش على الصيد والتقاط الثمار بإنتاج علم.  كما لم يحدث أن قام مجتمع يعتاش على الرعي بإنتاج علم.  كما لم يحدث أن قام مجتمع يعتاش على الزراعة البسيطة بإنتاج علم.   يحتاج إنتاج العلم إلى وفرة في الأموال وتفرغ تام لنسبة معقولة من السكان تعمل في إنتاج العلم. 

يحتاج إنتاج العلم أيضا إلى مرور مئات السنين من الوفرة والثروة حتى يظهر “الإنتاج العلمي”.    يعود هذا إلى أن إنتاج العلم لا يظهر هكذا بمجرد توافر الثروة.  لا يمكن أن ينفجر بئر بترول في جيبوتي يوم الثلاثاء وتبدأ جيبوتي في “إنتاج العلم” يوم الأربعاء بعد صلاة الظهر.   تحتاج جيبوتي إلى مئات الأعوام من الثراء حتى تتحول إلى مجتمع ينتج علما. 

لاحظ هنا “استحالة” أن يظهر العلم فجأة وعلى صورة الكمال هكذا بدون “مقدمات”.  يستحيل, مثلا, أن يظهر في قريتنا – كفر نفرة, منوفية – عالم في الفيزياء, أو علم اللغة, أو المصريات, أو حتى المنوفيات, بدون مقدمات.  أي أن يعود من الغيط  قبل صلاة المغرب, ويأخذ حماما ويتعشى ثم يبدأ في إنتاج العلم بعد صلاة العشاء.    يظهر العلم بصورة بسيطة أولا, ويتولاه المجتمع بالرعاية, والاهتمام, والإنفاق, والحماية.  وتمر أجيال من العلماء القائمين على البحث, والتدقيق, والتحقق.  باختصار, العلم ليس منتجا “فرديا” وإنما هو منتج “مجتمعي”.  مهما كان الفرد ذكيا, عبقريا, مجتهدا, مخلصا, عظيما, إلى آخره, فلا مجال على الإطلاق لأن يعمل في إنتاج العلم إذا لم يكن قد سبقه ظهور “جماعة من العلماء” تقوم فعليا بإنتاج العلم. 

هذا هو السبب في أن أحمد زويل العبقري (وهو, طبعًا, عبقري) لم يكن من الممكن إطلاقا – حتى لو كان أذكى رجل في العالم منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها إلى يوم تبعثون – أن ينتج علما لو بقي في مصر.  في مصر لا توجد جماعة من العلماء عاكفة على إنتاج العلم.  في مصر توجد جماعة من الرجال والنساء “حفظت” كلاما تتولى “تحفيظه”  لمجموعة أخرى من الرجال والنساء الأصغر سنا والذين “سيحفظونه” بإذن الله تعالى من أجل إكمال مسلسل “الحفظ”.    لا يعني ذلك, بالطبع, أنه لا يوجد في مصر علماء (لدينا الأستاذ الدكتور عبد الفتاح السيد, والأستاذ الدكتور محمد نبيل جامع, والأستاذ الدكتور أشرف منصور في جامعة واحدة هي جامعة الاسكندرية, وهم علماء على أعلى مستوى في العالم يشهد على هذا إنتاجهم) إلا أنه لا توجد لدينا “مدارس علمية”.   لا توجد لدينا “تجمعات علماء”.  مجرد عالم هنا, وعالم هناك, والسلام عليكم ورحمة الله.    لاحظ كذلك أن العلم لم يبدأ في مصر إلا منذ فترة لا تزيد كثيرًا عن مائة عام (تأسست الجامعة المصرية عام 1908).  لاحظ أيضا أن مصر ليست بلدًا ثريا, فهي ليست في ثراء إيطاليا, ولا إنجلترا, ولا فرنسا, ولا حتى سويسرا.  بدون ثراء فلا علم.  يستحيل أن يرسلك أهلك لدراسة الطب في القصر العيني وهم يعيشون في عشة لا سقف لها في عزبة الصفيح, أو عزبة القرود.  وإذا حدث فهو الاستثناء وليس القاعدة.  كل العاملين في حقل إنتاج العلم في مصر هم من أبناء وبنات الطبقة الوسطى.  لا تساهم عشوائيات القاهرة والاسكندرية بإنتاج رجال ونساء يعملون في إنتاج العلم. 

لا يتم “إنتاج العلم”, بهذا الشكل, إلا إذا كانت هناك “مدارس علمية”.  يعني ذلك أن أي محاولة للبحث عما إذا كان هناك عالم ما قد قام في بلد ما بإنتاج علم ما هي إلا محاولة محكوم عليها بالفشل مقدما.  قبل أن تسأل عما إذا كان هذا البلد قد أنتج “عالما” اسأل عما إذا كان هذا البلد قد قامت به مدارس علمية.  لا يحتاج الأمر هنا إلى بيان أنه إذا كنت مضطرًا, “فعلا”, إلى السؤال فتأكد من أنك تتحدث عما لا تعرف. 

كيف تسأل عما إذا كانت هناك مدرسة فرنسية في علم الاجتماع؟  هذا سؤال لا يسأله شخص لديه أدنى فكرة عن علم الاجتماع.  كيف تسأل عما إذا كانت هناك مدرسة أمريكية في علم النفس الثقافي؟  بالله عليك كيف تسأل هذا السؤال؟  هذا سؤال لا يسأله طالب في سنة أولى علم نفس.  كيف تسأل عما إذا كانت هناك مدرسة بريطانية في علم الاقتصاد السياسي؟  كيف تسأل يا مولانا؟  كيف تسأل؟  بالله عليك, كيف تسأل؟

يعني ذلك في حالتنا نحن في مركز تطوير الفقه الاسلامي أن محاولتنا السؤال عن كتاب واحد تم إنتاجه في أي من البلدان الاثنين وعشرين أعضاء جامعة الدول العربية هي محاولة محكوم عليها بالفشل مقدما.  كان من الضروري تغيير السؤال بحيث يكون كالتالي:

ما هو البلد العربي الذي ظهرت فيه “مدرسة” في الطب؟  أو “مدرسة” في علم النفس الإدراكي؟  أو “مدرسة” في التصميم المعماري؟  هل هو جيبوتي؟  أم هو جزر القُمُر؟  ما هو البلد العربي الذي ظهرت فيه “مدرسة” علم الاجتماع السياسي؟ هل هو مصر أم هو موريتانيا؟   تستطيع سيادتك أن تسأل ما شاء لك السؤال وتستطيع سيادتك أيضا أن ترد على كل أسئلتك بالنفي لأن المسألة واضحة لا تحتاج إلى سؤال.    وكما اتفقنا, فهذا سؤال يدل على أن سيادتك لا تعرف ما تتحدث عنه.   أي مدرسة يا مولانا؟

يحتاج ظهور إنتاج علمي, بهذا الشكل, إلى ظهور مدارس علمية أولا.  ويحتاج ظهور مدارس علمية إلى وقت.  أي أن إنتاج العلم يحتاج إلى وفرة وثراء يستمران مئات الاسلامين.  (رجاء ملاحظة أننا نتحدث هنا عن العوامل المساعدة على ظهور العلم في المجتمعات القديمة, حيث إن العملية مختلفة إلى حد ما في المجتمعات الحديثة, كاليابان مثلا).   المشكلة أن الوفرة والثراء لا يستمران إلا إذا كانت هناك حماية –  إلا إذا كانت هناك قوة عسكرية تحمي هذه الوفرة وهذا الثراء.  في حالة غياب القوة العسكرية تطير الثروة ومعها العلم.

تعدّ مصر, في هذا السياق, مثالا جيدا لوفرة الثروة وغياب العلم.  دقت الجيوش الفارسية أبواب مصر واحتلتها لأول مرة في الفترة من 525 إلى 402 قبل الميلاد, ثم أعادت احتلالها في عام 343 لتخرج منها عام 332 بعد وصول الجيوش اليونانية التي احتلتها إلى أن جاءت الجيوش الرومانية عام 30 قبل الميلاد  لاحتلالها وتحويلها إلى سلة قمح لروما.  رجاء ملاحظة أن تعبير “سلة قمح” لروما معناه أن المصريين كانوا يزرعون القمح ثم يرسلونه إلى أهل روما ليأكلوه هم بدلا منهم.  لم تستطع مصر أن تحمي ثروتها, فطارت الثروة, وطار العلم.   لم يكن باستطاعة مصر أن “تنتج علما” بعد أن فقدت استقلالها.  لم يحدث في التاريخ (على الأقل, التاريخ الذي أعرفه أنا) أن قامت مستعمَرة بإنتاج علم.

تعد العراق مثالا جيدًا آخر لبيان استحالة إنتاج العلم في غياب القدرة العسكرية اللازمة لحماية الثروة التي لا يمكن بدونها إنتاج العلم.  توافرت الثروة لدى العراق, وقام بإرسال بعثات ضخمة إلى الخارج لتعليم أبنائه.  عاد أبناء وبنات العراق إلى العراق وبدأوا في تكوين “جماعة علماء”.   قامت الولايات المتحدة الأمريكية باحتلال العراق فطارت الثروة وطار العلم. 

مرة أخرى, يحتاج إنتاج العلم إلى ثروة وإلى استمرار هذه الثروة إلى مئات الاسلامين.  يحتاج هذا الأمر إلى قوة عسكرية كبرى لحماية الثروة.  هذا هو “السبب” في أن العلم لا يظهر إلا في عواصم الإمبراطوريات.  في جنديسابور, العاصمة العلمية للإمبراطورية الفارسية.   في أثينا, عاصمة الإمبراطورية اليونانية.  في روما, وباريس, ولندن, ومدريد, عواصم الإمبراطوريات الرومانية, والفرنسية, والبريطانية, والإسبانية.  وأخيرا, في عواصم الإمبراطورية الأميريكية.

هل تفسر “نظرية عاصمة الإمبراطورية” هذه العوامل التي تحكم “ظاهرة إنتاج العلم”؟  أفكر إلى حد ما.  هل تفسر “ظاهرة إنتاج العلم” بنسبة مائة في المائة؟   طبعا, لا فالظاهرة معقدة إلى حد كبير ولا يمكن أن يفسرها “سبب واحد”.    كل ما يمكن قوله في حالة ما نحن بصدده أن “نظرية عاصمة الإمبراطورية” هذه تكفينا في الوقت الحالي.    قد لا تكون “عميقة”, قد لا تكون “قوية”, قد لا تكون قادرة على تفسير ظهور إنتاج علمي في “حوران”, إلا أنها تكفي لتفسير عدم ظهور إنتاج علمي في أي بلد عربي.  لم يحدث أن كانت هناك عاصمة إمبراطورية في أي بلد عربي ظهرت واستمرت لمئات السنين بحيث تسمح بظهور مدارس علمية.  لم يحدث أن توفرت الثروة لأي بلد عربي لمئات الاسلامين, وبالتالي لم يظهر أي إنتاج علمي.كشف هذا البحث عن “حقيقة” لا يرغب المجتمع العربي في التعرف عليها, أو الاعتراف بها, وهي أن الثقافة العربية هي ثقافة لم تنتج علما.  قدم هذا البحث فرضية تفسر هذه الظاهرة, وهي فرضية تذهب إلى أن إنتاج العلم لا يحدث إلا في عواصم الإمبراطوريات التي تستمر مئات الاسلامين.   في أي محاولة لـ”رفض” هذا البحث – وهو بالمناسبة رد الفعل المتوقع في حالة الثقافة العربية السعيدة – آمل أن يعطينا من يرفض ما بيناه اسم كتاب واحد قام بكتابته شخص ما ولد في بلد عربي ما وعاش في هذا البلد السعيد وكتب كتابه هذا ثم مات – بغض النظر عن أصوله العرقية.  حتى لو كان أبوه من الإسكيمو وأمه من الهنود الحمر.
كمال شاهين#نظرية_ظهور_العلم#تطوير_الفقه_الاسلامي https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.